جريمتنا نحو المرأة

عندما نبلغ سن الستين أو السبعين نجد إحساسًا آخر نحو الأشياء والناس، ونحس وجدانًا آخر للمروءة والشرف والإنسانية أكثر مما كنا نحس قبلًا. وبكلمة أخرى نجد أن لنا من القيم والأوزان ما يمكن أن نسميه حكمة.

وهذه الحكمة إنما هي ثمرة هذا العمر الطويل وما مر بنا من الأحداث، وما كسبنا من التأمل والتفكير فيها، وما وقع بنا من كوارث استخلصنا منها العبرة والدلالة؛ ذلك أننا نعيش في مجتمع نصطدم بناسه ومصالحه ومؤسساته، ونمارس فيه مصاعب العيش، ونتحمل مسئوليات الحرفة، فنتعلم ونتربى.

وليس التعلم والتربية أن نتتلمذ في المدرسة أو نقضي خمس أو ست سنوات في الجامعة؛ لأن قصارى ما نحصل عليه في المدرسة والجامعة لا يعدو أن يكون تعليمًا، وهو تعليم للمعرفة، أي إنه ليس تربية للسلوك والتصرف وتعيين الهدف في الحياة.

وتستطيع أن تسأل أي إنسان في الخمسين من عمره، من خريجي الجامعات، كيف كان فور خروجه من الجامعة وحصوله على شهادتها؟

كان إنسانًا خامًا. وكان يصطدم بالمجتمع مرة بعد أخرى لجهله، ولكنه كان يتربى من هذه الاصطدامات. وهو لا بد مخبرك بأن ما كسب من حكمة وسداد، وصحة للنفس، واتجاه حسن، إنما كسبه من المجتمع وليس من الجامعة.

المجتمع يربينا، ويكوِّن شخصيتنا، ويعين أهدافنا، ومنه نأخذ الميزان الذي نزن به القيم، فنقول: هذا فضيلة، وهذا رذيلة.

ونحن في المجتمع نحترف حرفةً ما نرتزق بها؛ أي نأكل منها لقمة العيش. وهذه الحرفة تضطرنا إلى أن نحسن مهارة معينة، وإلى أن ننتج شيئًا يحتاج إليه المجتمع، إما سلعة وإما خدمة. وهذا الإنتاج وحده، وليس شيئًا آخر غيره، هو الذي يُكسبنا معاني الفضيلة والرذيلة، والفرق بين الرجل الصالح والرجل الفاسد، ومعاني المروءة والشرف والإنسانية.

نحن الرجال، بالحرفة وبالاختلاط بالمجتمع، نتعلم ونتربى، فنقصد إلى مكاتبنا أو مصانعنا أو مزارعنا في مواعيد نواظب عليها. ونسأل ونستفهم عن الحِرَف والصناعات من حيث ما تحتاج إليه من مجهود، أو ما يعين لها من مكافأة. ونسمع عن اختراع جديد فنقبل عليه، أو عن سلعة جديدة فنتجر بها؛ ولذلك نهتم بالحرية والشرف، لأن لهما قيمة في أنفسنا، من حيث إن غيابهما أو إفسادهما يؤذينا في عيشنا وإحساسنا وضميرنا.

واختلاطنا بالمجتمع يحملنا على الاهتمام بالسياسة والعلم والأدب لأننا نجد أن حياتنا متصلة بكل هذه الأشياء لاتصالنا بالمجتمع.

ما الذي نعني حين نقول إنه يجب أن تكون لنا أهداف إنسانية؟

نعني أننا يجب أن نهتم بالعدل والكرامة والعلم والسياسة. ويجب أن نقرأ الجرائد لهذا السبب. ومرجع هذه الاهتمامات جميعها أننا من المجتمع، وفي المجتمع، لنا عواطفه، ونختلط به، ونحترف فيه حرفة منتجة؛ أي لنا إحساس اجتماعي.

فضائلنا جميعها اجتماعية، والرجل الذي يحيا في الصحراء منفردًا لا يمكن أن يكون فاضلًا أو رذلًا، عظيمًا أو دنيئًا، عادلًا أو ظالمًا؛ لأن هذه الصفات جميعها هي صفات اجتماعية، صلة الفرد بالمجتمع.

فإذا حرمنا إنسانًا الاختلاط بالمجتمع، والإنتاج للمجتمع؛ فإننا بذلك نحرمه الإحساس الاجتماعي بكل ما يحمل هذا الإحساس من مسئولية وفضيلة وشرف وإنسانية.

وهذا هو حال المرأة كما نعاملها الآن. إننا نفرض عليها الانفصال من المجتمع بالبقاء في البيت، فكأنها هذا الرجل الذي قلنا إنه يعيش في الصحراء. وصحيح أنها لم تبلغ مبلغه في الانفراد؛ لأنها تحس شيئًا من المسئولية والشرف والمروءة بقوة الخدمة والاختلاط في بيتها، بينها وبين زوجها وثلاثة أو أربعة أبناء وبنات.

لكن إحساسها هذا ناقص؛ إذ هو محدود بجدران البيت، ولذلك لا تحس ما نحسه نحن الرجال من المسئولية واليقظة والقيم الاجتماعية. وبكلمة أخرى هي، بالمقارنة بنا، إنسان ناقص في تربيته.

وعندما أقول بضرورة منح المرأة حق الانتخاب والترشيح للبرلمان، لا يدفعني إلى هذا الطلب إحساس الإنصاف نحوها قدر إحساسي بأن هذه المسئولية الجديدة ستجعلها تهتم بالمجتمع، فتزيدها يقظة، وتحملها على درس السياسة وقراءة الصحف والكتب؛ أي تزيد إنسانيتها.

ما هي هذه الدنيا التي نحيا فيها سبعين أو ثمانين سنة؟

هي المعارف التي تنبه ذكاءنا، وهي الكوارث التي تُكسبنا حكمة العيش، وهي الاستمتاعات التي نستمتع بها ونحن أطفال ثم شبَّان ثم كهول ثم شيوخ. وليس من حق أحد أن يحرمنا معارفنا أو كوارثنا أو استمتاعاتنا، سواء في ذلك الرجال والنساء.

وإذا كنا نقول إنه على الرجل أن يكون حكيمًا، فإننا يجب أن نقول إنه يجب أن تكون المرأة حكيمة.

وهي لن تكون حكيمة إذا حرمناها معارف الدنيا واختباراتها، سواء منها ما يسر وما يؤلم. ونحن ننقص إنسانيتها بالقدر الذي ننقص به معارفها واختباراتها.

وهناك آلاف الجهلاء من الشبان والكهول الذين أفسدهم المجتمع بعاداته وتقاليده. وهم يخفون جهلهم بطلاء من الإحساسات الكاذبة والكلمات المبهرجة حين يقولون مثلًا إنهم يحمون المرأة، وهي الرقيقة اللطيفة، من أقذار المجتمع ومشاق العيش.

ويتضح هذا الكذب في الإحساس حين نعرف أن مشاق البيت للمرأة أكثر من مشاق الحرفة للرجل، وأن تنظيف المطبخ والمرحاض وغسل ملابس الأطفال ليست على الدوام من الأعمال الخفيفة الرقيقة.

ثم هم يجهلون أن الإنسان ليس سلعة تبلى بالاستعمال، كأنها كرسي أو مائدة أو بساط أو سرير قد رثَّت بمرور السنين. وإنما هو ينضج ويبلغ الحكمة والسداد كلما زادت اختباراته ومعارفه. ولذلك أيضًا يؤثر الرجل الحكيم الزواج من الأرملة التي خبرت الزواج سنتين أو عشر سنوات على الزواج من العذراء التي لم تخبر الزواج. وهو يسلك هذا السلوك لأنه يعرف أن المرأة إنسان يزداد حكمة وقيمة بالتعليم والتربية، وأن الجهل لا يمكن أن يكون فضيلة.

والواقع أن أعظم ما يؤخر المرأة في عصرنا هو التقاليد، هذه التقاليد التي جعلت الزمخشري يقول في كتابه «غريب الحديث» في صفحة ٢٧٣ إن الأرملة مبغوضة «إذا مسَّت شيئًا أتلفته.»

وقد يوهم اسم الكتاب أن هذه العبارة منقولة عن حديث نبوي؛ ولذلك أسارع بالنفي، لأن الزمخشري قد نقلها عن إحدى السيدات.

وهذه العقيدة عن الأرملة قد عمَّت الأمم القديمة، وبلغت أَوْجَها من الخسة البشرية في الهند حين كانت الأرملة تُحرق عقب وفاة زوجها.

وكلنا كما يقول أناطول فرانس «يولد وله لحية».

أي إننا نولد ونحن نحمل من التقاليد القديمة أعباءً تجعلنا شيوخًا ونحن في المهد. ومن هذه التقاليد احتقارنا للأرملة التي تُعدُّ خير طراز للمرأة ترشح للزواج. ومنها أيضًا احتقارنا للمرأة، كائنة ما كانت، عذراء أو متزوجة.

وأستطيع أن أؤلف كتابًا كاملًا عن الأصل أو الأصول السحرية التي جعلت الإنسان القديم، الذي نرث نحن الآن تقاليده، يفصل المرأة عن المجتمع، ويستنجس الأرملة، ويحجب الزوجة. وليس هنا بالطبع مكان هذا البحث.

وقصارى ما أقول أننا نعامل المرأة في أيامنا بحكم التعاليم السحرية القديمة. وكل ما بيننا وبين أسلافنا الذين ماتوا قبل عشرة آلاف سنة أنهم كانوا يقولون إنها نجسة، وأما نحن فنقول إنها رقيقة لطيفة يجب أن نربأ بها عن مفاسد المجتمع. والنتيجة واحدة في الحالين، وهي استبعادها عن النشاط الاجتماعي والثقافي والإنساني.

إن للمرأة، كما للرجل، حقًّا في أن تحيا حياتها كما تريد. وإن لها حقًّا في التطور. وقصر حياتها على البيت هو إلغاء لإرادتها، كما هو تعطيل لتطورها.

إن ما تفهمه المرأة المصرية في عصرنا من الشرف هو الشرف الجنسي، ولكننا نحن الرجال نفهم أيضًا معاني الشرف الأخرى في السياسة والصناعة والتجارة والأدب والاجتماع.

ونحن الرجال نصوغ حياتنا كما نشاء، ونختار الأسلوب والهدف. أما هي فقد حُرمت ذلك.

ونحن الرجال نحيا في المجتمع، وهو بيتنا الكبير، بكل مركباته التي تثير أذهاننا وتربينا وتحركنا إلى التضحية والعظمة، هو مدرستنا، هو جامعتنا.

أما هي فتحيا في البيت. ولا تقل إن في البيت سعادتها؛ لأني لا أحترم المرأة لأنها سعيدة، ولكن لأنها حكيمة رشيدة. وهذا على فرض أن السعادة تغمر البيوت؛ لأن الواقع غير ذلك، وهو ما تخبرك به كل زوجة وكل أم.

والآن أسمع سؤالك: ماذا تريد بالبيت؟ هل تريد أن تترك المرأة بيتها كي تتعلم وتتربى في المجتمع؟

وجوابي أن البيت «يجب» أن يكون أجمل المؤسسات وأنفعها في حياتنا، ويجب أن يكون بؤرة المجتمع. ويجب أن يحتوي أعضاءه من الزوج والزوجة والأبناء، في جو من الحب والشرف. ويجب على كل شاب وكل فتاة أن يبنوا البيوت مادة وروحًا، منزلًا وعائلة.

ولكن مشكلة البيت لا تعود مشكلة إذا نحن نظرنا للمرأة نظرة المساواة بالرجل، بحيث تتعلم مثله، وتكون شخصيتها مثله، وتحترف إذا شاءت مثله، وتدرس وتختبر حتى تتربى وتتطور مثله، وتشترك في وظائف الدولة مثله.

ومقامها الجديد هذا هو الذي يعيِّن طراز البيت الذي تعيش فيه بحيث يتفق واهتماماتها الأخرى. فقد نعمِّم القوة الكهربائية في جميع أعمال البيت طبخًا وغسلًا وكنسًا وتبريدًا. فلا يكون هناك من المشاق ما يحتاج إلى أن تقصر الزوجة حياتها على المنزل؛ لأن بضع دقائق عندئذٍ تكفي للطبخ، وأقل منها يكفي الشئون الأخرى. أو قد تكون هناك حلول أخرى للطبخ والغسل.

إننا نُجرم حين نعين للمرأة، هذا الإنسان الذي احتاج إلى ألف مليون سنة كي يصل إلى حاله الحاضرة، ألوانَ النشاط الذي يجب أن تؤديه، وحين نحرمها ألوانًا أخرى لمحض الاستبداد وحكم التقاليد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤