أبو طرطور

حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر كان العمل قد انتهى تمامًا، فأُزيلَت الرمال كلها … ووقفت السيارة مستعدةً للسير وقد دار «الموتور» … ولكن السؤال الذي لا إجابةَ عنه كان: إلى أين؟

والتفت «تختخ» إلى عم «بركات» وقال: ما هي كمية البنزين التي معك؟ قال «بركات»: معي الكثير … ففي خزان السيارة نحو الصفيحتَين، وعندنا كمية مماثلة في خزان خاص للطوارئ، وهذه كمية تكفي للسير نحو خمسمائة كيلومتر!

تختخ: إذن سنستمر إلى الأمام في اتجاه الغرب … إن المسافة الباقية لا تزيد على ثلاثين كيلومترًا … فلماذا لا نحاول السير أطول مدة ممكنة قبل نفاد البنزين؟ وما دامت فرصتنا في العودة تساوي فرصتنا في التقدم، فلنتقدم.

وعادوا جميعًا إلى السيارة، وبدأت السير، جعلوا الشمس أمامهم واتجهوا نحو قرصها الذي كان يميل إلى الغروب … كانت الرمال تُغطِّي وجوههم وثيابهم، وكانوا غاية في الإرهاق … ثم كان هناك خطر في ألَّا يصلوا إلى شيء على الإطلاق في هذه الصحراء الواسعة التي تعتبر — بامتدادها الكبير حتى ساحل المحيط «الأطلسي» — أكبرَ صحراء في العالم.

ومع ذلك كان في قلبهم الحماس للمغامرة … فهم معًا … والسيارة جديدة وبها بنزين، فلا بأس من مغامرة إذن …

ومضت السيارة، ووِجْهتُها قرصُ الشمس الساقط إلى الغرب … وقال «تختخ» موجِّهًا الحديثَ إلى السائق «بركات»: إن أمامنا سلسلةً من الجبال … فأين هو «أبو طرطور»؟

قال «بركات»: إن «أبو طرطور» مختفٍ تمامًا … لقد أحاطته الطبيعة بسلسلة من الجبال تُخفيه … وهكذا ظلَّ مجهولًا عن العالم طَوال أُلوف السنين، بل ملايين السنين كما سمعتُ من المهندسين!

نظر «تختخ» أمامه يتأمَّل سلسلةَ الجبال … وفكَّر أنها أوَّل مغامرة يذهبون فيها إلى مثل هذا المكان البكر … مكان لم تطأه قدمُ إنسانٍ منذ ملايين السنين … شيء مثير … هكذا قال «تختخ» لنفسه … والسيارة تمضي لا يُسمع في الصمت الثقيل الهابط على الصحراء سوى صوتِ محرِّكها الهادئ.

ومضت ساعة وهم يتَّجهون إلى سلسلة الجبال بدون أن يرَوْا أيَّةَ علاماتٍ للحياة أمامهم … وبدأ القلق يتسرَّب إلى نفوسهم. وعندما مضت ساعة أخرى وهم يَمضُون من طريق إلى طريق حسبما يرى «بركات»، بدأ الأصدقاء يميلون برءوسهم ويهمسون … وفجأة … ولأول مرة منذ بدءوا رحلتهم المجهولة … رفع «زنجر» رأسه إلى فوق وأخذ يتشمَّم الجو … ثم أطلقَ نُباحًا طويلًا ممطوطًا. والتفت إليه «تختخ»، ومرة أخرى أطلق «زنجر» نُباحه ثم حاول القفز من السيارة، فقال «تختخ»: أوقف السيارة!

وتوقَّفت السيارة … ولم ينتظر «زنجر»؛ فقد قفز فورًا إلى الرمال ثم دار حول السيارة يتشمَّم الجو … وانطلق يجري … وصاح «تختخ» ﺑ «بركات»: اتبعه! ودار المحرِّك … وانطلقت السيارة تتبع «زنجر» في طريقٍ متعرِّجٍ حافلٍ بالمنخفضات والمرتفعات … وفجأة صاح «تختخ» في فرح غامر: هناك … هناك! وأشار إلى مجموعة بعيدة من السيارات كانت تقف عند سفح أحد الجبال … وزاط الأصدقاء وارتفعت أصواتهم … لقد أدرك «زنجر» أنهم تائهون وأنهم يبحثون عن المعسكر … واستطاع تنسُّمَ رائحةِ الحياة.

كان ظهورُ الأصدقاءِ مفاجأةً للمهندس «نبيه» ومن معه من المهندسين والسائقين والعمال. وقد غضب المهندس في البداية، ولكنه نسِيَ كلَّ شيء بعد لحظات وعاد إلى العمل، وكان واضحًا أنه مشغول بمشكلة هامة … وكان هذا هو سبب إصرار «تختخ» أن يقابله فورًا.

كان المعسكر مُكوَّنًا من مجموعة من السيارات، كل واحدة منها تجرُّ مقطورةً مجهَّزةً للسكن، وهي تشبه غُرَفًا متحركةً على عجل، وبعض هذه المقطورات كان معامل أبحاث حيث كان المهندسون يعملون في تحليل العينات التي تُستخرج من الجبل، وبعضها كان مطابخ … وبعضها غُرف نوم … وكان كل شيء يدور بالكهرباء من مولد كبير … وكان البدو يعيشون في خيامهم كالمعتاد.

واتجه «تختخ» إلى مقطورة المهندس «نبيه» الذي كان يجلس وأمامه مجموعة من الخرائط لمنطقة العمل … كان مُنكبًّا عليها يعمل وقد بدا عليه الإرهاق … وعندما دخل «تختخ» رفع المهندس «نبيه» رأسه إليه، وقال: لولا حسن حظكم لاختفيتم إلى الأبد في الصحراء … إن «زنجر» في الحقيقة أنقذ حياتكم …

قال «تختخ»: لقد أصررنا على الحضور لمساعدتك!

نبيه: مساعدتي في أي شيء؟

تختخ: لقد تركتنا في الواحة وحضرت إلى هنا بسرعة … وكان واضحًا أن شيئًا هامًّا قد حدث … ربما يكون خطيرًا!

وضع «نبيه» يده على رأسه، ثم عاد وأشعل غليونه، وقال: نعم … هناك شيء خطير قد حدث!

تختخ: إنني أريد أن أعرفه.

نبيه: سأقول لك … تعالَ بجانبي!

وأسرع «تختخ» يقف بجوار المهندس الذي أشار إلى خريطة أمامه، ووضع أصبعه عليها وحرَّكها من اليسار إلى اليمين قائلًا: هذا هو جبل «أبو طرطور»، وهو ليس مجرد جبل كبقية الجبال المحيطة به، إنه ثروة … ثروة ضخمة جدًّا … فهو ليس مكوَّنًا من الرمال أو الصخور … إنه مُكوَّن من الفوسفات … هذه المادة الطبيعية الغالية. وسكت المهندس «نبيه» لحظات، ثم عاد يقول: وعندما اكتشفنا هذا الجبل لم يُصدِّق أحد ضخامةَ كمية الفوسفات التي فيه … إنها تصل إلى ٣٠٠ مليون طن … ولكي تتصور حجم هذه الكمية، فإن أكبر مشروع في العالم للفوسفات لا يزيد ما فيه على ۱۸ مليون طن! وتسابقت دول العالم لمعرفة حقيقته، وتقدَّمت بعروضٍ لتمويل المشروع!

تختخ: إنَّ ذلك شيء عظيم حقًّا … ولكن أين المشكلة التي طرأت؟

نبيه: المشكلة أنَّ مجموعة الخرائط التي قضينا السنوات نرسُمها له … الخرائط التفصيلية اختفت كلُّها!

ذهل «تختخ» وصاح: كيف؟

نبيه: ليس هذا فقط، ولكن اختفى معها المهندس «علاء» المسئول عن رسم الخرائط، ومعه «عاشور» أحد أَدِلَّاء البعثة. وعندما كنَّا في الواحة حضر رسول من المعسكر، وأخبرني بما حدث … واضطُررت لترككم سريعًا والحضور إلى هنا باعتباري رئيس البعثة المسئول!

تختخ: وهل عثرتم على الرجلَين أو الخرائط؟

نبيه: أبدًا … ولا أثرَ يدلُّ على مكان اختفائهما!

تختخ: ولكن ما الذي حدث بالضبط؟

نبيه: كان المعتاد أن يخرجا معًا كل يوم لاستكمال رسم الخرائط … ومنذ يومَين خرجا ولم يعودا …

تختخ: أليس هناك مكان محدَّد يذهبان إليه؟

نبيه: إن مساحة الجبل تَزيد على ١٠٠ كيلومتر مربع … وهو مختفٍ خلف كثير من الجبال، ونحن نصل إليه عبر طريق وعر طوله ٥ كيلومترات بين الجبال حيث ترتفع إلى ٥٠٠ متر … قد كان المهندس «علاء» أكثرَ خبرةً بهذا الطريق؛ فهو يعمل في المشروع منذ بدايته. ولم يكن يبتعد كثيرًا عن المناطق التي نعمل فيها … ولا أدري ماذا حدث!

تختخ: وما هي استنتاجاتكم حول هذا الغياب؟

قال «نبيه» بصوت حزين: ليس هناك سوى احتمال واحد … حدوث انهيار مفاجئ في الجبل أدى إلى سقوطهما ودفنهما! لقد بحثنا في كل مكان، وما زلنا نبحث، ولكن مساحة الجبل كبيرة جدًّا، وأنا شخصيًّا بدأت أيئس …

تختخ: أليس هناك حيوانات متوحشة في الجبل؟

نبيه: لم نقابل أيَّ نوعٍ من الحيوانات حتى الآن … ولكن …

وصمت لحظات ثم قال: ولكن هناك نوع من الحيَّات السامة تُدعى «الطريشة»، وهي من أخطر الحيَّات، ولدغتها تقتل في دقائقَ قليلة. ولكن لو أنهما أصيبا بلدغة «الطريشة» لعثرنا على جثتيهما وعلى الخرائط … ولكن لم نعثر على شيء كما قلت لك.

كانت الشمس قد مالت للغروب عندما خرج «تختخ» من المقطورة، وأخذ يسير وسطَ المعسكر في اتجاه المقطورة التي خُصِّصت له والأصدقاء … كان متعبًا للغاية، وتمنَّى لو أنه استطاع أن يحصل على دُشٍّ بارد، ولكن في هذه الصحراء القاحلة كان الماء أغلى من أن يضيعَ في الاستحمام … وغاية ما يمكن الحصول عليه بضع كوبات من الماء لإزالة الرمال.

وعندما وصل إلى المقطورة وجد الأصدقاء جميعًا قد اغتسلوا بقدر الاستطاعة، ثم تمدَّدوا على أسِرَّتهم بعد تعب اليوم الطويل.

وبعد أن اغتسل هو الآخر، ألقى بنفسه على سريره، وأطلق آهةَ تعبٍ طويلة، ثم أغمض عينيه واستسلم لنُعاس خفيف.

عندما استيقظ «تختخ» سمع جرسًا يدقُّ في أنحاء المعسكر مُعلنًا إعداد العشاء، وكان الأصدقاء قد اجتمعوا في ركن من المقطورة وأخذوا يتحدثون، فانضم إليهم … وفي الطريق إلى المقطورة الطويلة التي كانت تُستخدم كقاعة للطعام، روى لهم سريعًا ما دار بينه وبين المهندس «نبيه» من حديث … ولم يعلِّق أحدٌ منهم بكلمة … حتى «لوزة» لم تقل إن هناك مغامرة في الطريق. لقد أحسُّوا جميعًا بالكارثة التي وقعت وفقدت فيها البعثةُ رجلَين والخرائط الهامة للجبل الكبير «أبو طرطور» … وعندما وصلوا إلى المقطورة كانت الأطباق تحملُ الطعامَ من المطابخ إلى الرجال الذين جلسوا يتحدثون في أصوات منخفضة … فقد كانوا جميعًا يُحسُّون بوقع الكارثة.

وعندما دخلوا، أشار لهم المهندس «نبيه» ليجلسوا بجواره، جاء الطعام وكانوا جوعى للغاية، فانهمكوا في تناوله، ونسوا لِلَحظاتٍ ما حدث.

وانتهى العشاء، وخرج الأصدقاء معًا، كان القمر الفضي يفرش الصحراء بلونٍ أبيضَ جميل، والريح هادئة وقد انقشع النهار وتعبه واختاروا كومًا من الرمال وجلسوا عليه … ولحِقَ بهم «زنجر» بعد لحظات وهو يلعق فمه … وكان واضحًا أنه تعشَّى جيدًا بكمية لا بأس بها من اللحم والعظم … فقد عرف الجميع الدور الهام الذي قام به في إنقاذ الأصدقاء.

ودار الحديث وأخذت الأسئلة تنهال على «تختخ»، ولكن بالطبع لم يكن عنده معلومات أكثر من تلك التي قالها له المهندس «نبيه».

قالت «نوسة»: شيء مؤسف أن نأتيَ في هذا الوقت غير المناسب.

عاطف: إنني أفضِّل بعد أن نتفرج يومًا أو يومَين أن نعود إلى الواحة فنقضي يومًا آخر، ثم إلى «أسيوط» ﻟ «القاهرة» … فإنني لا أحب الحياة في هذا الجوِّ الذي يُخيِّم عليه الحزن.

تختخ: سأترك تحديد موعد عودتنا إلى عمِّي «نبيه»، ولا أظن على كل حال أننا سنبقى هنا طويلًا.

وفجأة ظهر شبح في ضوء القمر مقبل نحوهم. وعندما اقترب عرفوا فيه المهندس «نبيه» الذي حيَّاهم ثم جلس بجوارهم صامتًا …

قال «تختخ» ليقطع حبل الصمت: كنا نناقش يا عمي موعد عودتنا إلى «القاهرة»، فإننا نشعر أننا ضيوف غير مرغوب فيهم في هذا الجو الحزين …

رد المهندس «نبيه»: لا أبدًا … كل ما هنالك أنه لن يكون عندي وقت أقضيه معكم … بالإضافة إلى أن اختفاء الرجلين أشعرني بخطورة هذا المكان عليكم، وأُفضِّل في الحقيقة أن تعودوا بعد يوم أو يومَين سريعًا إلى «أسيوط» لإخطار جهات الأمن بما حدث.

تختخ: وماذا تتوقع أن يفعلوا؟

نبيه: لا شيء تقريبًا؛ فقد بحثنا في كل مكان، وسنظلُّ نبحث غدًا أيضًا، فإن كمية المياه التي كانت معهما لم تكن تكفي أكثر من يوم واحد، وقد أطلقنا صواريخ إنارة في الليل ولكن لم يعودا … وقد أطلقنا الليلة …

وقبل أن يُتمَّ المهندسُ جملته، علت أصوات من جانب المعسكر … وسمعوا صوتًا يصيح: المهندس «نبيه» … أين المهندس «نبيه»؟

ورفع «نبيه» صوته قائلًا: أنا هنا!

ثم هبَّ واقفًا … وأقبل بضعةُ رجالٍ يجرون ناحيته، وقال أحدهم: لقد عاد «عاشور»! وجرى المهندس «نبيه» تاركًا الأصدقاء في اتجاه الرجال، وقال «تختخ»: لقد تحرَّكت الأحداث!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤