الفصل الثالث

الأسباب، والتفاعلات، والأكسدة والاختزال

لقد كسَروا أولًا المادة الخام إلى قطع صغيرة ونظَّفوها بأيديهم … ثم رُتِّب الفحم والمادة الخام في كومات صغيرة وفي طبقات متتالية … وبهذه الطريقة … يتحول الفحم إلى حامض الكربونيك، ثم إلى أكسيد الكربون، فالغرض من استخدامه هو اختزال أكسيد الحديد، أو بكلمات أخرى التخلص من الأوكسجين.

جول فيرن في كتابه «الجزيرة الغامضة»، ١٨٧٠

من دون شك، ثَمة خطأ قويٌّ حدث بدرجة قوية وفعالة، مما جعل أجنَّة الحقيقة تنقطع أنفاسها؛ فالتنقيب عن الذهب أصبح في الوقت نفسه قضيةَ مواد، وها هو جسد الكيمياء يستعد كي تعود إليه روحه من جديد، فقد وُلد لافوازيه.

جورج إليوت في رواية «ميدل مارش»، ١٨٧١

يُغازل الإلكترون، تمامًا مثل العاشق المتقلب، أية نواة يجدها أكثرَ جاذبية، بل قد يطير إليها بسرعة فائقة. وقد شاهدنا في التجربة الأخيرة، «الكيمياء المنضبطة»، الإلكترونات وهي تترك الحديد مختالة بنفسها لتنضم إلى فوق أكسيد الهيدروجين. وصحيحٌ أن الإلكترونات كانت راضيةً بأن تظل مع الحديد ما دام لا يوجد ما هو أفضلُ منه على مقربة منها، لكنها فضلَت الذهاب بعيدًا في حال وجود فوق أكسيد الهيدروجين، وبكلمات أخرى تتوقف درجة ارتباط الحبيب بمحبوبته، أي الإلكترون بالنواة على البيئة المحيطة؛ فأيون الحديدوز هو حديدٌ فقد إلكترونَين، وأيون الحديديك هو حديد فقد ثلاثة إلكترونات. وقد تحول مركب أمونيا الحديدوز الأخضر إلى أمونيا الحديديك الأحمر؛ لأن فوق أكسيد الهيدروجين يتصرَّف مثل إسفنجة تمتصُّ الإلكترونات.

وعندما يفقد العنصر إلكترونات، يُقال إنه تأكسَد، وفي حالة التفاعل موضعِ نقاشنا، يكون للقبِ تأثيرٌ ذو مغزًى، فالأوكسجين يُركز جهوده على الحديد ليأخذ إلكتروناته، لكن اسم «الأكسدة» يُعتبَر تسمية خاطئة في تفاعلات أخرى، فلا يُشترَط وجود الأوكسجين لحدوث عملية الأكسدة، فعلى سبيل المثال: ارتدِ نظارتك الواقية، وخذ مشبك الأوراق المعدني (وليس البلاستيكي)، فُكَّ ثَنْية المشبك، وضع طرفَه المفكوك في محلول كبريتات النحاس، يكتسب المشبك طبقة نحاسية لامعة في غضون خمس دقائق. في هذه الحالة الخاصة تكتسب أيونات النحاس في المحلول الإلكترونات المفقودة من معدن المشبك، وتتحول إلى معدن النحاس، وهو تبادل للإلكترونات يحدث دون حاجة إلى الأوكسجين.

وعندما يكتسب عنصرٌ إلكترونًا يُقال إنه اخْتُزِلَ. ويصف أول اقتباس عن جول فيرن في بداية هذا الفصل مثلَ هذه العملية: استخلاص الحديد من خام الحديد. ويُعَد انصهار المعادن من أُولى التفاعلات الكيميائية المنظمة التي يُمكن التحكمُ فيها (ربما بعد الطبخ وصناعة الفخار والرسم والتخمُّر)، وعملية انصهار المعادن هي العملية التي أُطْلِقَ من أجلها مصطلح الاختزال على عملية اكتساب الإلكترونات؛ وذلك لأن المعدن المنصهر عن المادة الخام يزن أقلَّ من وزنه قبل الاستخدام، بمعنى أن وزنه قد اخْتُزِلَ.

وتُوجَد معظم الفلزات الموجودة في الطبيعة في حالة امتزاج مع لافلز أو الأوكسجين أو الكبريت أو الكلور، وهذه المعادن مركبات في حالتها الخام وليست معادنَ نقية، ويُفصَل الفلز عن اللافلز أثناء عملية الانصهار عن طريق تسخين المعدن مع مادة تتمتع بقدرة على جذب اللافلز أكبر من قدرته على جذب الفلز، وفي حالة العملية التي وصَفها جول فيرن يكون اللافلز هو الأوكسجين والمادة الثانية التي لها قدرة عالية على جذب الأوكسجين هي الكربون، الذي يدخل في تشكيل الفحم النباتي، وغالبًا تكون الأوكسيدات مثل ثاني أكسيد الكربون في الحالة الغازية التي تتصاعد تاركةً وراءها الفلز النقي، وبفَهْم التركيب الذريِّ نُدرِك أن الفلز اكتسبَ إلكترونات أثناء عملية الاختزال من خام إلى فلز؛ ومن ثَم أصبح الاختزال هو الاسمَ الذي يُطلَق على عملية اكتساب الإلكترونات. ويُدعى اختبار الفحم «أكسدة» لأنَّ الكربون يختلط مع لافلز لينقله بعيدًا، وفي معظم الأوقات يكون هذا اللافلز هو الأوكسجين. ويَفقد الكربون إلكتروناتٍ على المستوى الذري؛ لذا أصبح فقْدُ الإلكترونات معروفًا «بالأكسدة». وأصبحت الخصائص المميزة لتفاعلات الاختزال والأكسدة هي أن العنصر المُختَزَل هو الذي يكتسب إلكتروناتٍ والعنصر المؤكسَد هو الذي يفقد إلكترونات، وهذا اصطلاح يُمكِن تضمينه بإيجازٍ في العبارة الآتية: «الأكسدة هي فقدُ إلكترونات، والاختزال هو اكتساب إلكترونات.» وحينما يكون هناك أكسدة لا بد أن يُصاحبها اختزال، بمعنى أنه يجب أن يُوجَد زوجَا التفاعل معًا، فلا يُمكِن أن تُفقَد إلكترونات دون أن تذهب هذه الإلكترونات إلى مكانٍ ما.

وتُعَد محاليل كبريتات النُّحاس وخلات الحديد المعدة طبقًا للوصفات المذكورة في «قائمة المشتريات والمحاليل» أمثلةً على تفاعلات الأكسدة والاختزال؛ إذ يفقد فلزُّ النحاس في محلول كبريتات النحاس إلكترونَين ليُصبح أيون Cu2+؛ ومن ثَم فهو متأكسد. والدخان الذي يتكون من مركبات النيتروجين والأوكسجين الموجود في نترات الصوديوم يُختزَل إلى مركبات النيتروجين والأوكسجين المتطايرة، وفي محلول خلات الحديد، يتأكسد الحديد الموجود في الصوف الفولاذي إلى أيون Fe2+ (تذكر أن رمز الحديد (Fe) مأخوذ عن الكلمة اللاتينية Ferrum). والإلكترونات التي يفقدها الحديد يكتسبها الهيدروجين في الخل ليُشكِّل فقاعات غاز الهيدروجين التي قد تكون لاحظتها في محلول خلات الحديد.

ويُمكن إجراءُ إثباتٍ مُقنِع لحقيقة أن معظم الفلزات التي تُوجَد في الطبيعة تُوجَد في شكلِ مَخاليط (مع لا فلزات) عن طريق جولة على شاطئ أو في منطقة صخرية؛ حيث يجد المرءُ الرمالَ والصخور بكافة الأشكال والألوان، لكن إذا كان المرء محظوظًا بما يكفي فإنه يجد قطعًا من الفلزات النقيَّة. هذا ليس معناه أنه لا توجد فلزَّات نقية. فمِن الممكِن العثورُ على كتل ذهبية نقية كما حدَث في فترة التهافت على ولاية كاليفورنيا التي حدثَت بعد اكتشاف الذهب فيها، ولكن مثل هذه الاكتشافات يَندُر حدوثها وهو الأمر الذي يُعطي للذهب قيمتَه المادية الثمينة. وقد كانت الرغبة في تحويل أكثر الفلزات شيوعًا إلى ذهبٍ هي أحدَ أهداف الخيمياء (وهي ممارسة قديمة غير نظامية للكيمياء بزَغَت في الإسكندرية بمصر، ثم في أوروبا في العصور الوسطى). وقد اعتقد الخيميائيون أنه إن كان بمقدورهم اكتشافُ وصفة كيميائية صحيحة، فسوف يتمكَّنون من تحويل الفلزات الأخرى إلى ذهب؛ استنادًا إلى التحويل الغنيِّ بالألوان مثل الذي شاهدناه في تجرِبتنا «الكيمياء المنضبطة». وقد أشار جورج إليوت إلى «التنقيب» في الاقتباس ببداية هذا الفصل من كتاب «ميدل مارش»، وأشار إلى أن الخيميائيِّين قد فشلوا في العثور على طريقة لصُنع الذهب، ولكنَّ جهودهم قادت إلى الكثير من الاكتشافات الجوهرية، مثل اكتشاف الأوكسجين باعتباره عنصرًا نقيًّا، وقد قام بهذا الاكتشاف العديدُ من العلماء في الوقت ذاتِه تقريبًا، وكان من بينهم أنطوان لافوازيه، الكيميائيُّ الفرنسي الذي أشار إليه جورج إليوت على أنه روح الكيمياء. وفي حين وُلد لافوازيه ليكون روح الكيمياء، فإنه أُعدِم على المقصلة في الثورة الفرنسية! قد تكون هناك متعة للكيمياء لكن لا يمكن أن تنطبق هذه الكلمات دائمًا على السياسة!

وكما تُوضح جولتنا السريعة منذ كيمياء ما قبل التاريخ إلى الثورة الفرنسية، فقد لعبت تفاعلات الأكسدة والاختزال المتزاوجة دورًا مستمرًّا في تاريخ البشرية، وفي دراستنا عن كيمياء ما قبل التاريخ، التي استغرقت جملة واحدة (وهي الجملة السابقة) لم نذكر تفاعل الأكسدة والاختزال الخاص بإشعال النيران ذا الأهمية القصوى، ولكننا سنُضمِّنه الآن؛ لأنه قد اتضح أن الاحتراق هو أكثر تفاعلات الأكسدة والاختزال شهرةً، وفي الوقت نفسِه أكثرها تمتعًا بسمعة سيئة!

على سبيل المثال: رجال الإطفاء وكيمياء الاحتراق

الاحتراق، بكافة أشكاله، تفاعل خلَّاب، بدءًا من لهب الشمعة الخفيف، ومرورًا بالراحة التي تبعثها المدفأة ووصولًا إلى الترحيب الحار لنار المخيم، لكن يعتبر الاحتراق في هذه الحالات تحت السيطرة، أما في الحالات التي يخرج الاحتراقُ من تحت السيطرة يتحوَّل ذلك الافتتانُ إلى رعبٍ تام، ولحسنِ الحظ، يُوجَد أناسٌ يُواجِهون ذلك الرعبَ باستمرارٍ لحمايةِ آخَرين من المخاطر، ويُمكِن لأية دراسةٍ مُوجزة لكيمياءِ الاحتراق أن تُوضِّح مدى صعوبة التحدِّي الذي يُواجِهونه. ويُعَد تفاعلُ الاحتراق البُدائي هو تفاعُلَ أكسدةٍ واختزال مباشِر، وعادةً يكون المركَّب المكوَّن في المقام الأول من الهيدروجين والكربون، أي الهيدروكربون، هو الوقود، وعندما يمتزج الهيدروكربون بالأوكسجين يتفاعلان معًا ليُنتِجا ثانيَ أكسيد الكربون (CO2) والماء وحرارة.
هيدروكربون + أوكسجين ثاني أكسيد الكربون + ماء + حرارة

وفي هذا التفاعل يتأكسَد الكربون (يكتسب الكربون أوكسجين هذه المرة حرفيًّا)، ويكتسب غازُ الأوكسجين ما يكفي من إلكترونات لجذب الهيدروجين وتكوينِ الماء؛ ومن ثَم فهو يُختزَل.

الجازولين هو أحدُ الهيدروكربونات، والتفاعلات التي تَحدث في أسطوانات السيارات هي تفاعلات احتراق، يمتزج فيها الهيدروكربون والأوكسجين معًا كما في المعادلة السابقة؛ لذلك يتكون عادم السيارة، الذي هو ناتج التفاعل، في الأساس من ثاني أكسيد الكربون والماء. والسكر والنشا من الهيدروكربونات أيضًا، ولما كان الأوكسجين هو الغازَ الذي نتنفَّسه، وعليه تكون الحرارة الناتجةُ عن عملية الهضم تفاعُلَ احتراق بالمثل. وهذا الهضم هو نوعٌ من الاحتراق يُمكِن برهنتُه بإطفاء شمعة؛ فاندفاع الهواء الذي به قليلٌ من الأوكسجين والغنيُّ بثاني أكسيد الكربون يُطفِئ اللهب ويمنع عنه الأوكسجين. والخشب والورق والعُشب الجاف هيدروكربونات في الأساس؛ فهي تقوم بدور الوقود الممتاز، وتُسَعِّر نيرانًا مدمِّرة. ويُسبِّب استهلاك النار للأوكسجين، وتكوُّنُ ثاني أكسيد الكربون الاختناقَ لرجل الإطفاء الذي تُعَد مَخاطره جسيمة تمامًا مثل مخاطر الجرح الحراري.

ويُمكن توضيح ضرورة الأوكسجين للاحتراق عن طريق تنكيس كوبٍ شفاف غير بلاستيكي على شمعة، وبعد أن يُستنفَد كل الأوكسجين الموجود في الكوب تنطفئ الشمعة. وقد يصعب قليلًا إثباتُ أن ثانيَ أكسيد الكربون هو ناتجُ الاحتراق، لكنه ليس مستحيلًا: ارتدِ نظارة الأمان الواقية والقفازات. خذ كوبَين متشابهَين غير بلاستيكيَّين (مصنوعَين من الزجاج الخالص). ضع في أحدهما أربع ملاعق شاي (٢٠ مليلترًا) ماء. أضف نقطتَين من دليل قلوية ماء حوض السمك المطلوب شراؤه في «قائمة المشتريات والمحاليل». ضع كلا الكوبَين على فرخ ورق أبيض لتوضيح الرؤية، ينبغي أن تُلاحظ أن الكوب الذي يحوي الماء قد تلوَّن بلون أزرق مخضرٍّ باهت.

أشعل الشمعة تَحصل على لهب قويٍّ مستمر. نكِّس الكوب الفارغ فوق الشمعة. اترك اللهب مشتعلًا لفترة. انزع الكوب عن الشمعة ثم صُبَّ فيه على الفور محلولَ دليل القلوية من الكوب الآخر، سُدَّ فوهة الكوب بسرعة بكفِّ يدك، ثم رُجَّ المحلول قليلًا حتى يمتزجَ بالغازات المتصاعدة من لهب الشمعة. ضع الكوب مرة أخرى على الورقة البيضاء، ولاحِظ تغييرَ اللون؛ يُغير ثاني أكسيد الكربون الموجودُ في الغازات المتصاعدة من لهب الشمعة دليل الماء من الأزرق المخضر إلى الأصفر.

كيف لنا أن نَعرف أن ثانيَ أكسيد الكربون هو الذي أحدث هذا التغيير؟ خذ كأسًا نظيفًا وجهز محلولًا آخر مكوَّنًا من: أربع ملاعق ماء صغيرة (٢٠ مليلترًا) مع نقطتَين من دليل قلوية حوض السمك، وانفخ بالونًا ثم اضغط على فوهته لتُبقيَه مغلقًا، ثم ضع فوهته في طرَف ماصَّة، ثم ضع الطرف الآخر للماصة في محلول دليل القلوية. عندما تُخفِّف من ضغطتك على فوهة البالون يصنع ثاني أكسيد الكربون المنطلق مباشرة من رئتَيك، عند نفخ البالون، فقاعاتٍ في المحلول، وتُشاهد الدليل يتحول مرة أخرى من الأزرق المخضر إلى الأصفر.

ويُمكِن إثبات وجود الماء الناتج من الاحتراق باستخدام مكعَّب ثلج وكوب غير بلاستيكي أو طبق فنجان غير بلاستيكي. نكِّس الكوب على لهب شمعة لمدة دقيقة مع مكعَّب الثلج بحيث يُوضَع في وضعٍ متوازنٍ فوق الكوب من الخارج. تتكثَّف الرطوبة الخارجة من اللهب في جوانب الكوب. ضع مكعبَ الثلج بالتبادل على الطبق، ثم عرِّض الطبق للَّهب دون أن يلمس اللهب. تتكثَّف الرطوبة في قاع الطبق.

يُمكِن أحيانًا ملاحظةُ الرطوبة على ملعقة معدنية معرَّضة للهب، ولا يكون الماء وحدَه هو المادةَ التي نَلْحظها على الملعقة؛ إذ يتكون السُّخام أيضًا. ولا تكون عملية الاحتراق دائمًا تفاعلًا نظيفًا وبسيطًا كما هو موضَّح سابقًا، لكنها خليطٌ معقَّد للعديد من التفاعلات التي ينتج عنها بعضُ الهيدروكربونات أو السُّخام، وينشأ أكثرُ آثار الاحتراق إثارةً عن عدم اكتمال الاحتراق وأكثر التفاعلات تعقيدًا.

فعلى سبيل المثال، يُمكِن أن تنتشر النيران ككائن حي يتحرَّك في موجات؛ فجزء من عملية الانتشار يُعزَى إلى تساقط أو تطاير الحُطام المشتعل، لكن لأن اللهب هو غازات محترقة، فيُمكن لهذه الغازات والنيران أن ترحل أينما ترحل الريح، ولكي ترى أن اللهب يحوي غازاتٍ محترقة؛ جرِّب التجربة الآتية: حاول أن تعثر على منطقةٍ خالية من النسمات، وأخلِ المنطقة من أية مادة قابلة للاشتعال (بما في ذلك الشعر المتساقط والملابس). ارتدِ نظارةَ الأمان الواقيةَ. أشعل شمعة بعود ثقاب خشبي. أبقِ العود جانبًا وهو لا يزال مشتعلًا. أطفئ الشمعة، ثُم على الفور أحضِرْ عود الثقاب المشتعلَ بالقرب من الفتيلة المطفأة دون أن تجعل عود الثقاب يلمس الفتيلة كما هو موضح في شكل ٣-١. يقفز اللهب من عود الثقاب إلى الشمعة إذ ينتقل اللهب بسرعة إلى الفتيلة عن طريق غازات الاحتراق. ربما يتعين عليك أن تُحاول عددَ مرات قبل أن تُجرِيَها على نحوٍ صحيح، لكن حتمًا ستنجح.
fig11
شكل ٣-١: قرِّب عود ثقاب مشتعلًا من فتيلة شمعة مطفَأةٍ توًّا، فتجد أن اللهب يقفز عبر الغازات المحترقة ويُشعِل الفتيلة المطفأة مرة أخرى.

ولا تنتشر النيران عن طريق القفز عبرَ الهواء أو الانتقالِ عن طريق الحُطام المتطايِر فحَسْب؛ فالتبايُن في ضغطِ الهواء يرتبط أيضًا بالنيران؛ لأنها تستهلك الأوكسجين وتُنتِج حرارة، ويُسبب استهلاكُ الأوكسجين خَواءً جزئيًّا في مصدر اللهب المملوء بالهواء القادم من الجوانب. ويُسبب التيار الهوائي الساخن فوق اللهب حدوثَ تيار هوائي صاعد. وتتحد جميع القوى معًا لخلق قدر لا بأس به من تيارات حمل حراري وتباينٍ في الضغط. وكما أن تباين الضغط الجوي في الغلاف الجوي يُفضي إلى حدوث الأعاصير، كذلك يُفضي تباينُ الضغط حول النيران إلى حدوث ما يُعرَف «بالانفجار»، وهو دوامة نارية تتنقل بسرعة تُعادل تقريبًا سرعةَ الرياح.

وقد ذكر نورمان مكلين في بحثه الرائع «شباب ونيران» أن هذه الظاهرة الطبيعية لا يُمكن فَهمُها فَهمًا جيدًا نظرًا إلى قلة الملاحظات المباشرة المتاحة؛ إذ ينبغي أن يكون الملاحِظ هو أحدَ الناجين من هذه النيران والشخص الذي ينجو من النيران لا ينتظر في الجوار ليُلاحظ ماذا يحدث.1 ومع ذلك فطبقًا للتفاصيل التي أوردها مكلين نجد أن شخصًا واحدًا من رجال الإطفاء المُستخدِمي المظلات هو مَن تَمكَّن من النجاة من إحدى هذه الدوامات النارية، لقد احترقت الأجزاء العارية منه في أول الانفجار ثم طُمِر وجهه في رماد الجثث المحترقة حتى انقضى الانفجار، وهو حدثٌ استغرق خمس دقائق حسب ساعته، وأردف أن دوامة النيران سحبته عدة مرات عن الأرض، لكنه كان قادرًا أن يحفظ أدنى حد من التنفس بسبب الأوكسجين الذي كان قريبًا من الأرض. لقد كان هذا الأوكسجين ضروريًّا للاحتراق الذي يُحدِث داخل جسمه تفاعلات الأكسدة والاختزال التي كان ينبغي أن تستمر؛ إذ كان من المقدَّر له أن يعود ليتلوَ قصته.

ومع أن تفاعلات الأكسدة والاختزال منتشرةٌ للغاية، فإنها بالطبع لا تُمثِّل كل جوانب الكيمياء؛ فثمة نوعٌ آخر شائعٌ جدًّا وغاية في الأهمية من التفاعلات موجود في التفاعلات الحمضية-القاعدية التي تَحدث في الهواء وفي البشَرة والمعدة والبالوعة، وحتى في حمامات السباحة وأحواض الأسماك؛ فدليل قلوية حوض السمك الذي استخدمناه في الكشف عن ثاني أكسيد الكربون هو دليلٌ للأحماض والقواعد؛ فهو يعمل على الكشف عن ثاني أكسيد الكربون لأن ثانيَ أكسيد الكربون المذاب في الماء يجعل الماء مَشوبًا قليلًا ببعض الخواص الحامضية. أيبدو الأمر مثيرًا؟ واصل القراءة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤