الفؤاد المقسَّم

قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «لوسيان بينار»

هي قصة جديدة شهدها جمهور الباريسيين في بيت موليير آخر العام الماضي، ولعلها خير ما ظهر للناس في هذا الفصل من فصول التمثيل. وآية ذلك أنها ظهرت لأول مرة في بيت موليير (الكوميدي فرنسيز)، ولم تحتج إلى أن تتخذ إليه الطرق المعوجة أو المستقيمة التي تتخذها قصص أخرى فتظهر في ملاعب مختلفة، ولا تصل إلى بيت موليير حتى يمضي عليها زمن طويل أو قصير.

وأنت لا تحتاج إلى كثيرٍ من التفكير، بل لا تحتاج إلى شيءٍ من التفكير إذا قرأت هذه القصة؛ لتشعر شعورًا قويًّا واضحًا بأنها خليقة ببيت موليير، ففيها كل ما يلائم هذا البيت من شدة الأسر وقوة الفكر، وهذا الجد الذي تلذه دون أن يثقل عليك والذي تمتاز به الآثار الفرنسية القيمة. ولعل من الحق أيضًا أن ألاحظ أني لم أقرأ في هذه الأعوام الأخيرة قصة حديثة أحدثت في نفسي من الأثر ما أحدثته هذه القصة، لا أستثني إلا ما يكتبه «فرانسوا دي كوريل» من حينٍ إلى حين.

فلست أقول شيئًا جديدًا إن قلت إن النقاد الفرنسيين يلاحظون أن فن التمثيل قد أصابه شيء من الفتور غير قليل في هذه الأيام، فقلما تجد في عشرات القصص التي ينتجها الكتاب في كل عام، بل في كل فصل، قصة تملك عليك عواطفك، وتأخذ عليك طرق الحياة والتفكير، وتكرهك على أن تقف عليها وحدها حياتك العقلية والشعرية أثناء قراءتها في مكتبك أو مشاهدتها في الملعب. إنما هي قصص سهلة يسيرة، فيها عبث ولهو أو فيها تفكير غير متقن، وحوار خفيف لذيذ يمس الموضوعات في غير إثقال ولا أناة ولا اعتصار لخلاصتها. فأنت تقرأ أو تشهد هذه القصص، وأنت تجد في هذا شيئًا من اللهو والفكاهة أو تحتاج إلى شيءٍ من التفكير لا تلبث أن تنصرف عنه متى انصرفت عن القصة.

وأنت لا تكاد تنصرف عنها حتى تنسى موضوعها وحوارها وأشخاصها، وحتى ليحدثك في أمرها محدث بعد أن يمضي على ذلك شهر أو بعض شهر، فإذا أنت لا تكاد تذكر فيها شيئًا. فأما هذه القصص التي تقرءها فإذا أنت تحفظ بعض حوارها حفظًا، وإذا أشخاصها كلهم أو بعضهم قد ارتسموا في نفسك ارتسامًا، فأنت تراهم يقظان، وأنت تتوهمهم نائمًا، وإذا موضوعها قد نصب أمام عقلك نصبًا، وأقسم لا يزول ولا ينتقل حتى تفكر فيه تفكيرًا متصلًا وحتى تجد له حلًّا يلائم عقلك وهواك. هذه القصص قد بعد العهد بها منذ مات «بول هرفيو»، وانصرف كبار الكتاب إلى مجدهم يلهون به ويستمتعون بثمراته، كما يهلو إله أرستطاليس لأنه لا يعلم إلا نفسه ولا يعجب إلا بنفسه. حتى بعض الكتاب الذين عرفوا قبل الحرب بالقوة والأيد وشدة التأثير في نفوس النظارة والقراء.

والذين لم ينصرفوا إلى مجدهم، وإنما ظلوا عمالًا لفن التمثيل يجدون فيه بعد الحرب كما كانوا يجدون قبل الحرب وأثناءها، قد أصابهم الضعف وأدركهم الفتور. فأنت تقرأ ما يكتبون الآن، فلا تحس ما كنت تحس من قبل، بل أنت تنكر هؤلاء الكتاب إنكارًا وإن كان النقاد قد مهدوا لقصصهم بالفصول الطوال ملؤها الثناء والتقريظ اللذان لا حد لهما. ويكفي أن ننظر إلى ما يكتبه «برنستين» الآن وما كان يكتبه قبل الحرب، لنقتنع بأن هذه الظاهرة حقيقة لا بد من ملاحظتها والتماس أسبابها للذين يعنون بهذا الفن من فنون الأدب الفرنسي. ولكني لن أضيع وقتك ووقتي في التماس العلل لهذا الفتور الذي طرأ على كتاب التمثيل، فإن هذا الفتور ليس مقصورًا على التمثيل وحده، وإنما يتناول الأدب الفرنسي كله بعد الحرب، ويجب أن تلتمس علله في الحرب نفسها وما تركت في نفس هذا الجيل من أثر. إنما أردت أن ألاحظ أن هذه القصة التي أعنى بها اليوم تمتاز من هذه القصص الكثيرة التي تظهر وتختفي من ملاهي باريس دون أن تترك أثرًا قويًّا أو ضعيفًا. هذه القصة خليقة بالبقاء، وستبقى، وما أرى إلا أنها ستعمر طويلًا؛ لأنها — كما قلت — قد جمعت هذه الخصال التي تمتاز بها الآثار الأدبية الفرنسية القيمة.

ولننظر قبل كل شيء إلى موضوع القصة، فليس هو من هذه الموضوعات الضخمة الفخمة التي تخلبك؛ لما لها من ضخامة وعظم شأن. وليس هو من هذه الموضوعات النفسية الدقيقة التي تسرف في الدقة، حتى لا يلاحظها إلا علماء النفس والذين وقفوا أنفسهم على تحليل ما لبعض الناس من ألوان العواطف والشعور الخاصة التي تدرس في المستشفيات. إنما هو موضوع عادي في نفسه يراه كل إنسان ويحسه ويشعر بآثاره، لا يحتاج من ذلك إلا إلى حظ عادي من الذكاء والملاحظة ودقة الحس. وأي إنسان لا يعرف أن كل امرأة، مهما تكن مقسمة النفس بين أسرتها الجديدة وأسرتها القديمة! أي الناس لا يعرف أن كل امرأة تتعرض لهذه الأزمة؛ أزمة الخصومة بين حياتها الزوجية وحياتها المنزلية الأولى؟! ثم أي الناس لا يعرف أن كل أسرة تتأسس، فهي إنما تتأسس على الأنقاض، وهي إنما تقطع شيئًا كان متصلًا لتصل شيئًا كان مقطوعًا. فالفتاة حين تدخل في أسرتها الجديدة تقطع الصلة بين أبويها قطعًا صريحًا أو غير صريح، وتنشئ صلة جديدة مع زوجها، وهذه الصلة يقويها الحب إن كان هناك حب، ثم تقويها الحياة اليومية، ثم يقويها الولد يوم يأتي الولد. وقد أرادت الطبيعة الإنسانية أن يكون الحب والمنفعة المشتركة بين الزوجين، والولد وضعفه وحاجته إلى التربية والتعليم، ثم الأثرة التي فطرنا عليها، عناصر من شأنها أن تقوي الصلة الجديدة، وتهون على الرجل والمرأة احتمال «عملية البتر» التي يحدثها الزواج بينهما وبين أبويهما. ولكن نفوس الناس جميعًا ليست مستوية الحظ من هذا الاحتمال، وظروف الناس جميعًا ليست متشابهة، فقد يوجد الحب ويكون من القوة والشدة بحيث يلهي الزوجين عن قديمهما ويفنيهما في الجديد، وقد يكون هذا الحب قويًّا شديد التأثير ولكنه يصادف مزاجًا قويًّا وفيًّا يستطيع أن يتسع للقديم والجديد، وأن يزعم الوفاء للأسرة والزوج، وقد لا يوجد الحب أصلًا، فيظل الزوجان متأثرين بقديمهما وتكون الخصومة بين هذا القديم وبين المنفعة الجديدة التي تستتبعها الحياة الزوجية.

ونحن لم نفكر إلى الآن في الزوجين، فإذا فكرنا في أسرتيهما، فسنرى أن هاتين الأسرتين لا تقبلان في رضًا واطمئنان هذه القطيعة التي يحدثها الزواج بينهما وبين أبنائهما. فأما أسرة الزوج فساخطة أشد السخط، متألمة أشد الألم، ذاكرة ما بذلت من جهد وما احتملت من تضحية في تربية ابنها وتنشيئه، حتى إذا استقام له كل شيء لم يَجْزِ أبويه إلا بالعقوق، وإذا هو يؤثر عليهما امرأته، وإذا هو لا يحس أو لا يكاد يحس ما بينه وبينهما من صلة وما يعطفهما عليه من عاطفة. وأما أسرة الزوجة فساخطة أشد السخط على هذا الزوج نفسه؛ لأنه قد أخذ ابنتها من ناحية فقطع الصلة بين الأبوين وبين هذه الفتاة التي بذلا في سبيلها ما بذلا من جهد، واحتملا في سبيلها ما احتملا من تضحية. ثم هو لا يقطع هذه الصلة فحسب، ولكنه لا يزال يحب أسرته ويعطف على أمه، وإذن فهو لا يحب امرأته كما ينبغي! وإذن فهو متصل بأسرته القديمة أكثر مما هو متصل بأسرته الجديدة!

كل هذه المعاني معروفة شائعة، يحسها الناس جميعًا، وهي من الآلام الطبيعية التي تقوم عليها حياتنا الاجتماعية مهما تختلف الأزمنة والأمكنة. وقد يكون من ألذ المباحث الأدبية التماس ما تركت هذه الخصومة بين الأسرة الجديدة والأسرة القديمة من الآثار الأدبية شعرًا ونثرًا في مختلف اللغات.

والمعروف أن المرأة أشد اتصالًا بأسرتها وأكثر وفاءً لأبويها وأحفظ للمودة من الرجل، وأنها في الوقت نفسه شديدة الغيرة من أسرة زوجها، تخاصم أمه خصامًا شديدًا، وما تزال جادة في هذا الخصام متى تنتهي إلى الفوز وتظفر لأسرتها الجديدة بالاستقلال. ولكنها لا تحاول أو لا تكاد تحاول تحقيق هذا الاستقلال بالقياس إلى أسرتها هي، فالصلة بينها وبين أبويها قوية، والمودة متصلة، وهي تظهرهما من أمرها على كل شيء وتستشيرهما في كل شيء، وزوجها يرضى حينًا ويسخط حينًا، ويظهر الغفلة حينًا، وينتهي دائمًا إلى الإذعان.

وقد اختار كاتبنا من كل هذه المعاني ومن كل هؤلاء الأشخاص المنبثين في الأرض كلها طائفة ضيقة صغيرة، عرضها علينا في قوة ومتانة ودقة تفكير، وشيء من التعقيد جديد ما كنا ننتظره نحن، ولكنه رفع القصة من مستوى القصص العادية، كما يقولون، إلى مستوى القصص الممتازة بدقة البحث عن عواطف النفس وأهوائها؛ ذلك أن الكاتب محا أسرة الزوج محوًا تامًّا، فنحن لا نعرف أباه ولا أمه، وإنما نعرفه هو وحده، ونعرفه قويًّا له من الإرادة حظ عظيم جدًّا، شديد السلطان على نفسه، راغب في التسلط على غيره، موفق في ذلك توفيقًا عظيمًا، وهو في الوقت نفسه هادئ المزاج حاد العاطفة، هادئ في حياته العادية قلما يظهر عليه الاضطراب أو الغضب، ولكنه حاد العاطفة. يحب فلا يستطيع أن ينظم حبه ولا أن يضبطه، ويريد فلا يستطيع أن يضعف إرادته ويحولها عن وجهها. وتقع الخصومة بين حبه وإرادته، فيندفع في الحب إلى أقصاه، وفي الإرادة إلى أقصاها. ولا يستطيع أن يغلب أحدهما على الآخر، فيظل موضوع النزاع العنيف بينهما، ولولا أن تعنى الظروف بإنقاذه لذهب ضحية هذا النزاع. وهو إلى هذا كله عالم طبيب يعنى بطبه عناية العلماء في المعمل، منصرف إلى تجاربه، محاول أن يستكشف من هذا العلم ما يغير وجه البحث عنه وطرق العلاج فيه. وهو قوي في علمه قوته في حبه وفي إرادته، فهو عبد لهذه الأشياء الثلاثة: الحب، والعلم، والإرادة. هذا الزوج هو «بيير ريجو».

أما امرأته «فريدريك»، فهي في السادسة والعشرين من عمرها، جميلة خلابة ككل نساء القصص، ولكنها قوية الإرادة أيضًا، شديدة الكبرياء، إذا همت فليس ما يصرفها عن همها مهما تكن النتائج. وهي محبة قوية الحب، ليست أقل حبًّا من زوجها، كما أنها ليست أقل إرادة منه. ولكن إرادتها فيما يظهر أقوى من حبها، فهي تستطيع أن تسلو، بل هي تستطيع أن تألم، وتألم في غير حد. ولكن حبها هذا مقسم، فهي لا تحب زوجها وحده، وإنما تحب أباها مع زوجها. ولنلاحظ أنها فقدت أمها وهي حديثة السن، فعُنِيَ أبوها بتربيتها عناية مضاعفة. ولنلاحظ أيضًا أن أباها هذا شخص لا كالأشخاص: له حظ من قوة وبأس، هو طبيب عالم كصهر، ولكنه متقدم في السن إلى حدٍّ ما، يداني الخمسين، وهو على ذلك قوي له حظ من شباب، حلو الحديث فتان للنساء، مفتون بهن مقرب إليهن، يتهالكن عليه ويتفانين في حبه. وهو قد عني بابنته عناية شديدة، فأحبته ابنته حبًّا شديدًا، وأحبها هو كذلك. ولكن في هذا الحب شيئًا غريبًا، فهو لا يشبه ما يكون بين الأب وابنته من البر والرحمة، وإنما يشبه ما يكون بين الزوجين من الحنان والفتنة. وآية ذلك أنك تبدأ في قراءة القصة وتمضي في الحوار بين الأب وابنته، فلا تشك في أنه حوار بين زوجين أو بين عاشقين، ويأخذك الدهش حين تستكشف بعد صحف من القصة أنهما أب وابنته.

فأنت ترى موضع الخصومة، وأنت تحس منذ الآن أن هذه الخصومة ستكون عنيفة؛ لأن المختصمين جميعًا أقوياء، ولأنهم جميعًا يحبون فيحسنون الحب، ويريدون فيحسنون الإرادة. وأنت ترى أن الأمر لو وقف عند ما نعرف من هؤلاء الأشخاص لما أمكن أن تنحل الخصومة بينهم إلا بشر وتضحية، فيجب أن يضحى بالأب في سبيل الزوجين، أو بالزوج في سبيل الأب وابنته، أو بالقوم جميعًا.

ولكني لم أكشف لك من شخصية الأب إلا عن وجهٍ واحد، وهناك وجه آخر يؤثر في حياة هؤلاء المختصمين؛ وإن كان شرًّا في نفسه وفي ظاهر الأمر بنوعٍ خاص. هذا الرجل أثر مسرف في الأثرة، يدفعه حبه لنفسه إلى الكذب والتضليل واقتراف ما يشبه الإثم، وهو مضطر إلى ذلك اضطرارًا، فقد رأيت أنه يحب ابنته هذا الحب الغريب، وهو يلهو مع طائفة من النساء، ولكنه يحب امرأة أخرى حبًّا طبيعيًّا حادًّا، كما تحب ابنته زوجها، وكما يحب هذا الزوج امرأته. وهذا الحب الطارئ هو الذي ينتهي بالقصة إلى أرقى منازل العنف، وهو الذي ينحدر بها، ولكن في رفقٍ ولين ودعة، إلى حيث الرضا والطمأنينة واستئناف الحياة الهادئة في لذةٍ وابتسام، وشيء مع ذلك من المرارة غير قليل.

وفي القصة، إلى هؤلاء الأشخاص، أشخاص آخرون، نذكر منهم «جاستون» أخا «فريدريك»، طالب مسرف في لهوه وعبثه، يلهو ويلهي النظارة بمزاحه وسخريته وجهله.

ونذكر منهم «كودريه» جد «فريدريك»؛ لأنه شيخ، رقيق، سمح، رزين، حسن النصح، قيم المشورة، محب لحفيدته وزوجها حبًّا مؤثرًا حقًّا.

ونذكر منهم هذه الدوقة التي نراها في الفصل الأول، جميلة، فتانة، لعوبًا، تعبث بأبي «فريدريك» وتعبث بنفسها أيضًا، وتعنى بما يمكن وما لا يمكن؛ لأنها تحب الأستاذ الطبيب وتريد أن تلهو معه.

ثم نذكر آخر الأمر «مسز ونتون»، هذه الأميركية ذات الثروة الضخمة والجمال الرائع والإرادة القوية والحب العنيف أيضًا. كان زوجها عالمًا مخترعًا، وكان قد ضيف «جان لوي مارنييه» ابن «فريدريك» فأحبته وأحبها، ثم مات زوجها وأقبلت إلى باريس تريد أن تتزوج حبيبها، فيصطدم حبها بهذه الخصومة بين الأب والزوج والزوجة.

فأنت ترى إلى هذه القصة كيف اختار الكاتب موضوعها من هذه الموضوعات الشائعة المبتذلة، ثم لم يكد يخلق أشخاصها ويبعث فيهم الحياة وينفخ فيهم من روحه حتى صورهم أقوياء ممتازين، لهم من العواطف والأهواء ما للناس جميعًا، ولكن مع شيء من الدقة والتعقيد ليس للناس جميعًا. وما هي إلا أن يقف هؤلاء الأشخاص بعضهم لبعض حتى ترتفع القصة وتقوى، وتحس أنك في بيئة ممتازة من كل ناحية دون أن يمنعك هذا الحس أن تجد نفسك وعواطفك وحياتك ممثلة في هذه القصة من كل الوجوه أو من بعضها.

والآن وقد صورت لك هؤلاء الأشخاص تصويرًا مقاربًا، أستطيع أن أوجز لك خلاصة هذه القصة، ولكني ألفتك منذ الآن إلى أن هذا التلخيص لن يغني عنك شيئًا، وإلى أنك لن تجد اللذة والمنفعة إلا في قراءة القصة نفسها.

•••

نحن في بيت «جان لوي مارنييه» أول الليل. ينصرف القوم عن المائدة وقد أخذوا يأتون إلى غرف الاستقبال. وكان أول القادمين «كودريه» وحفيده «جاستون»، ونحن نرى الشاب يعنى بالشيخ عناية لا تخلو من غلو، ويمهد له ويقدم إليه البيبة، ويتلطف له في الحديث. ويحس الشيخ أن هذه العناية لم يرَد بها وجه الله، وما هي إلا لحظة حتى نفهم أن الشاب في حاجة إلى الفرنكات لأنه يريد أن يشتري سيارة.

ثم يأتي «جان لوي» وقد قدم ذراعه إلى ابنته، فلا يكادون يتحدثون حتى يضيق الفتى ذرعًا بأبيه الذي أخذ يسأله في الألمانية، وبأخته التي أخذت تظهر جهله بهذه اللغة، فينتحي بجده الشيخ ناحية ليلعب النرد. ونرى الأب يجلس إلى ابنته ويتحدثان، ونحن نرى الفتاة تعنى بأبيها، ولكنها عناية لا تخلو من دعابة وفكاهة. والرجل يجيب على هذه الدعابة والفكاهة بمثلهما، ثم لا يلبث هذا العبث أن يستحيل إلى جد، فقد ظهرت غيرة المرأة، ووقف الرجل موقف الدفاع عن نفسه؛ ذلك أن الخادم قد حمل إليه رسالة، تقرءها المرأة فإذا هي من الدوقة التي أشرت إليها آنفًا. وهي تنبئ الأستاذ بأنها ستزوره بعد العشاء لتقص عليه أخبارًا مهمة متصلة بانتخابه في المجمع العلمي، فلا تكاد «فريدريك» تقرأ هذه الرسالة حتى تثور وتأخذها غيرة حادة، وتحصي للرجل سيئاته وآثامه ولهوه، وتعلن أنها قد صفحت عن هذا كله لأنه لم يكن شيئًا يذكر، إنما كان لهو ساعة أو بعض ساعة، وأنها لم تخف حقًّا إلا مرة واحدة حين ذهب الأستاذ إلى أحد المؤتمرات في أمريكا فأحب «مسز ونتون» امرأة مضيفة.

في هذه المرة خافت حقًّا، وأحست أن الأستاذ سيفلت من يدها. وهي ثائرة، فقد كانت تقدر أنها ستنفق مع الأستاذ شطرًا من الليل في خلوةٍ لذيذة ينصرفان فيها إلى العمل، تقرأ هي المسودات ويصحح الأستاذ. وانظر إليها كيف أجلست الأستاذ في مجلس حسن، وجلست هي بين يديه في شيءٍ من الظرف والدعابة. ولكن هذه هي الدوقة تنذر بمقدمها! … لن يكون هذا، وهي تأمر الخادم بأن يسرع إلى التليفون، فينبئ الدوقة بأن الأستاذ مريض لا يستطيع أن يلقى أحدًا، والأستاذ يعارض ويمانع، ولكنه مضطر إلى الإذعان.

على أن الخادم لا يلبث أن يعود ويعلن في أسف أن الدوقة وزوجها الشيخ قد خرجا من قصرهما وهما في الطريق. فانظر إلى ثورة المرأة وحدتها، وانظر إلى الأستاذ يهدئها ويتوسل إليها في ألا تسيء استقبال الدوقة. وهذه هي الدوقة تقبل مسرعة ومعها زوجها، فلا تكاد ترى الأستاذ حتى تتحدث معه بلسانين: لسان يسمعه الناس جميعًا وفيه أحاديث عادية، ولسان آخر يسمعه الأستاذ وحده وفيه مودة وتعريض بمواعيده. و«فريدريك» تتحدث إلى الأستاذ بلسانين أيضًا: لسان عادي يسمعه الناس، ولسان آخر فيه نذير وتحذير. وانظر إلى هاتين المرأتين تتقارضان جُملًا ظاهرها فيه الود والتحية وباطنها فيه البغض والعداء. وقد أقبل «بيير ريجو» زوج «فريدريك» فتنتهز الدوقة هذه الفرصة وتطلب إلى الأستاذ أن يرافقها إلى «البيانو» لتعلب هي ويغني هو، فهي تحب صوته الرخيم ولا سيما حين يغني القطعة الروسية.

ويحاول الأستاذ أن يعتذر لأن ابنته تلح عليه في الاعتذار من طرف خفي، ولكنه لا يفلح، فهو يذهب إذن إلى البيانو حيث يسمع غناؤه من بُعد. وفي هذه اللحظة تخلو «فريدريك» إلى زوجها، فلا يكادان يتحدثان حتى نحس أن «فريدريك» مشغولة بأبيها وصاحبته، وأن زوجها يرى ذلك فيغتم له ويثور، ولكنه يكظم غمه وثورته، ويلح على امرأته في أن تتلطف بالدوقة ولا تظهر هذه الغيرة المنكرة. وامرأته منصرفة عنه، ماضية في الإعجاب بصوت أبيها والسخط على هذه المرأة، حتى يعود الأستاذ ومعه صاحبته، فتلتقفه ابنته التقافًا، وتمضي الدوقة إلى بيير تتحدث إليه، وتنظر معه طائفة من الصور في دعابة وتلطف. و«فريدريك» منصرفة إلى أبيها تلومه وتداعبه، وتلاحظ في الوقت نفسه زوجها والدوقة، وتلفت أباها إلى هذه المرأة التي تداعب زوجها وتعبث بشعرها في وجهه، والأستاذ مضطرب بين ابنته وصاحبته.

ثم تنهض الدوقة للانصراف، ويخرج الأستاذ وابنته لتشييعها، ويخلو «بيير» إلى «كودريه»، فنفهم من حديثهما أنه ساخط على حميه شديد الغيرة منه، وأنه سيكون له معه شأن بعد حين. فإذا عاد الأستاذ وابنته تعجل «بيير» فعرض عليهما موضوع هذا الشأن الذي يريد أن يتحدث فيه، وهو أنه ضيق الذرع بباريس، وبمعاملها، وقد سنحت له فرصة تمكنه من العمل الجدي المنتج بعيدًا عن باريس؛ ذلك أن غنية أمريكية هي «مسز ونتون» قد أنشأت في أحد الأقاليم مستشفى عظيمًا للسل، وفيه معامل حسنة النظام غنية بالأدوات، وقد عرض عليه أن يعمل في هذا المستشفى فقبل.

ونحن نفهم أن صاحبنا إنما يريد أن يترك باريس لا حبًّا في العلم طبعًا، ولكن ليستأثر بامرأته بنوعٍ خاص، فلا يكاد يعرض هذا الأمر حتى يثور الأستاذ ثورة عنيفة، ويعلن أن ابنته لن تترك باريس. وتمالئه ابنته في هذا، وتسلك لإقناع زوجها طرقًا مختلفة، فيها اللين والشدة، وفيها الاستعطاف والإنذار فلا تفلح. ويوشك الأمر أن يفسد بين القوم لولا توسط الشيخ، ولولا أن «بيير» قد نهض للانصراف، فإذا خلا الشيخ إلى صهره حاول إقناعه وحمله على أن يدع ابنته تترك باريس فلا يوفق. وهنا حوار بديع بين الشيخ وصهره في الصلة بين الآباء والأبناء، وما يجب على الآباء من التضحية بأنفسهم لأنهم لا يملكون أبناءهم، ولا ينشئونهم للذة والمتاع، وإنما ينشئونهم لأنفسهم قبل كل شيء.

•••

فإذا كان الفصل الثاني، فقد مضت ساعات قليلة على ما كان في الفصل الأول. ونحن في بيت «بيير» في غرفة النوم، وقد أوت «فريدريك» إلى سريرها والخادم تحدثها فتنبئها بأن سيدها يعمل في مكتبه، وقد أمر فأعد له خادمه مضجعًا في المكتب، فيقع هذا الحديث من نفس «فريدريك» موقعًا تحس أنه مؤلم. وانظر إليها وقد صرفت الخادم ولكنها لا تستطيع النوم، فهي قلقة مضطربة تتسمع حركات زوجها في مكتبه. ولهذه اليقظة المضطربة من هذه الظلمة المدلهمة في نفسها أثر قوي، ولكن بابًا يفتح ونورًا يغمر الغرفة، وقد ظهر الزوج فتتكلف صاحبتنا النوم، وكأنها قد استيقظت فزعة. ولكن زوجها يعلم أنها لم تنم، وقد أقبل يعتذر إليها ويتلطف بها ويستغفر مما قدم، واطمأنت هي إلى ذلك، وصفا ما بين الزوجين الحبيبين وأطفئ من النور أكثره، ولم يبق منه إلا شيء ضئيل يلائم نجوى المحبين آخر الليل، وما يكون بينهما من عتاب واستعطاف ثم رضًا واطمئنان. وهما في ذلك وهو يشكو غيرته من أبيها، وهي تدافعه في لطفٍ ورقة. ولكن التليفون يدق فيحاول أن يمنعها من النهوض له فلا يوفق، وقد نهضت إلى التليفون فإذا أبوها قد عاد، وهو يسأل عنها ويلح عليها في ألا تسافر مع زوجها، وهي تجيبه بحديثٍ متقطع يظهر فيه أنها مقسمة بين الرجلين، تحب زوجها وتريد أن ترضيه، وتحب أباها وتكره أن تفارقه، حتى إذا فرغ هذا الحديث بعد مشقة عادت إلى زوجها تريد أن ترضيه وتصل معه إلى اتفاقٍ معقول. ولكن لم يبق إلى ذلك من سبيل، فقد دخل الأب بينهما فأفسد كل شيء. وكيف بهذا الرجل يدخل بين الزوجين حتى آخر الليل وحتى أوقات الصفو والرضا، وقد انتهت الثورة بصاحبنا إلى الظلم، فهو ينكر على امرأته أنها تحبه، وهو يسرف في ذلك، وهي تتلطف حينًا وتشتد حينًا، حتى يصل الأمر بهما إلى أقصاه. فهو يعرض عليها السفر، وهي تأبى، وهو يعلن أنه مسافر وحده، وهي تنذر. وهما في هذا وإذا الخادم يطرق الباب، يتحدث إلى سيده بأنه قد أعد له أمتعته، وبأن القطار سيسافر ساعة كذا. فإذا سمعت «فريدريك» هذا الحديث وفهمت أن زوجها كان قد أزمع السفر دون أن يظفر برضاها، وقع ذلك في نفسها موقعًا أليمًا، فغلت في العناد والإصرار، وغلا هو أيضًا في اللجاج، وافترقا متغاضبين وانسدل الستار، وإنا لنسمع زفرات هذه المحبة المعذبة بين حبها وكبريائها، بين أبيها وزوجها.

•••

فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في بيت «جان لوي مارنييه» أول النهار، نرى «فريدريك» جالسة إلى مكتب في يدها ورق وقلم كأنها تحصي شيئًا، وقد دخل عليها أخوها الشاب، وفهمنا من حديثهما أن هذا اليوم هو يوم الانتخاب في المجمع العلمي، وهي تحصي الأصوات التي قد يظفر بها أبوها والأصوات التي قد تخطئه. وهي تلاحظ لأخيها أن الأستاذ قد عاد متأخرًا في الليلة الماضية وأنه متعب، وأنها قد أمرت الخادم ألا يوقظه إلا إذا تقدم النهار. ولكنها لا تكاد تفرغ من هذا الحديث حتى يدخل الأستاذ كأحسن ما كان قوة ونشاطًا مستعدًّا للخروج، فتلقاه ابنته في دعابتها وفكاهتها، ويلقاها هو مثل ذلك. وانظر إليها تطلب إليه يومه وليلته تريد أن يفرغا من المهنئين بعد الانتخاب، وأن يفلتا إلى أحد المطاعم ثم إلى أحد الملاعب، وهو يجيبها في غموض: «سنرى …»

ويبدأ فيعلن إليها أنه لن يتغدى معها، وينتحل لذلك المعاذير، وهي مغضبة في دعابة. ولكن جدها قد أقبل من مكانٍ بعيد ليشهد يوم الانتخاب، فينفلت الأستاذ ويترك ابنته مع الشيخ. ولا تكاد المرأة تتحدث إلى جدها حتى يذكر «بيير»، ونرى من الحديث أنها تألم ولكنها تكظم ألمها، وهي غير موفقة في هذا الكتمان: أليست قد أحصت الأيام مذ سافر زوجها؟ أليست مغضبة لأنه لم يكتب إليهما كتابًا واحدًا وقد مضى على سفره نيف وثلاثون يومًا؟! أليست كانت تنتظر أن تراه في باريس يوم الانتخاب؟! هي مغضبة واجدة، وكانت تحب أن ترى زوجها لتتفق معه على الطلاق، فليس إلى استمرار الزوجية من سبيل، وقد أنبأها المحامي أن قضية الطلاق لا تحتاج إلى أكثر من شهر إلا أن يقاوم زوجها، وما تظن أنه يقاوم. فإذا أراد الشيخ أن ينبئها بأنها ما زالت تحب زوجها، غضبت وزجرت جدها كأنها تشفق من هذا الحديث.

ولكن الخادم قد دخل ومعه بطاقة. تنظر فيها فإذا هي بطاقة «مسز ونتون»، ويقول الخادم إن هذه السيدة تلح في أن ترى مولاته، فتأذن لها وتخلو إليها. فتسألها هذه: ما بالها لم تجب إلى دعوتها وقد طلبت إليها الزيارة غير مرة؟ فتعلن إليها «فريدريك» دهشة أنها لم تتلق دعوة ولم تعلن بوجودها في باريس. فتسألها: ألم يخبرك الأستاذ بأني في باريس منذ حين، وأني أراه كل يوم وكل ليلة، وأني أكلفه دعوتك إلى زيارتي، وأني معتزمة أن أسافر معه إلى روما، وأن زوجي قد مات، وأن الأستاذ يريد أن يتخذني له زوجًا، وأننا نفكر في أن نصلح بينك وبين زوجك؟! وتقع هذه الأنباء كلها من «فريدريك» موقع الصاعقة، ويظهر لهاتين المرأتين أن الرجل قد كذبهما وعبث بهما، فتتفقان فجأة على مقته والسخط عليه، وتنشأ بينهما فجأة مودة قوية مصدرها فيما يظهر تشابههما في الحب والإرادة والصراحة واستقامة الخلق. وهما في ذلك إذا الأستاذ قد عاد، فإذا رأى صاحبته أخذه الاضطراب ولم يحسن الحديث، ثم تتركه صاحبته لابنته، فيكون بينهما موقف عنيف مؤلم، يظهر فيه مقدار ما لحب النفس من التأثير في حياة الناس: هذا الرجل الذي كان يحب ابنته ويسرف في حبها حتى ليضحي بها في سبيل نفسه، وهذه المرأة التي كانت تحب أباها وتسرف في حبه حتى لتضحي بزوجها في سبيل هذا الحب، وقد وقفا الآن موقف الخصومة وجهًا لوجه؛ لأن امرأة أخرى قد دخلت بينهما فاستأثرت بقلب هذا الرجل. وهذه بنته تتهمه بالكذب والقسوة والأثرة والخداع، وهو يتهم ابنته بالعقوق والإثم.

وهي تعلن إليه أنه لن يتزوج من المرأة، وهو يعلن إليها أنها ستعود إلى زوجها، وسيقترن هو بهذه المرأة، كل ذلك في قوة وعنف مؤثرين حقًّا.

ويقبل الشيخ فينقطع هذا الحوار العنيف، وتنصرف الفتاة، فإذا خلا الرجلان قال الأستاذ لحميه: يجب أن تسافر وتعود ومعك «بيير»، فيجيب الشيخ: إن «بيير» في باريس وهو في بيته، بين هذه الأشياء التي تمثل حبه يألم ويأسى. فيقول الشيخ: اذهب فأنبئه أن امرأته تنتظره، فإذا تردد الشيخ وألح عليه الأستاذ وأقسم إنه لصادق، فينصرف الشيخ مسرورًا مترددًا معلنًا أن الأمر متصل بسعادة حفيدته، فيقول الأستاذ وكأنه يحدث نفسه: وسعادتي أنا أيضًا …!

•••

فإذا كان الفصل الرابع فلم يمض على هذا كله إلا دقائق، ونحن نرى «فريدريك» متهيئة للخروج، ولكن الخادم ينبئها أن زوجها يستأذن، فتأذن له في دهش وحيرة تقدرهما أنت قدرهما. فإذا رأته سألها: أأنت قد دعوتنا؟ فتجيب في دهش: نعم! … ثم تقبل عليه معتذرة مستعطفة متلطفة، ونحس نحن أن هذا كله يهز الشاب هزًّا عنيفًا، وأنه لو استسلم لعواطفه لقبل ورضي بل لاعتذر واستعطف. ولكن له إرادته وكبرياءه، فهو يكظم تأثره ويظهر الشك، حتى إذا فرغت امرأته أو كانت تفرغ، أعلن إليها في صراحة ملؤها الجفوة والحب معًا أنها إنما تستعطفه لأن أباها يريد أن يتزوج؛ لأنها تحس أنها ستصبح وحيدة، فهي تعود إلى زوجها حتى إذا عاد إليها أبوها رجعت إليه. وهو دهش لأنها لا تعلم من أمر هذا الزواج شيئًا، ولكن دهشه سيزول؛ فهذا الأستاذ قد أقبل محزونًا منكسر النفس قد ظهر عليه الضعف والاستسلام، فيخبر بأنه هو الذي دعا «بيير»، ثم يخبر بأنه فاز في الانتخاب. ولكنه على ذلك محزون منكسر النفس؛ وذلك أن حبيبته قد قطعت ما بينهما من صلة، وأعلنت إليه أنها تاركة باريس مساء اليوم، وأبت عليه حتى أن يودعها بل أن يراها مرة أخيرة قبل سفرها، وهو يلوم ابنته لأنها مصدر هذا كله.

ثم انظر إليه يستعطف ابنته ويتوسل إليها، فهي وحدها تستطيع أن تغير رأي هذه المرأة، وهي وحدها تستطيع أن تردها إليه فترد إليه الغبطة والسعادة والحياة. وهو يعتذر ويلح في الاعتذار، ويعترف بأنه كان أثرًا آثمًا مسرفًا في حب نفسه، ولكنه لم يكن يحس هذا كله ولا يقدره، وابنته لا تجيبه إلا في قسوة وعنف حتى يرق «بيير» نفسه ويلومها على ذلك في لطف. وقد انتهى الأمر بهؤلاء الناس إلى حرج ليس بعده حرج؛ فأما الأستاذ فمذعن مستسلم بعد أن ظهر له أن ابنته لن تشفع له، وأما «بيير» فمستمسك بكبريائه، لم يقتنع بعدُ بأن امرأته تحبه هذا الحب الذي يمكنها من التضحية بأبيها، وأما «فريدريك» فقد أعلنت في حزمٍ وقسم أنها تاركة هذا البيت مساء اليوم ولن تعود إليه مهما يكن من شيءٍ سواء أتم الصلح بينها وبين زوجها أم لم يتم. وانظر إلى استسلام الشيخ وقد نهض معلنًا أنه ذاهب إلى الدوقة لأنها جمعت إلى الشاب طائفة من المعجبين به يهنئونه بالفوز في الانتخاب وهو يداعب صهره في حزنٍ فيطلب إليه ألا يهزأ بشيوخ المجمع العلمي.

وقد أقبل صديق «بيير» يتعجله ليسافرا، فيتردد قليلًا ثم يجيب بأنه لن يسافر الآن. وتقع هذه الجملة من نفس «فريدريك» الموقع الذي تقدره أنت، فقد أحست أن زوجها قد رضي وثاب إليها، ولكن زوجها يسألها: ألا ترين أن أباك يحب هذه المرأة حبًّا مبرحًا؟ فتجيب: بلى. ولكنه لا يستحق هذه المرأة، فيلح. وانظر إليه يستعطفها ويتوسل إليها في أن تشفع لأبيها عند حبيبته، فتقبل كارهة، ولكن على أن يشاركها في هذه الشفاعة لتعلم هذه المرأة أن سعيهما صادق وأنهما قد تصافيا حقًّا.

مارس سنة ١٩٢٧

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤