الفصل الثامن والثلاثون

أما سيرة علي في عمال الأقاليم وولاتها فلم تنحرف عن سيرة عمر قليلًا ولا كثيرًا، وإنما هي سنة سنها النبي والشيخان، وأحياها علي بعد أن أدركها شيء من الضعف والإهمال في الأعوام الأخيرة لخلافة عثمان.

كان علي شديد المراقبة لعماله، يشدد عليهم في الحساب، وفي استيفاء ما يلزمهم من حقوق الناس، ويشدد عليهم في سيرتهم العامة والخاصة فيعطي كل واحد منهم عهدًا يقرؤه على الناس حين يتولى أمرهم، فإذا أقروه بعد قراءته عليهم فهو عقْد بينهم وبين حاكمهم، لا يجوز لهم ولا له أن ينحرفوا عنه أو يتأولوه، فإن انحرفوا عنه وجبت عليهم العقوبة وأنفذ الحاكم في المخالفين هذه العقوبة، وإن انحرف الحاكم عنه وجبت عليه العقوبة وأنفذها فيه الإمام نفسه.

ثم كان علي يرسل الأرصاد والرقباء ليظهروا على سيرة العمال ويرفعوا منها إليه ما يجب أن يرفعوه، يستخفي بعض هؤلاء الأرصاد والرقباء بمهمتهم، ويظهر بها بعضهم، وكان كل رجل من أهل الأقاليم رصدًا ورقيبًا على حاكمه، يستطيع أن يشكوه إلى الإمام كلما انحرف عن العهد الذي أخذ عليه.

وربما توسط علي لأهل إقليم من الأقاليم عند أميرهم في بعض ما يرون لأنفسهم من مصلحة تنفعهم أو تسوق إليهم خيرًا.

جاءه أهل ولاية من الولايات فزعموا له أن في بلادهم نهرًا قد عفا ودرس، وأن في حفره وإعادته لهم وللمسلمين خيرًا، وطلبوا إليه أن يكتب إلى الوالي في أن يسخرهم في احتفار هذا النهر، فقبل منهم احتفار النهر وكره منهم ما طلبوا من التسخير، وكتب إلى عامله قرظة بن كعب:

أما بعد، فإن قومًا من أهل عملك أتوني فذكروا أن لهم نهرًا قد عفا ودرس، وأنهم إن حفروه واستخرجوه عمرت بلادهم، وقووا على كل خراجهم، وزاد فيء المسلمين قبلهم، وسألوني الكتاب إليك لتأخذهم بعمله وتجمعهم لحفره والإنفاق عليه، ولست أرى أن أجبر أحدًا على عمل يكرهه، فادعهم إليك فإن كان الأمر في النهر على ما وصفوا، فمن أحب أن يعمل فمره بالعمل، والنهر لمن عمل دون من كرهه، ولأن يعمروا ويقووا أحب إلي من أن يضعفوا، والسلام.

وشكا إليه أهل ولاية أخرى أن عاملهم يزدريهم ويقسو عليهم، فنظر في أمرهم فاستبان له أنهم ليسوا أهلًا للازدراء، فكتب في أمرهم إلى عامله عمرو بن سلمة الأرحبي:

أما بعد، فإن دهاقين بلادك شكوا منك قسوةً وغلظة واحتقارًا، فنظرت فلم أرهم أهلًا لأن يُدنوا لشِرْكهم، ولم أرَ أن يُقصوا ويُجفوا لعهدهم، فالبس لهم جلبابًا من اللين تشوبه بطرف من الشدة، في غير ما أن يُظلموا، ولا تنقض لهم عهدًا، ولكن تفرغ لخراجهم وتقاتل من وراءهم، ولا يؤخذ منهم فوق طاقتهم، فبذلك أمرتك والله المستعان، والسلام.

وكان أمراؤه يهابونه وربما حاولوا أن يُخفوا عليه اليسير من أمرهم فرارًا من ملامته، فإذا عرف ذلك من أمرهم تجاوز لومتهم إلى الاتهام والتقريع والنذير.

وقد رُوِي أنه أرسل إلى زياد حين كان خليفة لابن عباس على البصرة، قبل اعتزاله أو بعد اعتزاله العمل، من يحمل إليه ما عنده من المال.

فقال زياد للرسول فيما قال: إن الأكراد قد كسروا شيئًا من الخراج، وإنه يداريهم، وطلب إليه ألا ينبئ بذلك أمير المؤمنين؛ فيتهمه بالاعتلال عليه في بعض الحق، وكان الرسول أمينًا لمرسله، فأنبأه بكل ما قاله زياد، فكتب علي إلى زياد:

قد بلَّغني رسولي عنك ما أخبرته به عن الأكراد واستكتامك إياه ذلك، وقد علمت أنك لم تلقِ ذلك إليه إلا ليبلغني إياه، وإني أقسم بالله عز وجل قسمًا صادقًا لئن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين شيئًا، صغيرًا أو كبيرًا، لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوقر ثقيل الظهر، والسلام.

وأقل ما يدل عليه هذا الكتاب هو أن عليًّا لم يكن من السذاجة بحيث يظن بعض خصمه، ولم يكن سهل التغفل كما يظن به بعض المسرفين عليه وعلى أنفسهم، وإنما كان من بُعد الغور ونفاذ البصيرة والوصول إلى أعماق النفوس بحيث كان غيره من مهرة العرب ودهاتهم، ولكنه كان يؤثر الصراحة والصدق ومواجهة الحقائق على نحو مستقيم من التفكير، وكان يرفع نفسه عن المكر والكيد والدهاء؛ نصحًا لدينه واستمساكًا بأخلاق الرجل الكريم.

فهو قد فهم أن زيادًا إنما أراد أن يعتذر عن قلة ما حمل إليه من المال، وأن يلطف للرسول في ذلك فينبئه بأمر الأكراد ويوصيه بإخفاء ذلك على الخليفة مخافة أن يُتهَم عنده، وقدر أن الرسول سيتعلق عليه بهذه التعلة ويُنبئ بها أمير المؤمنين، وقد رأيت شدة علي على زياد في النذير والتحذير، وأكبر الظن أنه لم يقف عند النذير والتحذير، وإنما كلف من يتلطف حتى يحقق من أمر الأكراد ما زعم زياد.

وبلغته هَنَات عن المنذر بن الجارود — عامله على إصطخر — فكتب إليه هذا الكتاب الذي يعزله به عن ولايته ويستقدمه إلى الكوفة:

إن صلاح أبيك غرني فيك، وظننت أنك متبع هديه وفعله، فإذا أنت فيما رُقِي إليَّ عنك، لا تدع الانقياد لهواك وإن أزرى ذلك بدينك، ولا تسمع إلى الناصح وإن أخلص النصح لك، بلغني أنك تدع عملك كثيرًا وتخرج لاهيًا متنزهًا متصيدًا، وأنك قد بسطت يدك في مال الله لمن أتاك من أعراب قومك، كأنه تراث عن أبيك وأمك، وإني أقسم بالله لئن كان ذلك حقًّا لَجَمل أهلك وشسع نعلك خير منك، وإن اللعب واللهو لا يرضاهما الله، وخيانة المسلمين وتضييع أموالهم مما يسخط ربك، ومن كان كذلك فليس بأهل لأن يُسَد به الثغر ويُجبَى به الفيء ويُؤتمَن على مال المسلمين، وأَقْبِل حين يصل كتابي هذا إليك.

فلما قدم حقق علي أمره مع من اتهمه من الناس، فظهر أن عليه من مال المسلمين ثلاثين ألفًا، فطالبه بها، وجحدها المنذر، فطالبه علي باليمين، فنكل، وألقاه علي في السجن حتى شفع فيه وضمنه صعصعة بن صوحان، وكان من أتقى أهل الكوفة ومن آثر الناس عند علي، فأطلقه.

وأرسل علي بعض مواليه إلى زياد يستحثه على حمل ما عنده من المال، وكأن هذا المولى أثقل على زياد في الإلحاح، فنهره زياد، فرجع إلى الخليفة منكرًا لأمر زياد وقال فيه فأكثر القول، فكتب علي إلى زياد واعظًا مؤدبًا:

إن سعدًا ذكر لي أنك شتمته ظالمًا وجبهته تجبرًا وتكبرًا، وقد قال رسول الله : الكبرياء والعظمة لله. فمن تكبر سخط الله عليه، وأخبرني أنك مستكثر من الألوان في الطعام، وأنك تَدَّهن في كل يوم، فماذا عليك لو صمت لله أيامًا وتصدقت ببعض ما عندك محتسبًا، وأكلت طعامك في مرة مرارًا أو أطعمته فقيرًا؟! أتطمع وأنت متقلب في النعيم، تستأثر به على الجار المسكين والضعيف الفقير والأرملة واليتيم، أن يجب لك أجر الصالحين المتصدقين؟! وأخبرني أنك تتكلم كلام الأبرار وتعمل عمل الخاطئين، وإن كنت تفعل ذلك فنفسَك ظلمتَ وعملَك أحبطتَ، فتب إلى ربك وأصلح عملك واقتصد في أمرك، وقدِّمْ الفضل ليوم حاجتك إذا كنت من المؤمنين، وادَّهن غبًّا ولا تدَّهن رفهًا، فإن رسول الله قال: ادهنوا غبًّا ولا تدهنوا رفهًا. والسلام.

وقد كره زياد هذه الوشاية به إلى الخليفة وحرص على أن يبرئ نفسه مما رُمِي به، فكتب إلى علي:

إن سعدًا قدم عليَّ فعجل، فانتهرته وزجرته، وكان أهلًا لأكثر من ذلك، فأما ما ذكر من الإسراف في الأموال والتنعم واتخاذ الطعام، فإن كان صادقًا فأثابه الله ثواب الصادقين، وإن كان كاذبًا فلا أمَّنه الله عقوبة الكاذبين، وأما قوله إني أتكلم بكلام الأبرار وأخالف ذلك بالفعل، فإني إذن من الأخسرين عملًا، فخذه بمقام واحد قلت فيه عدلًا ثم خالفت إلى غيره، فإذا أتاك عليه بشهيد عدل وإلا تبين لك كذبه وظلمه.

ومعنى ذلك أن زيادًا يرى نفسه قد قُذِف ظلمًا ويطلب إلى علي إنصافه من قاذفه وأخذه بإقامة البينة على ما ادعى.

وكتب إلى أشعث بن قيس يعزله عن أذربيجان، وكان قد وليها أيام عثمان، وبعض الرواة يقول: إن عثمان كان قد ترك له خراجها:

إنما غرك من نفسك إملاء الله لك، فما زلت تأكل رزقه وتستمتع بنعمه وتذهب طيباتك في أيام حياتك، فأقبل واحمل ما قبلك من الفيء ولا تجعل على نفسك سبيلًا.

وواضح أن هذا الكتاب لم يقع من نفس الأشعث موقعًا حسنًا، وإن من اليسير بعد ذلك أن نفهم مواقف الأشعث من علي فيما عرض من الخطوب.

ولم يكن علي مؤنبًا لعماله، ولا سيئ الظن بهم دائمًا، وإنما كان يثني على المحسن منهم فيبلغ في الثناء، يعرف لهم بذلك حقهم ويشجعهم على ما أظهروا من الإخلاص لإمامهم، وحسن البلاء في النصح للمسلمين.

وانظر ما كتبه إلى عمر بن أبي سلمة عامله على البحرين حين عزله عن عمله ليصحبه في شخوصه إلى الشام:

إني قد وليت النعمان بن عجلان البحرين من غير ذم لك ولا تهمة فيما تحت يدك، ولعمري لقد أحسنت الولاية وأديت الأمانة، فأقبل إليَّ غير ظنين ولا ملوم، فإني أريد المسير إلى ظلمة أهل الشام، وأحببت أن تشهد معي أمرهم، فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين وجهاد العدو، جعلنا الله وإياك من الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.

وكذلك سار علي في عماله هذه السيرة الحازمة، يشجع المحسن منهم ويشتد على المسيء، لا يحابي في شيء من ذلك ولا يداجي، ولا يعرف مداراة ولا مجاراة، وإنما هو النصح للمسلمين والعدل في الرعية وإقامة الحق في أولئك وهؤلاء.

وقد رأيتَ سيرته مع ابن عمه عبد الله بن عباس، وشدته على زياد، وعقابه بالعزل لمن لا يحسن القيام بأمره، وبالحبس لمن يتعلق بذمته حق من حقوق الناس، فليس غريبًا ألا ينظر العمال إليه ولا إلى عمله إلا في كثير من التحفظ والتحرج والاحتياط، وليس غريبًا أن يلتوي عليه أحد عماله مصقلة بن هبيرة ببعض الحق، ثم يشفق منه فيفر إلى معاوية ويلقى عنده ما رأيت آنفًا من الرضى والإيثار.

وهذه السيرة التي سارها علي في عماله هي نفس السيرة التي سارها في الناس، فلم يكن يطمع الناس في نفسه، ولم يكن يوئسهم منها، وإنما كان يدنو منهم أشد الدنو ما استقاموا على الطريق وأدوا الحق، فإن انحرفوا عن الجادة أو التوَوا ببعض ما يجب عليهم بَعُد عنهم أشد البعد، وأجرى فيهم حكم الله غير مصطنعٍ هوادةً أو رفقًا.

وقد روى المؤرخون أن ناسًا من أهل الكوفة ارتدوا فقتلهم ثم حرقهم بالنار، وقد لِيمَ في ذلك من ابن عباس، وأظن أن هذه القصة هي التي غلا خصوم الشيعة فيها، فزعموا أن هؤلاء الناس ألَّهوا عليًّا. ولكن المؤرخين، والثقات منهم خاصة، يقفون من هذه القصة موقفين: فمنهم من يرويها في غير تفصيل كما رويتها، ومن هؤلاء البلاذري، ومنهم من لا يرويها ولا يشير إليها كالطبري ومن تبعه من المؤرخين، وإنما يُكثر في هذه القصة أصحاب الملل والمخاصمون للشيعة، وما أرى إلا أن القوم يتكثرون فيها ويحملونها أكثر مما تحتمل كما فعلوا في أمر ابن السوداء.

وربما بينت هذه الصورة الشعرية، التي تركها أعرابي من طيئ، عما كان في قلوب الناس من المهابة لعلي، وكان هذا الرجل يفسد في الطريق، فأرسل علي رجلين ليأتياه به، ففر منهما وقال:

ولما أن رأيت ابني شميط
بسكة طيئ والباب دوني
تجللت العصا وعلمت أني
رهين مُخيس إن يثقفوني
فلو أنظرتهم شيئًا قليلًا
لساقوني إلى شيخ بطين
شديد مجامع الكتفين صلب
على الحدثان مجتمع الشئون

ومخيس: سجن بناه علي، والعصا: فرس لهذا الأعرابي، فهذا الشيخ البطين العظيم المنكبين الصلب على الحوادث ذو الرأس الضخم هو الذي هابه الأعرابي، كما كان عامة الناس من أمثاله يهابونه ويشفقون من بأسه، ثم كان علي بعد ذلك لا يستكره الناس على أمرين: أحدهما البقاء في ظل سلطانه، فما أكثر الذين كانوا يرحلون من العراق ومن الحجاز ليلحقوا بمعاوية! مؤثرين دنياه على دين علي، فلم يكن علي يعرض لهم، ولا يستكرههم على البقاء معه، ولا يصدهم عن اللحاق بالشام، كان يرى أنهم أحرار يتخذون الدار التي تلائمهم، فمن أحب الهدى والحق أقام معه، ومن رضي الضلال والباطل لحق بمعاوية.

وقد كتب عامله على المدينة سهل بن حنيف يذكر أن كثيرًا من أهلها يتسللون إلى الشام، فكتب إليه علي يعزيه عن هؤلاء الناس وينهاه عن أن يعرض لهم أو يُكرههم على البقاء في طاعته، وكانت هذه سيرته مع الخوارج أيضًا، يعطيهم نصيبهم من الفيء ولا يعرض لهم بمكروه ما أقاموا معه، ولا يرد أحدًا منهم عن الخروج إن هَمَّ به، ولا يأمر أحدًا من عماله بالتعرض لهم في طريقهم، فهم أحرار في دار الإسلام يتبوءون منها حيث يشاءون، بشرط ألا يفسدوا في الأرض أو يعتدوا على الناس، فإن فعلوا أجرى فيهم حكم الله في غير هوادة ولا لين، وربما أنذره أحدهم بأنه لن يشهد معه الصلاة ولن يذعن لسلطانه، كما فعل الخريت بن راشد فيما مضى من خبره، فلم يبطش به ولم يعرض له وخلى بينه وبين حريته، فلما خرج مع أصحابه لم يَحُل بينهم وبين الخروج، فلما أفسدوا في الأرض أرسل إليهم من أنصف منهم.

كان إذن يعرف للناس حقهم في الحرية الواسعة إلى أبعد آماد السعة، لا يستكره الناس على طاعة ولا يرغمهم على ما لا يحبون، وإنما يشتد عليهم حين يعصون الله أو يخالفون عن أمره أو يفسدون في الأرض.

الأمر الثاني الذي لم يكن علي يستكره الناس عليه هو الحرب، كان يرى أن حرب الناكثين والقاسطين والمارقين حق عليه وعلى المسلمين، كجهاد العدو من المشركين وأهل الكتاب، ولكنه لم يكن يفرض ذلك عليهم فرضًا ولا يدفعهم إليه بقوة السلطان، وإنما يندبهم له؛ فمن استجاب منهم رضي عنه وأثنى عليه، ومن قعد منهم وعظه ونصحه وحرضه وأبلغ في الوعظ والنصح والتحريض، وهو لم يُكره أحدًا على حرب الجمل ولا على حرب صفين ولا على حرب الخوارج، وإنما نهض لهذه الحروب كلها بمن انتدب معه على بصيرة من أمره ومعرفة لحقه، ولو شاء لجنَّد الناس تجنيدًا، ولكن هذا النحو من الخدمة العسكرية التي يُجبَر الناس عليها لم يكن قد عُرِف بعد، ولو شاء لرغَّب الناس بالمال في هذه الحرب حين نكلوا عنها، ولكنه لم يفعل هذا أيضًا، كره أن يشتري نصرة أصحابه له بالمال وأراد أن ينصروه عن بصيرة وإيمان، بل هو قد فعل أكثر من هذا، فخاض بأصحابه غمرات هذه الحروب، ثم لم يقسم فيهم غنيمةً إلا ما كان يجلب به العدو من خيل أو سلاح، وقد ضاق أصحابه بذلك، وقال قائلهم كما رأيت فيما مضى: أباح لنا دماء العدو ولم يبح لنا أموالهم!

وكان رأيه في هذا أن حرب المسلم للمسلم غير حرب المسلم للكافر، لا ينبغي أن يُراد بحرب المسلم إلا اضطراره إلى أن يفيء إلى أمر الله، فإن فعل ذلك عصم نفسه وماله، ولا ينبغي أن يُسترَقَّ ولا أن يصبح ماله غنيمة، ولا كذلك حرب غير المسلمين.

فليس غريبًا أن يثَّاقل أصحابه عن حرب أهل الشام بعد ما جربوا من سيرته فيهم، فهي حرب تكلفهم عناء وتعرضهم للموت ثم لا تغني عنهم شيئًا؛ لأنها لا تتيح لهم الغنيمة، ونحن نعلم أن العربي يفكر في الغنيمة كلما فكر في الحرب، ولأمر ما حرض الله المسلمين على الجهاد مع نبيه فقال: وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا الآية. ففي هذين الأمرين: الخضوع لسلطانه، وحرب عدوه من المسلمين، كان علي يترك أوسع الحرية وأسمحها لأصحابه.

ومن المحقق أن معاوية لم يكن يجند الناس كرهًا لحرب علي، ولم يكن يستبقيهم في الشام وهم للبقاء فيها كارهون، ولكن من المحقق أيضًا أنه كان يعطي فيحسن العطاء، ويشتري من الناس طاعتهم له وحربهم من دونه، وينفق على هذا كله من بيت المال، يرى أن ذلك مباح له، ويرى عليٌّ أن ذلك عليه حرام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤