لذة الإبداع١

الإبداع مرآة تعكس حياة البشر؛ لذلك ينعكس العالم بما فيه من تغيرات أو حروب أو ثورات في الأعمال الإبداعية على اختلاف أنواعها.

إن قصيدة من الشعر ضد الحرب مثلًا قد تكون أقوى أثرًا في نفوس الناس من أي شيء آخر. وفي تاريخ الفن نماذج إبداعية هزَّت وجدان البشر بأكثر ما تفعل الزلازل.

وهناك أعمال إبداعية بقيت رغم زوال العهود التي ظهرت فيها، وكم من ألحان باقية يتغنى بها الناس وإن ضاع اسم مؤلفها مع الزمن.

وكم من أساطير وقصص باقية رغم مرور القرون، وأعمال فنية إبداعية وتماثيل منحوتة بقيت وإن مات أصحابها. في الحضارة المصرية القديمة كان هناك فلاسفة وفنانون مبدعون، نساءً ورجالًا، وما زال الفن المصري القديم موجودًا، يراه الناس بعيونهم، ويأتون إليه من مختلف القارات، يتحملون مشاقَّ السفر، ينفقون الأموال من أجل رؤيته.

لماذا يسعى الإنسان لرؤية الفن والإبداع؟ لماذا نسعى لسماع قطعة موسيقى أو قراءة رواية أو رؤية نحت في الحجر؟!

سؤال كان يراودني دائمًا منذ حياتي المبكرة، كنت أدرك أنني حين أسمع الموسيقى أو أقرأ رواية جميلة أشعر بالمتعة.

ومن أجل هذه المتعة يسعى الإنسان إلى الأعمال الإبداعية، لكن لماذا هذه المتعة؟

وماذا في الإبداع يثير هذه المتعة في نفوس الناس؟

حين قرأت رواية «الأيام» لطه حسين وأنا تلميذة صغيرة بكيت من الألم، لكني رغم الألم أحسست بمتعة، خليط غريب من الأحاسيس يفجره الإبداع في النفس البشرية.

هذه اللذة الممزوجة بالألم هي السر في بقاء الفن، والسر في قوته وتأثيره على البشر وقدرته على تغيير الإنسان والعالم أيضًا.

الإبداع قادر على تجاوز حدود الواقع إلى واقع آخر أكثر رحابة، وأهم ما يتجاوزه الإبداع هو «القيم» الراسخة في النفوس والمتوارثة عبر الأجيال.

يتجاوز الإبداع حدود القيم السائدة، ويخلق قيمًا جديدةً أكثر إنسانية وعدالة؛ ولهذا يبدو الإبداع مخيفًا.

ولهذا قد يُحكَم على المبدعين أحيانًا بالموت أو السجن أو النفي، لكن ما إن ينقضي ذلك الزمن أو العهد حتى يدركَ الناس قيمة ذلك العمل الإبداعي، ويُقام تمثال مُجسَّم للفنان المبدع على حين يموت المسئول الذي أصدر الحكم ضده.

يلعب الإبداع دورًا في تشكيل القيم التي تُبنى عليها الحضارة الجديدة التي لم تُولَد بعد.

ونحن نعيش هذه الفترة الانتقالية بين القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين بين حضارتين، واحدة في طريقها إلى الزوال والأخرى قادمة. فترة انتقالية صعبة مخيفة، لكنها هي أكثر الفترات ملاءمة للإبداع؛ فالإبداع لا يحدث إلا في هذه اللحظة الحرجة، لحظة الانتظار بين موت القديم وولادة الجديد، لحظة أشبه بالعدم، مُعلَّقة بين الموت والولادة، متأرجحة بين المعلوم والمجهول.

لحظة يكون فيها الإنسان وحده تمامًا، يواجه نفسه، يستلهم عقله الواعي وغير الواعي، يعتمد على نفسه تمامًا فيُبدع شيئًا جديدًا، ويلعب دوره في تشكيل المستقبل، أو يسقط مع الساقطين في خِضَم الخوف والتشبث بذيل الماضي كما يتشبث الطفل بذيل أمه لا يعرف كيف يمشي وحده.

الإبداع استقلال مبكر واعتماد منذ الطفولة على النفس وليس على الآخرين.

١  الجريدة اليومية «العالم اليوم»، ص١٤، ٢٧ يناير ١٩٩٢م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤