الفصل العاشر

عمل الأفراد في الإصلاح

رأينا من قبل أن الطريقة الفعَّالة الوحيدة لتنفيذ الإصلاح الاجتماعي الشامل هي طريقة اللين وعدم العنف؛ لأن العنف لا يؤدي إلا إلى نتائجه، ومحاولة فرض الإصلاح بالوسائل العنيفة مقضي عليها — ولا محالة — بالفشل الذريع. ولا تنجح وسائل العنف إلا إذا أعقبتها الأعمال التي ترمي إلى نشر العدالة بين الناس؛ فالحكمة إذًا تقضي علينا باستخدام الوسائل اللينة كي لا يفشل الإصلاح الذي ننشُده.

ولا تنجح وسائل اللين إلا إن كان أكثر الناس مؤيدًا للإصلاح غير معارض له. أمَّا إن كانت الأغلبية لا توافق على الإصلاح المقصود، أو إن وقَفَت منه موقف الحياد، فإن كل محاولة لفرضه لا بد أن تبوء بالفشل. وقد حاول بعض الملوك في التاريخ القديم أن يُصلحوا رعيتهم في نواحٍ مختلفة، ولكن الرعية كانت جامدةً لا تريد الإصلاح، ففشِلوا فيما حاولوا. ومن هؤلاء الملوك أخناتون الذي أراد أن يفرض على شعبه إصلاحًا دينيًّا، فثار الشعب في وجهه.

أمَّا في البلاد الانتخابية التي يحكمها رجالٌ اعتلَوا مناصب الحكم برضى الشعب، فإن الحكومة قلَّما تحاول إدخال إصلاحٍ طريف لا يقبله الجمهور. في مثل هذه البلاد تسير حركة الإصلاح في محيط الدائرة إلى مركزها، أي إن الأفراد المُستقلِّين أو الجماعات تصوغ فكرة الإصلاح، ثم تذيعها بين الناس، وبعدما يسيغها الجمهور يأخذ بها رجال الحكم ويُدخلونها في تشريع المجتمع.

وقد رأينا أن الحرب في العالم الحديث هي العقبة الكئود أمام كل إصلاحٍ منشود؛ ولذا فالإصلاح الأساسي الذي لا بد منه هو إصلاحٌ في السياسة الحاضرة للأمم من حيث علاقة إحداها بالأخرى. إن جميع الأمم في العصر الحاضر تسيِّر سياستها الخارجية على المبادئ الحربية، إما في ضجيج أو في هدوء. ولا تُستثنى من ذلك الدول التي تُسمِّي نفسها ديمقراطيةً أو مسالمة؛ ولذا فليس من المحتمل أن يتم أي إصلاح في هذا السبيل على أيدي أصحاب النفوذ السياسي في هذه الأيام، ومن ثَمَّ ترى أن حركة الإصلاح ينبغي أن تبدأ من الأفراد المُستقلِّين. ومن واجب هذه الفئة من الناس أن تُقنِع الأكثرية بأن سياسة السلم خيرٌ من سياسة الحرب، فإن نجَحَت هذه الفئة في مهمتها أمكن تغيير تلك السياسة الحربية القومية التي تجعل نشوب حربٍ أخرى أمرًا قريب الاحتمال، والتي تقف عقبةً في سبيل كل إصلاح.

ولَرُب معترضٍ يقول إن أكثر الرجال والنساء في جميع أنحاء العالم يحبون السلام؛ ولذا فليس ثَمَّةَ حاجةٌ بالأفراد المستقلِّين إلى القيام بدعاية في سبيل السلام. وردًّا على هذا الزعم أقول: «إن جميع الناس يرغبون في السلام، ولكن قلَّ منهم من يرغب في وسائله.» أجل إن أكثر الناخبِين في مختلف البلاد يحبون السلام، ولكن قلَّ منهم من يحب أن يدفع ثمن السلام، وثمنه في هذه الأيام نزع السلاح من جانب أمةٍ واحدة دون الأمم الأخرى إن اقتضت الضرورة ذلك، والتنازل عن الإمبراطوريات العريضة والتخلي عن سياسة القومية الاقتصادية، والعزم في كل الظروف على استخدام وسائل اللين وعدم العنف، والتدريب المُنظَّم على هذه الوسائل، فكم ممن يزعمون أنهم من محبي السلام في العالم يقبلون هذه الشروط التي لا محيص عنها إن كنا نريد للعالم سلامًا ووفاقًا؟ إنهم نفرٌ قليل؛ ومن ثَمَّ كان من واجب الأفراد المستقلِّين أن يُقنِعوا مواطنِيهم بأن الوسائل التي تؤدي إلى السلام ليست مرغوبةً لما تؤدي إليه من غاياتٍ طيبة فحسب، وإنما هي كذلك مرغوبةٌ في حد ذاتها لأنها تدريب للناس على «التحرُّر» من القيود.

ويستطيع الفرد أن يعمل وحده أو منضمًّا إلى غيره ممن يشاطره الرأي والعقيدة، وليس عمل الفرد الواحد إلا مقدمةً لعمل الأفراد مُتعاونِين. ويستطيع المصلح الفرد أن يأتي بنظرية جديدة، أو أن يوضح عقيدةً قديمة. يستطيع أن ينشر الدعاية لرأيٍ طريف من بنات أفكاره، أو لرأيٍ نادى به غيره من قبلُ. وهو يستطيع ذلك إمَّا عن طريق الكتابة أو الخطابة. ولكني أقول ثانيةً إن عمل الفرد تمهيديٌّ لعمل الأفراد متعاونِين. وعلى الجماعة المتعاونة أن تُطبِّق على نفسها — وعلى غيرها إن استطاعت — النظريات الصحيحة لترقية الفرد والمجموع، عليهم أن يكونوا نماذجَ حية للإنسان الكامل الذي يُصوِّره لنا الأنبياء والمُصلِحون.

وقد نَشأَت أمثال هذه الجماعات المتعاونة في كل عصر وكل بلد، وحاولَت أن تشق لنفسها في الحياة طريقًا أرقى من الطرق التي يسلكها معاصروهم. وقد لعبت هذه الجماعات في التاريخ دورًا هامًّا، ولها في حفظ المدنية فضلٌ كبير. وستلعب — فيما أعتقد — مثل هذا الدور في المستقبل. ولننظر الآن بإيجاز في الدروس التي نستمدها من تاريخها.

إن أول شرط لنجاح هذه الجماعة أن يعتنق أفرادها جميعًا فلسفةً واحدة للحياة، وأن تصح منهم العزائم على المساهمة في العمل الذي تأسَّسَت من أجله الجماعة. وقد تحقق هذا الشرط في مناسباتٍ عديدة وفي فتراتٍ طويلة من تاريخ الرهبانية المسيحية والبوذية، ولكنه لم يتحقق في كثيرٍ من الجماعات السياسية والدينية التي تأسَّسَت في أمريكا في القرن التاسع عشر.

والشرط الثاني للنجاح هو أن تُؤسَّس هذه الجماعات لأغراضٍ نبيلة. وإن الفرد ليستعذب التضحية والآلام في سبيل الغرض النبيل؛ فالرجل النازي أو الاشتراكي قد يلاقي الموت راغبًا في سبيل المبدأ الذي يؤمن بصحته.

وأعضاء هذه الجماعات لا يخشَون الفقر، وإن كانوا كثيرًا ما يحصلون على منحٍ ماليةٍ كبيرة من الجمهور، فيكوِّنون الثروات الطائلة؛ وذلك لأن الجمهور يُعجَب بهذه الجماعات ويخشى بأسها في آنٍ واحد. غير أن هذه المنح والعطايا كثيرًا ما تؤدي إلى فساد الجماعة؛ لأن الثراء والتحرُّر النفسيَّ نقيضان لا يتفقان. ثم تظهر طوائفُ جديدةٌ مغامرة تبدأ العمل من جديد بقليلٍ من المال وكثير من الحماسة، وتنهال عليها العطايا فتَفسَد، ثم تظهر غيرها، وهكذا؛ فالواقع الذي يؤيده التاريخ أن أمثال هذه الجماعات لا تنقرض البتةَ من وجه الأرض.

ويُلاحَظ أن الجماعات الهامة كلها تُحمِّل أعضاءها تبِعاتٍ مشتركة؛ فهي تعلمهم الاستقلال الشخصي، ويُحتِّم نظامها الاقتصادي أن يتخلى العضو عن مِلكه الخاص ليساهم في مِلك المجموع. والجماعة أحرص ما تكون على عدم تضخُّم ثروتها، حتى لا تصبح المادة غرضًا من أغراضها، كما أنها لا تحب أن تتضاءل ثروتها إلى الحد الذي يُحتِّم على الأعضاء أن يُنفقوا نشاطهم في كسب قوت الغد.

ثم نأتي بعد ذلك إلى مشكلة تنظيم الجماعة. دل التاريخ على أن الجماعة قد تنجح تحت نُظمٍ مختلفة بعضها عن بعض كل الاختلاف؛ فقد نجحت جماعة ليولا Loyola في ظل نظامٍ عسكري. وخطاب ليولا في وجوب الطاعة مشهورٌ معروف. وقد كانت جماعته مؤسَّسةً على نظام الطاعة العمياء للزعيم. وبين النظام العسكري الذي فرضه ليولا وديمقراطية «جماعة الأصحاب» Quaker Cmmittee بونٌ شاسع، وقد نجح النظامان لأن كلًّا منهما نشأ في ظروفٍ خاصة.

وبدراسة خصائص الجماعات التي سَلفَت في التاريخ نستطيع أن نتبين ما ينبغي أن تكون عليه الجماعات المقبلة، وما ينبغي أن تفعل، ينبغي أن تتألف الجماعة من أفرادٍ أكْفاء، مُتحدِين في العقيدة وفي الإخلاص لمَثلٍ أعلى مشترك. وينبغي كذلك أن يشترك الأعضاء في الأملاك والإيراد، ولا بد لهم جميعًا أن يشتركوا في التبِعة. وقد يتنوَّع تنظيم الجماعة، ولكن النظام الديمقراطي خير النظم جميعًا. ومن الخير للجماعات أن تقوم بعملٍ يدوي بالإضافة إلى الدراسة النظرية والرياضة الروحية.

وسأعالج في الفصول المقبلة المعتقدات الدينية والفلسفية والطرق التي يمكننا أن نُدرِّب بها الإرادة ونضيء ظلام الأذهان. أما الآن فسأتعرض للكلام على العمل الذي يصح لأعضاء الجماعة أن يمارسوه:

إن المجتمع لا يرقى إلا إذا استقر السلام واستتب أولًا، ثُمَّ تَخلَّى الناس بعد ذلك عن التكالُب على المال والنفوذ، وقد تبين أن الحكومات لا تُشجِّع على ذلك، والأفراد لا تعمل عليه؛ فهو إذًا من واجب الجماعات. إن الفرد قد يصوغ الحقائق النظرية ويُذيعها بين الناس، ومن واجب أفراد الجماعة بعد ذلك أن يعيشوا طبقًا لهذه الحقائق، وأن يُحوِّلوا النظر إلى العمل، وأن تكون حياتهم صورةً مصغرةً للمجتمع الراقي الذي يُحقِّق لنا المُثل العليا الرفيعة.

والآن فلننظر فيما عسى أن تقوم به الجماعات التي تريد إقرار السلام، وتعمل على إيجاد نظامٍ اقتصادي واجتماعيٍّ جديد لا يكون للمال والنفوذ فيه شأنٌ كبير. الواقع أن السلام وهذا النظام الاقتصادي الاجتماعي مرتبطان أحدهما بالآخر أشد الارتباط. والجماعة التي تحاول أن تجعل من حياتها نموذجًا عمليًّا لمجتمع لا تخلب لبَّه شهوةُ النفوذ، تُوجِد في الوقت نفسه نموذجًا عمليًّا لمجتمعٍ يعيش في سلام بعيدًا عن أسباب الحروب. ولسهولة البحث فقط سأفصل بين نشاط الجماعات في سبيل السلام ونشاطها في الشئون الاقتصادية والاجتماعية.

أمَّا نشاطها في سبيل السلام فينبغي أن يقوم على أساس اتباع سياسة اللين التي تَحدَّثتُ عنها في فصلٍ سابق من هذا الكتاب. وفيما يلي خلاصةٌ لنقط الضعف في سياسة العنف:

إننا إذا رَدَدْنا العنف بالعنف انتهينا إلى نضالٍ مادي لا ينتهي، وأَثَرْنا في النفوس الكُره والخوف والغضب والحقد. وفي حرارة النضال يتلاشى تأنيب الضمير، ولا تجد الرأفة والتسامح والرحمة محلًّا في القلوب، وينسى الناس كل شيء سوى النصر. وليس النصر تسويةً نهائيةً لأسباب النزاع، إن الحرب لا تنتهي بشيء من التسوية إلا في الأحوال الآتية:
  • (١)

    إذا فني المهزوم فناءً يكاد يكون تامًّا، كما حدث للهنود الحمر في أمريكا الشمالية. ولمَّا كانت الحرب الحديثة تنشَب عادةً بين أمتَين كثيفتَي السكان، فإن الفناء غير محتمل؛ ولذا فإن الحرب تؤدي إلى غيرها.

  • (٢)

    إذا كانت القوات المحاربة صغيرةً جدًّا، بحيث يبقى مجموع سكان البلد المعادي سليمًا لم يصبه أذًى، قلوبهم نقية لم تُدنِّسها مرارة النزاع. حينئذٍ قد ينتهي نصر أحد الفريقَين بالتسوية الدائمة. أمَّا اليوم فإن مجموع السكان مُعرَّضٌ لخطر القتال، ولم تعُد الحرب — كما كانت في الماضي — من شأن الجند وحدهم، ولا يتعرض لأذاها غيرهم.

  • (٣)

    والنصر قد يؤدي إلى سلمٍ دائمة إذا أقام الظافرون بين المهزومِين كأقليةٍ حاكمة تهضمها البلاد المحكومة على مر الزمان. وهذا أيضًا لا ينطبق على الحرب الحديثة.

  • (٤)

    إن النصر قد تعقبه أعمالٌ إصلاحية من جانب الظافرِين، وهذه الأعمال تُخفِّف من حدة غضب المهزومِين، وتؤدي إلى تسوية دائمة. وهذه هي السياسة التي اتبعها الإنجليز بعد حرب البُوير. ومثل هذه السياسة هي بطبيعتها تطبيقٌ لمبادئ اللين وعدم العنف. وكلما طال أمد الحرب وازداد لهيبها تعسَّرَت الأعمال الإصلاحية بعد النصر؛ فقد كان التسامُح مستحيلًا من الناحية النفسية بعد معاهدة فرساي؛ ومن ثَمَّ يتضح أن مبادئ اللين لا ينبغي أن تُطبَّق بعد الحرب حينما يكون ذلك عسيرًا، ولكن قبل أن تشتعل نار النضال، حتى لا تلجأ الأمم إلى النضال.

وتقوم سياسة اللين على فلسفةٍ سأناقشها في فصلٍ مقبل. وبِغَض النظر عن هذه الفلسفة فإن اللين له قيمةٌ عملية. وكلنا — ولا شك — يُدرك فائدته في المعاملات الخاصة. كلنا يعرف أن الغضب يثير الغضب، ولكن حدة الغضب تَضعُف بالصبر والحِلم الشديد. وكلنا يعلم أن المرء يخجل من وضاعته حينما يلقى رجلًا كريم الأخلاق، حتى إنه كثيرًا ما يتخلى عن وضاعته كي يقابل كرم الأخلاق بما يماثله. وكلنا يعرف أن المرء لا يقسو على الرجل الذي لا يتصف بالأنانية وحب الذات. إن استخدام العنف يصحبه الغضب والبغض والخوف والقسوة والحقد الشديد. أمَّا أولئك الذين يتبعون سياسة اللين فهم يتجمَّلون بضبط النفس والشجاعة، لا يغضبون ولا يحقدون، نياتهم حسنة، وعطفهم على الناس شديد. العنف يجعل الناس أسوأ مما هم، واللين يجعلهم خيرًا مما هم.

ويُنظِّم مبادئَ سياسة اللين في الحياة الاجتماعية العادية قانونُ «آداب المعاشرة» تنظيمًا لا بأس به، وإن يكن ما زال ناقصًا غير كامل. أمَّا فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية المُعقَّدة التي لا تنحصر في حُجرات الاستقبال وفي الطرقات العامة فإن قواعد الدين والأخلاق هي القانون الذي يُنظِّم لها سياسة اللين.

وقد أثبت التاريخ أن قوة اللين تتغلَّب على الشر وتَغلِب الغضب والبغضاء. وقد نَجحَت سياسة اللين في حل مشاكل الجنون والإجرام والتوحُّش في القرن التاسع عشر. وقد كانت من قبلُ من المشاكل التي لا تُحل. وكانت القسوة على المجانين تُؤدِّي إلى زيادة جنونهم، وكان المجانين في غرب أوروبَّا حتى عام ١٨٤٠ يُعامَلون كأنهم مجرمون، ولكن الأمر تبدل في منتصف القرن التاسع عشر، وأخذ الأطباء يُعامِلون المجانين بالعطف والشفقة.

وقصة إصلاح السجون شبيهةٌ بقصة إصلاح مستشفيات المجانين. وقد بحث جون هوارد في النصف الثاني من القرن الثامن عشر حالة السجون في أوروبَّا فوجد أن سجون أمستردام في هولندا هي خيرها وأحسنها معاملة للمساجين، وأن الجرائم في هولندا — من أجل ذلك — أقل منها في أي بلدٍ آخر. كانت السجون بيوتًا للتعذيب تنحط فيها أخلاق السجين البريء، ويصبح فيها المجرم أشد إجرامًا. ولم تُصلَح السجون إلا في القرن التاسع عشر. وما تزال هناك بقية من المعارضين للإصلاح، ولكن هؤلاء — في الواقع — يريدون أن يروا غيرهم مُجرمِين مُذنبِين، كي تظهر إلى جانبهم فضيلتهم وطهارتهم، وبعضهم — فوق ذلك — يستمد اللذة من آلام الآخرِين. ولكن السجون — برغم هؤلاء — قد أُصلِحَت إصلاحًا كبيرًا. ولم يقف الإصلاح إلا في الدول الدكتاتورية؛ وذلك لأنها لا تقوم على مبدأ التسامح، وإنما تقوم على مبادئ الشدَّة والقسوة.

وقد اكتشف حكام المستعمرات، وعلماء الإنسان، ما اكتشفه من قبلُ طبيب الأمراض العقلية، ورؤساء السجون. اكتشفوا أن اللين المُنظَّم المعقول هو السياسة العملية التي تُؤدِّي إلى خير النتائج. واستطاع علماء الإنسان بحسن مُعاشَرة المُتوحشِين أن يكسبوا صداقتهم، فيعلموا عن طرق تفكيرهم ومشاعرهم الشيء الكثير. وكذلك تعلم المستعمرون من علماء الإنسان أن اللين أجدى من العنف وأنفع.

وكما أن سياسة اللين أجدى الوسائل في علاقة الأفراد بالأفراد، فهي كذلك في علاقة الأهالي بالحكومات. وقبل أن نذكر أمثلة لذلك يَجمُل بنا أن نُعيد النظر بإيجازٍ في موضوعٍ سبق أن تعرضنا له في فصل سابق، وذلك هو النتائج التي تنجم عن محاولة تنفيذ الإصلاح بالعنف. يدل التاريخ دلالةً واضحةً على أن الثورة إذا اصطَحبَت بالعنف الشديد لا تؤدي إلى النتائج التي يرمي إليها مُؤجِّجوها، وإنما تؤدي إلى نتائج العنف السيئة المعروفة؛ فالثورة الفرنسية مثلًا بعد حكم الإرهاب انتهت بدكتاتورية نابليون العسكرية. كما أن رغبة فرنسا في التوسع الاستعماري انتهت بتقوية الروح القومية في الدول الأوروبيَّة، وبالاستعباد العسكري، والتجنيد الإجباري، والمنافسة الاقتصادية الحادة بين الأمم. وفي الروسيا كان الغرض الأساسي للثائرِين أن يتمتع المجتمع بأكبر قسطٍ من الحكم الذاتي في جميع نواحي النشاط. غير أن حكام البلاد لَجئوا إلى وسائل العنف التي ورثوها عن النظام القيصري العتيق، فماذا كانت النتيجة؟ إن الروسيا الآن دولةٌ دكتاتورية، الحياة العسكرية والاقتصادية فيها شديدة التركيز، وحكومتها أوليجاركيةٌ تستغل وسائل البوليس السري والتجنيد الإجباري والرقابة على المطبوعات والدعاية القوية؛ وذلك لإخضاع الناس والسيطرة عليهم.

ولْنَذكر بعض الأمثلة لزيادة الإيضاح، ولْنُبين للناس أن الثورة التي تسلك سبيل اللين وعدم العنف تكون ثورة ناجحة. ولعل أشهر الثورات من هذا القبيل تلك التي نظَّمها غاندي في جنوب إفريقيا أولًا، وفي الهند ثانيًا. وقد نَجحَت حركة جنوب إفريقيا كل النجاح؛ فأُلغِي قانون التمييز بين الهنود والأوروبيِّين سنة ١٩١٤. وكان ذلك الإلغاء نتيجةً للمقاومة السلبية وعدم التعاون من جانب السكان الهنود. وكذلك نجح غاندي في الهند إلى حدٍّ كبير. وتَبيَّن أنه من الممكن لجماعاتٍ كبيرة من الرجال والنساء أن يتدربوا على مقابلة المعاملة الوحشية بهدوء النفس وكرم الأخلاق، مما يكون له أثرٌ كبيرٌ في نفوس الظالمِين. وقد أحرَزَت هذه الجماعات إعجاب العالم بأَسْره، ونجح غاندي في تدريب عددٍ كبير على المقاومة السلبية في زمنٍ وجيز. وقد نَجحَت في مصر في العهد الحديث حركة المقاومة السلبية وعدم التعاون مع بريطانيا.

من وسائل عدم التعاون الناجحة المقاطعة التجارية التي استخدمها الصينيون ضد البضائع الإنجليزية بعد ما قتل الجنود الإنجليز بعض الطلبة الصينيِّين، والتي استخدمها في الهند أتباع غاندي.

ونكتفي بهذا القَدْر من الأمثلة لفائدة الوسائل اللينة في علاقات الأفراد بالأفراد، وفي العلاقات بين مجموع السكان والحكومات. والآن لِننظر في فائدة اللين إذا اتُّخِذ وسيلةً للتفاهُم بين الحكومات.

من العجيب أن العالم يُقرُّ نوعَين مختلفَين من الأخلاق، نوعًا خاصًّا بعلاقات الأفراد، وآخر خاصًّا بالأمم والجماعات؛ فالرجل قد تلقاه في حياته الخاصة أمينًا رحيمًا يراعي شعور غيره من الناس، ولكنه يعتقد أن من حقه — حينما يكون ممثلًا لجماعة — أن يخرج على هذه القواعد النبيلة. والأمة في خيالنا تتجسد — كما رأينا — في صورة إنسانٍ أعلى من الإنسان العادي في القوة والمجد، ولكنه أَحطُّ منه في الأخلاق؛ فلا نتوقع منها إلا أن تسلك السبل الدنيئة. ولمَّا كان الأمر كذلك، فليس لنا أن نعجب إذا ندُرت الأمثلة التي تسلك فيها الدول سلوكًا مبنيًّا على سياسة اللين؛ فكلما كان موضوع النزاع هامًّا أطلَقَت الأنانية القومية لنفسها العنان، وتَعذَّر الصلح بين الأمم.

لقد تَحدَّثتُ طويلًا عن سياسة اللين حتى بعُدت عن الموضوع الرئيسي. ولكني أرى ذلك أمرًا لا مندوحة عنه؛ لأن اللين كثيرًا ما يُعتبَر وسيلةً غير عمليةٍ لتحقيق الأغراض، أو على الأقل وسيلة لا يستطيع استخدامها إلا القادرون من الرجال والنساء؛ ولذا رأيت من الضروري أن أُبيِّن أولًا أن اللين وسيلةٌ عمليةٌ نافعة، وثانيًا أنه يُمكِن للأفراد العاديِّين أن يستخدموه. بل إن الملوك والسياسيين وممثلي الأمم أنفسهم يستطيعون استخدامهم بصفتهم الرسمية. (ويلاحظ أن هذه الفئة من الرجال قد تكون منحطةً خلقيًّا في ساعات العمل، ولكنها من أرقى الطبقات خُلقًا في ساعات الفراغ.) إن الجماعات التي ترغب جادَّةً في الإصلاح لا بد لها من التدريب المُنظَّم على السلوك اللين في جميع علاقات الحياة — العلاقات الشخصية، والعلاقات الاقتصادية، وعلاقات الجماعات بالجماعات، أو الجماعات بالحكومات. ومما يكفُل لأعضاء الجماعات أن يَتحلَّوا باللين أن يُنظَّم البناء الاجتماعي للمجتمع بحيث لا يستهوي الأفرادَ حُبُّ النفوذ والسلطان. وكذلك يجب أن يُدرَّب الأفراد على كبح الخوف والغضب والبغضاء في نفوسهم. إن العضو في الجماعة كما نريدها يجب أن يُقابِل العنف باللين والشجاعة والإقدام. وسنعالج وسائل تدريب الأفراد على ذلك في فصلٍ آتٍ.

وعلى الأفراد المُدرَّبِين واجبان أساسيان. عليهم أولًا أن يجعلوا حياة الجماعة في مستوًى أعلى من مستوى حياة المجتمع المحيط بها. وبذلك يكون منهم لهذا المجتمع نموذجٌ رفيع من التنظيم الاجتماعي. وعليهم ثانيًّا «أن يخرجوا إلى العالم» حيث تنفعهم كفايتهم المُدرَّبة في تهدئة العنف إذا اشتعلت نيرانه، وفي تنظيم المقاومة السلبية للظلم الداخلي وللاستعداد لشن الحروب.

وهناك جماعاتٌ أَخذَت على عاتقها ألَّا تشترك في أية حربٍ مقبلة. ومن هذه الجماعات ما هو قائمٌ اليوم بالفعل، مثل الجماعة الدولية لمقاومة الحرب، واتحاد السلام، ولكن هذه الجماعات لا تزال مُفكَّكة، أعضاؤها كثيرون مُشتَّتون؛ بحيث لا يمكن اعتبارها جماعاتٍ بالمعنى الذي بَينَّاه. وهي — برغم ذلك — تقوم بخدماتٍ هامة جدًّا للقضية التي يُجاهِد من أجلها المصلحون؛ فهم في أحاديثهم الخاصة وفي خطبهم في المجتمعات العامة وفي المقالات التي ينشرونها في الصحف دعاة لمبدأ اللين. وقد انبَثَّ بين العامة هذا المبدأ — إلى حدٍّ كبير — بتأثير هذه الجماعات. وأخذ الكثيرون يعتقدون أن هناك وسيلةً أُخرى للكفاح غير الثورة والحرب والعنف وضروب الوحشية المختلفة — وتلك هي المقاومة السلبية.

إن الجماعات التي تُقاوِم الحرب إذا كان عدد أفرادها معقولًا، وإذا كانت عند اشتداد الأزمات متحدةً في الرأي متفقة، تستطيع أن تمنع الحكومة من إخراج الجيش إلى القتال. وقد حدث هذا فعلًا سنة ١٩٢٠ حينما أرغم «مجلس العمل» لويد جورج على أن يتراجع عن تهديده السوفيت بالهجوم. ولكن هذه الجماعات لا تزال إلى الوقت الحاضر ضعيفةً ليس بِوُسعها أن تقف في وجه الحكومة إن هي أرادت أن تعلن الحرب، وتُبرِّرها بأنها حربٌ دفاعية، أو حربٌ لإنقاذ الديمقراطية، أو لمناهضة الفاشستية، أو لحسم النزاع وإنهاء القتال. غير أن هذه الجماعات — برغم هذا كله — تستطيع أن تُعرقِل عمل الحكومة ولو إلى حد.

ويزعم بعض كبار المُفكرِين أن أسباب الحرب اقتصاديةٌ قبل كل شيء، وأن الحرب — بناءً على ذلك — لا غنًى عنها إلا إذا نحن أدخلنا على النظام الاقتصادي السائد تعديلًا شاملًا؛ ولذلك يرى هؤلاء أن سياسة مقاومة الحرب من جانب الأفراد سياسةٌ غير مجدية؛ وهم لذلك يقترحون بدلها الاشتراكية أو إصلاح نظام النقد. ولكن الاشتراكية وإصلاح نظام النقد كليهما لا يكفل لنا امتناع الحروب، بل قد يؤديان إلى تقوية الأمة اقتصاديًّا إلى حدٍّ يُثير المخاوف في الأمم الأخرى وينتهي بالنزول إلى ساحة القتال.

ومن ثَمَّ ترى أن أولئك الذين يقاومون الحرب، أفرادًا وجماعات، عليهم دورٌ هامٌّ لا بد من أدائه في المستقبل القريب. وليس معنى هذا أن إصلاح النظام الاقتصادي أو نظام النقد أمرٌ لا ضرورة له، بل هو على النقيض من ذلك من الأمور التي لا غنى عنها، وقد يعاون في النهاية على استتباب السلام. ولكن العاطفة القومية لا تزال قوية في النفوس؛ ومن ثَمَّ فإن الإصلاح الاقتصادي والمالي قد يزيد من تَحاقُد الدول واحتمال وقوع الحرب؛ فمن واجب الفئة التي تُقاوِم الحرب، أفرادًا وجماعات، أن تمنع — إن استطاعت — التعديل الاقتصادي والمالي من أن ينتهي بالنزاع الدولي ثُمَّ بالقتال.

ويُلاقي المُبشِّرون بسياسة اللين مقاومةً شديدةً من الحكومات التي ينتمون إليها؛ ولذا فهم مُضطرُّون في كثيرٍ من البلدان إلى العمل سرًّا، ولكن البوليس السري الحكومي المُنظَّم يستطيع في كثيرٍ من الأحيان أن يطاردهم. ووسيلتهم الوحيدة بعد هذا هي الدعوة إلى سياسة عدم التعاون مع الحكومة وإلى العصيان المدني. ويدعوهم هذا إلى نشر مبدأ المقاومة السلبية على نطاقٍ واسع؛ لأن العصيان المدني لا يصلح إلا إذا قام به مجموع الأمة. أمَّا الثورات فيمكن في الوقت الحاضر وبالوسائل الحديثة قمعها في الحال. فإن كان الثائرون مُسلَّحِين تسليحًا قويًّا انقلب الأمر إلى حربٍ أهلية كما حدث في إسبانيا. ولا يُرجى من الحرب الأهلية خير؛ ولذا فإن سبيل الخلاص الوحيد هو المقاومة السلبية، فهي تستطيع — إن هي نُظِّمَت — أن تتغلب على أقوى الدكتاتوريات، لأن الدكتاتورية — أو أية حكومةٍ أخرى — إن لجأت إلى الشد فَقدَت عطف الجمهور، وهي أشد ما تكون حاجةً إليه. غير أن تأليف جماعات المُقاوَمة السلبية عسيرٌ في البلدان الدكتاتورية؛ ولذا فلا أمل في تأسيسها إلا في البلدان الديمقراطية التي يُباح فيها للأفراد حرية الاجتماع، وحرية الرأي، والاستقلال عن تَدخُّل الدولة إلى حدٍّ كبير.

وليست الشرطة وحدها هي وسيلة الحكومات في اضطهاد هذه الجمعيات ومطاردتها؛ فإن الحكومة تستغل الصحافة والإذاعة، وستستغل التلفزيون في المستقبل القريب، وتتخذ منها جميعًا وسائل للتأثير في الرأي العام وضَمِّه إلى جانبها.

وإذًا فالواجب الأول للجماعات — كما ذَكَرتُ — هو إقرار السلام باتباع وسائله فعلًا، وببث هذه الوسائل بين الناس. أمَّا الواجب الثاني فهو أن تُعالِج الجماعة نفسها، وأن تُحاوِل علاج العالم بأَسْره بعد ذلك، من التكالُب على المال والنفوذ. وعلى هذه الجماعات أن تُفكِّر في الإصلاح الاقتصادي مع مراعاة ضرورة بقاء رءوس الأموال، ووجود الآلات، واستحالة التخلص منها. وليس لهذه الجماعات أن تَفِر من التفكير في الاقتصاد، كما كانت تفعل قديمًا؛ إذ كانت تَترفَّع عن التفكير فيه، في حين أنها تعيش على مجهود غيرها وعمله.

ولا يكفي أن يتصف أفراد الجماعة بطيب القلب؛ فالعالَمُ لم يخلُ من القديسِين الذين طابت قلوبهم، ولكنهم عجزوا عن الإصلاح، إمَّا لغبائهم أو لجهلهم. وقلَّ من القديسِين من كان عالمًا أو منظمًا اجتماعيًّا، والعالم قد لا يكون مصلحًا والمصلح قد لا يكون عالمًا. وإصلاح العالَمِ يتطلب الجمع بين الطرق العلمية وحسن النية والإخلاص. ولا ينفع أحدهما وحده للسير بالعالم في طريق الخير. وفي الظروف الاقتصادية الحاضرة لا يمكن لجماعات الإصلاح أن تُؤدِّي عملها كاملًا إلا إذا تَدخَّلَت في شئون الصناعة والزراعة. ويتطلب منها ذلك أن تُساهِم في رءوس الأموال حتى يكون لها نفوذٌ كافٍ، فإذا تَوفَّر لها هذا النفوذ كان من واجبها أن تحل لنا كل مشاكل الاجتماع والاقتصاد، ومن أمثلة هذه المشاكل ما يأتي:
  • (١)

    على الجماعة أن تُبيِّن لنا خير الطرق للجمع بين استقلال العمال وحكمهم أنفسهم حكمًا ذاتيًّا وبين الكفاية الفنية — أي أن يتمتع العمال بالحرية ويتحملوا التبِعة مع بقاء الإدارة العلمية مُركَّزةً في أيدي من يستطيعون القيام بها.

  • (٢)

    عليها أن تُبيِّن لنا خير سبيلٍ لتنويع أعمال الفرد، بحيث نُبعد عنه الملل ونزيد من صلته الثقافية بغيره من الأفراد الذي يعملون في جماعاتٍ أُخرى مستقلةٍ عليها تبِعاتها الخاصة.

  • (٣)

    عليها أن ترسم لنا خير الطرق للتصرُّف في الثروة التي تنشأ عن إنتاج الآلات (وقد رأينا من قبلُ أن صورةً من الصور المِلْكية المشتركة للأموال والإيراد شرطٌ ضروريٌّ لنجاح الجماعات التي تَأتلِف على مبدأٍ من المبادئ).

  • (٤)

    أن تُبيِّن لنا كيف نستغل الثروة الفائضة.

  • (٥)

    أن تُبيِّن لنا كيف نستغل مواهب الأفراد من العمال، وكيف نُحدِّد لكل فردٍ ما يلائمه من العمل وفقًا لطبيعته النفسية (انظر الفصل الخاص بعدم المساواة).

  • (٦)

    أن تُبيِّن لنا أحسن صورةٍ من صور حياة الجماعة، وخير السبل لاستغلال الفراغ.

  • (٧)

    ما هي أحسن الطرق لتربية الأطفال، ولقيام الراشدِين بإتمام النقص في تربيتهم (انظر الفصل الخاص بالتربية والفصل الخاص بالعادات الدينية).

  • (٨)

    ما هي أحسن صورةٍ من صور الحكومة التي يشترك فيها الجميع وأحسن طريقة لاستغلال مواهب الزعماء، دون أن تُغرِيَهم شهوة النفوذ بإساءة استخدام ما بأيديهم من سلطان (انظر الفصل الخاص بعدم المساواة).

إن الأفراد المُخلصِين لمبدأٍ من المبادئ، الأذكياء العقلاء، الذين يعيشون في جماعةٍ واحدة، ويعملون وفقًا لخُطةٍ مرسومة، يستطيعون في زمنٍ وجيز أن يُنشِئوا نموذجًا عمليًّا لصورةٍ من صور المجتمع التي نُحبها ونرضاها لأنفسنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤