الطريق المجهول

كان صعود الجبل بالنسبة ﻟ «تختخ» مهمة شاقة، ولكنها لذيذة وممتعة … كان يعرف أن الأكسجين يقل كلما زاد الارتفاع وأنه سوف يتعب، ولكن دافع المغامرة والتجربة الجديدة دفعاه إلى الحماس في تتبع «زنجر» وهو يسبقه جاريًا خلف البعثة الأولى التي يرأسها المهندس «نبيه» ومعه «عاشور» الدليل.

لم يكن الجبل شديد الوعورة كما توقع «تختخ» بل كان شبه مستوٍ، فكان التقدم سريعًا في الاتجاه الذي أشار إليه «عاشور»، وبعد مسيرة نحو ساعة، أشار «عاشور» إلى بقعة من سطح الجبل وقال: هنا جلسنا أوَّل مرة، وأخذنا كمية من العينات.

وفعلًا شاهد «تختخ» بُقَعًا محفورةً من الصخور الهشة، وأخذ المهندس «نبيه» يفحصها ثم قال: إنها تحتوي فعلًا على نسبة عالية من الفوسفات، فهو واضح بين خطوط الصخور.

وساروا مرة أخرى … وكانت البعثتان الأخريان تصحبانهم في الاتجاه نفسه في انتظار الوقت الذي لا يستطيع فيه «عاشور» تحديد الاتجاه بالضبط، فينتشر الجميع.

ومرت ساعة أخرى وبدا الجبل أكثر وعورةً، وبدأت أنفاس «تختخ» تتلاحق، ولكنه مضى مستمتعًا بالجو الجديد … فهذه أول مغامرة يصعد فيها جبلًا …

ومرة أخرى أشار «عاشور» إلى مكان آخر … ووجدوا بقعًا محفورة في سطح الجبل حيث أخذ المهندس «علاء» عينات أخرى … وبعد فترة من البحث جلسوا جميعًا للراحة.

دارت مناقشة حول احتمالات سقوط المهندس «علاء»، ولكنها لم تنتهِ إلى شيء محدد … وكان «تختخ» يستمع باهتمام بدون أن يشترك في الحديث. وبرغم أن المهندس الشاب قد مات وانتهى الأمر، إلا أنه كان يريد أن يعرف بالضبط كيف مات! وكان يتمنى أن يساعد عمَّه المهندس «نبيه» في استعادة الخرائط والمذكرات التي تركها المهندس الشاب.

وبعد أن ارتاحوا بدءوا السير مرة أخرى، وكانوا قد أشرفوا على نهاية الجبل من الناحية الغربية عندما أشار «عاشور» إلى صخرة نائية، وقال: هنا وصلنا وهنا نمت.

وأسرعوا جميعًا إلى المكان … لم يكن هناك شيء يمكن أن يدلَّ على الطريق الذي سلكه «علاء» بعد ذلك … الطريق المجهول الذي انتهى بسقوطه وموته … وعاد «عاشور» يتحدث: نمت طويلًا، وعندما استيقظت لم أجد المهندس «علاء» وهِمْتُ بعد ذلك على وجهي … كنت أشبه بالمجنون وأنا أبحث عنه … وهكذا أخذت أجري هنا وهناك، وأناديه ولكن بدون فائدة … فلم أجده ولم يرد.

وسكت «عاشور» والأنظار كلها متعلِّقة به ثم مضى يقول: وبعدها — كما شرحت لكم — رأيته من أحد شعاب الجبل وهو ميت … على صخرة في هاوية ترتفع جدرانها نحو ۲۰ مترًا!

قال المهندس «نبيه» معلقًا: ألا تستطيع أن تتذكر الآن وأنت في هذا المكان أين شاهدته؟

أخذ «عاشور» ينظر حوله، ويرفع رأسه، ثم أجاب في يأس: لا أستطيع!

قال المهندس «نبيه»: الآن ستنتشر البعثات الثلاث … كل واحدة في اتجاه وسنقضي الليلة هنا. فلنعد إلى نفس المكان عند غروب الشمس … وسنشعل إشارة دخان تستمر حتى عودتنا.

وتقدم أحد الرجال فأشعل مشعلًا يرسل دخانًا كثيفًا، ثم تفرَّقت البعثات، كلُّ واحدةٍ في اتجاه مختلف … وكانت جميعها تتجه إلى أطراف الجبل في أماكن مختلفة باحتمال أن يكون المهندس «علاء» قد سقط عند أحد هذه الأطراف.

وأخرج «تختخ» قميص المهندس، وأدناه من أنف «زنجر» الذي أخذ نفسًا عميقًا، ثم مضى يسير وخلفه «تختخ» والمهندس «نبيه» والمهندس «مسعد» وسار «عاشور» معهم فاحصًا مدققًا.

واستمرَّ السير … وكان «تختخ» يأمل أن يندفع «زنجر» فجأة إلى حيث يوجد «علاء»، ولكن «زنجر» كان يسير مترددًا يدور حول نفسه … وشعر «تختخ» بشيءٍ من الخجل؛ لأن الرجال كانوا يرمقون «زنجر» باستخفاف، فقد كان واضحًا أنه أيضًا ضلَّ طريقه، وأن الطريق المجهول الذي سار فيه «علاء» سيظلُّ مجهولًا …

واقتربت ساعة الغروب، واستعدوا للعودة … وفجأة اندفع «زنجر» في اتجاه حافة الجبل، ووقف رافعًا رأسه ينبح … واندفع الرجال خلفه … ووقفوا ينظرون في البقعة التي وقف فيها، نظروا إلى أسفل … لم يكن هناك شيءٌ على الإطلاق … لقد كان الجبل ينحدر طبيعيًّا أشبه بطريق ممهد ينزل إلى أسفل …

لم تكن هناك صخور مرتفعة … ولا مكان يمكن أن يسقط فيه أحد. ووقف «تختخ» مع الرجال حائرًا … لم يكن هناك شيء يسبب اهتمام «زنجر» المفاجئ … فماذا حدث؟ مضت فترة و«تختخ» يدور في البقعة التي وقف فيها «زنجر» وينظر إلى أسفل … لم يكن هناك شيء على الإطلاق. قال المهندس «نبيه»: هيَّا بنا … لقد أشرفت الشمس على الغروب، ولا بُدَّ من العودة فورًا.

اتخذوا طريق العودة … ولكن «زنجر» ظلَّ واقفًا في مكانه، وقد بدا راغبًا في الهبوط إلى أسفل الجبل، ولكن الرجال اتجهوا عائدين، فقال «تختخ» موجهًا كلامه إلى «عاشور»: ألم تأتِ إلى هذا المكان؟

ردَّ «عاشور» مؤكدًا: أبدًا … لم آتِ إلى هذا المكان … والمكان الذي سقط فيه المهندس «علاء» كان بين صخرتين عاليتين … كما قلت لكم، يبلغ عمق الهوة التي بينهما حوالي عشرين مترًا!

جذب «تختخ» كلبه الأسود في ضيق، وعاودوا السير … ووصلوا إلى عمود الدخان بعد الغروب … وكانت البعثتان الأخريان قد وصلتا … وكان واضحًا على وجوه الرجال أنهم لم يُوفَّقوا إلى شيء.

هبط الليل على المعسكر الصغير … وابترد جو الصحراء وخاصة أنهم مرتفعون عن مستوى البحر كثيرًا … فأشعل الرجال نارًا جلسوا حولها، وانطرح «تختخ» على ظهره. كانت قدماه تؤلمانه؛ لكثرة سيره في هذا اليوم … وأخذ يتطلَّع إلى النجوم في السماء واستطاع أن يعرف منها مجموعة «الدب الأكبر» … ولا يدري لماذا تذكر «عاشور» الذي فضَّل أن ينام فورًا بعد أن شكا من أنه متعب جدًّا. ومضى الوقت والرجال يتحدثون، ثم خفتت الأصوات … وأوى الرجال إلى الخيام الثلاثة التي أقيمت، وقام «تختخ» إلى الخيمة التي يقيم فيها مع عمه المهندس «نبيه» ومعهما المهندس «مسعد»، فوجدهما يغطان في نوم عميق … فربَّت على رأس «زنجر» الذي جلس أمام الخيمة.

استسلم «تختخ» للرقاد فورًا … وفجأة — وهو نائم — أحسَّ بشيءٍ طريٍّ يلعق وجهه فكاد يصرخ … ولكن تذكَّر على الفور أن «زنجر» اعتاد إيقاظه بهذه الطريقة، فاستيقظ، ووجد «زنجر» فعلًا أمامه في ظلام الخيمة الخفيف … ولاحظ أن الكلب يلهث، فوضع يده على رأسه ووجده ساخنًا … كان واضحًا أن الكلب جرى كثيرًا وأنه عاد لتوِّه من مشوار طويل.

جلس «تختخ» في مكانه، واعتادت عيناه الظلام … فوجد «زنجر» ينحني على الأرض ويقدِّم له بين أسنانه منديلًا أبيض … كان النوم ما زال مسيطرًا عليه فكاد ينهر الكلب … ولكن شيئًا فشيئًا أدرك أن هذا المنديل لا بُدَّ أن يعنيَ شيئًا بالنسبة ﻟ «زنجر»، المغامر الذكي. فأمسك بالمنديل محاذرًا وهو ينظر حوله خوفًا من أن يُزعج عمَّه أو زميله المهندس، ولكن أنفاسهما المنتظمة أكدت أنهما مستغرقان في النوم.

قام «تختخ» بهدوء شديد وخرج من الخيمة يتبعه «زنجر» … كانت هناك أشياء يجب أن يفكر فيها جيدًا … أين ذهب «زنجر»؟ ولماذا هذه الأنفاس المتسارعة، ودرجة الحرارة العالية التي أحسها عندما وضع يده على رأسه! وعن هذا المنديل وماذا يعني!

وقف خارج الخيمة يتأمل ما حوله … كان الصمت المطبق يلفُّ الصحراء الواسعة والقمر يميل للمغيب. معنى هذا أنه في ساعة متأخرة من الليل … وأخذ يتأمل المنديل في ضوء القمر الغارب. وخُيِّل إليه أنه يرى عليه بقعًا داكنة فعاد إلى الخيمة … ومن حقيبته الصغيرة أخرج بطاريته وعاد إلى الخارج، وعلى ضوء البطارية شاهد البقع … كانت دماء متجمدة … ودقَّ قلبه سريعًا، وبرقت في ذهنه فكرة … لقد عرف «زنجر» مكان جثة المهندس «علاء» وأحضر منديله!

ولكن كيف التأكد من هذه الفكرة؟

وهل يُخطِر عمه المهندس «نبيه» بما حدث أوَّلًا؟

ونظر في ساعته … كانت الثالثة صباحًا … فماذا يفعل الآن؟

كانت الإجابة عند «زنجر» الذي كان يجري ناحية «تختخ» ثم يندفع إلى الأمام … ووجد «تختخ» نفسه يسير خلف «زنجر»، ثم يسرع في السير حتى كاد يجري. فقد كان «زنجر» متعجلًا، كأنما هناك شيء هام لا بُدَّ أن يراه صاحبه. وهكذا وجد «تختخ» نفسه متجهًا ناحية حافة الجبل حيث كانوا في الصباح. وكان «زنجر» يجري في خط مستقيم بدون تردد كأنه يعرف ما يريد بالضبط، وليس كالصباح عندما كان يدور حول نفسه لا يدري ماذا يفعل.

وعندما كان ضوء الفجر يتسلل إلى الأفق، وصل «زنجر» وخلفه «تختخ» إلى حافة الجبل، في المكان نفسه الذي وقفوا جميعًا فيه في الصباح بدون أن يعرفوا ماذا يريد «زنجر» … وتوقف «زنجر» يسترد أنفاسه اللاهثة ثم بدأ يهبط الجبل إلى الجانب الغربي منه، وتبعه «تختخ» ولم يكن الجبل شديد الانحدار في هذه الناحية فكان النزول سهلًا … ومضى «زنجر» وخلفه «تختخ» يهبطان حتى وصلا إلى نهاية سفح الجبل، حيث كانت الرمال ناعمة تمامًا تغوص فيها الأقدام … وكان ضوء الفجر قد ملأ السماء … واستطاع «تختخ» أن يرى — حيث وقف «زنجر» يلهث — آثار أقدام بعضها قديم وبعضها حديث جدًّا … وكان ذلك واضحًا من نوع التجويف الذي تركته الأقدام في الرمال … ثم لاحظ «تختخ» شيئًا هامًّا … كانت هناك قطع من عينات خام الفوسفات ملقاة في الرمال تكاد تختفي … وانحنى «تختخ» والتقطها وأمسكها بين يديه يتأملها … كانت مقطوعة من الجبل بواسطة شخص ولم تقع وحدها، فقد كان واضحًا فيها آثار انتزاعها بآلة حادة من الجبل … وتلفَّت «تختخ» حوله، لم يكن هناك شيء آخر … وكان «زنجر» يقف أمامه ينظر إليه، وكأنه يسأله: ما رأيك؟

وربت «تختخ» على رأس كلبه الذكي، وقال له: لقد أحسنت تمامًا … والآن هيا بنا نعود.

وبدأ «تختخ» الصعود وخلفه «زنجر» … كان الصعود متعبًا، ولكن «تختخ» كان مهتمًّا أن يعود للمعسكر قبل أن يستيقظ الرجال، فقد قرر أن يُخفيَ كل ما وجد حتى يلتقي بالأصدقاء ويناقش معهم الموقف.

أخيرًا تم صعود الجبل، وبدأ السير … وكانت الشمس قد بدأت تُرسل أشعتها على الصحراء … فكان المنظر فاتنًا لا يُنسى. وكان «زنجر» يقفز حول صاحبه ويجري، وكأنه ما زال في حاجة إلى كلمات تشجيع أخرى … ولكن «تختخ» كان يسير غير ملتفت إليه … فقد كان غارقًا في أفكاره وخواطره … ما معنى وجود المنديل الملوث بالدم؟ ومن أين أتى به «زنجر»؟ هل من المكان نفسه الذي وجد به العينات في الرمال أو من مكان آخر؟ وإذا كان المنديل يخصُّ المهندس «علاء» فماذا يعني هذا؟ وإذا لم يكن يخصه … فمَن يخص إذن؟ ما هي دلالة وجود قطع الصخور الفوسفاتية في ذلك المكان؟ وهل هي العينات التي حصل عليها المهندس «علاء» أو شخص آخر؟

أسئلةٌ كثيرةٌ جدًّا، والإجابات تحمل عشرات الدلالات. وكان «تختخ» في حاجة إلى أن يُلقيَ كل هذه الأسئلة أمام المغامرين ويسألهم رأيهم، ولكنهم ما زالوا بعيدين عنه … فقد تستمر البعثات اليوم … وقد تستمر يومًا ثالثًا … وقد يكون محتاجًا إلى تصرفٍ سريعٍ قبل أن تصبح هذه الأدلة التي حصل عليها لا قيمة لها.

وكان مستغرقًا في خواطره تمامًا، فلم يلتفت إلى ما يحدث حوله … وفجأة خُيَّل إليه أنه يسمع شيئًا قريبًا خلفه … وأحسَّ بالخطر يحيط به … ولم يكد يلتفت حتى وجد نفسه يتعثر في صخرة، ثم يسقط على وجهه سقطة قوية وأحسَّ بألمٍ هائلٍ في رأسه، ثم غاب عن الوعي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤