الفصل السادس عشر

خلفاء هرقل

٦٤١–٧١٧

مرتينة

وتُوُفي هرقل في الحادي عشر من شباط سنة ٦٤١، وتولى العرش بعده — في آنٍ واحدٍ — كلٌّ من ولديه قسطنطين الثاني وهرقلون، على أن يحكما بإشراف الفسيلسة مرتينة زوجة هرقل الثانية ووالدة هرقلون. ولكن الشعب لم يرضَ أن تتولى أمورَه امرأة، فاضطرت مرتينة أن تحتجب شكلًا، وأن تدير دفة الحكم بالتعاون مع البطريرك بيرُّوس.١

وتُوُفي قسطنطين الثاني في أواخر أيار من السنة ٦٤١ مسمومًا، فاتهمت مرتينة بقتل ابن ضرَّتها؛ لكي يستأثر ابنها هرقلون وحده بالحكم، وتمرد الجُند في آسية الصغرى بزعامة أحد أخصَّاء قسطنطين في تشرين الأول من السنة نفسها، وزحفوا على خلقيدونية وأكرهوا مرتينة على إشراك قسطنطين الثالث ابن قسطنطين الثاني في الحكم، واستقال البطريرك بيرُّوس، ونشبت ثورة في العاصمة في مطلع السنة ٦٤٢ لا تزال أسبابها مجهولة، فقُطع لسان مرتينة وجُدع أنف هرقلون ونُفيا إلى رودوس، وتولى الحكم قسطنطين الثالث وهو بعدُ في الحادية عشرة من عمره.

قسطنطين الثالث (٦٤١–٦٦٨)

ويدعى قسطنس الثاني أيضًا، وقد عمل على استرداد مصر والشام، وأنفذ في أواخر السنة ٦٤٥ حملةً على مصر بقيادة مانويل، فجاءت مفاجأة للعرب المسلمين، وسقطت الإسكندرية في يد الروم واتخذها مانويل قاعدةً للتوغُّل في وادي النيل، وتغلغل في الدلتا وكاد يكتسح الموقف، ولكن الخليفة عثمان بن عفان أعاد عمرو بن العاص إلى قيادة الجيش العربي الإسلامي في مصر، فأنزل عمرو بخصمه مانويل هزيمةً شنعاء عند نيقيوس، فتقهقر مانويل إلى الإسكندرية واعتصم بها، وتبعه عمرو بن العاص لحصارها وتمكن من الدخول إليها بخيانة أَحَدِ حُرَّاسِهَا فافتتحها في أوائل السنة ٦٤٦.

وجاءَ في المواعظ للمقريزي أن عمرًا أقسم — إن هو استولى عليها — أن يهدم أسوارها ويجعلها كبيت الزانية يؤتَى من كل مكان،٢ وكان قسطنطين الثالث قد أنفذ في الوقت نفسه حملةً ثانية لمهاجمة الشام، فمُنيت — بدروها — بالفشل، وكان الذي صدَّها معاوية،٣ ورأى عثمان بن عفان وحكومتُهُ أن لا بد بعد هذا من إنشاء أُسطول لرد هجمات الروم في البحر، وكانت أحواضُ الروم في الإسكندرية وعكة قد وقعت سالمة في يد العرب الفاتحين، فأنشأ عثمان فيها أول أسطول عربي، ولعله استعان بأخشاب لبنان، ولا سيما حرج بيروت وببحارة الساحل اللبناني وساحل مصر،٤ واستهل نشاطه البحري بهجوم على قبرص في السنة ٦٤٩ وباحتلال جزيرة أرواد في السنة ٦٥٠. ويرى الزميل الدكتور إبراهيم أحمد العدوي — بحقٍّ — أن احتلال العرب لقُبرص لم يكن دائمًا، وإنما تَوَالَى الأخذُ والرَّدُّ على هذه الجزيرة بينهم وبين الروم،٥ وجهَّز قسطنطين الثالث عمارةً بحريةً كبيرةً، وقادها بنفسه في السنة ٦٥٥ للقضاء على استعدادات العرب البحرية، فكانت موقعة بحرية كبيرة عند فونكس قرب شاطئ ليقية في آسية الصغرى، دعاها العرب معركةَ ذات الصواري لكثرة السفن ذات الصواري فيها، وقد وفق فيها العرب إلى نصر حاسم،٦ ثم كانت الفتنةُ التي قُتل فيها عثمان سنة ٦٥٦، ونشبتْ حربٌ أهليةٌ في صفوف العرب المسلمين، فقُدِّر لرمال الصحراء الأفريقية ولجبال طوروس أن تقف سنواتٍ حدًّا فاصلًا بين العرب والروم.

وانتهز قسطنطين الثالث هذه الفترة من الهدوء في الخارج لإعادة النظر في إدارة الدولة، فأدخل بعضَ التعديلات التي سينظر فيها في فصل لاحق، وفي هذه الفترة أيضًا عالج مشكلةَ المشيئة الواحدة، وكان جده هرقل — كما تقدم معنا — قد بدأ منذ السنة ٦٢٢ يفاوض في أمر المشيئة الواحدة، وكان قد أجمع على القول بها منذ السنة ٦٢٩ جميع البطاركة وبينهم البابا أونوريوس.

وكان هرقل قد أصدر في السنة ٦٣٨ دستور إيمان رسمي عرف بالإكثيسيس أوجب به قبول المشيئة الواحدة، وكان البطريرك بيرُّوس قد استعفى على إثر هياج الشعب في العاصمة ضد الفسيلسة مرتينة ربيبته، وهاجر إلى أفريقية، وكان قد قام بينه وبين مكسيموس جدالٌ حول المشيئة الواحدة انتهى باقتناع بيروس سنة ٦٤٥ ورجوعه عن هذه البدعة.

وكان بيروس قد كتب إلى بولس الثاني خليفته على عرش كنيسة القسطنطينية يهدده بالقطع إن لم يرجع عن الهرطقة ويرفع الإكثيسيس عن أبواب الكنائس، وكان بيروس ومكسيموس قد رحلا معًا إلى رومة فأيدهما البابا ثيودوروس الأول (٦٤٢–٦٤٩)، فأَلغى قسطنطين الثالث الإكثيسيس وأصدر التيبوس Typon محظرًا به كل تعليم بالمشيئة الواحدة أو المشيئتين. ثم كان أن تبوأ عرش كنيسة رومة في السنة ٦٤٩ البابا مرتينوس الأول (٦٤٩–٦٥٥) فعقد مجمعًا حرَّم فيه الإكثيسيس والتيبوس، وطلب إلى الفسيلفس أن يعزل البطريرك بولس الثاني ويُقيم غيره أرثوذكسيًّا، فاستعظم قسطنطين الثالث هذا الطلب وقبض على البابا وقَيَّدَهُ بالسلاسل هو ومكسيموس وحكم عليهما بالعصيان.

وتُوُفي البابا في المنفى بعد شدائدَ قاسية، وحاول قسطنطين الثالث أن يُكره مكسيموس على القول بالتيبوس فلم يفعل، فغضب عليه وأمر بجلده ثم بقطع لسانه ويمينه، فمات في السنة ٦٦٢، أما بيروس فإنه بعد أن رفض بدعته عاد إلى القول بها، ثم رجع إلى القسطنطينية فنصب بطريركًا للمرة الثانية بعد وفاة بولس الثاني، ولكنه ما لبث أن تُوُفي بعد خمسة أشهر سنة ٦٥٢.

وأساء قسطنطين الثالث الظن بأخيه ثيودوسيوس، فألبسه ثوب الرهبنة ثم قتله، فثار به ضميرُهُ، وأصبح أخوه يتراءى له حاملًا كأسًا من دمه ويقول له: «يا أخي اشرب»، فكره الإقامةَ في المدينة التي ارتكب فيها إثمه ونزح عنها. وفي السنة ٦٦٢ ذهب إلى رومة فاستقبله فيها البابا ويتاليانوس بالحفاوة والإكرام، واغتاظ الشعب في القسطنطينية لسفره وتغيبه ولم يرضَ أن يتبعه في السفر زوجتُهُ وأولاده. ثم بعد ست سنوات ضربه خادم حمامه في سرقوصة بصندوق من الصابون على رأسه فتُوُفي في السنة ٦٦٨.

قسطنطين الرابع (٦٦٨–٦٨٥)

وفي أثناء غياب قسطنطين الثالث في إيطالية وصقلية كان ابنه قسطنطين الرابع يسوس الملك وهو بَعدُ فتى، فلما علم بقتل والده ونشوب الثورة في صقلية نهض إليها فأخذ بالثأر وعاد والشعر قد نبت في وجهه، فلقب بالألحى Pogonatus.

ولما كانت الغايةُ التي من أجلها صدر الإينيتكون «كتاب الاتحاد» في عهد زينون (٤٧٤–٤٩١) وتبعتْه الفصولُ الثلاثة في عهد يوستنيانوس (٥٢٧–٥٦٥)، ثم صدر الإكثيسيس في عهد هرقل (٦١٠–٦٤١)، والتيبوس في عهد قسطنطين الثالث (٦٤١–٦٦٨)؛ لما كانت الغاية من هذه النشرات كلها قد زالت بدُخُول الولايات السورية والمصرية والأرمنية في حكم العرب المسلمين، ولم يبقَ ثمة موجبٌ سياسيٌّ للتساهُل في أمر العقيدة؛ فإن قسطنطين الرابع أخذ يسعى لاستمالة أساطين الكنيسة الأُم الكاثوليكة الأرثوذكسية، فمنح — بادئ ذي بدءٍ — بابا رومة سُلطة على متروبوليت رابينة، وعزل في السنة ٦٧٨ البطريرك ثيودوروس عن عرش كنيسة القسطنطينية وأقام جاورجيوس بطريركًا مَحَلَّه، وأعلن عزمه على عقد مجمع لملافاة الانشقاق، وكتب إلى بابا رومة وإلى سائر الأساقفة يدعوهم إليه، فلَمَّا تَلَقَّى البابا أغاثون كتاب الفسيلفس عقد مجمعًا محليًّا سنة ٦٧٩ أَيَّدَ فيه قرارَ البابا مرتينوس وانتخب القسين ثيودوروس وجاورجيوس والشماس يوحنا نوابًا عنه، وأرسلهم إلى القسطنطينية حاملين الوثائق اللازمة.

المجمع المسكوني السادس

وفي السنة ٦٨٠ عقد في القسطنطينية المجمع المسكوني السادس، وكان موضع انعقاده قاعة البلاط المقدس، وهي القاعة التي تدعى اطرولُّوس Trollus؛ أي قاعة القبة، واشترك في أعمال المجمع ١٧٠ أسقفًا في طليعتهم البطريرك القسطنطيني جاورجيوس، والمتروبوليت إسطفانوس رئيس أساقفة هرقلية، والمتروبوليت يوحنا رئيس أساقفة آثينة، وثلاثتهم من علماء عصرهم المشاهير، وجلس الفسيلفس في صدر المجمع يُحيط به مجلسُ قضاة الدولة، وإلى يمينه البطريرك القسطنطيني جاورجيوس، فالبطريرك الأنطاكي مكاريوس، فنائب بطريرك الإسكندرية، وإلى يساره نواب بابا رومة فنائب بطريرك المدينة المقدسة، ووضع الإنجيل المقدس في الوسط، وقام نواب البابا قالوا: «إننا بحسب المرسوم الصادر عن دولتكم التي أقامها الله إلى بابانا الجزيل القداسة؛ قد جئنا من قِبَل البابا، ومعنا منه معروضٌ ومعروضٌ آخرُ مجمعي من الأساقفة الخاضعين له، وقد سلمنا المعروضين إلى دولتكم ذات المقام السامي.»
ثم شكوا الهرطقة ومخترعيها والبطاركة سرجيوس وبيروس وبطرس وكيروس وغيرهم وقالوا: «نناشد رجال كنيسة القسطنطينية الجزيلة القداسة ونسألهم متى وأين وجد هذا التعليم الجديد؟» فأجابهم مكاريوس بطريرك أنطاكية نصير القول بالمشيئة الواحدة: «إنه موجود في مجامع أشهر الآباء وبطاركة القسطنطينية.» فطلب الفسيلفس البيِّنة فأحضرت أعمال المجامع وقُرئت في الجلسات الخمس التالية، فوجدت رسالة مزورة عن لسان البطريرك ميناس إلى البابا فيجيليوس استند إليها مكاريوس، فقاومه نواب رومة، فثبت فسادُها وفساد عبارات كثيرة نسبت إلى الآباء مبتورةً محرَّفةً، وفي الجلسات السابعة تقدم الرومانيون ببيِّناتهم، وفي الثامنة اعترف بصحة هذه البينات جاورجيوس بطريرك القسطنطينية، ثم طلب إلى مكاريوس البطريرك الأنطاكي وأساقفته أن يوافقوا، فوافق الأساقفة ولكن مكاريوس اعترف بمشيئتين وأنكر الفعلين «مفضلًا الموت مقطَّعًا أو غريقًا على الموافقة.» فقطع من درجته في الجلسة التاسعة ونفي، وفي الثالثة عشرة حكم بالحرم على سرجيوس وبيروس وبطرس وبولس بطاركة القسطنطينية وعلى كيروس بطريرك الإسكندرية وعلى أونوريوس بابا رومة، وفي السابعة عشرة صدَّق على أعمال المجامع المسكونية السابقة، وفي الثامنة عشرة في ١٦ أيلول سنة ٦٨١ تليت شهادة أقرها المجمع: «بمسيح وابن وربٍّ ووحيد واحد هو نفسه بطبيعتين وأقنوم وشخص واحد وبمشيئتين وطبيعتين وفعلين طبيعيين بلا انقسام ولا تغيير ولا تجزؤ ولا اختلاط.»٧

قسطنطين والعرب

وكانت الاضطراباتُ الداخليةُ التي نجمت في الدولة العربية الإسلامية عن مقتل عثمان بن عفان قد انتهت، فاستتبَّ الأمرُ لمعاوية بن أبي سفيان (٦٦١–٦٨٠)، ومعنى هذا — في رأينا — أن الأمر استتب لتجار قريش، أولئك الذين قدروا عظمة التجارة التي كانت تربط حوض المتوسط بالشرق الأقصى، فكان — بالتالي — طبيعيًّا أن يدركوا مبلغ الخسارة التي حلَّت باللبنانيين والسوريين والمصريين من جراء ما سبب لهم الفتح العربي من انقطاع عن أسواقهم في آسية الصغرى والبلقان واليونان وإيطالية وفرنسة وإسبانية وألمانية وبريطانية، وهكذا لم يروا بدًّا من متابعة الحرب ضد الروم ودفعها إلى نتيجة حاسمة.٨
وكان معاوية ومن حوله يعلمون علم يقين أن رغبة الروم في العودة إلى القتال لم تنتهِ، وقد اغتنم قسطنطين الثالث فرصةَ انشغال معاويةَ بالمشاكل الداخلية فَدَسَّ إلى جبال الساحل السوري اللبناني بضعة آلاف من المردة يُغيرون منها على الحواضر والأرياف فيُهددون سيادة العرب في الشام، ويعيثون في البلاد فسادًا، وكان معاوية قد صالح قسطنطين هذا على مال يؤديه له كل سنة شرط أَنْ يقطع قسطنطين الإعانة عن المردة.٩
ولكن قسطنطين الثالث اغتيل سنة ٦٦٨ في سرقوصة، وفي سرقوصة هذه أعلن مزيزيوس Mizizios رغبته في العرش وثار سابوريوس Saborios القائد في أرمينية، واعتلى أريكة المُلك في القسطنطينية فتًى يافعٌ، وتمرَّد الجُند مُطَالِبِينَ بحق هرقل وطيباريوس شقيقَي قسطنطين الرابع في الملك، واستنجد سابوريوس بالعرب، فرأى معاوية والحالة هذه أَنَّ الفرصة سانحةٌ لضرب الروم ضربةً قاضية يستولي بها على القسطنطينية نفسها، وكان قد احتاط لأمر المردة فاستقدم عددًا كبيرًا من الفُرس وأسكنهم مدن الساحل اللبناني (عكة وصيدا وبيروت وجبيل وطرابلس) وأَتْبَعَهم في السنة ٦٦٩ غيرهم من أهل العراق.١٠
وكان معاويةُ قد عُنِيَ أيضًا بترميم الحصون الساحلية مع ما فيها أسوار الإسكندرية، وإذا به يقوم بمناورة عسكرية بحرية وبرية في الغرب ليضلل خصمه، فيغزو صقلية في السنة ٦٦٩ وينفذ عقبة في السنة ٦٧٠ إلى حُدُود ولاية أفريقية، ولكنه في الوقتِ نفسه عمد إلى سبر غور الدفاع البيزنطي في قبدوقية في السنة ٦٦٩،١١ فإذا بطلائعِ جيشِهِ تصل إلى القسطنطينية، وكان بطل هذه الحملة أبا أيوب الأنصاري، وقد تُوُفي في أثنائها ودُفن خارج أسوار عاصمة الروم، أما قائد الحملة فكان فضلة بن عبيد الأنصاري يؤيده يزيد بن معاوية.

ومن طريف الأخبار التي اقترنت بهذه الحملة ما نُقل عن بنت ملك الروم وبنت جبلة بن الأيهم الغساني، فقد روي أن بنت ملك الروم كانت إذا رجحت كفة قومها تُقيم الزينة على قصرها في العاصمة، وكانت بنت جبلة تُقيم الزينة على قصرها إذا رجحت كفة العرب، وهذا ما رغَّب يزيد بن أبي سفيان في فتح المدينة للحصول على بنت جبلة.

وفي ربيع السنة ٦٧٣ وصلت عمارةٌ عربيةٌ إسلاميةٌ كبيرةٌ إلى مياه القسطنطينية، تحاصر عاصمة الروم من البحر وتُحاول إنزال الجنود إليها، فصدتها مراكبُ الروم، وفي الخريف عادتْ هذه العمارة إلى شبه جزيرة كيزيكوس؛ لتمضي فصل الشتاء ولتتلقى المؤن والذخائر من الساحل السوري اللبناني، وفي الربيع التالي استأنف المسلمون الحصار فارتدوا ثانيةً، فعادوا يصرفون الشتاء في كيزيكوس، وظلوا كذلك حتى المرة الرابعة، واستعمل الرومُ في هذا الحصار الذي دام أربع سنوات (٦٧٣–٦٧٧) سلاحًا جديدًا أَعَدَّهُ مهندسٌ لبنانيٌّ كان قد فَرَّ من بلده بعلبك عند دخول العرب المسلمين إليها، وهو كالينيكوس الشهير.

واختراع كالينيكوس هذا الذي نَشَرَ الذعر في صفوف العرب المسلمين كان عبارة عن حراريق نارية مركبة من النفط والقطران والكبريت وغيرها من المواد السريعة الاشتعال إذا صُبَّت على جيشٍ أحرقته وإن سقطت في الماء لم تنطفئ، وقد دعاها الروم آنئذٍ النار البحرية، ثم سميت فيما بعد النار الإغريقية.١٢
واستخدم الروم جنودهم وأصدقاءَهم في جبال طوروس والأمانوس ولبنان للقيام بغارات جريئة في بلاد الشام نفسها تعرقل أعمال التموين وتهدد العاصمة العربية نفسها،١٣ وجاءت السنة ٦٧٧ فإذا بالعرب يعودون إلى الحصار، فانطلقت لصدهم مراكبُ النار البحرية فأحرقت عددًا كبيرًا من مراكب العرب، فاضطر ما بقي من العمارة العربية للعودة إلى قواعده في الشام، وهبَّت عاصفةٌ هوجاءُ حطمت قسمًا آخر، وطارد البيزنطيون البقية الباقية فغنموا معظمها،١٤ وفي السنة ٦٧٨ فاوض معاوية الروم في الصلح فأَقروه عليه لثلاثين سنة، شرط أن يدفع لهم ثلاثةَ آلاف قطعة من الذهب وخمسين عبدًا وخمسين جوادًا عربيًّا عن كل سنة فقبل،١٥ «فأصبح اسم قسطنطين الرابع مَحَطَّ احترامِ القبائل البربرية الضاربة في الأراضي المحيطة بدولة الروم، وأرسلت هذه القبائل تخطب ودَّه، ورأت الدول الأُخرى في غرب أوروبة أن رومة الجديدة لم تَقِلَّ في عظمتها وأهميتها عن رومة القديمة الخالدة.»١٦
وغامر عقبةُ بن نافع في هذه الآونة في أفريقيا الشمالية فبلغ طنجة «وجوَّل لا يعرض له أحدٌ ولا يقاتله.»١٧ وأوطأ فرسه الماء حتى بلغ الماءُ صدره وقال: «اللهم اشهد أني قد بلغت المجهود ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أُقاتل من كفر بك حتى لا يُعبد أحدٌ من دونك.»١٨ وكان قد أهمل أمر المدن المحصنة على ساحل البحر، فتناول رجالها المدد من الروم بعد أن حُطِّم الأسطولُ العربي، وتفاهموا وكُسَيلة أحد زعماء البربر، وعرضوا لعقبة في مكان يُقال له تهوذة في الجزائر في السنة ٦٨٣ فقتلوا عقبة ومن كان معه،١٩ واستغلَّ كُسَيلة نصره ودخل القيروان فأقام بها إلى أَنْ قَوِيَ أَمْرُ عبد الملك بن مروان.٢٠
وتُوُفِّيَ يزيدُ بن معاوية في السنة ٦٨٣، وتولى الخلافة بعده ابنُهُ معاويةُ الثاني، ورأى هذا أنه ليس بأهلٍ للخلافة، فخلع منها نفسه ولم يعين له خليفة، فعادت الأُمُور إلى ما كانت عليه قبل ثلاث سنوات عندما تُوُفي معاوية الأول، وتبوأ العرش مروان بن الحكم والأعداء له بالمرصاد، وكان رجلًا طاعنًا في السن، وكان قسطنطين الرابع قد استغل مشاكلَ يزيدَ فأكرهه على الخروج من قبرص. وجاءَت مشاكلُ معاوية الثاني ومروان فزحفت جيوش قسطنطين عبر الحدود الجنوبية، فدكَّت حصون ملاطية وأَجْلَت العرب عن جرمانية «مرعش» (٦٨٣)، وتُوُفي مروان فاضطر ابنُهُ وخليفتُهُ عبد الملك أن يُفاوض الروم وأن يدفع مالًا سنويًّا أكثر مما كان العرب يدفعون من قبل، وتم الصلح على هذا الشرط في السابع من تموز سنة ٦٨٥.٢١

يوستنيانوس الثاني (٦٨٥–٦٩٥)

وتُوُفي قسطنطين الرابع بداء الزحار في أول أيلول من السنة ٦٨٥، وتولى العرش بعده ابنه يوستنيانوس الأشرم،٢٢ وكان لا يزال في السادسة عشرة من عمره، وكان كأبيه وجده ذكيًّا شجاعًا نشيطًا، وكان طموحًا مشبعًا بحب العظمة والمجد، فأَراد أن يحتذي مثال سميه يوستنيانوس الكبير، ولكنه كسائر أفراد أُسرته كان يشكو شيئًا من قلة الاتزان، فتطور سُوءُ ظنه بالناس وحبه للعنف إلى شراسة في الخلق ورغبة في سفك الدماء.

ونقض يوستنيانوس هذا معاهدة السنة ٦٨٥ مع العرب وأرسل جيوشه لقتالهم، وكان عبد الملك لا يزال مرتبكًا مشغولًا في تثبيت دعائمِ خلافتِهِ ضد منافسين أقوياء، فاشترى الصلح مع الروم في السنة ٦٨٩ وقَبِلَ أن يدفع ليوستنيانوس الثاني مالًا سنويًّا أعظم مما دفعه معاوية: ثلاثمائة وخمسة وستين ألفًا من قطع الذهب، وثلاثمائة وستين عبدًا، وثلاثمائة وستين جوادًا كريمًا، وقَبِل بأن يقسم ولايات إيبيرية وأرمينية وقبرص بينه وبين يوستنيانوس بالسوية.

وعلم عبد الملك — فيما يظهر — أن خصمه كان ضعيف البصيرة ففاتحه بخذل المردة والعمل على نقلهم من تلال لبنان وسورية والأمانوس، فقبل يوستنيانوس وحطَّم بيده «هذا السور النحاسي الذي كان يفصل حُدُودَهُ عن حدود خصومه العرب المسلمين»،٢٣ وبعث قائدًا من جيشه إلى أمير المردة يوحنا متظاهرًا بطلب النجدة منه ضد العرب، فجاءَ القائد إلى قب إلياس حيث مسكن الأمير، فلقي ترحابًا وتكريمًا، وجلس يُحدث الأمير عن غزو العرب، ثم أشار إلى جُنده وكانوا على علم بمقصده فوثبوا على الأمير فقتلوه وفتكوا بكثيرين من بطانته.
ثم اعتذر إلى الأمير سمعان ابن أُخت الأمير يوحنا معيدًا الكلام على رغبة الفسيلفس في أن يَتَلَقَّى نجدة المردة، وطفق يزيَّن لهم أن يصحبوه إلى القسطنطينية، فَأَجابُوهُ إلى ما طلب، وتجمهر اثنا عشر ألفًا منهم يتزعمُهُم الأميرُ سمعان، وساروا إلى الفسيلفس فوزعهم حرسًا في أرمينية وتراقية وقزيقوس.٢٤
وجاء في تاريخ الطائفة المارونية، للبطريرك أسطفان الدويهي، أن يوستنيانوس الثاني لم يكتفِ بما فعل، بل جيَّش على المردة جيشًا جرَّارًا بقيادة موريق وموريقيان بعث به في السنة ٦٩٤ إلى لبنان فقتلوا رهبان دير مار مارون على العاصي وحلُّوا في الكورة بين أميون والناووس، وتَدَفَّقَ الجبيليون عليهم من أعالي الجبال فقاتلوهم حتى قتلوا أكثرهم.٢٥
ولعل هذه الحوادث وقعتْ في أثناء السنة ٦٨٩ عندما قام يوستنيانوس ينفذ شُرُوط مُعاهدته مع عبد الملك لا في السنة ٦٩٤ كما تقدم، ففي السنة ٦٩٤ كان يوستناينوس في حُرُوب جديدة مع عبد الملك دارتْ رحاها في آسية الصغرى وأسفرت عن اندحار كبير أمام جيوش الأمويين.٢٦

وجال يوستنيانوس في السنة ٦٨٩ جولة حربية ضد القبائل البلغارية، وأردفها في السنة ٦٩٠ بحملة موفقة ضد الصقالبة في البلقان، وجمع عددًا كبيرًا من هؤلاء وجعل منهم فرقة كبيرة وأنزلهم في منطقة الدردنيل؛ ليرابطوا فيها فيدفعوا العرب عنها في حرب مقبلة، وكان العرب قد جعلوا من هذه المنطقة — في أثناء هجومهم الأخير على القسطنطينية — نقطةَ ارتكاز لهم قبل عبورهم المياه لحصار عاصمة الروم.

حرب القراطيس والدنانير

وكان عبد الملك بن مروان قد بدأ ينظم أُمُور الدولة الأموية، وكانت الدولة البيزنطية لا تزال تستورد الورق من مصر، وكانت قد جَرَتْ عادة الأقباط على كتابة اسم المسيح وعبارة التثليث في أعلى الطوامير، ورأى عبد الملك بن مروان أن هذه العبارة لا تتفق ومظهر الدولة الإسلامية، فاستبدل اسم المسيح وعبارة التثليث بالعبارة: «قل هو الله أحد.» وكتب في صُدُور كُتُبه إلى الروم: قل هو الله أحد، وذكر النبي مع التاريخ، فكتب إليه يوستنيانوس: إنكم قد أحدثتم كذا كذا فاتركوه وإلا أتاكم في دنانيرنا مِنْ ذكر نبيكم ما تكرهون.

وكانت العملة السائدة في البلدان الإسلامية لا تزال دنانيرَ رومية ودراهم فارسية، فغضب عبد الملك وخشي ما قد يحدثه تهديد الفسيلفس من أثرٍ سيئٍ في نفوس المسلمين، فأَشار خالد بن يزيد على عبد الملك بالتمسك بما أحدثه في القراطيس وقال: «يا أمير المؤمنين، حرِّم دنانيرهم فلا يُتعامل بها، واضرب للناس سككًا، ولا تعفِ هؤلاء الكفرة مما كرهوا في الطوامير.»٢٧ وسَكَّ عبد الملك دنانيره الأولى في السنة ٦٩٢ وأَرسل المبلغ السنوي المفروض عليه للفسيلفس من هذه الدنانير الجديدة، فغضب يوستنيانوس لخُلُو هذه الدنانير من صورة أباطرة الروم ولحملها عباراتٍ لم تخلُ من التحدي: «أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.» فرفض الفسيلفس قبول هذه الدنانير وتحرك بجيوشه إلى الحدود العربية الإسلامية، واصطدم الجيشان في السنة ٦٩٣ بين سبسطية وسيواس Sebastopolis، واستعاض العربُ المسلمون عن الأعلام بنسخة من المعاهدة بينهم وبين الروم رفعوها عاليًا، وقاد يوستنيانوس جيشه بنفسه، وكاد ينتصر في الجولة الأُولى، ولكن العرب اتصلوا بعناصر الصقالبة من جيش الروم وأغروهم بالوعود فخانوا الروم وانضموا إلى العرب، فدارت رحى الحرب على الروم وخسروا أرمينية.
وفي السنة ٦٩٤ عاد محمد بن مروان فغزا، فبلغ أنيولية ومرعش وملاطية، ودخل عثمان بن الوصيد إلى أرمينية، فهزم الروم فيها وأثخن فيهم بالقتل والأسر، وعاد العرب إلى الصوائف في الحرب، وما انفكوا يبعثون بالصائفة كتيبةً بعد أُخرى حتى غنموا مالًا كثيرًا، واقتصَّ يوستنيانوس ممن بقي من الصقالبة في آسية الصغرى، فأصبح موضع كراهيتهم، وحبا عبد الملك من التجأ إليه منهم بالمساكن في ثغور الشام وقبرص، فنجحوا وأثرَوا إثراءً غريبًا، وغدا بنو جنسهم في آسية الصغرى أداةً لخدمة العرب المسلمين في أي نضالٍ حربيٍّ ينشب بين هؤلاء وبين الروم،٢٨ «واستفاد المسلمون كثيرًا من ولاء الصقالبة؛ إذ كانوا على علمٍ بدروب آسية الصغرى ومسالكها، فقاموا بوظيفة الأدلاء للجيوش الإسلامية، ولذا تابعت الجيوش الأموية انتصاراتها وإغاراتها على مُدُن آسية الصغرى دون أن تلقى جهدًا كبيرًا.»٢٩

المجمع البنثيكتي «الخامس السادس» (٢٦٢)

وقال كاتب البيذاليون في مقدمة كلامه على هذا المجمع: إن أبرز الرؤساء في المجمع البنثيكتي Penthektos؛ أي الخامس والسادس٣٠ كانوا: بولس القسطنطيني وباسيليوس أسقف غورتيني في كريت وأسقف رابينة — وهما نائبا البابا الروماني — وبطرس الإسكندري وأنسطاس الأوروشليمي وجاورجيوس الأنطاكي، وقد التأم هذا المجمع بأمرٍ ملوكيٍّ لا ليفحص هرطقة خاصة ولا ليحدد إيمانًا حتى يكون مجمعًا خاصًّا قائمًا بنفسه، بل ليكتب قوانين ضرورية تتعلق بحالة الكنيسة وإصلاحها،٣١ واشترك في أعمال المجمع ٢٢٧ أو ٢٤٠ أسقفًا، وسنَّ المجمع مائة قانون تتعلق بنظام الكنيسة داخلًا وخارجًا وبالحياة المسيحية، ولا تزال هذه القوانين مرعيةَ الإجراء إلى يومنا هذا، منها ما يبحث في علاقات الشمامسة بالقساوسة وفي زواج هؤلاء وأولئك، ومنها ما يعيِّن السن التي يجب أن يبلغها الإكليريكي قبل سيامته، ومنها ما يحرِّم الدَّين بالربا على رجال الدين والرشوة للوصول إلى المناصب الكنائسية، ومنها ما يتعلق بالكُتُب المقدسة وكيفية استعمالها والمحافظة عليها والتعليم بها، ومنها ما يبحث في الرهبانية والأديار، وفي الجمعيات السرية وعتق الرقيق، وفي أمر اليهود، ومنها ما يحرِّم التصاوير البذيئة والسحر والكهانة.

وأشهر هذه القوانين القانون السادس والثلاثون الذي نص على ما يلي: «إننا نجدد ما اشترعه الآباء القديسون المائة والخمسون الذين اجتمعوا في هذه المدينة المحروسة من الله وما اشترعه الآباء الست مائة والثلاثون الذين اجتمعوا في خلقيدونية … فنرسم أن يكون لكرسي القسطنطينية التقدم أُسوةً بتقدم كرسي رومة القديمة، وأن يُعظم مثله في الأُمُور الكنائسية ليكونه ثانيًا بعده، وأن يحسب بعدهما كرسي الإسكندرية المدينة العظيمة، ويحسب بعده كرسي أنطاكية، وبعد هذا كرسي مدينة الأوروشليميين.»

وعُرضت أعمالُ هذا المجمع على البابا سرجيوس (٦٨٧–٧٠١) ليوقعها بعد الفسيلفس فأبى محتجًّا ببعض محتوياتها كتحريم الصوم أيام السبت والإذن للكهنة بالزواج، فأراد يوستنيانوس أن يكرهه على ذلك ولكن جيشه في إيطالية وقف إلى جانب البابا.٣٢

خلع يوستنيانوس

واستنزفت حروب يوستنيانوس كل ما في الخزينة، وبرغم هذا فإن الفسيلفس الذي كان يحذو حذو سميه يوستنيانوس الكبير أراد أن يقوم هو أيضًا بإنشاءات تخلد اسمه، فاضطر وزيراه ثيودوتوس وإسطفانوس الخصي أن يجمعا الأموال عن طريق الاغتصاب، ومما يُروى عن ثيودوتوس أنه كان يعلِّق الذين يمتنعون من دفع الضرائب بالحبال فوق دخان النار، وبينما كان وزيراه يجرَّان عليه كراهية الطبقات الشعبية كان هو يجر على نفسه كراهية رجال الكنيسة والجيش، ففي السنة ٦٩٤ طلب أن تهدم كنيسة في القسطنطينية ليقيم في مكانها بنايةً له، فكلف البطريرك المسكوني أن يصلي على الكنيسة قبل هدمها، فأجابه البطريرك: «أما لأجل بناء كنيسة فعندنا أفشين ولكن لأجل هدم كنيسة فليس لنا ما نقول.» فأجبره الفسيلفس أن يصلي للهدم بالقوة، فوقف البطريرك ودموعه تسيل وصلى قائلًا: «المجد لله الطويل الأناة كل حين وكل أوانٍ وإلى دهر الداهرين.»

وبعد الذي أصيب به يوستنيانوس من مسٍّ في الحرب العربية، بدأ يقتل ضباطه ويحبسهم ويستأصل شأفة جُنُوده المهزومين، حتى أصبح العملُ في القيادة العُليا لجيشه يشبه في خطره التعيينَ لمنصب القائد الأعلى في أثناء إرهاب روبسبيار إبان الثورة الإفرنسية.٣٣

وفي السنة التالية (٦٩٥) عين يوستنيانوس لاونديوس قائدًا أعلى، فخشي لاونديوس سوء العاقبة واعتقد أن أيامه أصبحت معدودة، فنصح له راهبٌ اسمُهُ بولس أن يضرب ضربة جريئة؛ لأن الشعب والجيش يسيرون وراءَه، فهاجم لاونديوس السجن وحرر عددًا كبيرًا من السجناء السياسيين، فانضمت إليه العامة، فنادى بهم: «النصارى في كنيسة الحكمة»، وأذاع في البلد أَنَّ حياة البطريرك في خطر، فاجتمع الشعبُ في باحة الكنيسة العُظمى، وجاءهم البطريك فبارك عملهم قائلًا: «هذا هو اليوم الذي صنعه الله.»

وسار لاونديوس إلى القصر وقبض على يوستنيانوس ووزيريه، فجدع أنف الفسيلفس وسلم الوزيرين إلى الجماهير، فطافوا بهما وحرقوهما، ثم نفى لاونديوس الفسيلفس الأشرم إلى الخرسون في القرم، ونادى الزرق بلاونديوس فسيلفسًا وتوَّجه البطريرك.٣٤

الفوضى (٦٩٥–٧١٧)

وانهزم العربُ المسلمون في تهودة — كما أن أشرنا — وانسحبوا من ولاية أفريقية، وكان ما كان من أمر الانقسامات الداخلية بينهم ونُشُوب الثورات على الأمويين في الحجاز وفي العراق وغيرهما، فاستطاع الروم أن يستعيدوا ما كان لهم من نفوذ وسلطة في أفريقية، وجهز عبد الملك بن مروان في السنة ٦٨٨ جيشًا كبيرًا أَمَّرَ عليه زهير بن قيس وبعثه لاسترداد أفريقية، وذلك رغم انشغاله بثورة عبد الله بن الزبير.

وكتب النصر لزهير فقهر كُسَيلةَ في ممس، ثم توغل في البلاد يُخضع قبائلَ البربر الموالية للروم، وترك الروم المسلمين يُطيلون خُطُوط تموينهم، ثم أنزلوا قوةً كبيرة في برقى لتعمل في مؤخرة زهير أو لتفاجئه وهو في طريق العودة إلى مصر، ونشبتْ موقعةٌ في برقة (٦٨٩) خرَّ فيها زهير صريعًا وانهزم العربُ المسلمون.

وفي السنة ٦٩٥ أَعَدَّ الخليفة الأُموي جيشًا آخرَ وأمَّر عليه حسَّان بن النعمان، فسار حسَّان إلى القيروان وقام منها إلى قرطاجة أعظم مدن الروم وأمنعها، وأوقع بهم هزيمة شنعاء، واستولى على قرطاجة في صيف السنة ٦٩٧، فانسحب منها الرومُ إلى صقلية، ثم عادوا إلى قرطاجة في خريف السنة نفسها بقيادة البطريق يوحنا فدخلوها عنوةً، وأعاد العرب الكرة عليها في صيف السنة ٦٩٨ مستعينين هذه المرة بقوة بحرية كبيرة فدخلوها آمنين.٣٥
ونجا القسمُ الأكبرُ من جيش أفريقية، وأبحر الضباط إلى القسطنطينية، ودبروا في أثناء رحلتهم مؤامرة لخلع لاونديوس، وأشركوا معهم في هذه المؤامرة طيباريوس عبسيمروس درونغاريوس الأسطول؛ أي نائب القائد،٣٦ ولدى انضمامه إليهم بأُسطول بحر إيجه نادوا به فسيلفسًا، فاستولى على العاصمة متخذًا اسمًا له طيباريوس الثالث، وجدع أنف لاونديوس وحبسه في أحد الأديرة (٦٩٨–٧٠٥)، ووفق طيباريوس في حروبه ضد العرب واسترد مناطق الحدود التي كان قد فقدها يوستنيانوس ولاونديوس وغزا سورية الشمالية، «ولكن الأهالي والجيش كانوا قد أصبحوا لا يخضعون لسيطرة أحد وكان الفسيلفس لا يستطيع أن يعتمد على أحد وباتت أدنى هزة كافية لقلب عرشه المتداعي.»٣٧

وفرَّ يوستنيانوس الثاني من منفاه، ورسا مركبه في مياه البلغار، وكان تربيل ملك البغار يبحث عن حجة يتذرع بها لغزو الروم، فلما استنصره يوستنيانوس زحف تربيل بجيشه على القسطنطينية، وكان سكان العاصمة آسفين لزوال حكم هرقل وخلفائه، فعاد يوستنيانوس إلى العرش الذي خلع عنه (٧٠٥)، «وكان قد عوَّل ألَّا يفعل شيئًا إلا أن يثأر لأنفه المبتور»، فأرسل في طلب لاونديوس وطيباريوس وشدَّهما بالحبال جنبًا إلى جنب ووضعهما على الأرض أمام عرشه في الملعب وجلس واتخذ جسميهما موطئًا لقدميه، ثم قطع رأسيهما، وأعدم عددًا من كبار الضباط ورجال البلاط وسمل عيني البطريرك ووضع كثيرين من وجهاء القسطنطينية في أكياس ثم أغرقهم في البوسفور.

وفي السنة ٧١١ ثار عليه فيليبيكوس البرداني فدخل العاصمة بينما كان يوستنيانوس في سينوب، ثم قتل يوستنيانوس وقتل ابنه طيباريوس من زوجته ثيودورة الخزرية، وبذلك انتهى أمر الهرقليين بعدما حكموا مائة سنة وسنة، ولكن فيليبيكوس هذا لم يكن سوى رجل لهوٍ ولذةٍ، فقضى وقته (٧١١–٧١٣) منصرفًا إلى المتع، ولما كان من أصحاب المشيئة الواحدة فقد عزل البطريرك كيروس إلى دير وأقام يوحنا السادس بطريركًا محله، ثم عقد مجمعًا محليًّا في السنة ٧١٢ أجبر فيه الفسيلفس والبطريرك الجديد أساقفته أن يحرقوا أعمال المجمع السادس.

حتى إذا كانت السنة ٧١٣ اتفق قائدان من قادة الجيش فعزلا فيليبيكوس، وأقام الشعب رئيس كُتَّاب القصر أرتاميوس فسيلفسًا باسم أنسطاسيوس الثاني، فضبط زمام الملك وعزل البطريرك يوحنا السادس وأقام جرمانوس بطريركًا عوضه، وعقد الفسيلفس والبطريرك الجديد مجمعًا محليًّا أيد قرارات المجمع السادس (٧١٥)، ولكن في السنة ٧١٦ تمرَّد الجُند وأعلنوا خلعه، ونادوا بثيودوسيوس الثالث فسيلفسًا، فاستعفى أنسطاسيوس وأقام راهبًا في دير.

حصار القسطنطينية (٧١٧-٧١٨)

وكان البلغاريون والمسلمون في أثناء هذا كله يغزون ولايات الحدود كلٌّ من صوبه، وكانت غاراتُهُم تزداد حدةً وتوغلًا، فسقطت تيانة في يد العرب المسلمين في السنة ٧١٠، وأماسية في السنة ٧١٢، وأنطاكية البسيدية في السنة ٧١٣، وتوغل العرب في السنة ٧١٦ في فريجية وحاصروا عمورية،٣٨ وباتوا لا ينتظرون إلا النصر، ولكن الروم كانوا قد أنجبوا لاون الإسوري رجل الساعة الذي تبوأ العرش برضى ثيودوسيوس الثالث وموافقة البطريرك ومجلس الشيوخ ورجال البلاط.

وكان قد تولى الخلافة في دمشق سليمان بن عبد الملك (٧١٥–٧١٧)، وكان سليمان يحسب أنه هو المقصود بالحديث القائل إن خليفة يحمل اسم نبي سيفتح القسطنطينية، فأعد أُسطولًا كبيرًا وجيشًا عظيمًا وأسند القيادة في البر لأخيه مسلمة، وفي البحر لوزيره سليمان، فقام مسلمة من طرسوس إلى الدردنيل والتقى في أبيدوس بسليمان وعمارته، وكان لاوون قد حشد كل ما لديه في العاصمة للدفاع، فقطع الجيش العربي الدردنيل، وزَحَفَ على القسطنطينية وحاصرها برًّا، وقامت العمارة العربية بالعمل نفسه من البحر.

وحاول سليمان أن يسد طريق البحر الشمالية، فانبرتْ لصده بوارجُ الروم فأنزلت بمراكبه ضررًا كبيرًا، وبقي منفذ القسطنطينية الشمالي مفتوحًا للمدد من البحر الأَسود، واعتمد مسلمةُ على تجويع المدينة أكثر من اعتماده على مهاجمتها جبهيًّا، ولكن لاوون كان قد حسب لهذا المحذور حسابه فأمر كل أسرة بأن تختزن مئونة سنتين، أما مسلمة فإنه لم يحسب الحساب لشتاء قارس يداهمه، فجاء شتاء السنة ٧١٧-٧١٨ بثلج دام ثلاثة أشهر، فمات عددٌ كبيرٌ مِن جُنُود مسلمة بالبرد وداء الزُّحار، وبين من لقوا حتفهم الوزير سليمان.

وفي ربيع السنة ٧١٨ وصل أُسطول احتياطيٌّ من مصر وجيش جديد من طرسوس، واحتل هذا الجيش شاطئ البوسفور الآسيوي ورسا الأُسطول في مياهه، فتسللت سفن النار الرومية إلى مرسى الأُسطول المصري فأحرقته، ونزلت قوة من الروم وراء الجيش الجديد فباغتته ومزقته إربًا، وبدأت المجاعة تهاجم صفوف مسلمة، ثم فاجأه البلغاريون من الوراء فقتلوا من رجاله عشرين ألفًا، فتراجع عن عاصمة الروم بعد أن فقد معظم جيشه، وتعرَّض الباقي من عمارته لعاصفة في بحر إيجه فلم يعد إلى شواطئ الشام سوى خمس سفن فقط.٣٩
١  Nicephorus, Bib. Script. Graec. et Latin., 31-32.
٢  ج١، ص١٦٧، راجعْ أيضًا: ابن عبد الحكم، فتوح مصر، تحت أخبار السنة ٢٥.
٣  الإمبراطورية البيزنطية والدولة الإسلامية، للدكتور إبراهيم العدوي، ص٥٢-٥٣.
Bury, J. B., Op. Cit., II, 288.
٤  Becker, K., Expansion of Saracens, Cam. Med. Hist., II, 352-353.
٥  الكامل لابن الأثير، ج٣، ص٤٠.
٦  ابن عبد الحكم، ص١٩٠ و١٩١.
٧  Mansi, Amplissima Collectio Conciliorum, XI, 629–640; Brooks, E. W., Successors of Heraclius, Cam. Med. Hist., 400–405.
جراسيموس متروبوليت بيروت، تاريخ الانشقاق، ج١، ص٣٤٠–٣٤٢.
٨  Lewis, A. R., Naval Power and Trade in the Mediterranean, 54-55.
٩  البلاذري، فتوح البلدان، ص١٥٩. Theophanes, Chronographia, 347.
١٠  الأعلاق النفيسة لابن رستة، ص٣٣٧، والبلاذري أيضًا.
١١  Theophanes, Op. Cit., 532-533.
١٢  Zenghlis, C., Le Feu Grégeois, Byzantion, 1932, 265–288; Schlumberger, G., Un Empereur Byzantin, 53ff.
١٣  Theophanes, Chron. 356; Lammens, H., Moawia, 18–20.
١٤  Canard, M., Expéditions des Arabes Contre Constantinople, Journal Asiatique, (1925-26), 77–80.
الدكتور إبراهيم أحمد العدوي، الإمبراطورية البيزنطية، ص٥٦–٥٨.
١٥  Theophanes, Chron., 356.
١٦  الدكتور إبراهيم العدوي: المرجع نفسه، ص٥٨-٥٩.
١٧  ابن عبد الحكم، ص١٩٨.
١٨  المالكي، رياض النفوس، ٢٥.
١٩  ابن عبد الحكم، ص١٩٨.
٢٠  ابن الأثير، ج٤، ص٩١.
٢١  Brooks, E. W., Op. Cit., 405-406.
٢٢  Rhinotmetus.
٢٣  Theophanes, Chron., 363, 364.
٢٤  Regesten des Kaiserurkunden des Ostromischen Reiches, 257.
٢٥  تاريخ الطائفة المارونية، للبطريرك أسطفان الدويهي، (بيروت، ١٨٩٠)، ص٨٠–٨٢.
٢٦  والواقع الذي لا مفر من الاعتراف به هو أَنَّ أحدًا من المؤرخين لم يوفق بعدُ إلى ضبط أخبار الرُّوم والعرب، وتعيين تواريخها في هذه الفترة.
٢٧  كتاب الفتوح للبلاذري، ص٢٤٩، والكامل لابن الأثير، ج٤، ص٥٣.
٢٨  Cedrenus, G., Historiarum Compendium, I, 772; Zonaras, XIV, 229–231; Theophanes, Chron., 365–367.
٢٩  الأمويون والبيزنطيون، للدكتور إبراهيم أحمد العدوي، ص١٨٠.
٣٠  وفي الآداب الغربية Quinisexlum.
٣١  جراسيموس متروبوليت بيروت، تاريخ الانشقاق، ج١، ص٣٤٩، هامش.
٣٢  Gorres, F., Justinian II und das Romische Papsttum, (Byz. Zeit., 1908), 440–450.
٣٣  واللفظ في معظمه للدكتور مصطفى طه بدر في كتابه الإمبراطورية البيزنطية، ص١٣٨.
٣٤  Brooks, E. W., Op. Cit., Cam. Med. Hist., II, 408–410.
٣٥  Becker, K., Exp. of Saracens, Cam. Med. Hist., II, 369-370.
وأفضل ما صنف بالعربية في فتح المغرب كتاب الأستاذ حسين مؤنس «فتح العرب للمغرب» (١٩٤٧)، وفصول الدكتور إبراهيم أحمد العدوي في كتابه «الأمويون والبيزنطيون».
٣٦  Tiberius Apsinarus-drungarius.
٣٧  الإمبراطورية البيزنطية لأومان، ص١٤٠.
٣٨  اطلب التفاصيل في كتاب الدكتور إبراهيم أحمد العدوي «الأمويون والبيزنطيون» ص١٨١-١٨٢.
٣٩  Canard, M., Expéditions Arabes, Journal Asiatique, 1929, 102–80; Theophanes, Chron., 395–399.
الطبري، ج٢، ص١٣٤٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤