الفصل الثاني

بيعة أبي بكر

اختار الله رسوله إلى جواره في الثاني عشر من ربيع الأول عام ١١ للهجرة (الثالث من شهر يونيو سنة ٦٣٢ للميلاد)، وكان صبح ذلك اليوم قد شعر بشيء من العافية من مرضه، فخرج من بيت عائشة إلى المسجد وتحدث إلى المسلمين، ودعا لأسامة بن زيد بالخير، وأمره أن يسير بجيشه لغزو الروم، فلما تطاير إلى الناس أن رسول الله قد مات بعد سويعات من جلوسه بينهم وحديثه إليهم تولاهم الذهول، وقام عمر بن الخطاب فيهم خطيبًا ينفي الخبر، ويذكر أن رسول الله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران؛ فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، وانطلق عمر يهدد القائلين بوفاة الرسول ويذكر أنه سيرجع إليهم فيقطع أيديهم وأرجلهم.

وكان أبو بكر قد ذهب إلى داره بالسنح من ضواحي المدينة بعد أن عاد النبي (عليه السلام) من المسجد إلى دار عائشة، فلما نما في الناس نبأ وفاته ذهب في أثر الصديق من أبلغه إياه فكرَّ راجعًا، فبصر بالمسلمين وبعمر يخطبهم، فلم يقف بل قصد إلى بيت عائشة حيث ألفى النبي مسجَّى في ناحية من البيت، فكشف عن وجهه وجعل يقبله ويقول: «ما أطيبك حيًّا وما أطيبك ميتًا!» وخرج إلى الناس فقام فيهم فقال: «أيها الناس، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.» ثم تلا قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (آل عمران: ١٤٤) فلما سمع عمر هذه الآية خرَّ إلى الأرض ما تحمله رجلاه، وأيقن أن رسول الله قد مات، ووجم الناس لما سمعوا ولما رأوا، وأقاموا في ذهولهم لا يدرون ما يصنعون.

نقف هنيهة ها هنا لنصور ناحية من نفسية أبي بكر يدل عليها موقفه هذا أبلغ الدلالة، فلو أن رجلًا من المسلمين جاز أن يبلغ منه الجزع لوفاة الرسول ما بلغ من عمر، لكان ذلك الرجل أبا بكر؛ فهو صفي النبي وخليله، ومن آثره في كل موقف على نفسه، وهو الذي أجهش بالبكاء لقول رسول الله: «إن عبدًا من عباد الله خيَّره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله.» وهو الذي قال حين سمع هذه الكلمة والعبرة تخنقه: «نحن نفديك بأنفسنا وأرواحنا!» لكن جزعه لوفاة الرسول لم يذهله ما أذهل عمر، وهو لم يلبث، حين أيقن أن الله اختار رسوله إليه، أن خرج إلى الناس وخطبهم بما قرأت.

وهذه الكلمات التي ألقاها عليهم، وهذه الآية التي تلاها من القرآن لإقناعهم، تدل على قوة في مواجهة الحقائق تنأى بصاحبها عن أن يذهله نبأ فاجع كموت رسول الله، وقد اقترنت هذه القوة النفسية بصفة أخرى زادتها جلالًا ومهابة، وهي بعد النظر إلى المستقبل، وهاتان الصفتان تثيران العجب من رجل كله الرفق والرقة، وكله التقديس لمحمد ومحبته أكثر من حبه الحياة وما فيها.

وهذه القوة النفسية البالغة التي كانت سند أبي بكر في هذه الساعة العصيبة الرهيبة، ساعة فجيعة المسلمين لفقد نبي الله ورسوله، هي التي كانت سنده في الساعات الكثيرة العصيبة التي مرت من بعد به وبالمسلمين، وهي التي وقت المسلمين ووقت الإسلام فتنة لولاها لتعرضوا لمحن لا يعلم إلا الله ما كان يصيبهم ويصيب النشأة الجديدة من جرائها.

لم يكن عمر والمسلمون الذين أحاطوا به واستراحوا إلى قوله إن النبي لم يمت، إلا الذين أذهلهم النبأ عن التفكير فيما وراءه، أما الذين أيقنوا بحقيقة هذا النبأ أول ما عرفوا به، فلم يثنهم الحزن عن هذا التفكير، فقد آل أمر المدينة إلى الرسول بعد أن استقر بها، وبعد أن تم لدينه السلطان فيها، فلمن عسى أن ينتقل هذا الأمر من بعده، وقد امتد سلطان الرسول على سائر العرب بعد أن دانوا بالإسلام، وبعد أن ارتضى الكتابيون الذين أقاموا على دينهم أن يدفعوا الجزية؟ ترى أيظل للمدينة هذا السلطان؟ وإن ظل لها فلمن من أهلها يئول؟

لقد كان الأنصار من أهل المدينة يجدون على المهاجرين أنهم آووهم ونصروهم أول ما جاءوا إليهم ضيوفًا مع الرسول، فلما اطمأنوا أرادوا أن يستأثروا بالأمر دونهم، كانت هذه روحهم في عهد النبي، فكان من الطبيعي أن تظهر واضحة حين وفاته؛ بل لقد ظهرت في حياة الرسول بعد فتح مكة وغزاة حنين والطائف، فقد أجزل محمد العطاء من فيء هذه الغزاة إلى المؤلفة قلوبهم من أهل مكة، فلما رأى الأنصار ذلك تحدث فيه بعضهم إلى بعض وقال قائل منهم: لقي والله رسول الله قومه. فلما بلغت هذه المقالة النبي طلب إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج أن يجمعهم إليه؛ فلما اجتمعوا قال لهم: «يا معشر الأنصار، مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها في أنفسكم! ألم آتكم ضلالًا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم؟» وأطرق الأنصار لما سمعوا، وكان كل جوابهم: «بلى! الله ورسوله أمنُّ وأفضل.» وسألهم النبي: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار!» فظلوا مطرقين ولم يزيدوا على أن قالوا: «بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المن والفضل.»

هنالك تولى محمد الجواب عنهم فقال: «أما والله لو شئتم لقلتم فلصَدَقتم ولصُدِّقتم: أتيتنا مكذَّبًا فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فآسيناك.» قال هذه العبارة والتأثر باد عليه، ثم أردف: «أوجدتم يا معشر الأنصار، في لعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم!! ألا ترضون، يا معشر الأنصار، أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله إلى رحالكم!! فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وسلك الأنصار شعبًا، لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.» ولقد بلغ من تأثر الأنصار بهذه العبارة التي صدرت من أعماق قلب النبي، فقالها وكله العطف والمحبة لأولئك الذين بايعوه ونصروه وأعزوه، أن بكوا وقالوا: «رضينا برسول الله قسمًا وحظًّا.»

ولم يكن فيء حنين وعطاء المؤلفة قلوبهم أول ما أثار المخاوف في نفوس الأنصار، بل ثارت مخاوفهم قبل ذلك وعلى أثر فتح مكة، حين رأوا النبي يقوم على الصفا ويدعو، وحين رأوه يحطم الأصنام ويتم في يوم واحد ما دعا إليه منذ عشرين سنة، فقد خيل إليهم أنه تارك المدينة فعائد إلى وطنه الأول، وقال بعضهم لبعض: «أترون رسول الله إذ فتح الله عليه أرضه وبلده لمقيم بها؟» فلما اتصل بمحمد نبأ مخافتهم قال: «معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم.»

طبيعي، وذلك كان شعور الأنصار، أن يسرعوا إلى التفكير في أمر مدينتهم أول ما عرفوا أن النبي مات، ترى أيظل أمر هذه المدينة وأمر العرب إلى المهاجرين الذين أقاموا ضعافًا بمكة لا مأوى لهم ولا نصير حتى أعزتهم المدينة، أم يكون الأمر لأهل المدينة الذين قال فيهم الرسول إنه أتاهم مكذبًا فصدقوه، ومخذولًا فنصروه، وطريدًا فآووه، وعائلًا فآسوه؟ تحدث بعض الأنصار إلى بعض في هذا، وتداعوا إلى سقيفة بني ساعدة، وكان سعد بن عبادة مريضًا في داره فأخرجوه إليهم ليكون صاحب الرأي فيهم، وأصغى سعد إلى حديثهم، ثم قال لابنه أو لبعض بني عمه: «إني لا أقدر لشكواي أن أُسمع القوم كلهم كلامي، ولكن تلقَّ مني قولي فأسمعهموه.» ثم جعل يتكلم فينقل الرجل إلى الحاضرين كلامه، قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «يا معشر الأنصار، إن لكم لسابقة في الدين، وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب. إن محمدًا (عليه السلام) لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن، وخلع الأنداد والأوثان، فما آمن به من قومه إلا رجال قليل: وما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدافعوا عن أنفسهم ضيمًا عُموا به، فلما أراد لكم ربكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة وخصكم بالنعمة، فرزقكم الله الإيمان به وبرسوله، والمنع له ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على عدوه منكم، وأثقله على عدوه من غيركم، حتى استقامت العرب لأمر الله طوعًا وكرهًا، وأعطى البعيد المقادة صاغرًا داحرًا، وحتى أثخن الله (عز وجل) لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب، وتوفاه الله وهو عنكم راضٍ، وبكم قرير عين؛ فاستبدوا بهذا الأمر دون الناس، فإنه لكم دون الناس.»

سمع الحاضرون مقالة سعد ثم أجابوه بأجمعهم: «وفِّقت في الرأي، وأصبت في القول، ولن نعدو ما رأيت، نوليك هذا الأمر؛ فإنك فينا مقنع، ولصالح المؤمنين رضا.»

أفكان هذا الإجماع صريحًا قويًّا صادرًا عن عزيمة لا تهن ولا تكبو؟ لو أنه كان كذلك لأسرع القوم إلى بيعة سعد بن عبادة، ولدعوا الناس إلى متابعتهم على بيعته، لكن القوم ما لبثوا أن ترادوا الكلام بينهم قبل أن يقبل أحد على بيعة سعد: قال قائل منهم: «فإن أبت مهاجرة قريش فقالوا: نحن المهاجرون، وصحابة رسول الله الأولون، ونحن عشيرته وأولياؤه، فعلام تنازعوننا هذا الأمر بعده؟» وأنصت الحاضرون إلى هذا القول، ورأوا فيه من الحق ما حسبه بعضهم لا يدفع، هنالك قالت طائفة منهم: «فإنا نقول إذن منا أمير ومنكم أمير ولن نرضى بدون هذا الأمر أبدًا.»

ولم يخف على ابن عبادة ما تنطوي عليه هذه المقالة من تردد يقعد بصاحبه دون غايته؛ لذلك قال حين سمعها: «هذا أول الوهن!» ولعله إنما رآها أول الوهن أن رأى الذين يقولونها من بني الأوس، فما كان بنو الخزرج ليقولوا مثلها وهو رئيسهم الذي يرشحونه لولاية الأمر من بعد الرسول، والأوس والخزرج كانوا دائمًا على خلاف بينهم، منذ نزل أجدادهم الأولون المدينة قادمين من اليمن حين هجرة الأزد إلى الشمال، فقد ألفى هؤلاء الأجداد اليهود بالمدينة فخضعوا لسلطانهم زمنًا، ثم ثاروا بهم وأنزلوهم عن مكان السلطان منهم، ومن يومئذ نشبت بين القبيلتين خصومة طالما ردت السلطان لليهود، ورأى الفريقان ما يجره ذلك عليهم من ضعف، فهموا أن يولوا عليهم أحدهم عبد الله بن محمد من الخزرج، بعد أن أفنت وقعة بعاث الكثيرين منهم، وأعلت كلمة إسرائيل بينهم، وإنهم لكذلك إذ قدم منهم جماعة مكة حاجين، فتعرض لهم النبي يدعوهم إلى الله، وقال بعضهم لبعض: «والله إنه للنبي الذي تواعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه.» ثم أجابوا دعوته، وأسلموا وقالوا له: «إنا تركنا قومنا — أي الأوس والخزرج — ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعك الله بهم، وإن يجمعهم عليك فلا رجل أعز منك.» وعاد هؤلاء إلى المدينة، فأنبئوا قومهم بما رأوا، فكان ذلك مقدمة بيعة العقبة الكبرى، ومقدمة هجرة الرسول إلى المدينة، وبدء انتشار الإسلام فيها.

جمع الدين الجديد كلمة المؤمنين به، ثم زادهم التفافهم حول النبي إخاء ومودة بذلك ضعف سلطان اليهود ضعفًا مهد لجلائهم من بعد عن المدينة وعن بلاد العرب جميعًا، على أنه بقيت مع ذلك في نفوس الأوس والخزرج آثار من خصومتهم الأولى، كانت تبدو كلما حركها من اليهود أو المنافقين من ادعى الإسلام باطلًا ليفرق بين أهله، وذلك ما يدعو إلى الظن بأن سعد بن عبادة لم يقل حين نظر إلى القوم في السقيفة يستمعون إلى من يقول: منا أمير ومن قريش أمير: «هذا أول الوهن» إلا لأن أصحاب هذه المقالة كانوا من بني الأوس.

بينما كان الأنصار في سقيفة بني ساعدة يتداولون أمرهم بينهم يريدون أن ينفردوا بالسلطان على العرب، كان عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بين الجراح وطائفة من كبار المسلمين ومن سوادهم يتحدثون بالمسجد عن وفاة الرسول، وكان أبو بكر وعلي بن أبي طالب وأهل بيت النبي يحيطون بجثمانه ويعدون العدة لتجهيزه ودفنه، وبدأ ابن الخطاب مذ أيقن بوفاة النبي يفكر فيما عسى أن يكون الأمر من بعده، ولم يدر بخلده أن الأنصار سبقوه إلى هذا التفكير، أو أنهم يريدون أن يستبدوا بالأمر دون الناس، فقال ابن سعد في الطبقات: «أتى عمر أبا عبيدة بن الجراح فقال: ابسط يدك فلأبايعك، فأنت أمين هذه الأمة على لسان رسول الله. فقال أبو عبيدة لعمر: ما رأيت لك فهَّة١ قبلها منذ أسلمت، أتبايعني وفيكم الصديق وثاني اثنين!» وإنهم لفي هذا الحديث إذ جاءهم نبأ الأنصار واجتماعهم في سقيفة بني ساعدة، فأرسل عمر إلى أبي بكر في بيت عائشة أن اخرج إلينا، فأجاب أبو بكر الرسول: «إني مشتغل.» فرد عمر رسوله يقول لأبي بكر: «إنه قد حدث أمر لا بد لك من حضوره.»

وخرج أبو بكر إلى عمر وقد تولاه العجب؛ أي أمر يمكن أن يدعى إليه فيصرفه عن جهاز رسول الله! قال عمر: «أما علمت أن الأنصار قد اجتمعت في سقيفة بني ساعدة يريدون أن يولوا هذا الأمر سعد بن عبادة، وأحسنهم مقالة من يقول منا أمير ومن قريش أمير!» ولم يتردد أبو بكر حين سمع ذلك أن مضى مع عمر مسرعين إلى السقيفة ومعهما أبو عبيدة بن الجراح، وكيف يتردد والأمر أمر المسلمين ومصيرهم، بل أمر هذا الدين الذي أوحي إلى محمد ومصيره! إن حول جثمان الرسول أهله يقومون بما يجب لجهازه ودفنه، فلينطلق مع صاحبيه إلى السقيفة، فذلك واجب عليه لله ورسوله لا يستطيع غيره أن ينهض به، وهو لم يتخلَّ يومًا عن أداء الواجب والنهوض بأجسم التبعات وإن اقتضاه ذلك بذل ماله ونفسه.

مضى ثلاثة الرجال لم يثنهم أن لقيهم عاصم بن عدي وعويم بن ساعدة فقالا لهم: ارجعوا فإنه لا يكون ما تريدون، فلما قالا: «يا معشر المهاجرين، لا تأتوهم واقضوا أمركم.» قال عمر: «والله لنأتينهم.»

وبلغ الثلاثة السقيفة والأنصار لا يزالون في حوارهم لم يبايعوا سعدًا ولم يقطعوا في ولاية الأمر برأي، ودهش الأنصار حين رأوهم فأمسكوا عن القول، وكأنما سُقط في أيديهم، وسأل عمر بن الخطاب عن رجل مزمل بين ظهرانيهم من هو، فأجابوا: هذا سعد بن عبادة به وجع، وجلس أبو بكر وصاحباه بين القوم وكل تتمشى في نفسه الهواجس يسأل نفسه: عم يسفر هذا الاجتماع؟

والحق أنه كان اجتماعًا جليل الخطر في حياة الإسلام الناشئ، ولولا ما أبدى أبو بكر في هذا الاجتماع من قوة الحزم وصلابة الإرادة لأوشك هذا الدين الجديد أن يثور الخلاف عليه في موطنه كما ثار في مواطن أخرى من بلاد العرب، وأن يثور وجثمان صاحب الرسالة ما يزال في بيته لم يثو في قبره.

أرأيت لو أن الأنصار أصروا على أن يستبدوا بالأمر دون الناس استجابة لدعاء سعد بن عبادة ولم ترض قريش أن يكون لغيرها الأمر، فأي مسرح للثورة كانت تصبح مدينة الرسول! ولأية ثورة جائحة مسلحة وجيش أسامة في أحشائها فيه المهاجرون وفيه الأنصار وكلهم مدجج بسلاحه قد لبس درعه واتخذ للقتال عدته!! ولو أن المهاجرين الذين ذهبوا إلى السقيفة كانوا غير أبي بكر وعمر وأبي عبيدة ممن ليس لهم في نفوس المسلمين جميعًا ما لوزيري رسول الله ولأمين الأمة من مكانة، لشجر الخلاف بينهم وبين الأنصار، ولخيف على جماعة المسلمين من الاختلاف وما يجر إليه، ولكان لذلك أثره الذي لا يفكر اليوم فيه مؤرخ، ولما وقف الأكثرون من اجتماع السقيفة عند رواية الحوادث وذكر الخطب التي تبودلت وما تم على أثرها من بيعة أبي بكر، أما الذين يقدرون الحوادث قدرها، فيرون لهذا الاجتماع التاريخي من الأثر في حياة الإسلام ما كان لبيعة العقبة الكبرى، وما كان لهجرة الرسول من مكة إلى المدينة، ويرون فيما كان من أبي بكر وحسن تصرفه في الموقف عمل الرجل السياسي، بل رجل الدولة البعيد مرمى النظر، والذي يقدر النتائج ويرتب للاحتمالات، ويوجه كل جهده إلى الغرض الذي يريد أن يحقق به أعظم الخير ويتقي به كل ضر أو أذى.

ألفنا في حياتنا الحاضرة عبارات يصور بها الساسة أحوالًا أو أعمالًا يحسبونها بدعًا لم يسبقهم إليه في التاريخ أحد، ومن مألوف ما نسمع في هذا الزمن عبارة «الهجوم السلمي»، وهذا الهجوم السلمي لم يكن مجهولًا في العصور الماضية، بل هذا الهجوم هو ما لجأ إليه أبو بكر وأتمه صاحباه في ذلك الاجتماع التاريخي الجليل الخطر.

لما اطمأن بالمهاجرين الثلاثة المجلس خرج الأنصار من صمتهم وزايلتهم دهشتهم، ولم يخف أشدهم حماسة حرصهم على أن يكون الأمر من بعد الرسول لهم، قال عمر: «وكنت قد زويت٢ كلامًا أردت أن أقوم به فيهم، فلما أن دفعت إليهم ذهبت لأبتدئ المنطق، فقال لي أبو بكر: «رويدًا حتى أتكلم ثم انطق بعد بما أحببت».» وإنما خشي أبو بكر شدة عمر في القول، وليس الموقف موقف شدة أو عنف، بل موقف سياسة وحسن مدخل، ونهض أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه وذكر رسول الله وما جاء به من رسالة التوحيد ثم قال:
« … عظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه، والإيمان به، والمؤاساة له، والصبر معه، على شدة أذى قومهم لهم، وتكذيبهم إياهم، وكل الناس مخالف لهم زارٍ عليهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم، وشنف٣ الناس لهم، وإجماع قومهم عليهم، فهم أول من عبد الله في الأرض، وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم.

وأنتم يا معشر الأنصار، من لا ينكر فضلهم في الدين، ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام، رضيكم الله أنصارًا لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفتاتون بمشورة، ولا تقضى دونكم الأمور.»

نحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفتاتون بمشورة، ولا تقضى دونكم الأمور، ما أقرب هذا القول من رأي الأنصار الذين قالوا: منا أمير ومن المهاجرين أمير، وهذا القول أدخل في باب النظام وأدنى إلى أن تسير الأمور سيرة صلاح وإصلاح. هذا حق، ولعل أبا بكر قصد إليه فكان قصده حسن السياسة وبعد النظر، ولعل الأوس الذين كانوا ينفسون على الخزرج قد استراحوا إليه، ولعل كثيرين من بني الخزرج أنفسهم لم ينفروا منه، فهذا أبو بكر لم يرد للمهاجرين أن يستبدوا بالأمر دون الناس كما فعل سعد بن عبادة، بل جعل الأنصار وزراء فأشركهم في الأمر ولم يشرك غيرهم، وإن كان من غيرهم في بعض أنحاء شبه الجزيرة من هم أكثر قوة وأعز نفرًا. وهو إنما أشركهم على الأساس الذي جعل به الإمارة للمهاجرين: مقامهم في السبق إلى نصر الرسول وتأييده. لا جرم إذن أن يستريح الجميع إلى هذا القول، فهو عدل كل العدل، وأساسه الحق كل الحق.

ورأى الذين أخذت منهم الحماسة للأنصار مأخذها ما ترك كلام أبي بكر في نفوس أهل السقيفة، وخشوا أن ينفض إجماعهم الأول وأن يغصبهم المهاجرون الأمر ويستأثروا بالسلطان دونهم، هنالك قام أحدهم فقال: «أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا وقد دفت دافة من قوامكم وإذا هم يريدون أن يختزلونا٤ من أصلنا ويغصبونا الأمر.» ولم يرض أبو بكر أن يذر مقامه بعد هذا الذي سمع، فتوجه كرة أخرى للأنصار فقال: «يا أيها الناس! نحن المهاجرين أول الناس إسلامًا، وأكرمهم أحسابًا، وأوسطهم دارًا، وأحسنهم وجوهًا، وأكثرهم ولادة في العرب، وأمسهم رحمًا برسول الله، أسلمنا قبلكم، وقدمنا في القرآن عليكم، فقال تبارك وتعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ (التوبة: ١٠٠) فنحن المهاجرون وأنتم الأنصار إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الفيء، وأنصارنا على العدو، أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، وأنتم أجدر بالثناء من أهل الأرض جميعًا؛ فأما العرب فلن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، فمنا الأمراء ومنكم الوزراء.»

كرر أبو بكر هذه الكلمة الأخيرة التي تركت من الأثر في النفوس أول ما قيلت ما توجس غلاة الأنصار معه خيفة، فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال: «يا معشر الأنصار! املكوا عليكم أمركم، فإن الناس في فيئكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولم يصدر الناس إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز والثروة، وأولو العدة والمنعة والتجربة، وذوو البأس والنجدة، وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون، فلا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم، وينتقض عليكم أمركم، أبى هؤلاء إلا ما سمعتم، فمنا أمير ومنكم أمير.»

لم يكد الحباب يفرغ من حديثه حتى نهض عمر بن الخطاب، وكان قد أمسك قبل ذلك عن الكلام طوعًا لأبي بكر، فقال: «هيهات لا يجتمع اثنان في قرن، والله لا ترض العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مُدلٍ بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكه!»

وأجاب الحباب عمر: «يا معشر الأنصار! املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه فأجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان ممن لم يكن يدين، أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب! أما والله إن شئتم لنعيدنها جذعة!»

قال عمر وقد سمع لهذا النذير: «إذن يقتلك الله!» وأجاب الحباب: «بل إياك يقتل!»

هاتان العبارتان الأخيرتان نذير شر، ولو أن الحباب كانت في جانبه كثرة الأنصار لكان أيسر ما ينشأ عنها أن يضجوا وأن يسرعوا إلى نصرته بالإقبال على مبايعة سعد بن عبادة، وليفعل المهاجرون بعد ذلك ما يشاءون، ولعل طائفة منهم قد تغامزت بذلك أو بشيء يشبهه يكون جوابًا لهذا الحوار العنيف بين عمر والحباب، بل لقد ذكر الطبري أن الحباب انتضى سيفه وهو يتكلم، فضرب عمر يده فسقط السيف، فأخذه عمر ثم وثب على سعد بن عبادة، على أن أبا عبيدة بن الجراح تدخل في الأمر وكان قد لزم الصمت إلى تلك اللحظة، فقال موجهًا حديثه إلى أهل المدينة: «يا معشر الأنصار! كنتم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بدَّل وغيَّر.»

وانتهز بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير من زعماء الخزرج هذه الكلمة الحكيمة من أبي عبيدة فقام بين قومه وقال: «إنا والله وإن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين، ما أردنا به إلا رضا ربنا، وطاعة نبينا، والكدح لأنفسنا، فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك ولا نبتغي من الدنيا عرضًا؛ فإن الله ولي النعمة علينا بذلك، ألا إن محمدًا من قريش وقومه أحق به وأولى، وايم الله لا يراني الله أنازعهم في هذا الأمر أبدًا، فاتقوا الله ولا تخافوهم ولا تنازعوهم.»

وأجال أبو بكر بصره في الأنصار ليرى ما تركت مقالة بشير من الأثر فيهم، فألفى الأوس وكأنما يهمس بعضهم في أذن بعض، وألفى بني الخزرج يبدو على الكثير منهم أن قول بشير أقنعهم، فأيقن أن الأمر قد استوى وأن اللحظة لحظة الفصل فلا ينبغي أن تترك، وإذ كان جالسًا بين عمر وأبي عبيدة فقد أخذ بيد كل منهما، وقال يدعو الأنصار إلى الجماعة ويحذرهم الفرقة ثم أردف: «هذا عمر وهذا أبو عبيدة، فأيهما شئتم فبايعوا.»

هنالك كثر اللغط وخيف الاختلاف، أيبايعون عمر وهو على ما هو عليه من شدة، وهو مع ذلك وزير النبي وأبو حفصة أم المؤمنين! أم يبايعون أبا عبيدة ولم يكن له إلى يومئذ في المسلمين ما كان لعمر من كلمة ومقام! لكن عمر لم يدع لهذا الخلاف أن تنبت شجرته؛ فقد نادى بصوته الجهوري: «ابسط يدك يا أبا بكر.» وبسط أبو بكر يده فبايعه عمر وهو يقول: «ألم يأمر النبي بأن تصلي أنت يا أبا بكر بالمسلمين! فأنت خليفة الله، فنحن نبايعك لنبايع خير من أحب رسول الله منا جميعًا.»

وبايع أبو عبيدة وهو يقول: «إنك أفضل المهاجرين، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة أفضل دين المسلمين، فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك!» وإن عمر وأبا عبيدة يبايعان أبا بكر إذ أسرع بشير بن سعد فبايعه.

عند ذلك ناداه الحباب بن المنذر: يا بشير بن سعد، عققت، ما أحوجك إلى ما صنعت! أنفست الإمارة على ابن عمك! (يقصد ابن عبادة).

قال بشير: لا والله! ولكني كرهت أن أنازع قومًا حقًّا جعله الله لهم.

والتفت أسيد بن حضير زعيم الأوس إلى قومه وهم ينظرون إلى ما صنع بشير بن سعد وقال لهم: «والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبًا أبدًا، قوموا فبايعوا أبا بكر!» وقام الأوس فبايعوا أبا بكر، ثم قام من الخزرج من اطمأنوا إلى كلام بشير يبايعون مسرعين، حتى ضاق بهم المكان من السقيفة، وكاد الناس في تكاثرهم على البيعة يطئون سعد بن عبادة، فقال ناس من أصحابه: اتقوا سعد لا تطئوه. قال عمر: اقتلوه قتله الله! ووجه إلى سعد كلامًا عنيفًا، فقال له أبو بكر: «مهلًا يا عمر! الرفق هاهنا أبلغ.» وحمل سعدًا أصحابه فأدخلوه داره حيث بقي أيامًا ثم قيل له: «أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك.» وأبى سعد أن يبايع وقال: «وأما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل، وأخضب سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي، فلا أفعل!» فلما اتصل هذا الحديث بأبي بكر قال له عمر: «لا تدعه حتى يبايع.» وخالف بشير رأي عمر فقال: «إنه قد لج وأبى، وليس بمبايعكم حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته، فاتركوه؛ فليس تركه بضاركم، إنما هو رجل واحد.»

وسمع أبو بكر إلى رأي بشير وأجازه، وتركوا سعدًا؛ فكان لا يصلي بصلاتهم، ويحج ولا يفيض بإفاضتهم، وأقام على ذلك حتى مات أبو بكر.

تمت بيعة أبي بكر بالسقيفة وجثمان النبي لا يزال في بيته من حوله أهله: علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب ومن اشترك معهم في جهازه، وعلى مقربة منهم في المسجد طائفة من المهاجرين، وتمت هذه البيعة كما رأيت في أحوال جعلت بعض الرواة ينسب إلى عمر بن الخطاب أنه قال: إنها كانت فلتة. فأما غير هؤلاء الرواة فيرى أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة ذهبوا على اتفاق بينهم أن يكون الأمر لأبي بكر، وأيما هاتين الروايتين صحت فالذي لا مرية فيه أن ما تم في السقيفة قد وقى الإسلام الناشئ فتنة ليس يعلم إلا الله ما كان يحدث فيها، وقد مهد للقضاء على كل خلاف بين المسلمين، كما مهد للسياسة التي رسمها الرسول أن تنجح النجاح الذي مهد للإمبراطورية الإسلامية من بعد، والذي أذاع دين الله بفضل منه جل شأنه في مشارق الأرض ومغاربها.

ومن يوم السقيفة لم يبق للأنصار في ولاية أمر المسلمين مطمع أو مأرب، فقد كانت بيعة عمر بن الخطاب ثم بيعة عثمان بن عفان، ثم كان الخلاف بين علي ومعاوية، ولم يكن للأنصار من ذلك كله إلا نصيب سائر العرب، وكأنما آمنوا بما قال أبو بكر من أن العرب لن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، بل كفاهم من بعد ذلك أن عاشوا في كنف المهاجرين مطمئنين إلى وصية رسول الله في مرضه الأخير حين قال: «يا معشر المهاجرين، استوصوا بالأنصار خيرًا، فإن الناس يزيدون والأنصار على هيئتها لا تزيد؛ وإنهم كانوا عيبتي التي أويت إليها، فأحسنوا إلى محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم.»

•••

لم يلبث أبو بكر وسائر من كانوا بالسقيفة حين تمت البيعة أن عادوا إلى المسجد والوقت مساء والمسلمون مع ذلك يتلقفون الأنباء من بيت عائشة عن جهاز الرسول، وفي الغد من بعد ذلك اليوم جلس أبو بكر في المسجد، فقام عمر يعتذر عما تحدث به إلى المسلمين بالأمس من أن النبي لم يمت فقال: «إني قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت مما وجدت في كتاب الله، ولا كانت عهدًا عهده إليَّ رسول الله، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا ويبقى ليكون آخرنا، إن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسوله، فإن اعتصمتم به هداكم الله كما هداه به، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوا.» فبايع الناس جميعًا بيعة العامة بعد بيعة الخاصة بالسقيفة.

وقام أبو بكر بعد أن تمت البيعة وألقى في الناس خطابًا كان أول حديث له في خلافته، ثم كان آية من آيات الحكمة وفصل الخطاب، قال (رضي الله عنه) بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «أما بعد، أيها الناس! فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.»

أفكانت بيعة العامة هذه بيعة إجماع من المسلمين لم يتخلف عنها أحد ما تخلف سعد بن عبادة عن بيعة الخاصة بالسقيفة؟ المشهور أن طائفة من كبار المهاجرين تخلفوا عنها، وأن علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب من بني هاشم كانا من المتخلفين، ذكر اليعقوبي أنه قد «تخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ومالوا مع علي بن أبي طالب، منهم العباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، والزبير بن العوام بن العاص، وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأبي بن كعب»، وأن أبا بكر شاور عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة في أمرهم، فأشاروا عليه أن يلقى العباس بن عبد المطلب وأن يجعل له في الأمر نصيبًا يكون له ولعقبه من بعده، فيقع الخلاف بذلك بينه وبين ابن أخيه علي بن أبي طالب، فيكون ذلك حجة لأبي بكر وأصحابه به على علي، وقد فعل أبو بكر ما أشاروا به، وقال للعباس في حديث طويل: «ولقد جئناكم ونحن نريد أن يكون لك في هذا الأمر نصيب يكون لك ويكون لمن بعدك من عقبك إذ كنت عم رسول الله.» ورد العباس هذا العرض بعد حديث أورده اليعقوبي كذلك: «إن كان هذا الأمر لنا فلا نرضى ببعضه دون بعض.»

وفي رواية ذكرها اليعقوبي، وذكرها غيره من المؤرخين، ولا يزال لها الشهرة، أن جماعة من المهاجرين والأنصار اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في دار فاطمة بنت رسول الله يدعون إلى مبايعته، وبينهم خالد بن سعيد يقول: «فوالله ما في الناس أحد أولى بمقام محمد منك!» وبلغ أبا بكر وعمر اجتماعهم بدار فاطمة، فأتيا في جماعة حتى هجموا الدار، وخرج علي ومعه السيف، فلقيه عمر فصارعه فصرعه وكسر سيفه ودخلوا الدار، فخرجت فاطمة وقالت: «والله لتخرجن أو لأكشفن شعري ولأعجن إلى الله.» فخرجوا وخرج من كان في الدار، وأقام القوم أيامًا ثم جعل الواحد بعد الواحد يبايع، ولم يبايع علي إلا بعد وفاة فاطمة، أي بعد ستة أشهر، وقيل في رواية: إنه بايع بعد أربعين يومًا، ويروى أن عمر بن الخطاب جمع الحطب حول دار فاطمة وأراد أن يحرقها أو يبايع علي أبا بكر.

وأشهر الروايات في تخلف علي وبني هاشم وأكثرها ذيوعًا ما أورده ابن قتيبة في الإمامة والسياسة وما شاكله من روايات من عاصره أو تأخر عنه، وهي تجري بأن عمر بن الخطاب ذهب في عصابة إلى بني هاشم بعد أن تمت البيعة لأبي بكر، وطلب إليهم أن يخرجوا فيبايعوا كما بايع الناس، وكان بنو هاشم في بيت علي، وقد أبوا وأبى من كان معهم أن يجيبوا دعوة عمر، بل خرج الزبير بن العوام إلى عمر وأصحابه بالسيف، فقال عمر لأصحابه: عليكم بالرجل فخذوه، فأخذوا السيف من يده، فانطلق فبايع، وقيل لعلي بن أبي طالب: بايع أبا بكر، فقال: «لا أبايعكم وأنا أحق بهذا الأمر منكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي ، وتأخذونه منا أهل البيت غصبًا، ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم، فأعطوكم المقادة وسلموا إليكم الإمارة! فإذن أحتج عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار، نحن أولى برسول الله حيًّا وميتًا، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون، وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون.»

قال عمر: «إنك لست متروكًا حتى تبايع!»

وأجاب علي في حرارة وقوة: «احلب حلبًا بك شطره، وشد له اليوم يردده عليك غدًا، والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه.»

وخشي أبو بكر أن يبلغ الحوار بهما إلى العنف، فتدخل بين الرجلين وقال: «فإن لم تبايع فلا أكرهك.»

وتوجه أبو عبيدة بن الجراح إلى علي متلطفًا فقال: «يا بن عم، إنك حديث السن، وهؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك وأشد احتمالًا واستطلاعًا، فسلم لأبي بكر هذا الأمر؛ فإنك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق وحقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك.»

هنا ثار ثائر علي وقال: «الله الله يا معشر المهاجرين! لا تُخرجوا سلطان محمد في العرب من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم وتدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله، يا معشر المهاجرين، لنحن أحق الناس به لأننا أهل البيت، ونحن أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، الدافع عنهم الأمور السيئة، القاسم بينهم بالسوية، والله إنه لفينا، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحق بعدًا.»

وكان بشير بن سعد حاضرًا هذا القول فيما يروي رواته، فلما سمعه قال: «لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلفت عليك.»

خرج علي محنقًا غاضبًا، فذهب إلى فاطمة فخرج بها من دارها فحملها على دابة ليلًا فأخذ يطوف بها مجالس الأنصار تسألهم النصرة، فكانوا يقولون: «يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به.»

ويجيبهم علي وقد زاده هذا الجواب غضبًا: «أفكنت أدع رسول الله في بيته لم أدفنه وأخرج أنازع الناس سلطانه!» وتردف فاطمة: «ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم عليه وطالبهم.»

هذا هو المشهور عن موقف علي بن أبي طالب وأصحابه من بيعة أبي بكر، وينكر بعض المؤرخين هذا المشهور من تخلف بني هاشم أو غيرهم من المهاجرين إنكارًا صريحًا، ويذكرون أن أبا بكر بويع بعد السقيفة بإجماع لم يتوقعه أحد.

روى الطبري حديثًا بإسناده أن سعيد بن زيد سئل: أشهدت وفاة رسول الله ؟ قال: نعم، قيل: فمتى بويع أبو بكر؟ قال: يوم مات رسول الله ، كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة، قيل: أخالف عليه أحد؟ قال: لا، إلا مرتد أو من قد كاد أن يرتد لولا أن الله عز وجل ينقذهم من الأنصار، قيل: فهل قعد أحد من المهاجرين؟ قال: لا، تتابع المهاجرون على بيعته من غير أن يدعوهم. وفي رواية أن علي بن أبي طالب كان في بيته إذ جاءه من أنبأه أن أبا بكر قد جلس للبيعة، فخرج في قميص له ما عليه إزار ولا رداء عجلًا كراهية أن يبطئ عنها حتى بايعه، ثم جلس إليه وبعث إلى ثوبه فأتاه فتجلله ولزم مجلسه.

وتجري بعض الروايات في أمر علي وبيعته مجرى وسطًا بين ما قدمناه، من ذلك ما قيل من أن أبا بكر صعد المنبر عقب البيعة فنظر في وجوه القوم فلم ير الزبير، فدعا به فجاء فقال له: ابن عمة رسول الله وحواريه، أردت أن تشق عصا المسلمين! فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله، فقام فبايعه، ثم نظر في وجوه القوم فلم ير عليًّا، فدعا به فجاء فقال له: ابن عم رسول الله وختنه على ابنته، أردت أن تشق عصا المسلمين! فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله، فقام فبايعه.

وتذهب طائفة من الروايات إلى أن بني أمية هم الذين أرادوا أن يثيروا الثائرة بين بني هاشم وأبي بكر، قيل لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول: والله إني أرى عجاجة لا يطفئها إلا دم، يا آل عبد مناف، فيم أبو بكر من أموركم؟! أين المستضعفان! أين الأذلان علي والعباس! وأنشد يتمثل:

ولا يقيم على ضيم يراد به
إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف محبوس برمته
وذا يُشج فلا يبكي له أحد

على أن الروايات التي ذكرها هذا الحديث لأبي سفيان تكاد تجمع على أن عليًّا أبى أن يتابعه، وأنه قال له: «إنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك والله طالما بغيت الإسلام شرًّا!» أو قال له: «يا أبا سفيان، طالما عاديت الإسلام وأهله فلم تضره بذلك شيئًا، إني وجدت أبا بكر لها أهلًا.»

•••

والذين ينفون تخلف علي عن البيعة يذهبون إلى أن روايات تخلفه قد وُضعت من بعد، ويرجحون أنها وضعت في عهد العباسيين لغايات سياسية، ويقولون إنها استندت إلى واقعة متفق على صحتها، ولكنها لا تتصل بالبيعة في قليل ولا كثير، هذه الواقعة أن فاطمة ابنة النبي والعباس عمه أتيا أبا بكر بعد استخلافه يطلبان ميراثيهما من رسول الله في أرض فدك وفي سهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر: «أما إني سمعت رسول الله يقول: «نحن معاشر الأنبياء لا نُورث، ما تركناه صدقة.» إنما يأكل أهل محمد في هذا المال، وإني والله لا أدع أمرًا رأيت رسول الله يصنعه إلا صنعته.» فغضبت فاطمة لذلك وهجرت أبا بكر فلم تكلمه في ذلك حتى ماتت، فدفنها علي ليلًا ولم يُؤذن بها أبا بكر، وقد مكثت فاطمة ستة أشهر بعد وفاة أبيها، وكان علي يغاضب أبا بكر غضبًا لها، فلما ماتت مال إلى مصالحته وصالحه.

هذا حديث فاطمة وعلي ومقاطعتهما أبا بكر بعد بيعته، أما ما يضاف إلى هذا الحديث من أن عليًّا امتنع من البيعة إلى أن ماتت فاطمة، وأن أبا بكر ذهب بعد ذلك إليه في منزله فألفاه في بيت بني هاشم، وأن عليًّا قام حين ذاك وقال: إنه لم يمنعنا من أن نبايعك إلا أنا كنا نرى لنا في هذا الأمر حقًّا فاستبددتم به علينا. وأن أبا بكر ذكر في جوابه: «والله ما ألوت في هذه الأموال التي كانت بيني وبينكم غير الخير.» أما ما يضاف من ذلك كله فيرده من ينفون تخلف علي عن البيعة بأن الحديث لم يتخط هذه الأموال، وأن فاطمة والعباس ما كانا ليطالبا أبا بكر بها قبل أن يبايعه المسلمون جميعًا بالخلافة؛ لأنه لم يكن له قبل ذلك في أمرها رأي.

يرجح أكثر الذين ينفون التخلف عن البيعة أن روايات هذا التخلف وضعت في عهد العباسيين لغايات سياسية؛ أما سائرهم فيرجحون أنها وضعت قبل ذلك، ومنذ اختلف بنو هاشم وبنو أمية على الأمر إبان حروب علي ومعاوية.

وهؤلاء يقولون: إن امتداد الفتح إلى العراق وفارس أدى بجماعة من الفرس لابتداع هذه الأقاويل، وقد استجمت هذه الجماعة من الفرس بعد انتصار الأمويين وأقامت في استجمامها تتحين الفرص حتى تهيأت لأبي مسلم الخراساني، فكان من أمره وأمر العباسيين ما كان.

فأما الذين يقولون بتخلف علي وبني هاشم عن البيعة أربعين يومًا أو ستة أشهر، وقولهم هو المشهور كما قدمنا، فيستندون إلى ما سبق من الروايات، وإلى أن عليًّا والذين تخلفوا معه لم يشتركوا في جيش أسامة، مع ما كان لعلي من شجاعة وبأس في القتال اشتهر بهما في غزوات النبي، واشتهر بهما من بعد في جميع أدوار حياته، وهم يردون قول الذين ينفون التخلف عن البيعة بأن حجة المهاجرين على الأنصار في ولاية الأمر كانت أنهم أدنى صلة بالنبي، وأن العرب لا تعرف إلا قريشًا؛ لأنهم سدنة الكعبة والذين تشخص إليهم أبصار الناس جميعًا من أهل شبه الجزيرة، وهذه الحجة هي بذاتها سند بني هاشم في التقدم على غيرهم لخلافة رسول الله؛ فلا غرو أن يستمسكوا بها وأن يؤدي ذلك إلى تخلفهم عن بيعة أبي بكر، وذلك ما فعل علي، وتلك كانت حجته وحجة أصحابه، فإذا هم رضوا البيعة من بعد فإنما فعلوا حتى لا تكون فتنة تفسد إجماع المسلمين، وبخاصة بعد أن ظهرت في العرب الردة، وبعد أن انتفض العرب على سلطان المدينة انتفاضًا أوشك أن يهدد انتشار الدين الذي جاء به محمد من عند الله.

على رغم هذا الخلاف بين الرواة في أمر البيعة واشتراك بني هاشم وسائر المهاجرين فيها أو تخلف جماعة منهم عنها، فالاتفاق تام على أن أبا بكر ولي الأمر بعد الرسول غير منازع منذ اليوم الأول، ولم يذكر أحد من القائلين بالتخلف عن بيعته أن واحدًا من بني هاشم أو من غيرهم حاول أن يثير ثائرة مسلحة أو هم بمناهضة الخليفة الأول، أفكان ذلك لمكانة أبي بكر من رسول الله، حتى قال: لو كنت متخذًا من العباد خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، أم كان لصحبته رسول الله في الهجرة ولما تحلى به من فضائل وما كان له في نصر الرسول من مواقف، أم كان لأن رسول الله أنابه عنه في الصلاة أثناء مرضه الأخير؟ أيًّا كان السبب الذي دعا المسلمين لبيعة أبي بكر بالخلافة ويوم وفاة النبي، فالثابت أنه لم يناهضه أحد ولم ينضم إلى من تخلف عن بيعته أحد، وذلك ينهض دليلًا على أن المسلمين الأولين تصوروا الخلافة بغير ما تصورها خلفهم من بعد منذ الدولة الأموية، وأنهم كانوا أدنى في تصورها إلى معاني الحياة العربية البحتة القريبة منهم، والتي كانت معروفة في أنحاء شبه الجزيرة قبل مبعث النبي (عليه السلام)، فلما اتسعت رقعة الفتح الإسلامي واختلط العرب بغيرهم من أهل الأمم التي فتحوا، تغير تصور المسلمين لفكرة الخلافة تبعًا لهذا الاختلاط ولهذه السعة في المملكة الإسلامية.

تصور المسلمون الخلافة تصورًا عربيًّا بحتًا، فالمتفق عليه أن النبي لم يوص بالخلافة لأحد، وما حدث يوم الوفاة من تنازع الأنصار والمهاجرين في سقيفة بني ساعدة، وما لعله حدث من خلاف بين بني هاشم وسائر المهاجرين بعد بيعة العامة، لا يذر محلًّا للشبهة في أن أهل المدينة اجتهدوا في أمر الخلافة عند اختيار الخليفة الأول، وأنه لم يكن لذلك سند في كتاب ولا سنة؛ فاختار المقيمون بالمدينة من رأوه أصلح المسلمين لتولي أمورهم، ولو أن الأمر امتد إلى ما وراء المدينة من قبائل العرب لكان الشأن غير ما كان، ولما كانت بيعة أبي بكر فلتة موفقة، على حد تعبير عمر بن الخطاب.

ولم تكن السُّنة التي اتبعت في اختيار أبي بكر هي التي اتبعت في اختيار الخليفتين من بعده: عمر وعثمان، فقد أوصى أبو بكر قبل وفاته باختيار عمر بن الخطاب، ثم جعل عمر الخلافة من بعده في ستة ذكرهم بأسمائهم وترك لهم أمر اختيار أحدهم، فلما كان مقتل عثمان وما حدث على أثره من خلاف بين علي ومعاوية، استتب الأمر للأمويين يتوارثه الأبناء عن الآباء، أما وتلك رواية الحوادث فلا محل للقول بأن لولاية الأمر في الإسلام نظامًا مقررًا، وإنما هو اجتهاد أملته الأحداث في أحوال الجماعة الإسلامية المتغيرة، وأملته على صور مختلفة تلائم تغير هذه الأحوال.

وكان النظام الذي سار عليه أبو بكر عربيًّا بحتًا كذلك، وكان لاتصاله الزمني الوثيق بعهد النبي، ولاتصال الصديق نفسه بالرسول وتأثره به على النحو الذي سبق تصويره، أثر فيه لم يلبث أن تغير من بعد بحكم الأحوال وبحكم امتداد الفتح الإسلامي، وقد ظل هذا التغير في نظام الحكم يجاري البيئة التي يقوم فيها، حتى لم يكن ثمة وجه للشبه بين العهد العباسي في أوج مجده وعهد الخليفة الأول أبي بكر، ولا بينه وبين عهود عمر وعثمان وعلي.

وعهد أبي بكر يكاد يكون فريدًا في نوعه؛ فهو الاتصال الطبيعي لعهد الرسول في السياسة الدينية، وفي السياسة الزمنية، صحيح أن الدين كان قد كمل، ولم يبق لأحد أن يغير فيه أو ينسخ منه، لكن العرب ما لبثت حين مات النبي أن فكرت في الردة، وأن ارتد الكثير من قبائلها؛ فلم يكن لأبي بكر بد من أن يضع لتلافي هذا الأمر الخطير خطة ينفذها، وكان النبي قد بدأ مع الدول التي تجاوره سياسة تتصل بدعوته؛ فلم يكن لأبي بكر مفر من متابعتها.

كيف فعل في هذه وفي تلك؟ ذلك ما سنفصله من بعدُ.

١  الفهة: السقطة والجهلة.
٢  زويت: جمعت. ويروى: «زورت».
٣  الشنف: البغض
٤  أن يختزلونا: أن يقتطعونا ويذهبوا بنا منفردين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤