أنتوانيت سابرييه

قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «رومان كولوس»

مثلت هذه القصة لأول مرة في أكتوبر سنة ١٩٠٣، وما يزال الممثلون يلعبونها إلى الآن. وأكبر الظن أنهم سيلعبونها زمنًا طويلًا أيضًا؛ ذلك لأنها من القصص التي تعجب جمهور النظارة وتأخذ عليهم قلوبهم وألبابهم، وتثير في نفوسهم من العواطف ما يدفعهم إلى تشجيع الممثلين على الاحتفاظ بها وإعادة لعبها من حينٍ إلى حين.

والحق أنك لا تكاد تمضي في قراءة هذه القصة حتى تلاحظ أمرين مختلفين، ولكنهما خليقان بالإعجاب، كفيلان بأن يطول بقاؤها في ملاعب التمثيل؛ أحدهما أن الكاتب قد راعى حين وضعها، لا أقول أصول الفن، وإنما أقول أصول المنطق ونظام التفكير الإنساني، مراعاةً دقيقة جدًّا. فأنت تنتقل بين مناظرها وفصولها، كما تنتقل بين قضايا القياس المنطقي المتقن. قد وضع كل شيء فيها موضعه، لا يستطيع أن يتجاوزه ولا ينبغي له أن يتقدم أو يتأخر. وأنت لا تفرغ من قراءة منظر حتى تتوقع المنظر الذي يليه، وما تزال كذلك طوال الفصل الأول وطوال الفصل الثاني، حتى إذا كدت تفرغ منه فجأتك المصادفة التي لم تكن تنتظر والتي لم يكن منها بد لتنشأ المشكلة التي تدور حولها القصة. فإذا كانت هذه المصادفة، فقد نشأت هذه المشكلة وتعقدت وانتهت إلى أقصى ما كان يمكن أن تنتهي إليه من العنف والشدة. ولكننا نعود في الوقت نفسه إلى هدوء المنطق، وتتصل الحوادث أمامنا مطردة مستقيمة يتبع بعضها بعضًا وينتج بعضها من بعض، حتى تنتهي إلى نتيجتها الطبيعية المعقولة، وهي نتيجة محزنة، يألم لها الجمهور، ويعجب بها، ويحرص على أن تتكرر أمامه في الملاعب.

هذا أحد الأمرين. الأمر الثاني: أن القصة كلها صراع عنيف بين طائفة من العواطف والواجبات، قد ألفها أوساط الناس واطمأنوا إليها وتعودوا أن يقبلوها كما هي لا يضعونها موضع المناقشة والجدال. فمما يعجبهم أن يظهر الكاتب هذه العواطف والواجبات وقد اصطدمت وتناقضت ووقف بعضها من بعض موقف الحرب والخصومة القوية. فنحن نرى في القصة صراعًا بين الحب والصداقة، وبين الحب والواجب، وبين الصداقة والواجب، وبين الحب المشروع والحب الذي لا يبرأ من الإثم والخيانة، وبين الوفاء الزوجي وهذا الحب الأثيم، ثم بين الشرف والمنفعة، ثم بين الشرف والحب والحياة. وكل هذه العواطف والواجبات قد مثلها الكاتب تمثيلًا قويًّا صادقًا، وتخير لها أشخاصًا يتقمصونها تقمصًا، إن راقك هذا التعبير. ونحن نلذ أن نرى هؤلاء الأشخاص يختصمون ويجاهد بعضهم بعضًا، ويجاهد كل واحد منهم نفسه. ونحن نقف أمام النتيجة الأخيرة لهذا كله موقف المطمئن المستسلم الذي يقول مع الشاعر العربي القديم: «لا بد مما ليس منه بد.» والذي يستطيع في الوقت نفسه أن يمضي إلى ما وراء القصة ويعرف ما يتم بين هؤلاء الأشخاص من توادع وتراض يقومان على الحزن والاستسلام لهذه القوانين الصارمة التي تدمر حياة الإنسان.

فإذا أضفت إلى هاتين الخصلتين خصلة ثالثة؛ هي الإتقان الفني من الناحية الكتابية الصرفة وحسن تخير الألفاظ والمهارة في تدبير الحوار، استطعت أن تتبين السر في أن هذه القصة لم تتجاوز شبابها بعدُ وإن كانت قد نيفت على العشرين.

ولنبدأ في تحليلها كما تعودنا البدء في تحليل هذه القصص بعرض أشخاصها عليك في إيجاز لأنهم كثيرون.

أول هؤلاء الأشخاص وأحقهم بالعناية، هي بطلة القصة التي سميت باسمها، وهي «أنتوانيت سابرييه». نعرفها ولما نقرأ من القصة أسطرًا، ونعرف في الوقت نفسه أنها امرأة قوية الشخصية؛ لأنها بثت الحسد من حولها، وأطلقت ألسنة النساء بالقول المختلف في سيرتها وحظها ووفائها وما يتصل بذلك. وهي في حقيقة الأمر امرأة قوية الشخصية، عظيمة الحظ من الإرادة، قادرة كل القدرة على أن تضبط نفسها وتسير سيرة تلائم الواجب والخلق ومكانتها الاجتماعية الرفيعة، وإن لم تلائم مثلها الأعلى في الحياة وحاجتها إلى ما يطلب النساء من اللذة ونعيم العيش. هي متوسطة السن، ليست شابة ولكنها محتفظة بجمال الشباب وروعته وقوته أيضًا. خفيفة الروح، جذابة، راجحة الحلم، يظهر عليها الهدوء والرزانة والرضا، ولكن قلبها جذوة من النار مضطرمة أشد الاضطرام، وقلما يحس ذلك أحد غيرها. وهي كما قدمنا مالكة لهذا القلب، قادرة على تصريفه كما تحب وحيث تحب، إلا أن يعرض لها شخص آخر أشد منها قوة وأبعد منها أثرًا.

تزوجت من رجل يشبهها من بعض الوجوه ويخالفها من بعضها الآخر، وهو «جرمان سابرييه»؛ قوي الإرادة مثلها، متقد القلب مثلها، ضابط لنفسه مثلها أيضًا، ولكنه قد عرف طريقه فمضى فيها اندفاعًا، وأذعن له الفوز في كل ما حاول من الأمر. كان ضئيلًا فقيرًا يعمل في سوق الأوراق المالية، فما هي إلا أن اندفع في هذا الطريق حتى أصبح من كبار الماليين في أقل من عشرة أعوام. وهو اليوم زعيم من زعماء المصارف، وملك من ملوك البورصة، يتقرب إليه الناس ويتهالكون عليه ويحسدونه ويتربصون به المكروه. وهو مطمئن إلى حظه، واثق بالمستقبل، لا يشفق ولا يخاف، ولا يتردد ولا يحسب إذا أراد أن يقدم على شيء. وهو يحب امرأته حبًّا قويًّا حادًّا، ولكنه غريب؛ فهو لا يظهر لامرأته هذا الحب على النحو المألوف، وإنما هو مقتنع بأنه يرضي امرأته وعواطفها وميولها إذا أغناها وضمن لها حياة مترفة خلابة تبعث الحسد وغبطة النساء. وهو يخيل إليه أنه مصيب من حب امرأته ما أراد، لا يسأل نفسه أراضية هي أم ساخطة؟ أقانعة أم محرومة؟

وبين هذين الزوجين شخص ثالث هو «دوراي»، متقدم في السن بعض التقدم، قوي الإرادة جدًّا، قادر على ضبط نفسه، في قلبه جذوة تضطرم من الحب، ولكنه قد سيطر عليها واستطاع أن يلطفها حتى يجعلها جذوة وفاء ومودة بريئة طاهرة. أحب «أنتوانيت» وحاول أن يظفر بحبها فلم يوفق، ولكنه ظفر منها بالمودة فقنع، ورضي من حياته بساعات ينفقها من كل يوم مع هذه المرأة في حديثٍ بريء ونصح ومودة راضية، يجدان في هذا كله لذة لا تشبهها لذة. وانطلقت ألسنة الناس فيهما بألوان القول، ولكنهما لا يحفلان بذلك، ولا يحفل بذلك الزوج نفسه لأنه شديد الثقة بامرأته، شديد الثقة بصديقه.

ولهذا الصديق أخت شابة هي «إيلين» رائعة الجمال، خلابة المنظر، شديدة التسلط، قوية الإرادة، مضطرمة المزاج، قد بلغت العشرين من عمرها، وليس لها إلا أخوها هذا، فهو يقوم منها مقام الأب والأم والمربية، حتى تظفر بما يليق بها في الزواج. وهي تحب رجلًا ليس أقل من الذين تقدموه قوة إرادة ولا حدة عاطفة، ولا اضطرام قلب، هو «رينه دانجين»، غني، ضخم الثروة، وسيم الطلعة، محبب إلى النساء، بعيد الأثر في نفوسهن، مفتون بالأدب والفن والقراءة، منصرف عن حياة أبيه الصناعية المالية، قد أغضب أباه إغضابًا شديدًا، وانقطع عما يتردد عليه أمثاله من الأندية ومجالس اللهو والعمل. تحب الفتاة هذا الرجل، وهو يظهر لها ميلًا شديدًا تحسبه الحب وليس هو من الحب في شيء، إنما هو من العطف والمودة والأنس إليها.

هؤلاء هم أشخاص القصة، أو قل أبطالها كما تعود نقاد التمثيل أن يقولوا. ومن حولهم أشخاص كثيرون قد اختطفهم الكاتب اختطافًا، ولمح لك بصورهم النفسية تلميحًا، فبلغ في ذلك ما شاء من الإجادة والإتقان: منهم هذه المرأة الباريسية التي نجدها في أول القصة تتحدث إلى زوجها ورجل آخر في دعابة ودلٍّ باريسيين، وهي تطلق لسانها في «أنتوانيت» وزوجها وصديقها، وهي تظهر غيرة على الفضيلة والشرف والعفة والوفاء، ولكنها لا تكاد تلمح الرجل الذي يعجبها حتى تبتذل هذا كله ابتذالًا وتنزل عنه في ابتسامة أقل ما توصف به أنها تحمل على الابتسام.

ومنهم هذا الصحفي الذي حملته صناعته على أن يتتبع مثالب الناس ويلم بدخائلهم، حتى أصبح صاحب الفتوى في هذا النوع من الغيبة، يلجأ إليه المغتابون ليجدوا عنده ما يحتاجون إليه من ألوان الطعن والتشنيع. وهو على هذا كله يحاول أن يكون رجل جد وصدق ووفاء بالمودة، فإذا سئل عن مثالب «أنتوانيت» أعلن في حزم أنه لا يعرف عنها إلا خيرًا. ولكنه لا يكاد يتبين الإغراء في عين محدثه حتى ينسى الجد والصدق والوفاء ويقع في «أنتوانيت» بما تشاء صاحبته من الطعن والثلب.

ومنهم هذه الصديقة الوفية التي تخلص لصديقتها الحب والمودة وتنصح لها جادة رفيقة، ولكنها أضعف من أن تنصر الواجب وتمضي في نصره إلى النهاية، فهي لا تكاد ترى صديقتها مبتهجة سعيدة بهذا الحب الآثم حتى تدعها وما تريد طالبة إليها ألا يصرفها الحب عن مودتها.

ومنهم هذا الشخص الأخير الذي نلم به إلمامة قصيرة لأنه شائع بين الناس في جميع أطوارهم وبيئاتهم، هذا الذي يحبك ويقدم إليك ما تحتاج إليه من معونة وتأييد؛ لأن له عندك حاجة، فإذا لم يظفر منك بما يريد تخلى عنك في سهولة وقسوة لا يحفل من أمرك بشيء، وربما استحال عدوًّا لك لا يرضيه إلا أن تنزل بك النازلة، لا يتأثر في شيءٍ من ذلك بخلقٍ ولا واجب ولا رحمة ولا شيء من هذه العواطف التي يتأثر بها أخيار الناس.

هؤلاء هم أشخاص القصة أو هم كثرة هؤلاء الأشخاص، وأحسبني أستطيع بعد ذلك أن ألخص لك. وأحسبك تستطيع أن تفهم هذا التلخيص الموجز في غير مشقة.

•••

نحن في ضاحية من ضواحي باريس، في قصر فخم، قد استأجره الزوجان ليقضيا فيه الصيف. وهما يحتفلان هذا اليوم بعض الاحتفالات التي يقيمها الأغنياء، وقد دُعي إلى هذا الاحتفال سراة باريس وأصحاب المكانة فيها، ومعهم النساء الحسان يُفتن الناس بجمالهن ودعابتهن وتنطلق ألسنتهن بما فيه لذة وسحر.

ولا يكاد يرفع الستار عن هذا الفصل حتى نرى هذه المرأة الباريسية بين زوجها وصديقه، تتحدث إليهما في أمر الزوجين، فتقع في الرجل بأنه موفق في حياته المالية وأنها تكره الموفقين وتشبههم باللصوص، وتقع في المرأة بأنها آثمة تعين زوجها بالإثم على ما يسعى إليه من ثروة، فينكر عليها الرجلان هذا. ويأتي الصحفي فيستفتونه جميعًا في أمر «أنتوانيت» فيجيبهم بالخير، ولكنه لا يكاد ينظر في عين صاحبته حتى يرى الإغراء والإطماع، فيتحول عن الوفاء ويقع في «أنتوانيت»، وبعد أن كان يريد أن ينصرف إلى صحيفته لأداء عمله نراه يؤثر البقاء ويكتفي بالتليفون.

ونحن نرى المدعوين يترددون في القصر وحديقته يقف كل فريق منهم وقفته على المسرح، يتحدثون أمام النظارة وقتًا قصيرًا ليبينوا فيه بعض ما قدمت لك من نفسية هؤلاء الأشخاص جميعًا.

فلنمر بهذا الفصل لا نقف منه إلا عند منظرين أو ثلاثة لا بد من الوقوف عندها حينًا. نقف عند هذا المنظر الذي يمثل لنا «أنتوانيت»، قد أقبلت على صديقها «دوراي» مضطربة كأنها تلتمسه لتشكو إليه بعض الأمر، فيسألها فتتردد، ثم تخبره في استحياء بأن «جاماني» هذا المالي العظيم الذي لا بد لزوجها من معونته قد أرادها على السوء فامتنعت عليه في رفق، فانصرف مغيظًا محنقًا. ونقف عند هذا المنظر الذي يمثل لنا «دوراي» وهو يقدم صديقه «رينه دانجين» إلى صاحب القصر، ويمثل لنا صاحب القصر وهو يعرض على هذا الرجل الاشتراك معه في بعض الأعمال المالية فيعتذر إليه. ثم نمر مسرعين بهذا المنظر الذي يمثل لنا «أنتوانيت» وقد لقيت هذه المرأة الباريسية التي رأيناها في أول القصة ومعها صاحبها الصحفي قد استسلم لها استسلامًا، فيقع بين المرأتين حوار فيه الحسد والتعريض المر، وفيه من ناحية «أنتوانيت» الدفاع عن النفس في رشاقة وترفع. ثم تخلو «أنتوانيت» إلى صديقتها فتتحدثان، فنفهم من هذا الحديث أنها لا تحب زوجها ولا تظفر عنده بما تريد. ولكنها مع ذلك حريصة على الوفاء له، لم تخنه ولن تستطيع أن تخونه، وهي تعاشره وتشاطره الحياة، وإذا قدر لها أن تظفر بالحب فلن تذوق لذته حتى تقطع الصلة بينها وبين زوجها. ثم نقف آخر الأمر عند هذ المنظر الذي يمثل لنا «أنتوانيت» وقد لقيت «رينه دانجين»، فلم يكادا يتحدثان حتى وقع من نفسها ووقعت من نفسه، وكان بينهما هذا الحب الفجائي الذي يسميه الفرنسيون «وقع الصاعقة» وإذا هما مضطربان أشد الاضطراب، يقع بينهما حوار قصير يريدان أن يتناولا به كل شيء فلا يتناولان فيه إلا أنفسهما وسوء حظهما فيما مضى من حياتهما، وينتهيان وقد تواعدا على المودة.

•••

وتمضي ثلاثة أشهر، ويرفع الستار عن الفصل الثاني. فإذا نحن في القصر نفسه آخر النهار، وقد جلست «أنتوانيت» إلى منضدة ترتب طائفة من الأوراق، ودخلت عليها صديقتها التي رأيناها في الفصل الأول، فتسأل «أنتوانيت» فيم كتبت إليها تدعوها لزيارتها، وتجيبها «أنتوانيت» بما كنا نتوقعه في آخر الفصل الأول من أنها قد أحبت صاحبها حبًّا لا تجد إلى مقاومته سبيلًا، وأحبها هو كذلك، وانتهى هذا الحب إلى نتيجته الطبيعية، وهي أنهما قد اعتزما السفر من فرنسا إلى حيث يجدان الحرية، وهي لم تخن زوجها بعد، وما ينبغي لها أن تخونه، وهي تعاشره وتعيش في بيته، فإذا ذكرت لها صديقتها أن هذا لا يعفيها من الإثم، فهي مدينة لزوجها بالوفاء حتى يطلقها، وزوجها يحبها وهو لم يسئ إليها، وليس من حقها أن تؤذيه أو تسوءه، أجابت بلسان هذا الحب القوي الآثم أن زوجها لن يطلقها إن طلبت إليه ذلك، وأنها هي لا تحبه، وهي تحب هذا الرجل، ولها حقها في الحياة ولذاتها، فما ينبغي لها أن تضحي بنفسها وصاحبها في سبيل هذا الزوج الذي لا تحبه.

وفي الحق أن الحب قد فتن هذه المرأة، وانتهى بها إلى هذه الأثرة التي ينتهي إليها العشاق عادة، فهي تضحي بزوجها وصديقها «دوراي» وأخته «إيلين» التي تحب هذا الرجل، ولا عذر لها في ذلك إلا أنها تحب، وأن صاحبها يحبها، وأنها كانت تنتظر هذا الحب، فما ينبغي أن تمتنع عليه وقد أتيح لها. وصديقتها تسمع هذا فلا تقتنع به، ولكنها مترددة بين الدفاع عن الواجب والاحتفاظ بمودة صديقتها، فتستسلم وتتمنى لصديقتها التوفيق.

ولئن ضعفت هذه الصديقة عن أن تقف في وجه الحب الآثم وتحتمل ثقل الدفاع عن الواجب، فلن يضعف عن هذا صديقها «دوراي»، فقد أقبل ومعه أخته. فما هي إلا أن يخلو إلى صاحبته ويتبين ما عزمت عليه حتى ينفجر انفجارًا: يلوم صاحبته لومًا عنيفًا؛ لأنها تضحي بزوجها، ولأنها تضحي به هو، ولأنها تندفع مع الأثرة إلى غير حد، وهو يرعد حينًا ويستعطف حينًا آخر، ويستسلم مرة أخرى إلى البكاء.

ولكن الانتصار على هذا الرجل يسير، فهو متهم في غضبه للواجب ودفاعه عنه، هو لا يدافع عن الزوج ولا عن الزواج، وإنما يدافع عن نفسه لأن صاحبته انصرفت عنه، وستدعه وتنصرف إلى حيث تستثمر الحب في دعةٍ وأمن، في حين يشقى هو بالوحدة والأسى والحرمان.

هو يدافع عن نفسه، وإذن هو أثر، وإذن فليس هو بالصديق حقًّا. ولو كان صديقًا حقًّا لقبل التضحية في ألمٍ طبعًا، ولكن في رضًا وإذعان، وما أسرع ما تنتصر عليه وتلزمه الحجة، وقد تقدم إليها وانصرف الزائرون، وأقبل حبيبها فاتفقا على أن يفرا بعد حين قصير، ينتهزان غيبة زوجها في لندرة ويمضي بهما الأتومبيل إلى حيث يركبان السفينة إلى أمريكا. ويدعها صاحبها على أن ينتظرها أمام القصر، وهي تدعو خادمتها فتصدر إليها أوامر قصيرة تتصل بهذا السفر وتصرفها.

وانظر إليها قد نهضت وتهيأت للخروج إلى حيث ينتظرها صاحبها وهي تلقي بنظرة وداع على الحجرة وما فيها. وإذن فسيظل الواجب مهيضًا وسينتصر عليه الحب الآثم! وستمضي هذه المرأة مع رفيقها وسيعود الزوج فيرى نفسه في هذا القصر وبين هذا الترف وحيدًا. يتقوض من حوله كل شيء؟ … كلا! وما الذي يمنع الصداقة أن تدافع عن هذا الواجب؟ انظر إلى صاحبتنا تخطو لتخرج من الحجرة، ولكنها تصيح وتتراجع مذعورة، لأنها رأت رجلًا وهذا الرجل هو زوجها، وقد أقبل من لندرة قبل ميعاد العودة.

ولكن انظر إليه إنه مضطرب قد انهدت قواه وفقد ما كان يمتاز به من شدة وصلابة وثقة بنفسه وبالدهر، وامرأته تسأله: فيم عجل هذه العودة؟ وهو يتردد في إجابتها، حتى إذا وجد القوة على الكلام أخبر امرأته بأنه في ضيقٍ مالي منكر؛ لأن شركاءه قد أسلموه وأجمعوا على خيانته. وكان زعيم هذه الخيانة «جاماني» الذي رأيناه في الفصل الأول يريد أنتوانيت على السوء وينصرف محنقًا لأنها امتنعت عليه. والرجل لا يتبين سبب هذه الخيانة، أما نحن فنعرفه حق المعرفة. ومهما يكن من شيء فإن صاحبنا مضطر إلى نصف مليون من الفرنكات يجب أن يؤديه بعد ثمانية أيام، وقد سلك إلى هذا المقدار كل سبيل فلم يظفر به. وهو إن لم يؤده مفلس ثم مقبوض عليه ثم ملقى في غيابات السجن.

يقص هذا كله على امرأته وهي تسمعه في شيءٍ يشبه الهدوء، ولكنه يدل على ثورة عنيفة داخلية. وانظر إليها وقد تغيرت تغيرًا تامًّا، فهي تشجع زوجها وتنصح له بالجلد والمضي في الجهاد، وتعلن إليه أن ثمانية أيام ليست بالشيء القليل، وأنه واجد فيها مخرجًا من هذا الضيق. ويقع هذا الكلام من قلب الرجل موقعًا حسنًا، ويمنحه قوة وجلدًا فيعد باستئناف الجهاد. وانظر إليه وقد نهض قويًّا مستعدًّا للحرب، وانصرف إلى باريس وترك زوجه في شيء يشبه الذهول. ينصرف الرجل وتغلق الباب من ورائه، وإذا صديقها قد أقبل يتعجلها، فتعلن إليه أنها لن تسافر الآن، ويكون بينهما حوار عنيف، نفهم منه أن هذه المرأة كانت تظن أنها ستدع زوجها غنيًّا قويًّا يستطيع أن يتعزى عن الحب بالثروة والقوة. فأما الآن وقد أعدم وضعف فلا تستطيع أن تدعه. وهي تحب صاحبها، ولكنها تطلب إلى هذا الحب أن يمهلها حتى يسترد زوجها قوته وثروته. ولكن الحب عجل لا يمهل، وصاحبها يعلن إليها في عنف أنه منصرف عنها إلى حيث لن تراه، وأنها لم تحبه كما يحبها. وانظر إليه وقد ولى منصرفًا، واستولى الجزع على هذه المرأة، فهي لعبة بين الحب وشهوته، وبين الواجب وأمره الذي لا يرد. إنها تدعو صاحبها ملحة عليه، فإذا أقبل عليها تضرعت إليه في أن يبقى فيأبى، وإذا هي قد غيرت من خطتها فجأة وضحت بالأمانة الزوجية في سبيل الحب من ناحية وفي سبيل الوفاء لزوجها والإشفاق عليه من ناحية أخرى، وإذا هي تلقي بنفسها بين ذراعي صاحبها وقد استسلمت للإثم.

•••

وتمضي من الأيام الثمانية سبعة ولم يجد الرجل لنفسه مخرجًا من ضيقه. ونحن الآن في مصرفه وقد أقبل يائسًا مستسلمًا مستعدًّا للإفلاس والمحاكمة والسجن، وأقبل عليه صديقه «دوراي» ينبئه بأنه قد سعى عند كثير من الماليين فلم يوفق لشيء، ولكنه وفق أخيرًا لرجل لا يعمل في المال ولا في البورصة، ولكنه مستعد لتقديم هذا المقدار، وسيأتي بعد حين ليعرض المال على صديقه. وهذا الرجل هو «رينيه دانجين»، فإذا سمع صاحبنا اسم هذا الرجل أخذه غضب شديد وأعلن أنه لن يقبل منه هذه المعونة، فإذا دهش صديقه لذلك أعلن إليه بعد تردد أن هذا الرجل قد أكثر التردد على قصره والتقرب من زوجه وقد عرف الناس ذلك وتحدثوا به، فإذا عرف الناس أنه قد أعانه فسيتحدثون أنه قبل هذه المعونة ثمنًا لما بين الحبيبين من صلة. وهنا يغضب «دوراي» ويقف موقفًا بديعًا في الدفاع عن «أنتوانيت»، فهو مؤمن بطهارتها، مؤمن بأنها لم تخن زوجها وما كانت لتخونه حتى تفارقه، وهو يمضي في هذا الدفاع إلى أبعد حد ممكن، فيعلن إلى صديقه أنه إن كان قد وصل إلى هذا الحد من الضيق فذلك لأن امرأته امتنعت على «جاماني»، ويعلن إلى صديقه أنه هو قد حاول أعوامًا أن يصل إلى «أنتوانيت» فلم يظفر منها بشيء. وقد كاد يقنع صديقه ببراءة زوجه وطهارتها، وكاد يقنعه بأنه يستطع أن يقبل هذه المعونة، وقد دعا الخادم وأمره أن يتحدث إلى زوجه في التليفون يطلب إليها أن تحضر. وأقبل الرجل يعرض معونته، فإذا خلا إلى صاحبنا طلب إليه هذا: أتستطيع أن تقسم لي بشرفك أني أستطيع أن أقبل هذه المعونة منك دون غضاضة أو تعرض للدنية؟ فيقسم له ويهيئ «الشيك» ويهيئ هو صكًّا بهذا المقدار.

وتقبل «أنتوانيت» فينبئها بأنه قد أخفق في سعيه كله، ولكن هذا الرجل يعرض عليه ما هو في حاجةٍ إليه، فتحاول أن تشكر الرجل مضطربة وقد تم كل شيء، ولم يبق إلا أن يمضي صاحبنا الصك. ولكنه يتجه إلى امرأته وصاحبه قبل أن يمضي ويسألهما في قوةٍ وإلحاح: أيمضي هذا الصك؟ فأما الرجل فيجيبه: نعم، وأما المرأة فيأخذها الإغماء، وأما صاحبنا فقد فهم كل شيء. وانظر إليه محنقًا قد ألقى ما في يده وأخذ ينتهر الآثمين بشدة وعنف، وما زال بالرجل حتى أخرجه، وهو الآن أمام امرأته وحدها يأمرها أن تنصرف فتستعطف، فلا يزيده استعطافها إلا سخطًا وحنقًا. ومع ذلك فالرجل في محنة منكرة، وقد جاهد أسابيع وضعف عن المقاومة، وهو في حاجةٍ إلى من يؤيده ويشد أزره ويعينه على هذه الأيام المُرة التي يستقبلها. فانظر إليه وقد عفا أو كاد يعفو عن امرأته، ولكنه يريد منها أن تنصرف عن هذا الرجل وتنساه وتبقى له هو وحده ويسألها أتستطيع ذلك؟ فلا تجد إلى جوابه سبيلًا، فإذا ألح عليها في السؤال عرف منها أنها لا تستطيع … فانظر إليه ضعيفًا مستسلمًا مغضبًا مع ذلك شريفًا، يطرد زوجته وهي تأبى عليه، وتعرض عليه ما تستطيع من أن تعيش معه حليفة معينة ولكن في غير حب، لأنها لا تملك هذا الحب ولا تستطيع إخضاعه لإرادتها، وهو يأبى عليها ويلح في طردها، فتنصرف معلنة إليه أنها ستنتظره في البيت، فإذا تركته نهض إلى أبواب الغرفة فغلقها، ثم يعود إلى مكتبه ويخرج منه مسدسًا ويرتب طائفة من الأوراق وقد طرق الباب، فكان جوابه طلقة المسدس الذي تُختم به مثل هذه القصص.

يناير سنة ١٩٢٧

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤