الفصل الرابع عشر

هرقل والفرس والصقالبة والآفار

٦١٠–٦٣٤

سقوط فوقاس وقيام هرقل

وطغى فوقاس وجاوز الحَدَّ في الظلم والقسوة، قتل قسطنطينة أرملة موريقيوس وبناتها الثلاث، ونَقَضَ العهد الذي قطعه لنرسيس القائد وأحرقه حيًّا، فكان أن كثرت المؤامرات ضده، ولكنه استطاع أن يقضي عليها جميعها وأن يعذب المتآمرين ويذبحهم، وتوغل الفرس في آسية الصغرى في قبدوقية وغلاطية حتى وصلوا إلى أبواب خلقيدونية، وأحرقوا القُرَى والمزارع على الشاطئ الآسيوي قُبالة العاصمة، واكتسح الصقالبة إيليرية وتراقية.

ولم يبقَ جزءٌ من أجزاء الإمبراطورة لم يلحق به أذى إلا أفريقية، وكان يحكمها آنئذٍ إكسرخوس مُسنٌّ صالحٌ يدعى هرقل، أَحَبَّهُ الشعب في أفريقية حبًّا جمًّا، فلم يجسر فوقاس أن يَمَسَّهُ بسوء، فاتصلت أحزاب العاصمة بهذا الإكسرخوس أكثر من مرة وحَرَّضَتْه على القيام بواجبٍ لا يَستطيع القيام به غيره، فاستجاب وأَعَدَّ أسطولًا وجيشًا، واتصل بكبار الملاكين في مصر وحرَّضهم على الثورة فلبوه وشاركهم الشعبُ في ثورتهم، فمنعوا تصدير الحُبُوب إلى العاصمة، فانتشر فيها الجوع، وجبه هرقل فوقاس بما لم يكن مهيئًا له،١ ثم دعا هرقل ولده الذي سماه هرقل أيضًا وأمَّره على الأسطول وأنفذ ابن أخيه نيقيطاس على رأس فرقة كبيرة من الفرسان إلى مصر وما وراءها.
ووصل هرقل الابن بأُسطوله إلى الدردنيل، والتجأ إليه زعماءُ المعارضة، وظهر أُسطولُ هرقل على أُسطول فوقاس، وتمرَّدت عناصرُ هامةٌ في جيش فوقاس، ففتحت المدينةُ أبوابها لهرقل، واعتَقل فوقاسَ في قصره موظفٌ كان الإمبراطور قد أساءَ إليه إساءةً بالغةً، وأُحضر فوقاس بين يدي هرقل صاغرًا، فقال له هرقل: «أهكذا حكمت الإمبراطورية؟» فأجاب فوقاس: «وهل تحكمها أنت خيرًا مما حكمتها؟» فركله هرقل بقدمه وقطَّعه البحارة إربًا إربًا.٢
واعتذر هرقل وأراد أن يتولى العرش بريسقوس، ولكن الشيوخ أَبَوْا أن يتولاه أحدٌ غير الذي أنقذهم، فنادوا بهرقل فسيلفسًا في اليوم نفسه وتَقَدَّموا به من البطريرك سرجيوس فتوَّجه هذا إلى كنيسة الحكمة الإلهية، وتزوج هرقل من إفذوكية في اليوم نفسه أيضًا فنودي بها فسيليسة، وبعد ثلاثة أيام أُحرق تمثال فوقاس في الهيبودروم ومعه علم الزرق.٣

أسرة هرقل

وقد جاءَ في تاريخ الإمبراطور هرقل لسيبوس المؤرخ الأرمني الذي شهد ذلك العصر، أن هرقل متحدرٌ من أصلٍ أرمنيٍّ وأنه يَمُتُّ بصلة إلى الأسرة الأرمنية الملكية أسرة الأراشكة،٤ ويؤيد هذا القول اليوم عددٌ من الباحثين، وفي طليعتهم الأستاذ غريغوار،٥ ويشك فيه عددٌ مقابلٌ من رجال البحث، فلا يرون في أدلة زملائهم ما يضمن السلامة لما استنتجوه.٦
figure

الحرب الفارسية (٦١٠–٦٢٨)

وكانت الإمبراطورية في حالة من الفوضى والاضطراب تدعو إلى القلق الشديد، فكتب هرقل إلى أبرويز يُعْلمه بالقصاص الذي أنزله بفوقاس، ويؤكد له أن إعادة السلم بين الدولتين أصبح ميسورًا، ولكن أبرويز لم يجب، وكانت جيوشُهُ قد قطعت الفرات واحتلت قرقيسية عند مصب الخابور وكلينيكم إلى شماليها، فأنفذ هرقل بريسقوس القائد إلى قيصرية قبذوقية ليطرد الفرس منها، فطردهم بعد حصار دام سنة كاملة، ولكنهم خرجوا منها مفتتحين لهم طريقًا بالقوة وأنزلوا بالروم خسارة كبيرة.

ثم اتجهوا شطر أرمينية لتمضية فصل الشتاء، واستطاعوا أن ينتصروا على الروم في سورية فأخذوا حمص عَنْوَةً في السنة ٦١١، فما أطلَّت السنة ٦١٢ حتى سافر هرقل من القسطنطينية إلى آسية الصغرى ليدرس الموقف مع بريسقوس عن كثب، فتباطأ القائدُ في استقبال الفسيلفس متذرعًا بالمرض، وفي النهاية أفهم هرقل أنه لن يرضى عن تَدَخُّله في أُمُور الجيش، فسكت هرقل على هذه الوقاحة؛ لأنه لم يكن بإمكانه آنئذٍ أن يقاوم قوة بريسقوس بقوة مماثلة.

وفي خريف السنة ٦١٢ أمَّ العاصمة نيقيطاس؛ ليفاوض الفسيلفس في شئون مصر، وقدمها بريسقوس أيضًا؛ ليشترك في استقبال هذا الضيف الملكي، وكان قد ولد لهرقل ولدٌ ذكرٌ فأَعلم الفسيلفس بريسقوس بوجوب بقائه في العاصمة لحضور حفلة عماد الطفل في الخامس من كانون الأول، فصدع بريسقوس بالأمر، ولم يبرح العاصمة، وانتهز الفسيلفس هذه السانحة فاتهم القائد بالخيانة العظمى وأمر بإلقاء القبض عليه وإيداعه أحد الأديرة، ثم أطلَّ على جنود العاصمة فحيَّوْه قائدًا أعلى.

ثم جعل نيقيطاس قائدًا على الحرس وأخرج فيليبيقوس من الدير الذي كان قد التجأ إليه وسلمه القيادة، وأشرك أخاه ثيودوروس فيها أيضًا.

ورأى هرقل أَنْ يواجه الفرس في الجبهتين في آنٍ واحدٍ، فأنفذ فيليبيقوس بجيش إلى أرمينية، وقام هو وأخوه ثيودوروس إلى سورية الشمالية لِيَصُدَّا أبرويز عن احتلال سواحل لبنان وفلسطين ومصر. وكان أبرويز قد لَمَسَ ضعف الروم لَمْسَ اليد، فأحب أن يستغل الموقف، فالتقى الجيشان واشتبكا حول أسوار أنطاكية في السنة ٦١٣، فدحر الروم وتراجعوا إلى مداخل قيليقية فغلبوا فيها أيضًا، واحتل الفُرسُ طرسوس وقيليقية بأكملها.

ومثل هذا وقع لفيليبيقوس في أرمينية، وفي السنة ٦١٤ تابع الفرس زحفهم إلى الجنوب بقيادة شهربراز، وزحفوا من قيصرية فلسطين إلى أوروشيلم، وهي البلدُ المقدَّسُ عند أعدائهم، فحَصَرُوها عشرين يومًا ثم دخلوها عنوةً، فقتلوا جموعًا غفيرةً من النصارى سبعة وخمسين ألفًا وأَسَرُوا خمسةً وثلاثين ألفًا وأحرقوا الكنائس وألقَوُا القبض على البطريرك زخريا واستولوا على عود الصليب وأرسلوه إلى فارس، وكان شهربراز قد حالف اليهود على النصارى، فلما تَمَّ له ما أراد نفى من المدينة المقدسة جميع اليهود ثم أذن بترميم الكنائس، وهرع نيقيطاس إلى المدينة المقدسة فلم ينقذ من آثارها سوى الحربة المقدسة والإسفنجة،٧ وفي السنة ٦١٥ حاول شاهين قائد الفرس أن يكمل احتلال آسية الصغرى، ولكنه لم يفلح فتراجع، وفي ربيع السنة ٦١٩ عاد شهربراز إلى الفتح فزحف على مصر واحتل بليسيوم وممفيس وبابل، ثم عرَّج على الإسكندرية فحاصرها واستولى عليها.

وهكذا خسر هرقل أرمينية وما وراءَها وهي أخصب البقاع بالرجال لتعبئة الجيش، وخسر مصر وهي مركز تموين العاصمة، وأَضاع المدينة المقدسة وعود الصليب وهو ذخر النصارى، وكانت البلقان — كما سنرى — مسرحًا كبيرًا لطغيان الآفار والصقالبة، فلم يبقَ — والحالة هذه — مِن جميع أقطار الإمبراطورية قُطْرٌ يمكن اللجوءُ إليه والاعتصامُ به سوى أفريقيا، فأراد هرقل أن يقلع إليها ليغزو منها مصر ويجلي الفرس عنها، وعلم الشعب في القسطنطينية بما نواه الفسيلفس فهَبُّوا يردعونه، وأَلح عليه البطريرك بوجوب البقاء في القسطنطينية، ولم يكفَّ عنه حتى أقسم بأنه لن يبرح العاصمة، وفي أثناء هذا كله — ولسنا ندري متى كان ذلك بالضبط — هاجم الفرسُ القسطنطينية بأسطولٍ بحريٍّ، ولعلهم قصدوا بذلك إِلَى معاونة الآفار — كما سيمر بنا — على أنهم لم يصادفوا التوفيق، فإن الأسطول الرومي قضى على قوتهم البحرية وبدَّد شملها، فغرق في بحر مرمرا أربعةُ آلاف فارسي مع مراكبهم، وتنبهت الكنيسة فأمدت الفسيلفس بجميع ما لديها من الذهب والفضة، شرط أن يُعاد إليها ما يقابله بعد الحرب.

وكان هرقل قد استشفع إلى العذراء في السنة ٦٠٩، عندما بدأ يستعد للحملة على القسطنطينية، فعاد إليها مستشفعًا في شتاء السنة ٦٢١، واعتزل للرياضة الروحية تأهبًا للقيام بواجبٍ مقدسٍ: واجب الدفاع عن الدولة والكنيسة والدين، وفي الرابع من نيسان من السنة ٦٢٢ تقدم من المائدة المقدسة متناولًا القربان الطاهر، وفي الخامس من الشهر نفسه دعا إليه كلًّا من البطريرك سرجيوس والحاكم بونوس والشيوخ وكبار الموظفين والوجهاء والأعيان، والتفت إلى البطريرك وقال: «إني أعهد إلى الله وإلى والدته وإليك بهذه المدينة وبابني من بعدي.» وبعد الصلاة في كنيسة الحكمة الإلهية والابتهال والتوسل تسلم أيقونة السيد المخلص، ثم أقلع بجنوده إلى خليج نيقوميذية، وسار إلى غلاطية وقبدوقية لإكمال التعبئة والتموين والتنظيم، ومن هنا القول إن هرقل أول الصليبيين.

وأراد هرقل أن يُقصي الفرس عن مراكزهم في قلب آسية الصغرى، فقام بحركة التفاف واسعة النطاق، واتجه بجيشه شرقًا مهددًا مواصلات العدو وطرق تموينه، وحاول شهربراز أن يصرف هرقل عن خطته فغزا قيليقية، ولكن هرقل لم يعره انتباهًا، فاضطر القائد الفارسي أن ينقلب إلى الشرق ليحول بين هرقل وهدفه، وتواقع الخصمان في أرمينية في السنة ٦٢٢ فدارت الدائرةُ على الفُرس وسجل هرقل نصرًا مبينًا، وانسحب الفرس من قبدوقية والبونط، وعاد هرقل إلى القسطنطينية؛ لينظر في أمر الآفار، وفي ربيع السنة ٦٢٣ استأنف الهجومَ في الشرق، فقطع أرمينية واحتل دوخان ونشقفان، ثم تَوَغَّلَ في أذربيجان واتجه نحو تبريز كنزاكة ليفاجئ أبرويز في قصره فيها، ففرَّ أبرويز من المدينة، ودخلها الروم فأحرقوا معبدها الكبير وتعقبوا الفرس الهاربين وهم ينهبون ويدمرون، ثم رجع هرقل خوفًا من حركة التفافية خشي أن يقوم بها شهربراز أو شاهين أو الاثنان معًا.٨

وبانتصاراته هذه تَسَنَّى لهرقل أن يستمدَّ من شعوب القوقاس المسيحية ما عَبَّأَ به الصفوفَ، وكَرَّ كرةً أخرى إلى الميدان في السنتين ٦٢٤ و٦٢٥ فضرب شهربراز عند بحيرة وان، ثم ضربه في قليقية عند نهر ساروس، فاضطر القائد الفارسي أن يتراجع إلى الشرق، وعدل هرقلُ إلى البونط لتمضية فصل الشتاء، ثم نوى أن يتحرك من البونط بجيش عظيم في السنة ٦٢٦ ليستأنف انتصاره على الفرس، ولكن تقدم الآفار في البلقان وحصارهم القسطنطينية اضطراه أن يؤجل قصده هذا حتى السنة ٦٢٧.

وفي صيف السنة ٦٢٧ قام الخزر حلفاء هرقل بحصار تفليس، وهَبَّ هو إلى محاربة أبرويز، فعبر نهر الآراس عند أتشميازن، ثم دخل منطقة أرارات فأذربيجان، وانحدر بعد ذلك إلى وادي الزاب، وفي الثاني عشر من كانون الأول نازل أبرويز عند أطلال نينوى فأَوقع به هزيمة شنعاء، ثم عبر الزاب متجهًا شطر طيسفون عاصمة الفرس، فاحتل المقر الملوكي في دستجرد وانتزع منه ثلاثمائة لواءٍ روميٍّ كان الفرس قد استحوذوا عليها في انتصارات سابقة، وأطلق سراح أُلُوف من الأسرى، ولَمَّا كان جيش شهربراز لا يزال كاملًا سالمًا، وكانت خطوطُ الدفاع عن طيسفون قويةً منيعةً؛ آثر هرقل التربص لعدوه في تبريز، فقطع جبال الزاغروس في إبان الشتاء وبلغ إلى تبريز سالمًا في الحادي عشر من آذار سنة ٦٢٨.

وكان شيرويه بن أبرويز قد تمرد على والده وتسنم العرش في الثامن والعشرين من شباط من السنة ٦٢٨، فكتب إلى هرقل يطلب الصلح، فصالحه الفسيلفس على شروط أهمها: العودة إلى الحدود القديمة، وإطلاق الأسرى، وإرجاع الصليب المقدس، وقبل شيرويه هذه الشروط، فاتصل هرقل بشهربراز لتنفيذها. وكان هذا القائد لا يزال مستوليًا على شطر وافر من أملاك الروم في آسية، وبعد مفاوضات طويلة اجتمع هرقل وشهربراز في أرابيسوس في آسية الصغرى في حزيران من السنة ٦٢٩، وعرف هرقل كيف يحدث شهربراز بما كان يراود نفس القائد الفارسي، وكان شهربراز يطمع بعرش الفرس، فعلَّله هرقل بالأمل، فأسرع القائد الفارسي إلى تنفيذ المعاهدة، وأجلى جيوشه عما كان يحتله من أراضي الروم، وفي آذار السنة ٦٣٠ تسلَّم هرقل عود الصليب في منبج في سورية الشمالية، فانتقل به إلى المدينة المقدسة وأَحَلَّهُ مَحَلَّهُ في الثالث والعشرين من الشهر نفسه،٩ وكان هرقل قد امتنع هو وأسلافُهُ في المنصب الإمبراطوري عن اتخاذ لقب فسيلفس برغم أن رعاياهم كانوا يُطلقون هذا اللقب عليهم ردًّا على ما كان يَتَلَقَّبُ به مُلُوكُ الفرس، فلما انتصر هرقلُ على الفرس ذلك النصر الباهر غَيَّرَ لقبه الرسمي من أوتوقراتور إلى فسيلفس.١٠

الآفار والصقالبة

وفي السنة ٦١٧ عبر الدانوب جمعٌ غفيرٌ من الصقالبة، ناقلين معهم عِيالَهم وأمتعتهم، فانتشروا في إيليرية وإبيروس وثسالية وآخية وتراقية، وفي جزر بحر إيجه وشواطئ آسية، وعاثوا في البلاد فسادًا، وطوَّقوا ثيسالونيكية وحصروها شهرًا كاملًا، ولم تكد تنجلي المحنةُ وينقضي عامان حتى كَرَّ الصقالبةُ كرةً أُخرى جارِّين وارءَهم الآفار، وما زالوا حتى بلغوا إلى ضواحي القسطنطينية، فنهبوا ودَمَّرُوا وأَحْرَقُوا وسَبَوا، ولم يتراجعوا إلا بعد أن زاد لهم هرقل الإتاوة.

وقضت الحربُ الفارسيةُ بتغيب الإمبراطور عن العاصمة ثلاث سنوات متتالية، فعاد الآفار إلى سابق سيرتهم، وأرادوا هذه المرة اقتحام العاصمة نفسها في السنة ٦٢٦، وتَقَدَّمَ الفُرس في الحرب حتى خلقيدونية، فنكث خاقان الآفار بعهده السابق، واندفع بجُمُوعه إلى أسوار القسطنطينية، وكان الإمبراطورُ قد أقام ابنه نائبًا عنه في الحكم، وأقام البطريرك سرجيوس وَصِيًّا عليه، فهبَّ البطريرك بفصاحته وشجاعته يُثير الهمم، ويشدد العزائم، فيطوف العاصمة بالشعائر الدينية، ويعلو بنفسه الأسوارَ ومعه أيقونة المخلص وأيقونة العذراء، فأصبح — على تعبير أحد المعاصرين: «خوذة العاصمة ودرعها وسيفها.» ويقول معاصرٌ آخرُ: «إن البطريرك ما فتئ يواجه قوات الظلمة والفساد بأيقونتَي المخلص والعذراء شفيعة العاصمة حتى أَدَبَّ في قلوبهم الرعب والخوف، فكانوا كلما عرض البطريرك من الأسوار أيقونة الشفيعة أعرضوا هم عن النظر إليها.»١١

وجمع الفرس أُسطولًا وحاولوا الوصول إلى الشاطئ الأوروبي بحرًا، ولكنهم أخفقوا؛ لأن مراكب الروم بَدَّدَتْ شملهم عند القرن الذهبي «فصبغت المياه بدمهم وغطَّت البحر بجثثهم.» وانقضَّ خاقان الآفار بجُمُوعه على الأسوار لآخر مرة في العاشر من تموز فَارْتَدَّ خائبًا وهو يقول: «إني رأيت امرأة متوشحة بأثمن الأثواب، تطوف الأسوار من أولها إلى آخرها!» وهكذا نجت العاصمةُ من هذا الخطر المداهم، فعزا سكانها انتصارهم على الآفار والفُرس في آنٍ واحدٍ، إلى السيدة العذراء حامية المدينة، ونظم البطريرك سرجيوس تسبيحته الشهيرة الأكافيستون التي لا نزال نُرددها ونُرَنِّمُها باللحن الرابع حتى يومنا هذا مساءً كل جمعة من الأسابيع الخمسة الأُولى من الصوم الكبير:

إني أنا مدينتك يا والدة الإله،
أرفع لك رايات الغلبة أيتها القائدة المحامية،
وأقدم لك الشكر لنجاتي من الشدائد.
ولما كنتِ ذات العزة التي لا تحارب؛
فاعتقيني من أنواع الشدائد،
حتى أصرخ إليك قائلًا:
السلام عليك يا عروسة لا عروس لها.١٢
وكان هرقل يرى أن الخطر الفارسي أشد كثيرًا من خطر هؤلاء البرابرة، فأَهمل الدفاع عن الغرب وخسر كل ما كان قد أحرزه يوستنيانوس في إسبانية، وطمع الإكسرخوس إِلفثاريوس بعرش إيطالية في السنة ٦١٩ ودخل رومة وأعلن نفسه إمبراطورًا عليها، وكانت قبائل الصقالبة طوال الحرب الفارسية تتسرب إلى البلقان فاحتلت جميع مناطق البلقان الشمالية الغربية، وثبَّتت أقدامها في بانونية وميسية ودلماتية، وبين الصقالبة الذين دخلوا البلقان في هذه الآونة واحتلوا إيليرية الصرب والكروات،١٣ وقد أبقت هذه الموجات الطامية رواسبَ كبيرة من الصقالبة في مقدونية وبلاد اليونان نفسها، وإذا صدَّقنا إسيدور أسقف سيبلَّة فتكون موجة الصقالبة هذه قد غمرتْ بلاد اليونان بأسرها،١٤ وبقيت أحوال البلقان الشمالي والغربي مضطربة، وظل الصقالبة الضيوف في هرج ومرج طوال عهد هرقل، ولم تتمكن حكومة الروم من فرض سلطتها وهيبتها عليهم حتى أواخر القرن السابع.

القول بالمشيئة الواحدة

وكان من الطبيعي جدًّا أن يؤدي دخول الفُرس إلى سورية ولبنان وفلسطين ومصر، وبقاؤهم فيها خمس عشرة سنة، إلى اضطهاد أبناء الكنيسة الأُم لعلاقتهم بالقسطنطينية وتمسُّكهم بعقائدها، كما كان طبيعيًّا أن يؤدي ذلك إلى تنشيط اليعاقبة وكل من قال بالطبيعة الواحدة، والواقع أنه لما عاد الروم إلى هذه الأقطار وجدوا أن جميع بطاركتها هم مِن أتباع الطبيعة الواحدة، فعَادوا إلى مُعالجة هذا الانشقاق في الكنيسة لتوحيد الكلمة وجمع الصفوف؛ خصوصًا لأن الأخطار كانت لا تزال تحيط بالإمبراطورية وتهدد كيانها.

وكان طبيعيًّا أيضًا أن يشعر البطريرك سرجيوس صديق هرقل الأمين بالضعف الذي نجم عن هذا الاختلاف في العقيدة؛ ذلك بأن البطريرك كان يمارس الحكم ويطلع على خفايا الأمور في أثناء تغيب هرقل عن القسطنطينية في الحرب الفارسية، ويرى بعضُ الباحثين أن سرجيوس بدأ منذ السنة ٦١٦ يعرض على بعض الأساقفة القول بطبيعتين في السيد مع فعل واحد، وأن هرقل رأى في هذا القول مخرجًا من الأزمة اللاهوتية المستحكمة، ووسيلةً لتوحيد الصفوف، فلما كانت السنة ٦٢٢ فاوض هرقل جملة من الأساقفة في قبرص وأرمينية، ثم في السنة ٦٢٣ فاوض كيروس أسقف فاسيس في بلاد الأكراد، ونصح له أن يكتب إلى سرجيوس في هذا الموضوع، فقبل كيروس وكتب إلى سرجيوس، فأجابه هذا بأنه قد وجد بين رسائل أحد أسلافه ميناس رسالةً وجهها إلى فيجيليوس بابا رومة أشار فيها إلى فعلٍ واحد ومشيئة واحدة.

وأضاف أنه لا يعرف أحدًا من الآباء يؤيد القول بالمشيئتين، وهكذا قال كيروس بالمشيئة الواحدة، وسرَّ به هرقل وازداد شجاعةً على المضي في هذه التسوية، ففاوض في السنة ٦٢٩ أثناسيوس بطريرك أنطاكية، وكان هذا ممن يقول بالطبيعة الواحدة، فقبل، ثم التأم في السنة ٦٣٠ مجمع ثيودوسيوبوليس فقبل كاثوليكوس الأرمن إسِز وأساقفته اعتناق القول الجديد، وثبَّت هرقل أثناسيوس على الكرسي الأنطاكي، وجعل كيروس بطريركًا وواليًا على مصر، وأصبح أمله بالاتحاد وطيدًا بعد أن قبل أربعة بطاركة بالحل الجديد، وعندئذٍ كتب سرجيوس بطريرك القسطنطينية إلى أونوريوس بابا رومة مبينًا ما تمَّ من توحيد الكلمة راجيًا منه إبداء الرأي، فجاءَ جواب البابا مبهمًا غامضًا ولكنه لم يكن سلبيًّا، فإنه أشار إلى عبارة بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس في الفصل الثاني عن «صلب ربِّ المجد.» كما اقتبس من كلام يوحنا الحبيب في الفصل الثالث من إنجيله أنه «ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء.» مبينًا أنه يجوز القول: إن الله قد تألم.

وفي الوقت نفسه استدرك أونوريوس أن ليس من رأيه أن يصار إلى الكلام في الفعل الواحد والفعلين بعد أن تمَّ هذا الاتحاد في الكنيسة.١٥

وفي السنة ٦٣٤ تبوأ العرش البطريركي في المدينة المقدسة راهبٌ شديد الشكيمة قوي القلب، صفرونيوس الشهير، وكان قد سبق له أن أمَّ القسطنطينية وهو لا يزال راهبًا، واحتج على القول بالمشيئة الواحدة، فلما أصبح بطريركًا عقد مجمعًا محليًّا في المدينة المقدسة وحرَّم التعليم بالمشيئة الواحدة، وكتب إلى إخوانه البطاركة الآخرين كتابة صارمة ضد التعليم الجديد، فاضطرب البابا أونوريوس وكتب إلى صفرونيوس وغيره كتابة بمعنى رسالته المُشار إليها آنفًا، فلم ينتج عنها أَيُّ اتفاق؛ لغموضها وقلة صراحتها.

ولم يُوَفَّقْ كيروس كل التوفيق في مصر؛ فإن الساويريين وافقوه على القول بالمشيئة الواحدة، ولكن اليوليانيين والشيع الأُخرى اعترضوا، فضايقهم كيروس بما أُعطي من صلاحيات مدنية وسجنهم وعذَّبهم وقتل منهم فريقًا، ففرَّ رؤساؤُهُم إلى البراري ليعودوا إلى مصر مع العرب الفاتحين.

وتُوُفي صفرونيوس في السنة ٦٣٧، سنة دخول العرب إلى المدينة المقدسة، فأصدر الإمبراطور دستور إيمان جديد سنة ٦٣٨ عرف بالإكثيسيس Ecthesis وحتَّم فيه القول بالمشيئة الواحدة،١٦ وعقد سرجيوس مجمعًا في أواخر هذه السنة نفسها وصدق على الإكثيسيس، ثم أدركته الوفاة فخلفه بيرُّس ووافق على ما كان قد أقره سلفه.

وفي هذه السنة نفسها تُوُفي البابا أونوريوس فخلفه سويرينوس (٦٣٨–٦٤٠) ومات دون أن يحرِّم القول بالمشيئة الواحدة، أما البابا يوحنا الرابع (٦٤٠–٦٤٢) فإنه حرَّم المشيئة الواحدة، وفي السنة ٦٣٩ تَمَّ للعرب فتحُ الشام، فدخلوا أنطاكية، فصعبت الصلة وأوشكت تنقطعُ بين هذا المركز الديني والقسطنطينية، وفي السنة ٦٤١ تُوُفي هرقل — والحالة على ما وصفنا.

وهنا يحسن التذكير بموقف الكنيستين الرئيستين من القول بالمشيئة الواحدة؛ فهذا القول — بحسب موقف الكنيستين — مردودٌ؛ لأنه يناقض كمال اللاهوت والناسوت في السيد المسيح؛ فالطبيعة لا يُمكن أن تكون كاملةً وهي ناقصةُ الإرادة والفعل، والاعتقاد بالطبيعيتين يلزمه الاعتقاد بالمشيئتين والفعلين باتحاد وبلا انفصال، والمسيح لم يُرد ولم يفعل شيئًا من حيث هو إنسان فقط، بل من حيث هو إله وإنسانٌ معًا، بلا اختلاط ولا انقسام.١٧
١  بشهادة ثيوفانس Levtchenko, M. V., Byzance, 119-120.
٢  أومان: الإمبراطورية البيزنطية، تعريب الدكتور مصطفى طه بدر، ص١٠٢.
٣  Baynes, N. H., Successors of Justinian, Cam. Med. Hist., II, 288.
٤  Sebeos, The Hist. of Emp. Heraclius, French Trans. 108.
٥  Grégoire, H., An Arm. Dyn. on the Byz. Throne, Armenian Quart. I, (1946), 4–21.
٦  Pernice, A., L’Imperatore Eraclio, 44.
٧  Antiochus Strategus, Capture of Jerusalem by the Persians, Trans. by N. Marr; Peeters, P., La Prise de Jérusalem par les Perses, Mel. Univ. St. Joseph, IX.
٨  وجاء في الكامل لابن الأثير، ج١، ص٢٨٣، وفي غيره: «ووصل خبرُ عودة ملك الروم إلى شهربراز، فأراد أن يَستدرك ما فرط منه، فعارض الروم فقتل منهم قتلًا ذريعًا، وكتب إلى كسرى وأنفذ من رءوسهم شيئًا كثيرًا، وفي هذه الحادثة أنزل الله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، يعني بأدنى الأرض: أذرعات، وكانت الروم قد هُزمت بها في بعض حروبها.»
٩  Theophanes, Chronographia, ed. de Boor; Sebeos, Emp. Heraclius; Minorski, V., Roman and Byz. Campaigns in the Alropatene.
١٠  Bury, J. B., Selected Essays, 109.
١١  Pisides, Georges, Bellum Acaricum, V, 371.
١٢  Krumbacher, Gesch. der Byz. Litt., 671–673.
١٣  Bury, J. B., Op. Cit., II, 275ff; Jirecek, C., Gesch. der Serben, (1911 and 1918).
١٤  Isidori, Hispalensis Episcopi, Patrologia Latina, LXXXIII, 1056.
١٥  Duchesne, L., Hist. Anc. de l’Eglise, 407; Zananiri, G., Hist. de l’Eglise Byz., 144-145.
١٦  Zananiri, G., Op. Cit., 147.
١٧  جراسيموس متروبوليت بيروت، تاريخ الانشقاق، ج١، ص٣٣٢، هامش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤