شذوذ قهري

كتب إليَّ شاب في سن السابعة عشرة يقول إنه عندما يرى صورة فتًى في سنه أو أصغر منه، أو عندما يقابل أحدًا في هذه السن، يحس برعشة تزلزل جسمه حتى يكاد يغمى عليه.

وإنه يتخيل عن هذه الصورة أو هذا الشخص اللذين يلقاهما خيالات متعاقبة لها قوة جبرية؛ إذ لا يستطيع التخلص منها. وهي خيالات الإعجاب العظيم حين يكون هناك مكان لهذا الإعجاب. وهو يقول بالحرف الواحد:

ومهما يكن من شيء فإني أشعر بهذا الميل كذلك عندما أكون سائرًا في طريق أو عندما أقابل أحد أصدقائي بصحبة شاب أو شبان معه، أو عندما أكون في مجلس من مجالس الحديث أو في اجتماع من الاجتماعات فيقع نظري على هؤلاء الشبان … فما أشعر؟ أشعر بهذه القوة التي تصعد من نفسي في حرارة والتهاب. وماذا أجد؟ أجد ذلك الميل القوي العنيف وما تبعه من انفعالات حادة … إلى هنا لم أدرِ من أمري شيئًا. نفس الدافع المجهول ونفس الشيء الغامض اللذين أحس بهما عندما تقع عيناي على صورة. وإلى هنا لم يصور الخيال شيئًا من تلك الصور الرائعة أحيانًا، والمروعة أحيانًا أخرى، والمترددة بين ذلك، في بعض الأحيان. ثم ماذا؟

إن قلبي يدق دقًّا عنيفًا ويضطرب اضطرابًا شديدًا، كل ذلك مثل ومضات البرق المتلاحقة التي لا تكاد تظهر حتى تختفي ولا تكاد تختفي حتى تظهر …

هذه عبارات قليلة من ثماني صفحات كتبها هذا الفتى الذي لم يكد يتجاوز المراهقة. وهي تدل أفصح الدلالة على أن هذا الشاب يسير في طريقه إلى الشذوذ الجنسي.

وهذا المسكين يسلك هذا السلوك من حيث لا يدري. وإليك الشرح:

التفتُّ إلى عنوان الشاب فوجدت أنه يقطن حيًّا بعيدًا عن الأحياء العصرية في القاهرة.

أي إنه لم يختلط بالفتيات؛ لأن الحجاب لا يزال مخيمًا في الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه، وانفصال الجنسين تام. فلما بلغ سن المراهقة قبل أربع سنوات شرعت طاقته الجنسية في التعرف والاستطلاع، ولكنه لم يجد الهدف الطبيعي لهذا الاستطلاع.

وهو لو كان وجده لكانت خيالاته الجنسية جميعها محصورة في المرأة. أو لو كان قد تزوج في سن الخامسة عشرة مثلًا كما كان يفعل أسلافنا لما حدث له هذا الشذوذ، ولما احتاج حتى إلى هذه الخيالات.

ولكن هذا الشاب لا يدري أنه شاذ، ذلك أنه كظم العاطفة الجنسية كظمًا عنيفًا حتى كاد ينكرها. ثم تسامى بها فجعل إعجابه بأجسام الشباب إعجابًا بميزاتهم الروحية والأخلاقية، ولكنه مع ذلك لا يستطيع أن ينكر أنه يعجب بالأجسام.

وخلاصة القول أن هذا الفتى نشأ في بيئة تحرم الاختلاط بين الجنسين، فاتجهت غريزته نحو البدل. والبدل هنا هو شاب «في سني أو أصغر مني» على حد قوله. ولكن هذه البيئة الرجعية التي يعيش فيها ترتفع إلى أخلاق اجتماعية محترمة فهي ترفض الاستهتار؛ ولذلك يطلي شذوذه بطلاء آخر غير الاستهتار ويزعم أنه إنما يحب الصفات العالية في الشبان. ولو أن هذا الشاب كان يعيش في بيئته هذه من قبل مائة سنة لكان قد تزوج وعاش المعيشة السوية.

ولكن سن الزواج تتأخر في وسطنا الاجتماعي، وهي تتأخر أيضًا في الوسط الاجتماعي في أوربا وأمريكا. ولكن هناك الاختلاط، وهنا الانفصال. والشاب هناك يختلط بالفتاة فتستقيم خيالاته الجنسية لأنها هي هدفه، وهو يراها كل يوم بل كل ساعة. ولا يعرف كيف يتخيل شيئًا آخر غيرها، فهو سوي. ولكن هذا الشاب المصري لا يجد غير الشبان الذكور في سنه، فهو ينقل إليهم استطلاعه الجنسي ويتخيل جمالهم؛ لأنه لا يرى غيرهم هدفًا لغريزته، وهو لذلك شاذ.

ومن هنا نفهم أننا نتبع أسلوبًا مخطئًا في الحياة لأننا نُصِرُّ على الحجاب في بعض بيئاتنا، فتكون النتيجة هذا الشذوذ الجنسي الذي ربما ينتهي في يوم ما إلى حمل صاحبه إلى السجن. ونصيحتي إلى هذا الشاب هي: احذر أن تسقط فأنت على شفا هاوية وفي طريق الشذوذ الجنسي. وانقل حبك وإعجابك إلى الجنس الآخر وتعرف إلى فتاة واحترمها، وكن صديقًا شريفًا لها. وإني واثق أن هذا يشق عليك الآن؛ لأن خيالاتك لا تمس المرأة من قريب أو بعيد. ولكن تمرَّن.

وهناك مئات بل ألوف مثل هذا الشاب قد جنحت غريزتهم الجنسية للانفصال القائم بين الجنسين جنوحًا خطيرًا. وقد استقرَّ هذا الفتى على نوع من «التثبيت» الذي يؤلمه ويؤرقه، ولكنَّ هناك آلافًا غيره قد استقروا على العادة السرية.

وليست هذه الحال مقصورة على الشبان إذ هي أيضًا تشمل الفتيات. والفتاة التي تتعلق بفتاة أخرى لا تصلح للزواج إلا بعد مرانة طويلة ومتاعب كبيرة مع زوجها. وكذلك هذا الفتى لا يصلح الآن للزواج إلا بعد مرانة طويلة وتربية جديدة.

إننا نعيش فيما يشبه التناقض. ظروف عصرية تطالبنا بالاختلاط، وتقاليد محنطة تطالبنا بالانفصال؛ ونحن لذلك في تعبٍ بل في زيغ.

يجب أن نعيش المعيشة العملية في مجتمع علمي تُشرِف عليه حكومة علمية، فننفض التقاليد ونأخذ بالبدعة.

هذا إذا شئنا ألا نعيش مجانين أو زائغين.

وأحب أخيرًا أن أنبِّه إلى أن حبَّ الشاب في سن المراهقة أو بعد ذلك بقليل لشاب آخر في سنه يكاد يكون طبيعيًّا في جميع البيئات. ولكن سرعان ما ينتقل هذا الحب إلى الجنس الآخر في المجتمع المختلط. أما في المجتمع المنفصل فإنه يثبت. ومحال أن نعيد الشاب إلى الاستقامة الجنسية إلا إذا اختلط بالجنس الآخر، فإنه لن يعرف الجنس الآخر من الكتب أو الصحف؛ لأن المعرفة الحقة الوحيدة هي الاختلاط بالفتاة. هذا الاختلاط الذي يعتقد الرجعيون — نكبة بلادنا — أنه رذيلة، مع أنه لباب الشرف وصميم الأخلاق الاجتماعية العليا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤