الفصل الثالث عشر

الفكر والفن في القرن السادس

التاريخ والمؤرخون

وكما كان الأمر في القرون السابقة، كذلك كانت كتابة تاريخ في القرن السادس هي السجل الرئيسي للفكر البيزنطي ومجلي تطوُّره، وأبرز المؤرخين في هذه الحقبة وأكثرهم غَناءً بروكوبيوس القيصري، درس الحقوق والمحاماة ثم أصبح مستشار بليساريوس القائد وكاتم أسراره، وقد صحبه في حروبه ضد الوندال والقوط والفرس، واطلع على مخابراته وخفايا أُمُوره، فجمع لمؤلفاته ما لم يَتَسَنَّ لغيره إدراكُهُ، وبرغم تقعره في اليونانية وأخذه بأساليب هيرودوتوس وثوقيذيذس؛ فإنه ظل سلسًا في إنشائه، نشيط الخيال، ضليعًا شديدًا يقظًا، ومؤلفاته ثلاثة: الحروب والمُلح والأبنية.١
ويقع كتابُهُ في الحروب في ثمانية أجزاء وصف فيها حروب يوستنيانوس في أفريقية وإيطالية والشرق، وأفرد كتابه الملح لقصص وروايات أظهر بها خفايا الحياة السياسية في العاصمة ولا سيما القصر المقدس وحياة عاهليه يوستنيانوس وثيودورة، وضمَّن كتابه الأبنية أخبار يوستنيانوس في حقل البناء، فَذَكَرَ فيه جميعَ الأبنية التي أمر بتشييدها.٢

وقد عاصر يوستنيانوس وبروكوبيوس مؤرخٌ آخرُ، هو بطرس البطريق، كان محاميًا لامعًا وسياسيًّا مفاوضًا، فمثل الروم مرارًا لدى الفُرس والقوط الشرقيين، وكتب في تاريخ الإمبراطورية منذ عهد أوغوسطوس، ووضع سفرًا خاصًّا في التشريفات، وقد ضاع الشطرُ الأكبرُ مِنْ هذين المؤلفين، ولم يَبْقَ منهما سوى شذراتٌ منثورة.

وقام بعد بروكوبيوس أغاثيوس المحامي، فأرخ لعهد يوستنيانوس منذ السنة ٥٥٢ حتى السنة ٥٥٨، وجاء مينانذر في أيام موريقيوس، فَأَرَّخَ للسنوات ٥٥٨–٥٨٢، ولكن ضاع هذا المؤلف ولم يَسْلَمْ منه سوى بعض نُتَف مفيدة جدًّا من جهة المعلومات الجغرافية والمعرفة بالعناصر البشرية الطارئة على الإمبراطورية.

وظهر ثيوفيلاقتوس السيموقاطي القبطي، فسجَّل تاريخ الحوادث في عهد موريقيوس (٥٨٢–٦٠٢) وكان كاتمًا لأسرار هرقل الفسيلفس، وبرغم خياله المشتط وصوره الرمزية وحِكَمه المقتضبة وأساطيره وخرافاته؛ فإنه لا يزال المرجعَ الرئيسيَّ لتاريخ موريقيوس، إِنْ في حروبه الفارسية أو في البلقان.٣
وفي أواخر القرن السادس كان المؤرخ ثيوفانس، وقد ذكره البطريرك فوتيوس في مؤلفاته، ونقل عنه نبذًا، منها نبذةٌ في إدخال دود الحرير إلى حوض البحر المتوسط، وأما تاريخ الكنيسة في القرنين الخامس والسادس فأفضل مَنْ عالجه مِنَ المؤرخين إيفاغريوس السوري، وتتضمن كُتبُه الستة تاريخَ الكنيسة منذ مجمع إفسس في السنة ٤٣١ حتى السنة ٥٩٣.٤

الجغرافية والجغرافيون

ومما يلفت النظر في تاريخ الفكر في القرن السادس كتاب قوزمة البحري٥ «الكوسموغرافية المسيحية»، وضعه في منتصف هذا القرن، ولد الرحالة قوزمة البحري في مصر، وتعاطى التجارة في حداثته، ثم أعرض عنها لكساد سوقها، فغادر مصر متنقلًا في سيناء، والحبشة، وحوض البحر الأحمر، والشاطئ الجنوبي من الجزيرة العربية، وسيلان، ثم انقلب إلى مصر زاهدًا فتنسك وترهب، وقد كتب كتابه هذا ليبيِّن للمسيحيين أن الأرض صندوقٌ مربعٌ مستطيلٌ بشكل تابوت العهد، وأن شكل الكون هو شكل مظلة إسرائيل، وأن قول بطليميوس الجغراي بكروية الأرض قولٌ مردودٌ. وأهم من هذا وذاك هو أن قوزمة دوَّن في مصنفه هذا ما شاهده في أثناء تجواله، وما سمعه، وفرَّق بوضوحٍ تامًّ بين سماعه وعيانه، بحيث صار مؤلفه مرجعًا هامًّا لتاريخ هذا العصر.٦
وممن كتب في الجغرافية في القرن السادس هيروكليس اللغوي؛ فإنه وصف الإمبراطورية وصفًا سياسيًّا جغرافيًّا على حالتها قبيل السنة ٥٣٥، متناولًا ولاياتها الأربع والستين، ومدنها التسعمائة والاثنتي عشرة.٧

التأريخ بالحوليات

وأشهر مَنْ دَوَّنَ الحوادثَ في القرن السادس مُرَتَّبَةً بحسب تاريخ وقوعها، يوحنا ملالاس الأنطاكي، فإنه وضع خرونيقونًا لتاريخ العالم منذ أقدم الأزمنة حتى نهاية عهد يوستنيانوس.

وبرغم أنه لم يفرِّقْ بين الغث والسمين، والأساطير والوقائع الراهنة، فإن كتابه مفيدٌ في بعض ما يروي، عدا أنه استعمل فيه اليونانية الدارجة في عصره، مستعينًا، بين آنٍ وآخرَ، ببعض الاصطلاحات اللاتينية الشائعة في زمنه.٨

وبين هؤلاء أيضًا يوحنا الإفسسي، وُلد في آكل مِن ولاية آمد في السنة ٥٠٧، ونَشَأَ ناسكًا في دير أرعازبتا، وأجاد السريانية واليونانية، ورحل في طلب العلم إلى أنطاكية والإسكندرية والقسطنطينية، وفي السنة ٥٤٢ اختاره يوستنيانوس لتبشير الوثنيين في بعض نواحي آسية الصغرى، وحوالي السنة ٥٥٨ رسمه يعقوبُ البرادعي مطرانًا على مَنْ قال بالطبيعة الواحدة في إفسس، فأقام على رعاية هؤلاء تسعًا وعشرين سنة.

وفي السنة ٥٦٦، بعد وفاة ثيودوسيوس الإسكندري، أصبح يوحنا الإفسسي رئيسًا لجميع من قال بالطبيعة الواحدة في القسطنطينية وسائر بلاد الروم، وفي السنة ٥٧١ اضطهد يوستينوس الثاني من لم يقل قول الكنيسة الأم، فشمل هذا الاضطهاد يوحنا المترجم له، فسجن ثم نفي، ثم اعتقل مرة ثانية في عهد طيباريوس وأُبعد عن العاصمة في أواخر السنة ٥٧٨، وكانت وفاته في السنة ٥٨٦ أو ٥٨٧.

وأَرَّخَ يوحنا الإفسسي للكنيسة في ثلاثة مجلدات، تناول بالمجلدين الأول والثاني حوادث التاريخ منذ عهد قيصر حتى السنة ٥٧١، وجعل في المجلد الثالث أخبار الكنيسة والعالم من السنة ٥٧١ حتى السنة ٥٨٥، وله أيضًا سِيَر النساك الشرقيين، وهو يشتمل على ثمانٍ وخمسين ترجمة، «وفيه فوائدُ عن السيرة النسكية، والعادات الرهبانية، وسير الديارات في ذلك العصر.»٩ وأهمية هذه المؤلفات هي أنها تحفظ لنا — بالدرجة الأُولى — شيئًا من ثقافة القائلين بالطبيعة الواحدة واتجاهاتهم القومية، وتُلقي ضوءًا على آخِر مراحل النزاع بين النصرانية والوثنية.١٠

أخبار القديسين

وأهم من عُني بأخبار الرهبان والنساك والقديسين يوحنا كليماكوس الذي اعتزل في طور سينا، ووضع كتابه الشهير السلَّم الروحية١١ في ثلاثين فصلًا، وقد استعار التسميةَ من الفصل الثامن والعشرين من سِفر التكوين: «ورأى يعقوب حلمًا، وإذا سُلَّمٌ منصوبةٌ على الأرض ورأسها يمس السماء، وهو ذا ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها.» وحاول يوحنا كليماكوس، في كتابه هذا، أن يُبَيِّنَ مراحلَ التقدُّم في الحياة الروحية للوصول إلى الكمال، فراج كتابُهُ هذا بين جمهرة الرهبان الروم، وترجم إلى السريانية واللاتينية واليونانية الحديثة والإيطالية والإسبانية والفرنسية والسلافية، وفي نسخه المخطوطة تصاويرُ جميلة للحياة الدينية والرهبانية.١٢
وأما كيرلُّس البيساني الذي قضى آخر دور من حياته في دير مار سابا في فلسطين؛ فقد رغب في تدوين سِيَرِ القِدِّيسين في كتاب ضخم، ولكنه تُوُفي قبل أن ينجز عمله، امتاز كيرلُّس بتفهمه الحياة الرهبانية وبضبطه وتدقيقه وبساطة أُسلوبه، فهو — والحالة هذه — مِن أفضل المراجع لتاريخ الثقافة عند الروم.١٣
ومن أشهر المؤرخين في أخبار القديسين يوحنا موسخوس الفلسطيني، وهو من الأعيان الذين وصلت حياتُهُم بين القرنين السادس والسابع. وَضَعَ المروجَ الروحية١٤ بعدما زار أديرة فلسطين وسينا ومصر وسورية وآسية الصغرى، وتَجَوَّلَ في جُزُر المتوسط وإيجه، فتسنَّى له أن يدوِّن أشياءَ كثيرةً عن الرهبان والأديرة في عصره، ومصنفُهُ هذا مفيدٌ لتاريخ الحضارة.

الشعراء

وأشهرهم رومانوس المرتل وقد سبقت الإشارة إليه، وهو أفضل من نظم في عهد يوستنيانوس، وقد وقف شاعريته على الابتهالات الدينية، ومن شعراء هذا العصر بولس الصامت الذي خص كنيسة الحكمة الإلهية بقصيدتين وصف بهما هذه التحفة النفيسة فخدم تاريخ الفن خدمة كبيرة، وأحرز تقديرَ معاصريه وبينهم أغاثيوس المؤرخ،١٥ وأمَّ القسطنطينية في هذا العصر نفسه الشاعر كوريبوس الأفريقي ولبث فيها يُنشد باللاتينية أماديحَ يوحنا القائد الذي أخمد ثورة البربر في أفريقية. وبرغم ركاكة نَظْمه فإن شعره يتضمن بعض الفوائد الجغرافية والتاريخية الضرورية لتاريخ أفريقية الشمالية في القرن السادس.

ونظم كوريبوس أيضًا شعرًا في يوستينوس الثاني وتَسَنُّمه العرش، فأفاد به المؤرخ أكثر كثيرًا مِمَّا أفاد الأدب، وممن قرض الشعر في هذا القرن ذيوسقوروس القبطي، وُلد في صعيد مصر في قريةٍ صغيرةٍ، وتعلَّم علوم زمانه ثم درس الحقوق وتعاطى الأدب، ولكنه لم يكن مُجيدًا في نظمه، وما بقي من أبياته على وُرَيْقات البردي لا يزيد الأدب الهليني فخرًا. يضاف إلى هذا أنه لم يحسن قواعد اللغة فجاءَت أبياتُهُ ركيكةً ضعيفة.

واهتمام المؤرخين بآثاره يعود إلى ما تركه من وثائق شرعية وأخبار اجتماعية، لا إلى تفوقه في الفكر أو الشعر.١٦

الفن

ومؤرخو الفن يَعتبرون عصر يوستنيانوس العصر الذهبي الأول في تاريخ الفن عند الروم، ويعدُّون كنيسة الحكمة الإلهية آيةً مِنْ آياتِ فَنِّ البناء في العالم بأسره، وأفضل الكتب التي صُنفت في هذا الموضوع هي تقاريرُ الأستاذ هويتمور عن أعماله الترميمية التي بدأت في السنة ١٩٣٣، يُضاف إليها كتاب الأستاذ سويفت: آجيا صوفيا.١٧

وأعجبُ ما في هذه الكنيسة قُبَّتُهَا العظيمة؛ فإنها تشمخ ضمن محيطٍ قدره واحد وثلاثون مترًا على علو خمسين مترًا فوق سطح الأرض، وهو عملٌ لا يزال يعتبر حتى ساعتنا هذه من معجزات فن البناء، وشكل الكنيسة مربع مستطيل عظيم يقسمه صَفَّان من الأعمدة إلى ثلاثة أبهاء، والأرض والأعمدة والأقسام السفلى من الجدران جميعها من رُخَامٍ مُلَوَّن، وما تَبَقَّى من الجُدران والسقف جميعُهُ مغشًّى بالفسيفساء المذهبة، ويُطل النور على المصلين من أربعين نافذة عند أسفل القُبَّةِ الكُبرى فتعكسه الفسيفساء المذهبة الملونة أشعةً متنوعةً رائعةً، أما الفِناء أمام هذا المعبد فإنه كان فيما مضى واسعًا كبيرًا تتناسب مساحته وحجم الكنيسة وراءَه، وكانت تحيط به من جهاته الأربع أروقةٌ ذاتُ أعمدة مُتقنة الصنع، وتقوم في وسطه نافورةٌ مزخرفةٌ جذابة.

وهدم يوستنيانوس كنيسة الرسل التي كان قد شيدها إما قسطنطين الكبير أو قسطنديوس، وأعاد يوستناينوس بنيانَها بشكل صليب مربع الأجنحة، وعهد العمل إلى أنثيميوس الترالِّي وإسيدور الأصغر. وبقيتْ هذه الكنيسةُ البديعةُ مدفنًا لأباطرة الروم حتى القرن الحادي عشر، ولَمَّا استولى الأتراكُ على القسطنطينية أَمَرُوا بهدمها لينشئوا في موضعها جامعَ السلطان محمد الفاتح، وباستطاعتِنا أَنْ نَسْتَعِيدَ صورةَ شكلها، قياسًا إلى كنيسة القديس مرقس في البندقية، أو كنيسة القديس يوحنا في إفسس، أو كنيسة سان فرون في بريغو١٨ في فرنسة، فإن هذه الكنائس جميعًا قد شيدت على طراز كنيسة الرسل في القسطنطينية.١٩

وربما تعذَّر علينا اليوم أن نتلذذ تلذذًا تامًّا بوجوه الإتقان والبداعة في الفسيفساء على جدار كنيسة الحكمة الإلهية؛ لأن الأتراك قد حَوَّلُوها عند الفتح إلى جامع، وطمسوا هذه الآثار بطِلاء من الطين وغيره، ولأن أعمال التنظيف والترميم التي أمر أتاتورك بإجرائها في هذه الكنيسة لم تَتِمَّ بعدُ. ولكن بإمكاننا أن نلمس لطائفَ هذا الفن وروعته على جدران كنيسة القديس الشهيد فيتال في رابينة، ورابينة هذه كانت في القرن الخامس بعد الميلاد ملجأً لأباطرة الغرب، ثم أصبحت في أوائل القرن السادس عاصمةَ القوط الشرقيين، ولما تغلب يوستنيانوس على هؤلاء وفرض سلطته على إيطالية؛ أصبحت رابينة مركز حكم الروم في إيطالية ومقر الإكسرخوس فيها، وذلك طوال قرنين منذ منتصف السادس حتى منتصف الثامن.

وآثار رابينة الفنية تعود إلى عهد غالية بلاسيدية بنت ثيودوسيوس الكبير، وإلى عهد ثيودوريخوس ويوستنيانوس، وشمل يوستنيانوس رابينة بعنايته، فأكمل بناء كنيستين فيها ورَصَّعَهُما بالفسيفساء، ولا تزال هذه الفسيفساء محفوظةً بكاملها في كنيسة القديس فيتال حتى يومنا هذا، وأَشْهَرُ ما فيها صورةُ الإمبراطور على جدار الحنية وراء المذبح، يُحيط بها أسقف رابينة ورجال الحاشية، وصورة ثيودورة ووصيفاتها.٢٠
١  De bellis, Historia arcana, De aedeficius, (Bibliotheca Scriptorum Graecarum, Vols. I–III), Eng. Trans. Dewing, 7 Vols., London and New-york, 1914–1940.
٢  Dahn, F., Procopius von Caesarea, Berlin, 1865; Haury, Zur Beurteilung des Geschichtscheibers Procopius von Caesarea, 1897.
٣  Krumbacher, K., Gesch. der buz. Litt., 249.
٤  Fragmenta Historicorum Graecorum, Patrolagia Greaca.
٥  بحري بحر الهند Cosmas Indicopleustes.
٦  Cosmas Indicopleustes, Topographia Christiana, XI, éd. Migne.
٧  Krumbacher, Gesch. der Byz. Litt., 417.
٨  Olmstead, A. T., Chicago Theol. Seminary Register, 1942, 22.
٩  اللؤلؤ المنثور للبطريرك إغناطيوس برصوم، ص٢٦٤–٢٦٨.
١٠  Dyakonov, John of Ephesus, 359.
١١  Scala Paradisi.
١٢  Dalton, O. M., East Christian Art. 316.
١٣  Schwartz, Ed. Kyrillos von Skythopolis, Leipzig, 1939.
١٤  Pratum Spirituale.
١٥  Friedlander, P., Johannes von Gaza und Paulus Silentiarus, Berlin, 1912.
١٦  Bell, H., Buz. Servile State, Journal of Eg. Arch. IV, (1917), 104-105; Greek Papyri in the Brit. Mus., Journal of Eg. Arch., V, III–IV.
١٧  Swift, E. H., Hagia Sophia, New-york, 1940.
١٨  Saint Front de Périgueux.
١٩  Heisenberg, A., Die Apostelkirche in Constantinopel, Leipzig, 1908.
٢٠  Diehl, Ch., Ravenne, Paris, 1907.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤