الجبل … والقمر …

لم تحصل «نوسة» و«لوزة» على أيَّة معلومات هامة من مراقبتهما ﻟ «عاشور»، فقد جلس طول الوقت بجانب المقطورة نائمًا، أو يشرب الشاي. وعندما أوشك المساء أن يهبط عادتا إلى الأصدقاء يائستين … وكانت حالة «تختخ» قد أصبحت أفضل فاشترك مع الأصدقاء في مناقشة حول ما يمكن عمله، انتهت بالاتفاق على أن ينتظروا نتيجة المراقبة الليلية التي سيقوم بها «محب» و«عاطف» ﻟ «عاشور».

وهبط الظلام والصديقان يراقبان الدليل … كان يجلس بين بقية الرجال يسمرون ويتحدثون، ثم قام للنوم في حوالي الساعة الثامنة … وبقي بقية الرجال يتحدثون ثم قاموا للنوم حوالي التاسعة والنصف … ولم يبقَ ساهرًا خارج المعسكر إلا «محب» و«عاطف» وبجوارهما «زنجر» … ومضت الساعات بطيئةً بدون أن يحدث شيء. كان جو الصحراء البارد مفاجأة للصديقين، فانكمشا في مخبئهما قرب المقطورة التي ينام فيها «عاشور»، وقال «عاطف»: إن أسناننا تصطكُّ من البرد … وأنا جائع فما رأيك؟

رد «محب»: في إمكانك أن تذهب إلى المقطورة، وتعود لنا ببعض الملابس الثقيلة وبطعام … وسيكون شيئًا عظيمًا إذا أحضرت لنا بعض الشاي.

وأسرع «عاطف» إلى المقطورة، وعندما وصل وجد «نوسة» و«لوزة» قد نامتا.

أما «تختخ» فكان ساهرًا … ولم يكد يشاهد «عاطف» حتى قال: هل هناك جديد؟

عاطف: الجديد الوحيد هو البرد الشديد … لقد جئت لأخذ بعض الملابس والطعام والشاي.

تختخ: الحقيقة أن «نوسة» فكَّرت في هذا، ولكنني خشيتُ أن يُعطِّلكما عن المراقبة.

وأخذ «عاطف» و«تختخ» يجهزان الأشياء المطلوبة، ثم انطلق «عاطف» بها، ولكن كانت في انتظاره مفاجأة … فعندما وصل إلى المكان الذي كان يجلس فيه مع «محب» لم يجده … وأخذ «عاطف» ينظر حوله، ولكن لم يكن هناك أثر ﻟ «محب» ولا ﻟ «زنجر». وبرغم أن ضوء القمر كان لامعًا، إلا أنه لم يكن في إمكانه أن يتبع آثار تحركهما. وقرر أن يبقى مكانه، فقد يعود «محب» في أيَّة لحظة، فجلس يمضغ ساندوتشًا ويشرب الشاي.

أما «محب» و«زنجر» فقد كانا في تلك الأثناء يتبعان «عاشور». فعندما غادرهما «عاطف» لإحضار الطعام والشاي، ظهر «عاشور» خارجًا من الخيمة في حذر شديد. نظر حوله لحظات، ثم انطلق في طريق الجبل … ولم يتردد «محب» و«زنجر» في متابعته … ونظر «محب» إلى ساعته … كانت الثانية عشرة إلا عشر دقائق. ومشى «عاشور» سريعًا في اتجاه الجبل. وبين لحظة وأخرى كان يتلفت حوله، فكان «محب» ينبطح على الأرض ويسحب «زنجر» معه … حتى إذا مضى «عاشور» وواصل السير، أسرع «محب» و«زنجر» يتبعانه … وبعد أن مضى نحو عشر دقائق توقَّف ونظر حوله جيدًا ثم مدَّ يده في ثيابه وأخرج جهازًا صغيرًا يشبه جهاز الراديو «الترانزستور» ووضعه على أذنه. كانت المسافة بين «محب» و«عاشور» نحو عشرين مترًا، فلم يستطع «محب» أن يتبين طبيعة هذا الجهاز. واستبعد أن يكون مجرد راديو … وإلا فلماذا يبدو «عاشور» حذرًا جدًّا وهو يُخرجه من جيبه؟

توقَّف «عاشور» فترة في مكانه وهو يضع الجهاز قرب وجهه، ثم استدار عائدًا … وقبع «محب» في مكانه، وأمسك ﺑ «زنجر» جيدًا حتى لا يتحرك … ومرَّ «عاشور» قريبًا منهما ثم اتَّجه إلى خيمته ودخلها.

أسرع «محب» عائدًا إلى المكان الذي كان يراقب منه فوجد «عاطف» جالسًا يقضم الساندوتش ويشرب الشاي، وما كاد «عاطف» يراه حتى قال: أين ذهبت؟

محب: نزهة قصيرة خلف صاحبنا.

عاطف: «عاشور»؟

محب: نعم. لقد خرج في نزهة وفي يده شيء يشبه الراديو.

عاطف: يا له من رجل ذي مزاج شاعري.

محب: من المؤكد أنه ليس شاعرًا … إنه مجرم عريق!

عاطف: ألم أقل لكم؟!

محب: هيا بنا إلى «تختخ» سريعًا … إنه سيُسَرُّ كثيرًا بهذه المعلومات.

وأسرعا بالعودة … وقبل أن يدخلا إلى المقطورة، وضعا أمام «زنجر» كميةً هائلة من الطعام.

لم يكد «تختخ» يراهما حتى قال: ماذا وراءكما؟

وروى «محب» ﻟ «تختخ» ما حدث، ثم قال: وأعتقد أن الجهاز الذي كان مع «عاشور» هو جهاز «الووكي توكي».

تختخ: معقول جدًّا … فليس من المنطق أن يخرج من المقطورة ليلًا في هذا البرد ليستمع إلى الموسيقى مثلًا!

محب: لا. لقد أدركت أنه جهاز للإرسال والاستماع مثل الذي يستخدمه أمناء الشرطة، جهاز «الووكي توكي».

تختخ: ألم تستنتج شيئًا آخر؟

محب: استنتجت أنه يخرج كلَّ ليلة في منتصف الليل لهذا الغرض.

تختخ: معقول جدًّا، ولكن الأهم من هذا أن «عاشور» ليس وحده في هذه القصة … إن له أعوانًا، أو هو أحد أعوان مجموعة ما تعمل ضد بعثة المهندسين.

محب: فعلًا … شيء مثير.

تختخ: مثير للغاية. المهم كيف نستغل هذه المعلومات؟

عاطف: نذهب الآن لإيقاظ المهندس «نبيه» ونطلب منه استجواب «عاشور».

تختخ: وإذا أنكر «عاشور»؟

عاطف: كيف ينكر وجهاز «الووكي توكي» معه؟!

تختخ: لعله يخفيه في مكان سرى لا نستطيع الوصول إليه!

عاطف: إذن ماذا نفعل؟

تختخ: نواصل المراقبة ليلَ نهار.

عاطف: ألا نُخطِر المهندس «نبيه»؟

تختخ: لا، إنه ليس رجل شرطة ولا مغامرات. وسوف يتصرف كما تصورت أنت، سيمسك بخناق «عاشور»، وقد ينكر «عاشور» كل شيء، ونخسر كل ما فعلناه، ويبقى موتُ المهندس «علاء» سرًّا وتضيع الخرائط والمذكرات إلى الأبد.

محب: ألا تتوقع أن يخرج مرة أخرى هذه الليلة؟

تختخ: لا … تستطيع أن تنام.

وهكذا أوَى الأصدقاء الثلاثة إلى مضاجعهم، وفي رأس كل منهم مجموعة من الأفكار والاستنتاجات تنتظر الغد.

في صباح اليوم التالي اجتمع الأصدقاء بعد الإفطار، وجلسوا يناقشون خططهم المقبلة، واستقر الرأي على إبعاد «عاشور» عن خيمته أطول مدة ممكنة حتى يتمكن الأصدقاء من تفتيشها. وقال «تختخ»: هذه مسألة سهلة، فسوف أطلب من عمي أن يرسله مع فريق العمل في الجبل طول النهار، وسيذهب «محب» معهم ليراقبه بطريقة خفية، وسنجد نحن طريقة لدخول الخيمة وتفتيشها.

وهكذا أسرع «تختخ» الذي كانت حالته قد تحسَّنت إلى عمه، ورجاه أن يُبعد «عاشور» أطول فترة ممكنة ثم قال: مَن الذي معه في الخيمة يا عمي؟

نبيه: إن معه الدليلين الآخرين، وأحدهما متغيب. وممكن إرسال الثاني في مهمة أيضًا إذا رغبتم.

تختخ: إن هذا يناسبنا جدًّا.

وبعد ربع ساعة من الاتفاق كان «محب» يصحب «عاشور» والبعثة إلى الجبل، وفي رأسه نصيحة «تختخ»: إن «عاشور» يشكُّ فينا، فهو في الأغلب الذي أخذ المنديل والعينات من جيبي فخذ حذرك منه.

ولم تكد البعثة تغادر المعسكر — ثم تتبعها البعثة الثانية وفيها الدليل الآخر — حتى كان «عاطف» و«تختخ» يقفان أمام الخيمة التي يسكن بها الأدلاء. وجلسا على الرمال يتظاهران بلعب «السيجة» وهي لعبة تتم في حفر صغيرة في الرمال وببعض قطع الطوب، وكانا يلتفتان بين لحظة وأخرى، حتى إذا خلا لهما الجو تسللا إلى الخيمة. كان هناك ثلاثة أسِرة صغيرة، وملابس معلقة على جدار الخيمة، وأخذ الصديقان يبحثان في أنحاء الخيمة. لم يكن هناك شيء … ثم بحثا في الأسرة الثلاثة ولم يعثرا على شيء، واتجهت أصابع «تختخ» المدربة إلى الملابس وأخذ يبحث … وعثر على قلم رصاص. كان قلمًا أصفر اللون من نوع «كوهينور» ولفت نظر «تختخ» وجود هذا القلم في جيب أحد الأدلاء فتركه في مكانه بعد أن ألقى عليه نظرة فاحصة.

وبعد عشر دقائق بالضبط، أطلَّ وجه «عاطف» على حذر من الخيمة ونظر حوله، لم يكن هناك أحد. وسرعان ما خرج الصديقان، وقال «عاطف» وهما يبتعدان: إنه رجل شديد الحذر، فهو يحمل جهاز «الووكي توكي» معه.

تختخ: ليس هذا بمستبعد، فملابس الأعراب واسعة فضفاضة يمكن إخفاء هذا الجهاز الصغير بها. ولكن هل تعرف أننا قد نكون عثرنا على أثر هام؟

عاطف: ما هو؟

تختخ: القلم الرصاص … إن هذا النوع من الأقلام لا يستخدمه إلا المهندسون فهو غالي الثمن نوعًا.

عاطف: هل تقصد أن «عاشور» استولى على القلم من المهندس «علاء» بعد موته؟

تختخ: ربما.

عاطف: إنه نذل ويجب …

تختخ: على مهلك، فنحن ما زلنا نقيم استنتاجات، والأدلة ما زالت قليلة أو ضعيفة، ولكن المهم أننا شبه متأكدين من أن «عاشور» يعرف مكان المهندس «علاء».

تختخ: إن ما أخشاه ألا يعود «عاشور».

عاطف: كيف؟

تختخ: إن له أعوانًا كما قلنا … وقد يحس بالخطر فيهرب في الجبل ويذهب إلى أعوانه ولا يعود!

عاطف: ستصبح هذه مصيبة!

تختخ: ربما، وربما تكون مفيدة، فلا تنسَ أن عندنا أذكى كلب في تتبع الأثر والرائحة، وربما دلَّنا على مكانه.

عاطف: وربما حدث العكس … ألا يعود «محب».

ووقف «تختخ» في مكانه. كيف نسيَ تلك الليلة التي سقط فيها وكاد يُقتل؟ أليس من المحتمل أنه كان فخًّا من «عاشور» أو أعوانه؟ أليس من الممكن أن يُعِدَّ فخًّا آخر ﻟ «محب»؟

ولكنه استردَّ هدوءه عندما تذكر أنهم في وَضَحِ النهار، وأن «محب» ليس وحده … وهكذا سارا حتى وصلا إلى حيث كانت «نوسة» و«لوزة» تجلسان مع «زنجر» في الظل.

قالت «لوزة» متلهفة: هل عثرتم على شيء؟

عاطف: عثرنا على قلم رصاص من النوع الثمين.

لوزة: دعك من الهزر يا «عاطف» … فماذا وجدتم؟

عاطف: وأؤكد لك أننا عثرنا على قلم رصاص ولكنه …

والتفتت «لوزة» تستغيث ﺑ «تختخ» من هزر «عاطف» … ولكن «تختخ» قال لها: صحيح لم نعثر إلا على قلم رصاص … ولكن من نوع «كوهينور» …

نوسة: وماذا يعني هذا؟

تختخ: في رأيي أنه يخص المهندس «علاء»، وهذا يعني أن «عاشور» أخذه منه بعد موته. وهذا يعني أيضًا أنه يعرف مكانه، ويستطيع الوصول إليه.

نوسة: إنه قلم رصاص ثمين حقًّا … فهو دليل عظيم …

أمضى الأصدقاء بقية اليوم في انتظار عودة البعثة وهم يتناقشون، وقد انقسموا فريقين؛ فريق يؤكد أن «عاشور» سيعود، وفريق يؤكد أنه لن يعود.

وعندما أوشكت الشمس على المغيب، ظهرت أول بعثة. ولم تكن البعثة التي بها «محب» ثم بعد نصف ساعة ظهرت البعثة الثانية … ظهر أحد الرجال أوَّلًا ممن يحملون العينات. ثم ظهر المهندس «سعد» ثم ظهر «محب» … وتنفس «تختخ» الصُّعَداء … وفي النهاية ظهر «عاشور».

وقالت «نوسة»: لقد عاد …

تختخ: إنه في منتهى الجرأة!

عاطف: معنى هذا أنَّ لنا جولةً أخرى معه هذه الليلة؟

تختخ: إنها في الأغلب جولة النهاية … المهم كيف تكون النهاية؟ فإنني أتوقع أن تكون هناك مفاجأة غير معقولة!

لوزة: ما هي؟

تختخ: لو قلت لك … كيف تصبح مفاجأة؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤