الرسالة الرابعة

ما أحلاه كلامًا وأنداه على كبدي هذا الذي تقوله في كتابك: «لو كانت تلك الفتاة الساحرة شجرة يابسة قد تحاتت،١ وكان النساء كلهن شجرًا أخضر لأورقت عليك وأثمرت، فإن فيك وفيها القوة والسبب، ومن مثل هذه القوة وهذا السبب تخرج معجزات الحب»، آه لو صح ذلك، إن بعض الرجال يكون في صفاته كذبًا على الرجال فهذه والله كذب على النساء، ولو جاز لقلت: إنها ولدت خطأ في هذا الجلد؛ بل ما وضعها الله فيه إلا لعلمه بها، وليجعل منها علمًا لمن شاء أن يدرس بروح الرجل المحب أو المبغض جمالًا شاذًّا في روح امرأة تحتمل الحب والبغض معًا، لم يكن فيَّ وفيها القوة والسبب بل القوة والقوة، وما كنا إلا كدولتين متحالفتين تمنع قوتهما أن تعتدي واحدة على واحدة، ويشق ذلك عليهما فتعبران عن لفظ القوة بلفظ أرق وأجمل وهو المحالفة؛ ثم يرق هذا اللفظ فتخرج منه الصداقة، ثم ترق هذه فيجيء منها الحب، ولا حب هناك ولا صداقة ولا محالفة، بل هي أساليب سياسية في لغة القوة حين تخشى وحين تطمع.

لقد أذكرتني بالشجرة اليابسة يومًا جميلًا وكلامًا أجمل منه فإنا باعث به إليك، وإن كان قد بعد به العهد؛ إذ وقع أول معرفتي بها في قرية … بلبنان، هناك زهر أصفر يلوح للعين كوجوه الدنانير يسمونه «الوزال» وهو طيب الرائحة، ولكنه خبيث النبتة لا يكون إلا في مثل الرماح من الشوك، وكان لها ولع شديد بهذا الزهر لطبع من أشواكها وأشواكه فقد نلت من كليهما … وسنحت لها على زهرة منه فراسة زاهية مصبوغة فوثبت إليها واشتدت وراءها، وكانت الفراشة تفوتها وتستطرد لها، وتعبث بها عبثًا بين أن تلوح وتختبئ، ثم رجعت «الفراشة الكبيرة» بعدما انقطعت وقد تزاحمت الأنفاس على صدرها، وجعل قلبها يغيظني بدقاته غيظًا شديدًا؛ إذ كان يخفق من البهر والإعياء لا من شيء آخر … وتساقطت تحت شجرة من التين فلما أراحت وثابت إليها نفسها قالت: فراشة لا تبلغ عقدة إصبع من ثوبي وتعنيني هذا العناء كله ثم أرتد عنها خائبة؟ قلت: بل خائبة خيبة المفلس يعدو يومه وراء «الدينار الطائر» فلا يدركه، فاجتذبتها إليّ كلمة «الدينار الطائر»، ومن خصائصها أنها لا تعجب بشيء إعجابها بدقة التعبير الشعري، وسأستوفي لك هذا في رسالة أخرى، إنها تريد أن تجمع إلى صفاء وجهها وإشراق خديها وخلابتها وسحرها؛ صفاء اللفظ وإشراق المعنى وحسن المعرض، وجمال العبارة، وهذا هو الحب عندها؛ تحبك كما تحب كلمة تكتبها أو معنى تتخيله، فإذا سئمتك لم تكن عندها إلا الثالثة … إلا صحيفة تمزقها …

•••

ورفعتْ رأسها إلى الخيمة الخضراء ثم قالت: هذه شجرة تين، قلت: وماذا في أنها شجرة تين؟ قالت: ألا تعرف تينة الإنجيل؟ قلت: وإن في الإنجيل لتينة ليست كغيرها؟ قالت: كان من خبرها٢ أن المسيح مرَّ في جماعته وهو جائع فرآها من بعيد فينانة خضراء تهتز كأنها تدعوه ولم يكن إبان هذه الفاكهة؛ فعدل إليها لعله يجد فيها شيئًا يطعمه فلم يجد غير ورقها الذي لا يُؤكل، فقال لها: خسئت لا يأكلن منك أحد ثمرًا بعد اليوم، وانحدروا إلى أورشليم؛ ولما أصبحوا انقلبوا فمروا بشجرة التين فإذا هي خاوية قد نزعت ثوب نضرتها والتفت في كفن من اليبس وماتت واقفة، فرماها بطرس بعينيه وقال: انظر يا سيد إن هذه التينة التي مردت عليك فلعنتها قد ماتت وثراها حي بعد.

قلت: هذه لعمري هي المعجزة، تموت الشجرة وثراها حي، وتجري اللعنة في أعوادها فتتشرب ماءها وتتركها يبسًا لا تصلح إلا للحريق، وتنقلب الشجرة الخضراء في ليلة من خشب الله إلى خشب الناس، ولكن ما ذنب الشجرة المسكينة إذا لم يكن موعد فاكهتها ويريدها المسيح على غير طبيعتها؟ قالت: فإن الذنب في إخضرارها كأنها ذات ثمر، قلت: أوليس للثمر وقت قد مضى وهل الشجرة إلا شجرة؟ أم تحسبينها تدير الشمس وتقلب الفصول لتعقد الماء ثمرًا حلوًا؟ ألا إن الشمس تدور ثم يحين الفصل ثم ينعقد الماء ثم يحلو التين فينضج فيُؤكل، قالت: إنك لتجيء بالدواهي فماذا تقول أنت؟

أقول: اعلمي أن فيلسوفًا يونانيًّا كان قبل المسيح،٣ وكان يرى أن تلك الشجرة ومثلها مما سفل وعلا من قدم الكون إلى ذؤابته إنما هي الإرادة البشرية بعينها إلا أنها لم تكتمل لعلة ما، فكأن العالم عند هذا الفيلسوف إنسان غير سوي ذهب طوله في عرضه فلم يعرف شيء من شيء، وكأن الإنسان هو العالم الذي نما وتم، فالشجرة إن لم تكن من الإرادة كما يقول هذا الفيلسوف فهي من الحياة، وقد التقى منها ومن المسيح إنسان حي وشيء حي؛ والتقيا على خلاف انقلبت فيه إلى حياة ذات إرادة، وإرادة ذات كبرياء، وكبرياء في رعونة يختال بها جذع خشبي غائر في الأرض على جذع روحاني باسق في السماء؛ وتتيه عشبة الطين على زهرة الفلك الأعلى، والكبرياء كانت من شرها أول ما تمرد به الشيطان على الله،٤ وأول ما لعن الله به الشيطان، وحسبها من الشر أنها ذهبت بجميع حسنات شيخ الملائكة (كان٥ …) فهوى بعدها من لعنة الله في أعماق لا تنتهي، ولا يزال فيها طائرًا إلى أسفل … وما برحت هذه الكبرياء ثقيلة على الأرواح الصافية الكريمة ولو كانت ممن تحق له، ولو كانت من شجرة تحييها الشمس ويقوم على حفظها ناموس الكون، والمسيح لم يفر إلى ظلها من حر بل إلى ثمرها من جوع؛ فلما أتاها بجوعه تلقته بزهوها، قال لها بلسان قلبه العظيم: هأناذا، فقالت له: وهأناذه أخرى غير التي تريد، ظل جائعًا وظلت خضراء تتموج لعينيه شبعًا وريًّا ما تستحي ولا تتواضع بجفاف ورقة منها تسقط عذرًا عند قدميه، كانت في غير حالته القائمة بروحه، وكان في غير حالتها القائمة بروحها؛ فكل ذنبها في روحه هو وفي حالته هو وفي حسه هو؛ فاشمأز منها فيبست ولعنها فماتت ورآها ظلامًا فأطفأ سنتها إلى الأبد، هكذا يفعل الروح الأقوى بالروح الأضعف حين يختلفان، والمتكبر دائمًا هو الأضعف وإن ظهر أنه الأقوى؛ فلو صدمته روح عاتية بما فيها من بغضه وازدرائه لوقعت منه موقع أظلاف الفيل من النملة الضعيفة؛ فإن فوق كبرياء المخلوق ناموسًا ثابتًا من كبرياء الخالق ما لجأ إليه مكسور القلب بكاسر قلبه إلا وضعه والله ثمت موضع حبة القمح تحت حجر الطاحون الضخم لا يُبقي ولا يذر.

•••

وكنت اتكلم وكأني مرتفق تحت جناح جبريل كما قلت وإن الكلام لينفذ إلى دمها مع أنفاسها؛ فما أتيت على آخره حتى رأيتها قد اصفرت وارتاعت وقالت: ويلي منك فهل أنت مسيح جديد؟ إني لأسمع ألفاظك هذه وكأني أسمعها من يوم بعيد لم يأت بعد ولكنه آت؛ لأنه يتكلم ويقول بكلامه أنا موجود وإن كنت بعيدًا عنك، فأردت أن أخفف عنها فرفعت طرفي إلى خيمتنا وقلت: اسمعي يا شجرة التين … فانفجرت ضاحكة وقالت كم قلت لي أنتِ دُوَيهية، وزعمت أن هذا يسمونه تصغير التعظيم فأنت دُوَيهتان، فضحكت وقلت: أولست معي …

لقد حل ذلك اليوم الذي سمعته يتكلم في الغيب، وآه من تلك الدويهية ومن كبريائها وفلسفتها، آه من فتاة تقول لك فيما تقول: إن أمي ولدت نفسي ونفسي هي ولدتني؛ فلا تَرْجُ أن تصيب في طباع أنثى وإلا ضل ضلالك أيها الحبيب … قلت فماذا بقي من معنى أيها الحبيب إذن؟

فضحكت من عبوسها — وهي حين تتفلسف تظللها سحب من الفكر فتراها قد غامت فيها، ولا يبقى لك أمل إلا في وميض من ابتسامتها يتمزق ثم يسرع فيلتئم — أتدري ماذا كان جوابها؟ قالت: خُلقنا لهذا الحب من قبل يومنا؛ ولعل يومنا إذا جاء كان يوم بغض منك أو مني، قلت: فمعنى «أيها الحبيب» في فلسفتك أيها البغيض …؟

قالت: كلا كلا لا أدري، ولكني أتكلم بلغة النطق؛ وفي ناموس الفهم الإنساني لغة غيرها وفي ناموس الأقدار لغة غير اللغتين، فإنك لتراني ولكني أرى فيَّ أخرى، والأخرى ترى فيها ثالثة، هذا أشعر به ولا أدري كيف أصفه فإن عبرت عنه بلغة النطق انقلب كلامي عن جهته فصار من كلام الموسوسين والمَمْرورين والمجانين، أنا أُحسن الكلام مع السماء وأنت تحسن الفهم عن السماء، فحاجتي إليك هي أن تتكلم في روحي وحاجتك إليَّ هي أن أتكلم في قلبك.

أتستطيع أن تُلبسني جلدك وتخيطه عليَّ و… فقلت مهلًا مهلًا أنك أنت الآن لا تتكلمين ولا التي فيك بل تلك الثالثة … وإذا كان استهلال كلامها سلخ جلدي … وهنا وضعت يدها على فمها وجعل يَغُتُّ ضحكها ويتكسر على صلابة قلبها تكسر قطع البلور الثمين في غير نظام ولا مهل.

ولما سكنت مما غشيها قالت: أنت برهمي؟ قلت: وهذه شر من الأولى فهل خطر لك أني أعبد بقرة؟ قالت: وهذه شر من الاثنتين فقد انتقمت مني بلطف … ولكن ألا تعرف أن الحب في رأي أكثر الناس كزواج البراهمة، إذا اقترن الرجل منهم بامرأة فقد أعدّها للحرق إن بقيت بعده وللموت إن بقي بعدها؟ قلت: أعرف هذا في عقد البراهمة وحسب فلا تنزُ بك الفلسفة نزوتها فلسنا في النار ولا في دخانها، قالت: وما تقول في نار تعرفها؟ ولفظت هذه العبارة بصوت خرج يرتجف كأنه جاذب قلبها وفر إليَّ فرارًا؛ وأنزلت في مقطعها نبرة استفهام حلو رقيق يمازجه شيء من التوبيخ في منتهى الظرف.

فأطرقت شيئًا وقلت: اسمعي؛ ما أنت محاطة بست جهات بل بست علامات استفهام؛ وإن فلسفتك هذه جعلتك ما لا أدري ألغزًا في إنسانة أم إنسانة في لغز؛ وعلى أيهما فإن العمر يذهب في فهمك وأحتاج بعد إلى عمر جديد في حبك، ولن تبعثني فلسفتك من قبري يومًا إذا سويت بجسدي الحفرة، لقد وضعك حسنك في طريقي موضع البدر يُرى ويُحب ولا تناله يد ولا تعلق بنوره ظلمة نفس، لكن كبرياءك نصبتك نصبة الجبل الشامخ كأنه ما خلق ذلك الخلق المنتثر الوعر إلا لتدق به قلوب المصعدين فيه، وتهتز أجراسها اهتزازًا عنيفًا متصلًا في حبال الأنفاس والزفرات، كوني من شئت أو ما شئت؛ خلقًا مما يكبر في صدرك أو مما يكبر في صدري، كوني ثلاثًا من النساء كما قلت أو ثلاثة من الملائكة، ولكن لا تكوني ثلاثة آلام، انفحي نفح العطر الذي يلمس بالروح واظهري مظهر الضوء الذي يلمس بالعين، ولكن دعيني في جوك وفي نورك، اصعدي إلى سمائك العالية ولكن ألبسيني قبل ذلك جناحين، كوني ما أرادت نفسك ولكن أشعري نفسك هذه أني إنسان.

•••

أي حب هذا؟ لقد امتُحنت منها بفتاة أبحث عنها في النساء فلا أجدها، وأبحث عنها في نفسها فلا أجدها؛ وكل تاريخ هواها كالرحلة في أغفال الأرض ومجاهلها؛٦ يأخذ الرحالة رجليه بالمشي على قبر في عرض الصحراء، ويكون له من الحذر في كل بادرة عقل؛ ولا يزال يلفظه مجهل إلى مجهل، ولا يزال يتتابع في تلك الأرض التي تغول سالكيها٧ حتى يقطع إلى معروفها منكراتها جميعًا …
١  تساقطت أوراقها من اليبس أو عارض ما.
٢  هذه القطعة من إنجيل مرقس وقد ترجمناها من عربيتهم … إلى عربيتنا.
٣  هو سيدوكليس كان قبل المسيح بأربعة قرون.
٤  حين تكبر فأبى السجود لآدم.
٥  أي: سابقًا.
٦  الأماكن المجهولة والمغفلة.
٧  تهلكهم ببعدها ومصاعبها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤