الفصل الثالث

جوانب بديع الزمان

(١) آثار البديع

ليس لبديع الزمان من آثار غير الرسائل والمقامات والديوان، وهذه كلها لو جمعت في كتاب واحد لما بلغ حجمه حجم ديوان البحتري، ولكن الأدب ليس كالخطب ليباع بالقناطير، وهو لا يُقاس بالكيلومترات كالصحاري، فهذه الآثار، على صغرها، بوأت الرجل منزلته العليا في الأدب العربي، فكان بعيد الأثر فيه.

وليس هذا النثر ولا هذه الرسائل من مواليد القرن الرابع. فالسجع قديم الميلاد كبير السن، والرسائل هي لغة الناس الطبيعية، وقد استعملوها حين عرفوا الورقة والقلم. كانوا يعتمدون في بدء أمرهم على الوفود، فيهيئ الزعيم بضع عبارات يعبر فيها عن غرض الجماعة الذين استفسروه، ثم نابت الرسائل عن وفود القبائل. كانت الرسالة العربية، في بدء عهدها، وجيزة قصيرة، صريحة واضحة، لا تفخيم فيها ولا مداورة، كرسالة عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص: «أما بعدُ؛ فقد ظهر من مالك ما لم يكن في رزقك، وما كان لك قبل أن أستعملك، فأنَّى لك هذا؟ فاكتب إليَّ من أين لك هذا المال؟ وعجِّل.»

وكما كتب أحد الخلفاء إلى أحد عماله: «أحببناك فوليناك، اختبرناك فعزلناك، يدك في الكتاب، رجلك في الركاب، والسلام.»

وكما كتب غيره إلى عامل له ينذره: «كثر شاكوك، وقل شاكروك، فإما تعتدل وإما تعتزل، والسلام.»

ولما آلت إمامة رسائل الدواوين إلى الفرس المستعربين طالَ سفرُ الكلام، وتمطت المقدمات، فمطوا ما شاءوا، وأكثروا التبجيل والتعظيم. ومشيت الرسالة مع الدهور والعصور فصارت آلة الوزارات وسلمها، واستقل، إذ ذاك، أدب الرسائل، فوضعت له خطط ورسوم اتبعها كتاب الدواوين وغيرهم من المترسلين. ولما جاء القرن الرابع عُني مشاهيره بتجويدها. فدبَّجوها وزوَّقوها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. ولما كان السلطان لمن ينتزعه انتزاعًا، أخذ هؤلاء الكتاب المترسلون يبجلونهم ويعظمونهم طمعًا بما عندهم من نهاب وسبايا، وخوفًا من سيفهم المسلول، ولا يُدرى متى يقع ويحصد.

وكان البديع من فرسان هذا الميدان فكتب وحبر، وعرض بضاعته في الأسواق الأدبية فراجت. وهبت ريحه حين ناظر أبا بكر الخوارزمي، شيخ المترسلين في ذلك الزمان، فراح ينتقل من حضرة إلى حضرة وفي خرجه رسائله ومقاماته وقصائده. كان له الإبداع والخلق في المقامات، والتفوق في الرسائل، والسوق الماشية في الشعر …

رسائله

البديع في رسائله يصح فيه قول الأخطل في الفرات:

وما الفرات إذا جاشت حوالبه
في حافتيه وفي أوساطه العشرُ
مسحنفرٌ من جبال الروم يستره
منها أكافيف، فيها دونه، زَورُ

هذا هو بديع الزمان في رسائله. هائج صائل، يكسر الجرة خلف المولى ويسب أباه وأمه إذا اقتضت الحال، وينقش بساط من يلي الأحكام بشفتيه، ويسجد لمن عنده المال … كنا نفتش، حين ندرس شاعرًا، عن رسالة نستدل بها على ما عنده من طباع وأخلاق وشيم، أما الآن فنحمد الله على أن أمامنا مجموعة رسائل تدلنا على كل ما عند صاحبنا الهمذاني.

فهذا الزخرف والنقش والتزوير، وهذه المبالغة والتواضع لمن يمدح، أو لمن يطمع منه، ولو بكلمة ثناء، دليل صارخ على ميراثه الجنسي، فهو في سنه وشتمه في هذه الرسائل، أشبه بالساسانيين، فأخلاقه أخلاقهم، وبضاعته بضاعتهم. إن الصنعة في رسائله أكثر منها في مقاماته، فهو هنا يترسم خطى الصاحب فلا يدع سجعة تفلت منه، بل يشمِّر وراءها ليقتنصها ويوسع لها المحل اللائق بها.

إنه يختلف عن معاصريه في صورة الفارسية التي رسمها قلمه بدقة، فاستعار من لعبة الشطرنج صورًا بارعة، وأغرق في التشابيه، والاستعارات، والكنايات والمحسنات اللفظية، والرمز، والتلميح والإشارات، فجاء كلامه مزوقًا مزخرفًا ككل شيء في ذلك العصر، ولذلك بلغ به اعتداده بهذا الزخرف والبهرج أن تطاول إلى مقام الجاحظ، فقال في إحدى مقاماته: وهل للجاحظ غير عريان الكلام؟

وكان الأدب العاري من سمات بعض معاصريه فجاراهم في هذا المضمار، فما نزه قلمه عن الألفاظ البذيئة في رسائله، ولا عن الحكايات المنحطة في بعض مقاماته. استجدى في آثاره الثلاثة ومدح، وعزَّى وعاتب واستعتب، وسب وأوصى وتوسل، فجاءت هذه دليلًا صارخًا على أخلاقه وطباعه، أما اللون الصارخ في الرسائل الهمذانية فهو الشكوى والسب والتذمر.

أما صناعة البديع فهي واحدة في شعره ونثره، ولكنه في الرسائل والشعر متعمل ومتصنع بينا هو في المقامات رجل فن كما سترى.

كان البديع، كزملائه كتاب هذا العصر، يغير على أبي الطيب وغيره من قدماء ومحدثين فيحل منظومهم كما حل الخوارزمي بيت المتنبي فقال: «فم المريض يستثقل وقع الغذاء ويستمر طعم الماء.»١ وكذلك فعل البديع فشن غارات شعواء عليه وعلى غيره، ففصل ذلك الشعر على هنداز منثوره، فقال في رسالة إلى سهل بن محمد بن سليمان: «لو تعمد فيَّ الردى، لصرت إليه مشرق الوجه راضيًا، وألوفًا لو رددت إلى الصبا، لفارقت شيبي موجع القلب باكيًا.»٢
وكما كتب إلى القاسم الكرجي: «وقد حضرت داره وقبلت جداره، وما بي حب الحيطان لكن شغفًا بالقطَّان، ولا عشق الجدران ولكن شوقًا إلى السكان.»٣

وأما الجناس فكان عند هؤلاء غاية غايات الإبداع، فاقرأ رسالته التي كتبها إلى سعيد الإسماعيلي يشكو العرب مدعيًا أنهم قطعوا عليه الطريق، فراح فيها يذم الدهر الذي «ما ترك فضة إلا فضها، ولا ذهبًا إلا ذهب به، ولا علقًا إلا علقه، ولا عقارًا إلا عقره، ولا ضيعة إلا أضاعها، ولا مالًا إلا مال إليه، ولا حالًا إلا حال عليه، ولا سيدًا إلا استبد به، ولا بزة إلا بزها، ولا خلعة إلا خلعها.»

ولا تنس أن الشيخ كان يحلي كلامه بما يدور من الكلام الذي صقلته ألسنة العوام، كما في رسالته إلى الشيخ أبي جعفر الميكالي يستميحه: «أَوَلم تكن خمر فخل، وبذل الموجود غاية الجود، وماش خير من لاش،٤ وحمار هو خير من فرس ليس، وزيت خير من ليت، وعصفور في الكف خير من كركي في الجو.»

وأحيانًا كان يترسم خطى الصاحب وابن العميد في استعمال حروف الجر، فيكتب إلى أخيه: «وجدتني بك آنس، وعليك أقدر، ولك أملك، وفيك أنطق، ومعك أجرأ وأجرى.»

وهو مع تلك الحرية في استخدام الألفاظ يجيب الوزير أبا العباس الإسفرائيني خاتمًا الرسالة بقوله: «وخلة أخرى، وهي أني مفتون بكلامي، معجب بصوب أقلامي وذوب أفكاري، لا أزفه إلا لمن يعتقد فيه اعتقادي، ويميل إليه كفؤادي، وينظر إليه بعين رأسي.»

ومن طبيعة الهمذاني أن يغالي مادحًا وهاجيًا وشاكرًا، فالاقتصاد في الكلام ليس من طبعه، فيقول مثلًا للشيخ أبي العباس: «وإن أرضيتني في ذلك الحديث، من صاحب المواريث، فيدٌ غراء، لا تسعها الأرض والسماء.»

أما المناداة بالويل والثبور فتراها في رسائل الشكوى من القضاة والجباة حين يقربون صوب كيسه فتقوم إذ ذاك القيامة. وإذا أرضاه الحاكم بقضاء حاجة أو بتعظيم بالقيام — وهذا يهمه كثيرًا — هاجمه بطوفان من المديح، كأن يقول: «فقبلت من يمناه مفتاح الأرزاق، وفتاح الآفاق. وصادفت من الشيخ ملكًا يشاهد عيانًا، وجيلًا قد سمي إنسانًا، وبحرًا أمسك عنانًا.»

ثم يستطرد إلى الخوارزمي فيقول مشيرًا إلى تغلبه عليه بتلك المناظرة: «ومتى استزاد زدنا، وإن عادت العقرب عدنا. وما كنت أظنه يرتقي بنفسه إلى طلب مساماتي بعدما سقيته كأس الحنظل وأطعمته إلخ … بالخردل. فإن كان الشقاء قد استغواه والحينُ قد استعواه، فالنفس منتظرة، والعين ناظرة، والنعل حاضرة.»

ثم يستطر في الرسالة وابل شتائم لا يحسن سردها سواه، وما رأيتها تنقاد إلا له. ولا تنس أن للأستاذ في رسائله مراجعات، فما كتبه إلا الإسفرائيني في فتح بهاضية رأيناه يكرره لأستاذه ابن فارس. وفي الرسائل أيضًا تكرارات لبعض ما جاء في المقامات. وكان كثير المعاتبة في رسائله المرة، وهو في هذا ابن عم ابن الرومي، يضيق صدره بمن يحتجبون عنه. ولسيدنا الشيخ رسالة أشبه برسائل المهاجرين إلى أهلهم عندنا، مشحونة «سلامات» إلى هذا وهاتيك وتلك، ويقول فيها عن عودته إلى همذان ما تعود هؤلاء أن يقولوه معتذرين عن الرجوع إلى الأوطان …

وبعد؛ فرسائل البديع لا تمل، وإن كانت تدور على لولب واحد، وهو الشكوى والتذمر في الغالب. وقد بدا لي أنه لا يوفق في إخوانياته توفيقه في هجائياته، فمدحه فارسي جامد، وتشوقه أقل من هامد، ولذلك لا تراه يجيد إلا إذا هجا أو ذم، وما أظن أحدًا، شاعرًا كان أم ناثرًا، بلغ من هجو «القاضي» ما بلغه البديع من ذم أبي بكر الحيري، فهذه الرسالة هي آية من آيات الشعر الرفيع في الهجاء.

إن نفس البديع المشتعلة تشغلك بها عنه الصنعة في رسائله وأكثر مقاماته، فهو يندمج فيما يكتب من موضوعات فتخرج كأنها جزء منه، فنقرؤها ولا نشعر أننا نقرأ سجعًا نكرهه كرهًا يعادل محبتهم له في ذلك الزمان.

مقاماته

إن خطة المقامات هي من عمل البديع، فلا لابن فارس ولا لابن دريد يد في صنعها. فالهمذاني هو الذي ألبسها هذا الطراز الموشى، وعلى طريقه هذه التي شقها سارت عجلة الأدب ألف عام. فعبثًا نحاول العثور على أثر لهذه الخطة عند غير البديع. أما المادة فسنرى أن صاحبنا قشها٥ من هنا وهناك، وكأني به كان يحاول فيما سرده من قصص، أن يكون له في كل غرض قول يحاول أن يبزَّ به المتقدمين وإنما بأسلوب آخر. يدلنا على هذا ما قاله في «المقامة الجاحظية» بلسان بطله أبي الفتح — أي الهمذاني — يقول: «إن الجاحظ منقاد لعريان الكلام يستعمله، نفور من معتاصه يهمله، فهل سمعتم له لفظة مصنوعة، أو كلمة غير مسموعة؟ فهو بعيد الإشارات، قليل الاستعارات، قريب العبارات.»
لقد كفانا الشيخ الإمام محمد عبده، منذ نصف قرن وأكثر، مئونة الرد على البديع حيث قال في ما علقه من حواش على هذه المقامة: «وهذه الأوصاف التي يعدها كأنها من مناقص كلام الجاحظ، هي أعلى مزايا الكلام عند أهله، وهي التي ترفع مقامه على غيره. وهذا المذهب الذي سلكه الجاحظ هو مذهب رجال البلاغة الأولين، ومجال فرسانها السابقين. أما المصنوعات، فهي من أحداث الموضوعات، لا ينظر إليها إلا صبية هذه الصناعة.»٦

فكأني بالبديع، بعدما فرغ من أبي بكر، قد أراد التطاول إلى سدة الجاحظ العليا، فقشر له الإمام العصا، ومن قرع الباب سمع الجواب.

لا تفتش عمن أخذ عنه البديع مقاماته فهو مبدعها، ولا عبرة بالحكايات والنوادر فهذه كانت ولا تزال، وقد نجد اليوم رجالًا كأنهم بطل بديع الزمان يحتالون وينصبون وينتقلون من مكان إلى مكان، وفي كل مكان تراهم غيرهم، ولكن إذا فتشنا مقاماته الإحدى والخمسين رأينا في الكثير منها أشياء أخذها البديع من عند غيره، وجلاها وأبرزها بأسلوبه المصنوع فصارت كأنها له.

فلنبدأ بالجاحظ. رحم الله ابن العميد الذي قال فيه: «كل الذين جاءوا بعده عيال عليه.» فالمقامة العلمية التي يصف فيها البديع العلم هي معارضة لوصف الجاحظ للكتاب، ولكن أين البديع المليح من ذلك الوجه القبيح! فقد قصر فيها عن أبي عثمان تقصيرًا فاضحًا.

ومن قرأ بخلاء الجاحظ ووقف على حديث خالد بن يزيد عرف أن شيخنا الجاحظ هو أول من حدثنا عن القصص والتكدية، والمكدين، وأن البديع، غفر الله له، أخذ هذا الحديث أيضًا وفصله مقامتين: الوصية، والرصافية. وما أظن قصيدة أبي دلف الخزرجي المشهورة في الساسانيين إلا من موحيات الجاحظ. وفي المقامة السجستانية سيماء من حديث خالد أيضًا، وهناك ومضات أخر نلمحها هنا وهناك.

وإذا انتقلنا إلى المقامات الأخرى رأينا الهمذاني يغير في التي سماها المقامة الخمرية على أبي نواس وغيره. فبديع الزمان في وصف الخمرة ومجالس اللهو، وتهافت الشباب على الملذات ووصف الغلمان يريد أن يكون له في النثر ما كان لأبي نواس وغيره في الشعر، ولا عجب فنثر هؤلاء هو شعر طليق، كالذي نسميه اليوم بالشعر المنثور. ولم يقف البديع عند هذا الحد، بل جمع في المقامة الحمدانية جميع أوصاف الخيل، المتفرقة في منظوم العرب ومنثورهم. ثم شاء أن يضرب في النقد بسهم فراح يباري الرواة فيه، وذلك في مقاماته: الشعرية والعراقية والقريضية، فبدا في اثنتين منها رمازًا ساخرًا متهكمًا.

أما التشاتم في المقامة الدينارية، فله شبيه في حكاية أبي القاسم البغدادي وفي رسالة للخوارزمي. وإذا نظرنا نظرة عامة إلى هذه المقامات رأيناها معرضًا لصور الحياة الاجتماعية في عصر البديع: عصر تحصيل المال من طريقيه الحرام والحلال. فبديع الزمان يعالج فيها الأزمات النفسية والعقد الوجدانية الفاشية في عصره، ويرسم لنا صورًا اجتماعية أوحى بها إليه زمنه ومحيطه. رأيناه يصور لنا الغنى الطازج الحديث النعمة، كما يصور لنا البطولة المقرونة بالدهاء، ثم لا ينسى المدح الذي يستخدم له بطله أبا الفتح، فيفتح الله عليه أبواب الرزق، ويغرقه طوفان «خلف بن أحمد» … فالمقامات: الناجمية، والنيسابورية، والخلفية، والملوكية، والتميمية، والسارية، كل هذه جميعها في مدح «خلف» الذي خلف على الهمذاني وأغناه، ولا لوم ولا تثريب على البديع إن رأيناه يخص هذا الرجل الكريم بأكثر من عُشْر مقاماته. وبعض رسائله وقصائد ديوانه فما شكر السوق إلا من ربح.

إن في حكايات البديع احتيالًا ودهاءً. فتارة يضحك ضحكة بلهاء وتارة صفراء، كما يحدث لكل قارئ بعد مطالعة المقامة الأصفهانية، إنك لتشمئز من عمل أبي الفتح بالمصلين حين تركهم في سجدتهم الطويلة، فتعتجب من نفس ميتة يحملها جسد نتن لا يحترم أقدس أقداس البشرية إذا كان يفوز بالدون من حطام الدنيا.

وتمر بمقامات البديع فتعجب بالمقامة المضيرية إذ تراها قصة عصرية قد تنوء عن مضارعتها اليوم قصة في تحليل الشخصيات ودرس النفسيات. وهناك فكاهة طريفة في المقامة الحلوانية. والمقامة الأسدية والبشرية تعدان من الأقاصيص ذوات العقد، وإن كان إلى جانب هذه قصص كالمقامة الأذربيجانية التي تبدو كأنها كتبت بلا استعداد … فلا هي قصة ولا هي كلام طريف. وفي الجرجانية والبصرية يصور لنا الهمذاني من نسميهم اليوم «شحاذين بشرف».

ويوفق الأستاذ إلى صنع إطار لقصته بأوجز كلام كما ترى حين يصور لك بطل المقامة المكفوفية. أما في المقامات المدحية «الخلفية» فلا يوفق الأستاذ لا في القص ولا في الطرافة، وقد يجوز لنا أن نقول له كما قال هو لبطله: إنك لشحاذ. وسنرى إذا كنت تشاركنا في هذا الرأي حين تطالع بعضها في مختارات المقامات.

أما الأسلوب فهو هو، فالبديع خلاق عبارات كقوله: ليلة نابغية، وليلة في غير زيها إلخ، كما أنه مغوار على غيره كما قلنا في غير هذا المقام. وقد رأيت تكرير عبارات وأفكار في المقامات والرسائل ولست أدري أيهما أسبق، ففي المقامة النيسابورية، وهي في مدح خلف، كلام مأخوذ من رسائله في هجو القاضي.

والرسالة التي تحمل رقم ١٥٦ في طبعة بيروت شرح الأحدب، تشبه مقامة الوصية وبعضها منقول بالحرف. وفيهما كلتيهما آراء بخلاء الجاحظ في الكرم.

أما التعابير الخاصة فتجدها في أكثر المقامات، وخصوصًا المقامات: القردية والأرمنية والخمرية وغيرها. وهناك مقامات مقصرة عن أخواتها، أو هي على غرار واحد، حتى يخيل إليَّ أنه عملها ليتم بها عددًا نوى أن يبلغه، فإذا قرأت النهيدية والمجاعية رأيتهما توءمتين …

بقي علينا أن نقول كلمة أخيرة وهي جواب عن هذا السؤال الذي كثيرًا ما يرد: هل المقامة قصة؟ نعم يا سيدي، إنها قصة. والفرق بينها وبين قصص اليوم كالفرق بين هندامك أنت وهندام جدك، رحمه الله، ورحمني معه. ولكن ليست كل مقامات البديع قصصًا فقسم منها لا شيء، والقسم الآخر شيء عظيم، وحسب الرجل ما خلق. إنه لفنان بديع.

ديوانه

البديع في مقاماته ورسائله أشعر منه في ديوانه.٧ وإن كان قد خلق في المقامة البشرية بطلًا أسطوريًّا جعله شاعرًا تاريخيًّا حقيقيًّا. لقد تفوق البديع في هذه القصيدة، وما أحسبه إلا متخيلًا أبا بكر الخوارزمي حين قال منها:
فخر مجدلًا بدم كأني
هدمت به بناءً مشمخرا
وقلت له يعز عليَّ أني
قتلت مناسبي جلدًا وقهرا

إن لنثر البديع أثرًا بعيدًا في شعره. فهو لا يتخلى عن السجع والازدواج في هذا الشعر، كقوله، مثلًا، في مدح صاحب الجيش أبي علي:

ما السيف محتطمًا، والسيل مرتكمًا
والبحر ملتطمًا، والليل مقتربَا
أمضى شبًا منك، أدهى منك صاعقةً
أجدى يمينًا، وأدى منك مطَّلبَا
وكاد يحكيك صوت الغيث منسكبًا
لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا
والدهر لو لم يخن، والشمس لو نطقت
والليث لو لم يُصَدْ، والبحر لو عَذُبَا

أما الصناعة وقلة الأناقة فكثيرة كهذا البيت:

وليل كذكراه كمعناه كاسمه
كدين ابن عباد كإدبار فائقِ

أما الجناس العارم والعبارات النثرية، فتراها أين توجهت في ديوانه الصغير؛ تأمل هذه الأبيات:

وكنت إذا ما الليل ماج ظلامُه
جعلت على تيَّاره جسرتي جسري
بمشرفة كالطود دائمة السُّرَى
كأن على الشعرى بها أو على شعري
وقد عجبتْ شمُّ الهضاب فما درت
أبا العيس تسري، أم بأجنحة النسر
فيا رب أندى فرعه المجد فارعه
ولا تخل ذاك الصدر من ذلك الصدر

هذه بعض أبيات قالها في مدح الوزير الشيخ أبي نصر بن زين، ولا شك في أنها نفقت عنده في ذلك الزمان، أما في سوق الأدب فلا رواج لها اليوم.

وفي ديوان الشيخ كثير من المعميات والأحاجي، وترجمة شعر فارسي، وقد طبخ لنا في هذا الديوان ما نسميه في لبنان «مخلوطة» فنظم قصيدة غزلية ممزوجة بالألفاظ الفارسية، وقد نشرناها في المختارات الشعرية للتفكهة، وله أيضًا أراجز وقصائد مصطنعات كلها مبالغات واستعارات وتشبيهات حتى إني عددت له واحدًا وعشرين بيتًا بدأها كلها بكأنَّ، وهذا يدلنا على الهتافات وعلى التشابيه المرغوب فيها عندهم. ولعل أبرز صفة لهذا العصر هي هذه القوالب البيانية والمحسنات اللفظية، ولو كان في هؤلاء الممدوحين من يشبه الرشيد، وسيف الدولة، وابن العميد، لما أقدم البديع على قول مثل هذا الشعر فيهم.

رحم الله البديع، وجلَّ من لا عيب فيه وعلا.

(٢) الأديب السياسي

تقدم لنا القول إنه يعنينا أمر الناصر لدين الله أبي القاسم محمود بن سبكتكين أكثر من سواه؛ لأنه هو الذي سلب ملك خلف بن أحمد ملك كرمان، وخلف بن أحمد هذا كان يعطي ويجزل العطاء وهو ممدوح بديع الزمان الذي خصه بمقامات ورسائل وقصائد ستقرأ بعضها في بابها.

أما سبكتكين فامتدحه بقصائد، ورسائل وجهها إلى وزيره الإسفرائيني، وهذه إحداها ننشرها هنا للدلالة على مشاركة أديبنا البديع في سياسة عصره. كتب إليه عندما انهزم السامانيون بباب مرو:
وردت رقعة الشيخ الجليل، أدام الله بسطته مني، على صدر انتظرها وقلب استشعرها، وإني لا أغلط في قوم أميرهم صبي، ولا في دولة عميدها خصي، وسنانها حلقي، ونصيرها شقي، وعدوها قوي، إني إذًا لغوي، يا قوم، بماذا ينصرون! أبمال عليه اعتمادهم، أم بجمع هو أمدادهم، أم بعدل به اعتضادهم، أم لرأي هو عمادهم؟ هل هم إلا سطور في قطور! إن الله تعالى علم أنهم إن ملكوا لم يُصلحوا، وأمرهم ألا يفلحوا، فسمعوا وأطاعوا، طائفة من المدابير، وقوفهم بين النار والنير، وإن أقاموا فالسيوف الهندوانية، وإن أيمنوا فالأتراك والخانية،٨ وإن أيسروا فجرجان والجرجانية، وإن استأخروا فالعطش والبرية. هو الموت إن شاء الله آخذًا بالحلاقيم، محيطًا بالظاعن منهم والمقيم.

جرجان يا مدابير، جرجان، إن بها أكلة من التين، وموتة في الحين، نظرة إلى الثمار، والأخرى إلى التابوت والحفار، ونجارًا إذا رأى الخراساني نجر التابوت على قده، وأسلف الحفار على لحده، وعطارًا يعد الحنوط برسمه. وبها للغريب ثلاث فتحات للكيس: أولها لكراء البيوت، والثانية لابتياع القوت، والثالثة لثمن التابوت، أغلى الله بهم أسواق النجارين والحفارين والمكارين. آمين يا رب العالمين.

وله أيضًا رسالة وجهها إلى هذا الوزير يمتدح فيها ابن سبكتكين، وفيها وصف طريق لفتح بهاضية، ثم وصف للهند وتعظيم لهذا السلطان الذي فتحها. وسترى — حين تقرؤها في مكانها — أن البديع جاء بالبدع فتكسب بالمقامات والرسائل والقصائد.

(٣) الأديب الاجتماعي

شارك بديع الزمان في وصف أحوال عصره الاجتماعية، وهذا ما كتبه من رسالة مع الوفد طلبًا للنظر لأهل هراة وفيه وصف البؤس الذي ليس فوقه بؤس. قال:

ولا أزيد الشيخ علمًا بهراة وأهلها، إنه قد شاهد أحوالهم، وعرف ما عليهم وما لهم، ولم يغب عن ثاقب فطنته إلا القليل. ولكني أخبره بما عرض لها ولهم: فيهم فشت الأمراض الحادة فخبطت عشواء وأفنت رجالًا، ثم جد الغلاء، وفقد الطعام، ووقع الموت العام. فمن الناس لم يطعم أسبوعًا حتى هلك جوعًا، ومنهم من تبلغ بالميتة إلى يومنا هذا، وهو ينتظر نحبه، ليلحق صحبه. ومنهم من لا يجد القوت على كفه حتى يموت، والباقون أحياء كأنهم أموات، ترعد فرائصهم من هذه البوائق. وإن هول السلطان أعظم وأطم، وأمر «المطالبات» أكبر وأهم …

وكأن هذه الرسالة لم تثمر فكتب رسالة أخرى إلى الشيخ السيد بن أحمد جاء فيها بعد التوطئة: «وقد علم الشيخ ما مُني به أهل هراة من محن الخانية، ثم ما أرهقهم من الحقوق الديوانية، ثم ما زيد عليهم من علاة المصادرة الحادثة، ثم ما كشف الأستار، وأظهر العوار، وقبح النواز من غلاء الأسعار، حقًّا لقد أُكلت الجيفة وهي خائسة، وطحنت عظام الميتة وهي يابسة، وعدم القوت وثمنه موجود، وتركت العبادات وهجرت النباحات، وأفردت الجنائز، وتخطى الموتى وهم بالشوارع مطروحون. ولقد دخلت المسجد الجامع يوم أمس فرأيت تحت كل أسطوانة عليلًا، وكلمت أحدهم فلم يع إلا قليلًا …»

إلى أن يقول: «ومن الواجب على السلطان، أعز الله نصره، في مثل هذا العام، أن يتعهد الناس بالطعام، ويتخول الرعية بالإنعام، ويبذل فيهم الرغائب ليؤمن الساكن وليتألف الغائب. والبلاء كل البلاء إن طلب هذا المال الموظف فتذهب الحاسة الباقية …»

هاتان قطعتان من رسالتين تعينان القارئ على مقابلة ذلك البطر بهذا الجوع. وكذلك يفعل فساد الحكم، وموت ضمير الرعاة في كل عصر.

إني أصدق كل ما كتبه البديع في وصف بؤس أهل بلدته؛ فقد رأيت بأم عيني هذه المشاهد بل أعظم منها في ضيعتي، إبان الحرب الأولى عام ١٩١٦.

(٤) طابعه الأدبي

جاء البديع والنثر المسجوع والمزدوج ينيخ على الأذهان بكلكله وجرانه، كان لواء مدرسة ابن العميد يرفرف على الدواوين، والصاحب يزجي الصفوف تحت الدرفس … وكان أكبر ما يبغي فتى همذان أن ينضوي تحت هذا اللواء، فأتيح له من حضرة الصاحب ما أراد، ثم انصرف عنها تام الألواح مكتمل العدة، فقصد كاتب عصره، أبا بكر الخوارزمي في نيسابور، فأبدى الشر نواجذه منذ وقعت العين على العين، وأراد البديع المنازلة الأدبية فكانت وفاز، وانتهت إليه الزعامة الأدبية حين خلت الدنيا من خصمه.

قد يكون البديع غالى في وصف مناظرته مع أبي بكر، ولكن الذي لا شك فيه، هو أن هذا الشاب خاض المعمعة مستعدًّا وولجها أبو بكر مستخفًّا، ساعد البديع شبابه، وحدة ذهنه، وسلاطة لسانه، فكان يستولي دائمًا على المبادرة، ويرمي خصمه بقذائف نوادره ونكاته بلا حذر. فما قولك بشاب يقول لشيخ جليل كأبي بكر: «إنك كهل وأنت شاعر، وكنت شابًّا وأنت مقامر، وكنت صبيًّا وأنت مؤاجر!» ثم يقول له مزدريًا شعره الذي أنشده في تلك المناظرة: «فكره أبو بكر، أيده الله، أن تكون الهرة أعقل منه؛ لأنها تحدث فتغطي.» ثم قوله له: «والله لو أن قفاك غدا في درج، في خرج، في برج، لأخذك من النعال ما قدم وما حدث.»

وبعد هذا ماذا؟ فتح الله على البديع، فأملى مقاماته الشهيرة فأحلته في النثر محل امرئ القيس في الشعر، ومشت الذرية على الطريق التي شقها في مقاماته، فكان الحريري أول من حاول وأفلح، ففتن الناس ببهلوانياته ومعجزاته ولغوياته ونحوياته … ثم أخذ الكتَّاب يطبعون على هذا الغرار البديعي الحريري نحوًا من تسعة قرون، سوَّد السجع فيها وجوه الأوراق وغلَّ أعناق الأقلام، وما أزيح هذا الكابوس عن صدر الأدب العربي إلا في أخريات القرن التاسع عشر.

فالبديع كما يقول الحريري في مقدمة مقاماته «سباق غايات وصاحب آيات» وعندي أنه ليس لأستاذه ابن فارس في اصطناع المقامة يد، فشيخنا الهمذاني عبقري من الطراز الأول، ولو أنصف الذين قسموا ميراث الأساليب القديمة، لما حرموا البديع هذه الإمامة، بل كان هو رأس هذه الطبقة لا ابن العميد.

قال القدماء: «بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد.» وأين ابن العميد من نابغتنا هذا؟! أما تجاوز سلطان الهمذاني الأدبي لسان العرب وتغلغل في الفارسية والسريانية والعبرانية؛ فحاول جميع هؤلاء أن يقلدوه. ويكتبوا مقامات في تلك اللغات كما كتب. إن في إنشاء ابن العميد ترف القصور وأناقتها، ولكنه يكاد يكون معدوم الحرارة، في حين ترى النار المتأججة في رسائل البديع فلم يخمدها كر الدهور والعصور، فمن يقرأ رسالته إلى ذلك الموظف المعزول ولا يحسب أنها كتبت أمس؟! ثم من يطالع رسالته في ذم أبي بكر الحيري ولا يظن أنها كتبت أول من أمس؟!

أما خدع البديع تاريخ الأدب العربي تسعة قرون في قصيدة وصف بها قتال بشر بن عوانة للأسد حتى قال ابن الأثير الذي يدعي علم كل شيء، في نقد قصيدتي البحتري والمتنبي في قتال الأسد: «ولفطانة أبي الطيب لم يقع فيما وقع فيه البحتري من الانسحاب على ذيل بشر؛ لأنه قصر عنه تقصيرًا كثيرًا.» وما بشر بن عوانة إلا البديع الذي خلق هذا البطل الأسطوري فبلغ من القصة والقصص ما يعد أكبر أمنية يصبو إليها كبار القصصيين العالميين اليوم؛ أي أن يخلقوا بطلًا خالدًا كأبطال شكسبير وموليير.

فالبحتري كما يفهم من نقد ابن الأثير مقصر عن البديع، وإن كان البديع هو الذي انسحب على ذيل البحتري …

نعم إن البديع وابن العميد والصاحب والخوارزمي شعراء انصرفوا إلى النثر بل قل الشعر المنثور؛ لأنهم لم يقدروا على مجاراة المتنبي شاعر العصر، بل شاعر جميع العصور الأدبية العربية، ومثل هذا حدث ويحدث عند جميع الأمم، فأكابر القصصيين هم شعراء قصروا عن نوابغ الشعراء، فكانوا في منثورهم أشعر منهم في منظومهم، وهذا ما أصاب كتاب القرن الرابع قبلهم، قصروا عن أبي الطيب فراحوا يحلون شعره ويسرقون معانيه وبعض تعابيره الخاصة كما قال صاحبنا البديع لأحدهم في إحدى رسائله السامة: «اسكت يا بعض الأنام …» أخذه من قول شاعر العرب الأعظم:

وصرت أشك فيمن أصطفيه
لعلمي أنه بعض الأنامِ

وإذا ابتهر بديع الزمان وادعى فهو على حق، بل هو سيد الموقف وأمير الكلام في هذه الحقبة من تاريخ الأدب، ولم يفقه الحريري في العبارة التي لا غبار عليها إلا أنه نحوي لغوي وشاعر أيضًا، أما الفن في المقامات فبقي وظل وسوف يبقى للبديع.

البديع أديب طريف، قصصي ملهم يريك بعيدات الشخوص كما هي. أما الحريري فعبارته صلبة منحوتة، وفي مقاماته جفاف أسلوب العلماء والنحاة. فالعبقرية الفنية البعيدة عن التحكيك والتعمل إنما تجدها في رسائل بديع الزمان ومقاماته. إن حلو الكلام ومره لهذا الرجل، وإذا كان الجاحظ أحل النثر محل الشعر، فأهدى «الكتاب» إلى الخلفاء والوزراء، فها هو ذا البديع ينهج نهجه فحل المقامة والرسالة محل القصيدة ويُجاز عليهما ويُعطى، وإن كان بينهما مسافة شاسعة. فالجاحظ يتنفس من كير ولا يضيق صدره عن ميدان مهما كان طويل الأمد، بينا نرى البديع ضيق المنخرين والصدر قصير النفس.

ثم أليس سواء لدى الفن، أأربعمائة مقامة أملى الهمذاني أم خمسين؟ فالمقامة المضيرية وبضع أخوات لها تغني عن ألف، وهي كافية لتحل صاحبها حيث حل. كان البديع واقعيًّا أكثر منه خياليًّا، وإن توكأ على عصا الاستعارات والتشابيه والكنايات، وزين كلامه بالمجانسة والتلميحات والإشارات. إنه مادي لا يفلسف ولا يفكر بما وراء الطبيعة، يتشيع للإثراء والوجاهة الأدبية، كما يتضح من مناظرته لأبي بكر. رأى السيد أبا الحسين «يضرب عن الخوارزمي بسيفين لأمر كان قد موه عليه». فقال البديع: «أيها السيد، إذا سار غيري في التشيع برجلين طرت بجناحين، فإن كنت أبلغت غير الواجب، فلا يحملنك على ترك الواجب. ثم إن لي في آل الرسول ، قصائد قد نظمت حاشيتي البر والبحر … وللآخرة قلتها لا للحاضرة إلخ.»

والبديع يبتكر في الألفاظ أكثر من ابتكاره في المعاني، ويعول على الكلام المستعمل لعلمه أنه أشد تأثيرًا في النفوس، وقلما ذكر آية أو حديثًا أو كلمة مأثورة بحروفها، بل يكتفي بالإيماء إليها ثم يمضي، ولذلك يصعب على القارئ العادي أن يدرك كل ما يعني. وهو ليس ذلك القابض على خناق اللفظية، فإذا جاءت على هينتها كان، وإلا فهو يضع محلها غيرها، وإذا لم يجد عرَّب، أو أخذ من الشارع ولا بأس في ذلك عنده. ولعل هذا من أثر اللسان الفارسي فيه. فكم من ألفاظ ساسانية نجدها عنده قاعدة مطمئنة لا تشكو فراقًا ولا غربة، بل كأنها بين قومها وأهليها.

والبديع يدرك أن الجملة الطويلة ضعيفة الوقع، ولذلك ترى جمله خفيفة قصيرة كأنها ترقص رقصًا. فكل تعبير من تعابيره يحمل روحًا مستقلة، وخصوصًا عندما ينبري للهجاء، بل قل للسب؛ لأن هجاء صاحبنا سب وشتائم.

فهو عندي لم ينفرد في مقاماته أكثر من تفرده في رسائله التي بلغ فيها ما لم يبلغه أكابر الشعراء الهجائين العرب. فهو يمجن ويمزح، ويتهكم ويكشف العورات ليكون له في كل عرس قرص، ويرينا أنه ذلك القادر على القول في كل غرض ومطلب. إنه في مجونه وهجائه مر موجع. هو فيهما أقرب إلى بشار منه إلى أبي نواس الخفيف الظل.

ولكن نفس البديع نفس فنان أصيل يعرف كيف يبتدئ وكيف ينتهي، وله كلمات مسكتة ونهايات طريفة. كقوله في مقامته الرصافية: «وفتش الغلام البيت فلم يجد سوى البيت.»

وكقوله لبطله في ختام المقامة الإبليسية: «يا أبا الفتح، شحذت على إبليس! إنك لشحاذ!»

وكقوله بلسان الحمامي الذي زجر بطل الهمذاني: «اسكت يا فضولي.»

إن هذا السخط على كل شيء هو الذي أنطق البديع بما نطق، ولعل أخلاقه السرية أشبه بأخلاق بطله أبي الفتح. كان داهية مثله في فتح أبواب الرزق، فالشعراء قبل البديع كانوا يصفون الناقة ليبالغوا في وصف مشقات السفر، ويكبروا مصائبهم في عين الممدوح ليكبر الجائزة، أما صاحبنا الهمذاني فكبطل مقاماته يدعي أن داهية نزلت قبل بلوغه «الحضرة»؛ تارة يزعم أن العرب قطعوا عليه الطريق وشلحوه، «وورد نيسابور براحة أنقى من الراحة، وكيس أخلى من جوف حمار، وزي أوحش من طلعة المعلم.» وطورًا يتهم بذلك الأتراك كما سترى في رسائله.

وقد يتساءل القارئ إن كان البديع سيد القلم فلماذا لم يستوزر؟! أما الجواب عن هذا فأظن أن أنانيته وعجرفته، ولسانه الطويل، وحرصه بل شحه وتكالبه على المال، قد حالت دون بقائه في القصور، وإنا لنحمد الله على هذا، فلو استقر البديع ورضي لما خرج من رأسه ما خرج من رسائل هجاء تعد آيات من آيات سحر الكلام.

هوامش

(١) بيت المتنبي:
ومن يك ذا فم مر مريضٍ
يجد مرًّا به الماء الزلالا
(٢) بيت المتنبي:
خلقت ألوفًا لو رجعت إلى الصبا
لفارقت شيبي موجع القلب باكيَا
(٣) أخذ هذا من ذاك الشاعر الذي قال:
أمر على الديار ديار ليلى
أقبل ذا الجدار وذا الجدارَا
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
(٤) استعملها الجاحظ بمعنى لا شيء.
(٥) قشها: جمعها.
(٦) «مقامات الهمذاني». طبعة بيروت ص٨١ الحاشية.
(٧) «ديوان البديع» طبعة مصر ١٩٠٣، ناشره محمد شكري المكي.
(٨) نسبة إلى أيلك خان، وهم جماعة أعانوا على السامانية في هذه الهزيمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤