قرار خطير

كان الأصدقاء يجلسون في الاستراحة ومعهم «زنجر»، وكان «تختخ» يمسك بالورقة في يده، وقد بدت عليه علامات الانشغال والتفكير … ومضت فترة ثم قال «تختخ»: ما رأيكم؟

ردَّت «نوسة»: لا أعتقد أنَّ هناك أيَّ رأي. لقد طلب منَّا المهندس «نبيه» أن نعودَ بعد ثلاثة أيام إلى القاهرة … ولا بُدَّ أن نعود!

لوزة: رأيي ألا نعود … سننتظر حتى تصلنا منه رسالة.

محب: وهل لنا رأي في هذا الموضوع؟! إن المطلوب ليس رأينا، ولكن رأيك أنت يا «تختخ»، فهو عمك وأنت أدرى به.

نظر «تختخ» إلى «عاطف»، فقال «عاطف»: رأيي إذا كانت هناك حفلة كل ليلة مثل هذه الحفلة فيجب أن نبقى شهرًا!

لم يضحك أحد طبعًا، ولا حتى ابتسم، إلا «زنجر» الذي هزَّ ذيله علامة الموافقة على البقاء … كأنما فهِمَ ما قاله «عاطف».

لم يتحدث «تختخ» ولكن استدعى فرَّاش الاستراحة وسأله: هل قرأ أحد هذه الرسالة غيري؟

ردَّ الفرَّاش: لا يا أستاذ … لقد طلب مني المهندس «نبيه» أن أسلِّمَها لك أنت شخصيًّا، فلم يرَها أحد إلا أنت.

تختخ: ومَن بقيَ من مجموعة الرجال الذين كانوا معنا؟

الفرَّاش: لا أحد سوى السائق.

تختخ: وهل تعرف أنت ما في هذه الرسالة؟

الفرَّاش: لا … إنني لا أعرف القراءة!

وصرف «تختخ» الفرَّاش، ثم التفت إلى الأصدقاء قائلًا: إن قراري فيه كثير من المخاطر … لهذا ليس من المطلوب منكم أن تتفقوا معي فيه، بل إني أقترح أن تعودوا جميعًا إلى «القاهرة»!

أسرعت «لوزة» تقول: وأنت؟

تختخ: أنا سوف أتجه إلى «أبو طرطور»!

لوزة: وأنا معك!

نوسة: وأنا!

عاطف: وأنا!

محب: وأنا أيضًا!

ساد الصمتُ لحظاتٍ، ثم قال «تختخ»: إن تعليمات عمي أن ننتظر ثلاثةَ أيام ثم نتَّجه إلى «القاهرة» إذا لم تصلْنا منه رسالة … ورأيي أن نتَّجه غدًا صباحًا إلى «أبو طرطور» … فمن الواضح أن هناك مشكلةً خطيرةً تواجه عمي، وأعتقد أننا نستطيع المساهمة في حلِّ هذه المشكلة.

لوزة: ولماذا ننتظر حتى الصباح … لماذا لا نسافر الآن؟

تختخ: لنسأل السائق.

وأسرع «عاطف» باستدعاء السائق فقال له «تختخ»: لقد ترك لنا عمي رسالةً وغادر الواحة إلى «أبو طرطور» … هل تعرف ما في الرسالة يا عم «بركات»؟

ردَّ السائق: لا يا أستاذ!

قال «تختخ»: إن الرسالة فيها تعليمات من عمي أن نبقى هنا ثلاثة أيام ثم نتجه بعد ذلك إلى «أبو طرطور»، ولكننا قررنا أن نسافر الآن، فما رأيك؟

السائق: لا أستطيع يا أستاذ. لقد هبط الليل، ونحن نسير خلف آثار السيارات التي سبقتنا إلى «أبو طرطور» … فليس هناك طريق ممهد، ولكنها مدقَّات في الصحراء!

تختخ: إن القمر ساطع.

السائق: ضوء القمر لا يكفي!

تختخ: وكيف سافر عمي مع بقية البعثة؟

السائق: إن معهم خرائط، ومعهم دليل من البدو.

تختخ: هل نستطيع السفر صباحًا؟

السائق: ممكن طبعًا، وإن كان في ذلك مخاطرة … فعادة نقطع هذه المسافة في شكل قافلة حتى إذا تعطَّلت إحدى السيارات ساعدتها السيارات الأخرى … كذلك هناك خرائط للطريق ودليل يعرف المنطقة.

تختخ: دعك من المخاطر، سنبدأ رحلتنا في الصباح الباكر … السادسة تمامًا … فكن مستعدًّا في ذلك الوقت.

السائق: سأقوم الآن بشحن السيارة بالماء، وملء خزَّانها بالبنزين، وسأكون مستعدًّا في السادسة.

تختخ: شكرًا لك!

وعندما انصرف عم «بركات»، قال «محب»: هل عندك تصوُّر لنوع المشكلة التي يعاني منها عمك المهندس «نبيه» يا «تختخ»؟

تختخ: لا … ولكنني أرجِّح أنها مشكلة خاصة بالعمل. وما دمنا قد قطعنا الجزء الأكبر من الرحلة، «القاهرة-أسيوط» و«أسيوط-الواحات»، ولم يبقَ سوى خمسة وستين كيلومترًا ونصل إلى «أبو طرطور»، فلا بأس من الذَّهاب ما دام هذا كان هدفَنا الأصلي. وفي الوقت نفسه سنقوم بما لنا من روح المغامرة بالاشتراك مع عمي في حل المشكلة، إذا كانت من النوع الذي نعرف كيف نحله!

نوسة: ولكن يا «تختخ»، لو أنَّ عمك كان يتصوَّر أنَّ لنا أيةَ فائدة فلماذا لم يأخذنا معه؟

تختخ: إن الكبار عادة ينظرون إلينا على أننا أطفال يجب أن نبتعدَ عن مشاكلهم، ولكني أعتقد أنَّ لنا خبرة لا تقل عن خبرة الكبار في حلِّ المشاكل … ثم إن هناك مسألة أخرى … إني أحب عمي «نبيه» جدًّا، ولا أتصوَّر أن يكون في مشكلة ولا أتدخَّل فيها.

محب: عندي اقتراح … لماذا لا نطلب من الشيخ أن يعطيَنا دليلًا ليرشدنا في الطريق؟

تختخ: إنه اقتراح معقول، فاذهب أنت لمقابلته.

وأسرع «محب» للقاء الشيخ، وجلس الأصدقاء ينتظرونه. ثم نامت «لوزة» وتبِعَتها «نوسة»، وبقيَ «تختخ» و«عاطف» في انتظار عودة «محب»، وأخذا يتجادلان في نوع المشكلة التي وقع فيها المهندس «نبيه».

وحضر «محب» ولم تكن ملامحُ وجهه تبشِّر بالخير … وقال: لقد قابلت الشيخ واعتذر بأنَّ عدد الأدلاء قليل … فلم يذهب هناك مع بعثة المهندسين إلا ثلاثة … منهم واحد موجود في «أبو طرطور»، وواحد مع المهندس «نبيه» … أمَّا الثالث فقد سافر إلى أسيوط ولن يعود قبل يومين.

ران الصمت على الأصدقاء الثلاثة فترة، ثم قال «محب»: في رأيي أن نذهبَ بلا دليل. ما دامت هناك آثار يمكن أن تدلَّنا على الطريق.

تختخ: هذا هو رأيي أيضًا، برغم ما في ذلك من مخاطرة شديدة!

محب: إن المسافة ليست كبيرةً جدًّا. خمسة وستون كيلومترًا. كيف نتوه فيها ومعنا السائق الذي قطع هذه المسافة من قبل؟

تختخ: هيا ننام … حتى نستيقظَ في الموعد.

•••

في السادسة صباحًا كانت السيارة تُقِلُّ الأصدقاءَ وتقطعُ طرق الواحة الساكنة متجهةً إلى الغرب … وعندما وصلوا إلى خارج الواحة أشار عم «بركات» السائق إلى آثار واضحة في الرمال، وقال: هذا هو الطريق … وإذا لم تهبَّ رياحٌ قويةٌ تزيل الآثار، فإن في استطاعتنا أن نصل إلى موقع بعثة المهندسين في حدود ساعتين.

وأعمل السائق يديه وقدميه في أجهزة السيارة فانطلقت على الطريق الرملي … وقد جلس «تختخ» بجواره، وجلس بقية الأصدقاء في المقاعد الخلفية، ومعهم «زنجر»، وهو غير سعيد بهذه الرحلة الصحراوية التي لا يرى فيها سوى الرمال.

مضت نحو ساعة … وبدأ الأصدقاء يحسون بالاطمئنان إلى أنهم سيصلون إلى «أبو طرطور»، بدون عقبات … ولكن طُمأنينتهم أخذت تهتز مع هبوب رياح غربية خفيفة أخذت تحرِّك الرمال … ولم تمضِ سوى ربع ساعة أخرى حتى تحوَّلت الرمال إلى عاصفة قادمة من الغرب كالإعصار … وبدأت الرمال تنفُذ إلى السيارة، تلسع وجوهَ الأصدقاء، وتُضيق أنفاسَهم، وتُلهِب عيونَهم.

وبعد لحظات قال السائق: إنني لا أكاد أرى شيئًا أمامي … ومن الأفضل أن نُوقفَ السيارة. ووقفت السيارة وسط العاصفة، والريح تزمجر، والرمال والحصى تدقُّ جوانبها في عنف، ونظر «تختخ» خلفه فوجد الأصدقاء قد التصقَ بعضُهم ببعض، بينما ألقى «زنجر» بنفسه في قاع السيارة وأخذ يلهث مدليًا لسانه.

سأل «تختخ» السائق وهو يمسح وجهه بمنديله: كم تستمر هذه العاصفة؟ ردَّ السائق في ضيق: لا أعرف فإنني لست خبيرًا بجو الصحراء … وأيًّا كانت المدة التي ستستمر فيها، فإنني أعتقد أنها ستمحو آثار السيارات التي كنا نسير عليها، وسنصبح في موقف عصيب.

أحسَّ «تختخ» بالخوف يتسرب إلى قلبه، على نفسه وعلى الأصدقاء الذين ألقى بهم في هذه الصحراء القاحلة، وفي هذا الموقف الصعب حيث لا يمكنهم التقدُّمُ إلى الأمام أو العودة إلى الخلف.

والتقت عينا «تختخ» بعيني «لوزة» في ظلام السيارة الخفيف، وابتسما بدون كلمة واحدة … فقد كان كلٌّ منهما يشجِّع الآخر.

استمرَّت العاصفة، والسيارة واقفة في مكانها … والريح تعصف، والأصدقاء ساكتون … واشتدت دهشة «تختخ»؛ لأن عم «بركات» استغرق في النوم وهو جالس إلى عجلة القيادة … وأخذت عيون الأصدقاء وحلوقهم تلتهب … وتغطَّوْا جميعًا باللون الأصفر … وشعروا — بما فيهم «زنجر» — أنهم يغرقون في بحر الرمال وأمواج رياحه التي لا تنتهي.

وبعد نحو ساعتين بدأت الريح تخفُّ تدريجيًّا … ثم صمتت الصحراء تمامًا … وتحرَّك «تختخ» في مكانه، وأحسَّ أنه مدفون تحت طبقة كثيفة من الرمال، ولم يستطع «تختخ» فتح الباب … واضطر الأصدقاء إلى الخروج من النافذة … وأصيبوا بالفزع جميعًا عندما شاهدوا ما خلَّفته العاصفة … لقد ردمت السيارة حتى منتصفها تقريبا بالرمال … ولو استمرت فترة أخرى لدفنتها تمامًا.

وقف الأصدقاء حول السيارة ينظرون إليها في أسًى … ثم يمدون البصر أمامهم وخلفهم فلا يجدون للآثار التي كانوا يسيرون عليها أية علامات … ولم يتحدث أحد، ولكنهم فقط تبادلوا نظرات مرتعدة.

وبعد محاولات مُضْنية للخروج من النافذة، ظهر عم «بركات» ووقف بجواره ينفض ثيابه، ونظر إلى السيارة ثم قال ببساطة: إنها لن تتحرك مرة أخرى!

وأحسَّ «تختخ» لهذه الكلمات بوَقْعٍ في نفسه لم يشعر بمثله في حياته … فهو أمام خطر رهيب هو والأصدقاء والسائق … خطر لا قِبَلَ لهم بدفعه. ولكن «محب» — وهو أكثرهم اندفاعًا وجرأة — نظر إلى ساعته فجأة، وقال: هل سنقف هكذا طَوال النهار؟ إن الساعة ما زالت التاسعة، وفي إمكاننا أن نتحرك بالسيارة قبل أن يهبط الليل!

التفت عم «بركات» إليه قائلًا: وكيف نتحرك والسيارة مدفونة في الرمال؟

محب: سنزيل هذه الرمال فورًا … هاتي يا «نوسة» الشاي.

وأسرعت «نوسة» لإحضار «ترمس» الشاي الساخن، وسرعان ما دارت أكواب الشاي على الجميع، على حين فاز «زنجر» بكمية من الطعام وبعض الماء … وبعدها انتعش الجميع، وقال «محب» موجهًا كلامه ﻟ «بركات»: عليك أن تجرِّب الموتور … وعلينا أن نُزيلَ الرمال.

وخلع الصبيان الثلاثة قمصانهم، وأحضروا بعض الأدوات من السيارة، ثم انهمكوا في إبعاد الرمال عن السيارة … كانت الرمال ناعمة … وقد أحاطت بالسيارة وكأنها أسمنت مصبوب، ولكن عزيمة الأصدقاء الخمسة كانت أقوى من الأسمنت … وأخذت أيديهم تعمل بسرعة برغم الشمس الحارقة التي صبَّت نيرانها عليهم … وشيئًا فشيئًا بدأت الرمال تذوب حول السيارة، والعجلات تظهر … وبعد فترة مُضْنية من العمل دارت أكواب الشاي مرة أخرى. وبعد فترة استراحة قصيرة عاد المغامرون يعملون … وكان «زنجر» يجري بعيدًا عن السيارة يتشمَّمُ الأرضَ هنا وهناك ثم يعود … وفجأة دوى في صمت الصحراء صوتُ «الموتور» وهو يكركر … وظهر وجه عم «بركات» مبتسمًا وهو يقول: لقد دارت!

وعمَّ نوعٌ من الطُّمأنينة المجموعةَ الصغيرة … ولكن فجأة قال «عاطف»: إذا أزلنا الرمال كلها … ودارت السيارة … فإلى أين نذهب وليس هناك طريق واضح نسير عليه؟

هبط السؤال كالقُنبلة … فتبدَّدتِ الطُّمأنينة … وساد صمتٌ عميق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤