الرسالة الحادية عشرة

تقول أيها الصديق: «ألا زدني ثم زدني فإن ليلك الحزين قد تفجر لك بصبح من تلك الشمس، وإن قلمك ليجمع أشعة النجوم ويصور منها ذلك القمر، وإنك لأنت المحب الذي يخرج من جنونه العقل الكامل، ولئن كانت تلك الحبيبة قد اختلجت نفسها١ من يدك فما ذلك إلا أنها مَلك مد إليك جناحه وأمكنك منه، ثم انفلت ليدع في يدك الريشة السماوية التي تصوره بها».

كذلك كانت تقول هي: «أنا لا أخشى غضبك فإن غضبك عليَّ لا يكون إلا السحابة المطرزة بخيوط البرق تهبط في ألوانها مذهبة وتجلجل بأجراسها من بعيد؛ لأنها تحمل إليك ملك الوحي الذي لا ينزل عادة إلا في جو من البرق والرعد».

•••

ما كثرت أمراض التأويل في شيء كثرتها في تعرف حقيقة الجمال؛ على أن هذه الحقيقة لا تُستخرج إلا من الدم، فلو فتشت عنها السماء والأرض فلسفة لجئت فيها بملء السماء والأرض كلامًا كذبًا.

الجمال في حقيقته التي لا تختلف إنما هو معنى من المعاني الحبيبة يعلق بالنفس فيُحدث فكرًا متمكنًا تتطاوع له هذه النفس العاشقة حتى ينطبع في أعصابها فيستولي على الإنسان كله بجزء من عقله؛ ومن ثم يتقيد المحب بقيد لا فكاك له؛ إذ لا يجد ما ينتزعه من عقله أو ينتزع عقله منه إلا أن يموت أو يُجن، وهو من ذلك المعنى محتبس في قفل لو ضغطت عليه السموات والأرض لما تسنى ولا انكسر، وليس إلا الحبيبة وحدها هي فتحه وإغلاقه.

بهذا يكون الجمال على مقدار ما يُحسن الإنسان أن يفهم منه، ثم على مقدار ما يُؤثر من هذا الفهم، ثم على مقدار ما يثبت من هذا التأثير، وتلك هي درجاته الثلاث: فجمال تستحسنه، وآخر تعشقه، وجمال تُجن به جنونًا.

والأول تجود به الطبيعة في أشياء كثيرة، بل هو الأصل في الخلق، ولكنا لا نتنبه منه إلا لما نجد فيه روحًا على القلب ورقة للنفس وترفيهًا لهما؛ وهذا الجمال خاضع للإنسان، ومن ثم فلا سلطان له إلا بعض الميل والرغبة في النفس، ومنه كل مناظر الطبيعة.

والثاني تعلو به الطبيعة عن هذه الطبقة وتُنزله منزلة أعلاقها وذخائرها النفيسة، وتتسلط به على بعض النظام الإنساني كما تتسلط بهذا النظام على بعضه فيحب الإنسان ويسلو، ويمرض بالحب ثم يصنع بيده دواء مرضه ويشرب منه السلوان والعافية … إذ هو بإزاء الجمال الذي يتسلط من ناحية ويخضع من ناحية تقابلها.

والثالث لا يجده من يجده إلا مرة واحدة كما أنه لا يموت إلا مرة واحدة، وهو من خوارق الطبيعة التي كل نظامها أن العقل لا يعرف لها نظامًا؛ وما هو إلا أن يصوب الإنسان رأسه فإذا هو عند جنون الحب، وإذا هو بجنونه فوق العقل والمعقول.

فالمرأة في عين محبها المفتون أجمل من مسحت يد الله على وجهها من النساء فتركت الأثر الإلهي يتسلط في سحر عينيها، وطبعت المعنى الناري يتلهب في شعاع خديها، وأودعت روح الجنة أمانة بين شفتيها؛ ووصلت بين الرحمة والنفوس بذلك النور المتلألئ في ثغرها؛ وبين النقمة والقلوب بتلك النار المستعرة من هجرها، وأضافت إلى النواميس النافذة في الكون فتور عينيها وتنهدات صدرها.

ويراها المحب فما يحسب إلا أن قطعة من السماء قد صارت ثوبًا لجسمها، وأن قدرًا من الأقدار قد نشأ على الأرض وسُمِّي باسمها؛ وإذا نظر إليها علم بدلالة وجهها أنها من القمر، وإذا نظرت هي إليه أعلمته بدلالة لحظها أنها من القدر.

وتسالمه فيحل سلام الدنيا كلها في قلبه، وتغاضبه فيقع في حرب هذه الحياة وتقع الحياة في حربه، وإذا ضاقت الجميلة به ساعة واحدة لم يبق له بالعمر استطاعة، وإذا كان الهرم بالسنين الطويلة هرم في هجرها بالدقيقة والساعة.

ويرى لو أن الجمال نفسه خُلق امرأةً لكانها، ولو جادل أحد في المحاسن لجعلتها المحاسن برهانها، فهي تُقبل بوجهها الفتان كما تُقبل السعادة بالأمل الوسيم، وتختال بمعانيها النسائية كما تهب روائح الأزهار في النسيم؛ رَفَّافة على الحب كأنها خلقت في جنة الحب ريحانة، مسكرة للعاشقين كأن نهر الخمر في الجنة جعل فمها لهذا العاشق حانة، صافية يترقرق في حسنها ماء دلالها، وتشرق بالقمر الأزهر من وجهها سماء جمالها، ولا تُشبه إلا نفسها كما لا يُشبهها إلا ما تُبدي المرآة من خيالها.

ويغلو فيفسر النظرة منها تفسير الفقيه المتكلم للآية، ويقف عند الابتسامة وقوف السابق إذا فاز عند الغاية، وينظر إليها في ثوبها ولكن كما ينظر القائد إلى مجد وطنه في الراية، ويسمع صمتها كأنه كلام بين نفسه وبينها، ويعي كلامها فلا تدري أأنطقت به فمها أم أنطقت به عينها؛ فهي بجملتها ليس فيها من الحسن إلا وحي وتنزيل، وهو بجملته ليس فيه من الحب إلا تفسير وتأويل، ثم هي وحدها القاعدة العامة في الجمال وهو وحده البرهان والدليل.

وتراه ينظر إليها ولكنه من سحر جمالها كأنه يتوهمها، ويعرفها ولكنه من سطوة جلالها كأنه لا يفهمها، ثم تعلو فما يشرق حسنها عليه إلا كالمعنى الأزلي من جانب في الغيب، ثم تعظم فلا يدرك ما فيها من الحقيقة السماوية إلا على طريقة أهل الأرض في إدراك الحقائق العظمى بالإيمان والريب.

•••

تلك هي الحبيبة الجميلة لا تعرف إن كان الجمال في شخصها أو في الجزء المتصل منك بشخصها، أو في الذي هو متصل بك من شخصها، فهي جميلة من ناحيتك ومن ناحيتها ومما بينهما؛ وهذا هو الذي يجعلها فوق الجمال الإنساني بطبقتين لا تسمو امرأة إلى واحدة منهما؛ ويجعلك ترى ما فيها من الإبهام جمالًا لا تفسير له وما فيهما من التفسير جمالًا مبهمًا؛ فكأنها في كل ذلك دائرة مرسومة من الفكر لا يهديك البحث إلى موضع طرفيها، وهي محيطة بروحك من ثلاث جهات فلم يبق لك إلا الجهة التي تتصل روحك منها بيد الله، وهذا هو موضع التأليه في الجمال المعشوق؛ إذ لا يدعك الحب معه إلا بين شيئين اثنين: الحبيبة والخالق.

ألم تر إلى شعراء الدنيا وهم أنبياء الجمال الذي لا تتصل ملائكته بغيرهم ولا يفهم غيرهم ما يفهمون منها؛ كيف يشبهون الحسن الرائع بكل ما في الخليقة من مظاهر الروعة، فيتناولون من الآفاق والسحب والبروق والرعود ومن الشمس والقمر والنجوم والأفلاك، ومن الخلد والجنة والنار؛ ويأخذون من الجبال والبحار والأنهار ومن الرياض والأزهار، ثم من الطير والوحش ثم من المعادن وأفلاذ الأرض، ومن كل ما ختمت عليه يد الله بروعة أو طبعت عليه برهبة؛ ويجمعون ذلك ثم يفيضونه في أوصاف الجميلة وجمالها حتى لكأنها ذلك السر الذي قام به حسن الخليقة، وحتى كأنه الله لم يخلقها إلا ليكون كل شيء فيها تفسيرًا لشيء ما في آية من آياته، وما ذلك بمبالغة من الشعراء ولكن أرواحهم الجميلة قد أحيط بها من هذا الجمال النسائي، فأينما أحسوا رأوا له صلة بإحساسهم وضرب في أفئدتهم عرق منه فانقدح له شعاع يطير إلى الفكر؛ لأنه بعض القوة الموجهة إليه من الروح المفكر.

إن الجميلات إنما هن كواكب الأرض يدرن في أفلاك القلوب؛ ولست ترى فلكيًّا يرصد نجوم السماء إلا ولعينيه منظار تكبر فيه الأشياء٢ أضعافًا إلى أضعافها فيدنو بالبعيد ويجهر بالخفي، وعاشق الجميلة حين يهيم بها ويرصد منها نجم خياله في فلك أمانيه لا يلبث أن يرى الجمال قد جسَّم فيه الحس وبسط له ضوء الفكر، فإذا عينه في تكبير نجمة الأرض كذلك المنظار بعينه في تكبير نجمة السماء، وإذا ملء العين حبيبها.
فيا كبدي مما ألاقي من الهوى
… … … … …
١  انتزعت نفسها كناية عن الهجر.
٢  اصطلحوا على تسميته بالمِرْقَب وهو التلسكوب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤