الفصل التاسع

وكان أمر البصرة أشد من أمر الكوفة تعقيدًا، فقد كان أهل هذا المصر بايعوا عليًّا واستقاموا لعامله عثمان بن حُنَيف، فلم يلبثوا إلا قليلًا حتى أظلَّهم الزبير وطلحة وعائشة ومن معهم من الجند، فأرسل إليهم عثمان بن حُنيف سفيرين من قبله، هما: عمران بن حُصَين الخزاعي صاحب رسول الله، وأبو الأسود الدؤلي. فلما أقبلا سألا القومَ: ماذا يريدون؟ فقالوا: نطلب بدم عثمان ونجعل الأمر شورى بين المسلمين يختارون لخلافتهم من يشاءون، وهَمَّ السفيران أن يحاورا القوم في هذا الأمر، فأبى القوم أن يسمعوا منهما فعادا إلى عثمان بن حُنيف ينبئانه أن القوم يريدون الحرب ولا يريدون غيرها، فتأهَّب عثمان للقتال وخرج في أهل البصرة حتى واقف القوم، ثم تناظروا فلم يصلوا إلى خير.

خطب طلحةُ والزبير فطلبا بدم عثمان وجَعْل الأمر شورى بين المسلمين، فردَّ عليهما مِن أهل البصرة مَن كانت تأتيهم كتبُ طلحة بالتحريض على قتل عثمان، واختلف أهل البصرة، وقال قوم: صَدَقا وتكلَّما بالصواب. وقال قوم: كذَبا ونطقا بغير الحق. وارتفعت الأصوات واشتد الخلاف، وجعل أهل البصرة يتسابُّون.

ثم جيء بعائشة على جملها، فخطبت الناس وأبلغت في الخطابة — لسان زلق ومنطق عَذب وحجة ظاهرة القوة — تقول: «غضبنا لكم من سوط عثمان وعصاه، أفلا نغضب لعثمان من السيف؟! ألا وإن خليفتكم قد قُتِل مظلومًا، أنكرنا عليه أشياء وعاتبناه فيها، فأعتب وتاب إلى الله، وماذا يُطلَب من المسلم إن أخطأ أكثر من أن يتوب إلى الله ويُعتب الناس؟! ولكن أعداءه سطوا عليه، فقتلوه واستحلوا حُرمًا ثلاثًا: حُرمة الدم، وحرمة الشهر الحرام، وحرمة البلد الحرام.»

وقد استمع لها الناس في صمت عميق، ولكنها لم تكد تُتِمُّ حديثها حتى عادت الأصوات فارتفعت يصدِّقها قوم ويكذبها قوم، وأولئك وهؤلاء يتسابُّون ويتضاربون بالنعال. ومع ذلك ثبت مع عثمان بن حُنيف جند قويٌّ من أهل البصرة، فاقتتلوا قتالًا شديدًا وكثرت فيهم الجراحات، ثم تحاجزوا وتداعوا إلى الهدنة حتى يقدم علي، وكتبوا بينهم كتابًا بذلك يُقِرُّ عثمان بن حنيف على الإمرة ويترك له المَسلحة وبيت المال، ويُبيح للزبير وطلحة وعائشة وممن معهم أن ينزلوا من البصرة حيث يشاءون.

وعاد أمر الناس إلى عافية ظاهرة، ومضى عثمان بن حُنيف على شأنه يصلي بالناس ويقسم المال ويضبط المصر، ولكن القوم الطارئين ائتمروا فيما بينهم، فقال قائلهم: لئن انتظرنا مَقدَم علي ليأخذن بأعناقنا. ثم أجمعوا على أن بيَّتوا عثمان بن حُنيف، وانتهزوا ليلة مظلمة شديدة الريح، فعدوا على عثمان وهو يصلي بالناس العشاء الآخرة، فأخذوه ووكلوا به من ضربه ضربًا شديدًا ونتف لحيته وشاربيه، ثم عدوا على بيت المال فقتلوا مِن حرسه أربعين رجلًا، وحبسوا عثمان بن حنيف وأسرفوا عليه في العذاب. هنالك غضب من أهل البصرة قوم أنكروا نقض الهدنة، وكرهوا هذا العدوان على الأمير، وكرهوا كذلك استئثار القوم ببيت المال، واجتنبوا المدينة وخرجوا إلى بعض ضاحيتها يريدون الحرب وحماية ما اتفق القوم على أنه حرام لا ينبغي أن يعرض له أحد بسوء.

وكانت هذه الفتنة من رَبيعة يرأسها حكيم بن جَبَلة العبدي، فخرج لهم طلحة في قوم من أصحابه، فقاتلوهم حتى قتلوا منهم أكثر من سبعين رجلًا، وقُتِل حكيم بن جَبَلة بعد أن أبلى بلاء حسنًا عظَّم القُصاص من أمره فيما بعد، فزعموا أن رجلًا من أصحاب طلحة ضربه ضربة قطعت رجله، فحبا حكيم حتى أحذَّ رجله تلك المقطوعة، فرمى بها مَن ضربه فصرعه، وجعل يرتجز:

يا نفس لا تراعي
إن قطعوا كراعي
إن معي ذراعي

ثم قاتل رغم جراحته وهو يرتجز:

ليس علي في الممات عارُ
والعار في الحرب هو الفرارُ
والمجد ألا يُفضَح الذمارُ

وما زال يقاتل حتى قُتِل.

وكذلك لم يكتفِ هؤلاء القوم بنكث البيعة التي أعطوها عليًّا، وإنما أضافوا إليها نكث الهدنة التي اصطلحوا عليها مع عثمان بن حنيف، وقتلوا من قتلوا من أهل البصرة الذين أنكروا نقض الهدنة، وحبس الأمير، وغصب ما في بيت المال، وقتل من قتلوا من حرسه، وكلهم كان من الموالي.

ولم يقف أمرهم عند هذا الحد، وإنما هموا أن يبطشوا بعثمان بن حنيف، لولا أن ذكرهم بأن أخاه سهل بن حنيف يدبِّر أمر المدينة من قِبَل علي، وبأنه خليق أن يضع السيف في بني أبيهم إن أصابوه بمكروه؛ فخلوا سبيله. وانطلق حتى أتى عليًّا في بعض طريقه إلى البصرة، فلما دخل عليه قال له مداعبًا: يا أمير المؤمنين، أرسلتني إلى البصرة شيخًا فجئتك أمرد.

ولم يكن من شأن هذه الأحداث التي أحدثها القوم في البصرة إلا أن توغر صدر علي وأصحابه، وتزيد الفرقة بين أهل البصرة الذين انقسموا على أنفسهم شر انقسام وأشده نكرًا؛ فقد غضبت عبد القيس لحكيم بن جبلة؛ فخرجت مكابرةً حتى أتت عليًّا فانضمت إلى جيشه، وأفلت من أصحاب حكيم حُرقوص بن زهير، وهو من الذين ألبوا أشد التأليب على عثمان؛ فغضب له قومه وحموه وأبوا أن يسلموه، ثم اعتزلوا الناس مع الأحنف بن قيس في ستة آلاف.

واشتد الخلاف بين الناس بعد ذلك: قوم يخرجون إلى علي مسللين أو مكابرين، وقوم ينتظرون مقدم علي لينضموا إليه، وقوم ينضمون إلى طلحة والزبير ليحموا ثقل رسول الله عائشة ولينصروا حواري رسول الله الزبير، وقوم يريدون أن يعتزلوا الفتنة فرارًا بدينهم، فمنهم من يُتاح له الاعتزال ومنهم من يضطر إلى الفتنة اضطرارًا. والرؤساء بعد ذلك ليسوا من الرضى وراحة الضمير بحيث يحبون، فطلحة والزبير يختلفان أيهما يصلي بالناس، ثم يتفقان بعد خطوب على أن يصليا بالناس هذا يومًا وهذا يومًا، وفي ضمير عائشة قلق لا يكاد يبين، مرت في طريقها بماء فنبحتها كلابه، وسألت عن هذا الماء، فقيل لها إنه الحوأب؛ فجزعت جزعًا شديدًا، وقالت: ردُّوني ردُّوني؛ قد سمعت رسول الله يقول وعنده نساؤه: «أيتكن تنبحها كلاب الحوأب؟» وجاء عبد الله بن الزبير، فتكلف تهدئتها، وجاءها بخمسين رجلًا من بني عامر يحلفون لها أن هذا الماء ليس بماء الحوأب.

فُرقة ظاهرة واختلاف بيِّن، وقلق خفي في الضمائر، وأطماع تظهر على استحياء ثم تستخفي على كره من أصحابها، كذلك كانت حال القوم حين أظلهم علي بمن معه من جند كثيف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤