الفصل الأول

في عصر الانحلال الأول، وعرض شئون الخلافة

يُعتبر عهد المتوكل على الله جعفر بن المعتصم (٢٣٢–٢٤٧ﻫ/٨٤٧–٨٦١م) بداية دور الانحلال في الدولة العباسية؛ فقد كان ضعيف الإرادة، محدود الفكر، يكره البحث والمناظرة، ويميل إلى التقليد والتسييب، وحب اللعب واللهو، والحياة اللينة والمضاحك، هذا إلى ما كان عليه من سذاجةٍ وتسييب لأمور الدولة، والاعتماد في إدارتها على كبار القادة الأتراك، الذين قوي سلطانهم في عهده، وامتد نفوذهم إلى كل مرافق الدولة، حتى بلغ بهم أن تآمروا عليه مع ولي عهده محمد المنتصر، فقتلوه شر قتلة، وقد تولى كِبَر ذلك بغا الصغير المعروف بالشرابي ووصيف وباغر ففتكوا به، وولوا ابنه محمدًا المنتصر صبيحة مقتل أبيه، وقد أراد الخليفة الجديد أن يحافظ على عرشه، ولكن جهوده ذهبت سدًى، ولم يَطُل عهده أكثر من ستة أشهر، سمَّه المتغلبون الأتراك بعدها، ثم أجمع أمر قادتهم على ألا يولوا أحدًا من أولاد المتوكل لئلا يطالبهم بدم أبيه، فولوا المستعين أحمد بن المعتصم (سنة ٢٤٨)، ثم لم يلبث الأتراك أن استولوا على أمر المستعين كله وتولى وزارته أتامش أحد القواد، فكان هو صاحب الحل والعقد، حتى إذا حكم أربع سنوات، ملَّ القواد حكمه، واضطروه على أن يخلع نفسه ثم قتلوه سنة ٢٥٢، وولوا بعده المعتز بالله محمد بن المتوكل، وكان عاقلًا حازمًا، أراد أن يستعيد للسلطان أبَّهته، فلم يمكِّنه القادة الأتراك، ومن أطرف ما يُروى في هذا المقام ما حكاه ابن طباطبا في الفخري قال: «لم يكن بسيرته ورأيه وعقله بأس، إلا أن الأتراك كانوا قد استولوا منذ قُتل المتوكل على المملكة، واستضعفوا الخلفاء؛ فكان الخليفة في يدهم كالأسير، إن شاءوا أبقَوه، وإن شاءوا خلعوه، وإن شاءوا قتلوه. ولما جلس المعتز على سرير الخلافة، قعد خواصه وأحضروا المنجمين وقالوا لهم: انظروا كم يعيش وكم يبقى في الخلافة؟ وكان بالمجلس بعض الظرفاء، فقال: أنا أعرَف من هؤلاء بمقدار عمره وخلافته. فقالوا له: فكم تقول إنه يعيش وكم يملك؟ قال: مهما أراد الأتراك. فلم يبقَ في المجلس إلا مَن ضحك.»

وقد حاول المعتز بالله أن يتخذ حرسًا من عنصرٍ جديد غير الأتراك، لعلهم يقفون في وجههم، فاتخذ حرسًا من المغاربة، وأمر بإسقاط اسمي وصيف وبُغا من قوائم القادة، وكتب بذلك إلى الأقاليم، ولكنهم استطاعوا أن يتغلبوا عليه وتآمروا مع الجنود المغاربة على خلعه، فدخلوا عليه باب حجرته وهو مريض، قد أخذ الدواء، فجروه برجله ثم خرقوا جسم المريض بالدبابيس وأقاموه في الشمس حتى مات عطشًا بسُرَّ مَن رأى ٢٥٥ﻫ/٨٦٩م، ثم ولَّوا بعده المهتدي بالله محمد بن الواثق، وكان متدينًا ناهجًا على منهج الخلفاء الراشدين، ورووا عنه أنه قال (كما في تاريخَي النبراس، والفخري): إني أستحيي من الله ألا يكون في بني العباس مثل عمر بن عبد العزيز في بني أمية، وقد أراد أن يسير بالناس سيرةً حسنة، ويعيد للخلافة مجدها، ويقضي على نفوذ الأتراك، فأمر بقتل زعيمهم «بايكباك» التركي فلما قُتل هاجت الأتراك، ووقعت الحرب بينهم وبين المغاربة، وقُتل من الفريقين عدد كبير، واشتدت الفتنة حتى خرج المهتدي فيها والمصحف في عنقه، وهو يدعو الناس إلى نصرته والقضاء على الأتراك المتغلبين، وقد أبلى الجنود المغاربة والفراغنة في ذلك بلاء حسنًا، ولكن القائد «طببغا» أخا «بايكباك» استطاع أن يتغلب عليهم، وانهزم الخليفة والسيف في يده وجراحه تسيل دمًا، فلحق به بعض الأتراك وقتلوه شرَّ قتلة وولوا مكانه المعتمد بن المتوكل سنة ٢٥٦ وكان ضعيفًا.

وفي تلك الأيام طمع أصحاب المطامع بالاستقلال بالأقاليم لمَّا رأوا ما في العاصمة من الفوضى والاضطراب، فقويت في نفوسهم فكرة القيام بالثورات؛ ففي سنة ٢٤٩ ثار عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي في الكوفة، واجتمعت إليه الزيدية ودعا إلى «الرضا من آل محمد». وفي سنة ٢٥٠ ثار الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن علي في طبرستان، فتملَّكها، كما تملَّك جرجان إلى سنة ٢٧٠، ثم قام أخوه محمد بن زيد من بعده فضم إليه مملكة الديلم أيضًا، وبقي يحكمها إلى أن قضى عليه السامانيون سنة ٢٨٧. وفي سنة ٢٥٥ كانت ثورة صاحب الزنج التي أقلقت بال الخليفة، وقلقلت أركان الدولة وكاد الثوار أن يفوزوا على جيش الخليفة، ولكن أخا الخليفة الموفق طلحة استطاع سنة ٢٧٠ﻫ/٨٨٣م أن يقضي على تلك الثورة التي دامت أكثر من أربع عشرة سنة، وتركت وراءها ويلات وآثارًا مخيفة من التدمير والفساد.١
ولما مات المعتمد بالله سنة ٢٧٩ﻫ تولَّى الأمر المعتضد أحمد بن الموفق بن المتوكل، وكان فتًى شجاعًا نبيلًا عاقلًا حازمًا، ولكنه ولي الأمر والدنيا خراب والثغور مهملة، فقام قيامًا مرْضيًا، حتى عمرت مملكته، وكثُرت الأموال وضُبِطت الثغور، وكان قوي السياسة، شديدًا على أهل الفساد، حاسمًا لمراد أطماع عساكره عن أذى الرعية … وكانت أيامه أيام فتوق وخوارج كثيرين، منهم: عمرو بن الليث الصفار الذي كان قد عظُم شأنه واستولى على أكثر بلاد العجم٢ كما سنرى تفصيل ذلك بعد.
ولما مات المعتضد سنة ٢٨٩ تولَّى الأمر ابنه المكتفي بالله، وكان من أفاضل الخلفاء، وقد أراد أن يعيد للخلافة عزَّها، ولكنه لم يفلح؛ ففي أيامه خرج القرامطة، وكانت فتنتهم عظيمة، لقي الإسلام بها بلاءً جسيمًا. وفي أيامه استقر الأمر للدولة الساسانية في بلاد خراسان، فاقتُطِع جزء كبير من أملاك الخلافة، ولما مات المكتفي سنة ٢٩٥ تولى الأمر بعده المقتدر بن المعتضد، وكان فتًى لم يتجاوز الثالثة عشرة، وقد أثار توليه الخلافة — وهو غير بالغ — بعض الاضطراب بين أهل الرأي، وانقسم الفقهاء والمحدثون في جواز ذلك أو عدمه،٣ ولم ينتهِ هذا الاضطراب إلا بعزله وتولية عبد الله بن المعتز، ولكنه لم يلبث إلا يومًا وليلة، ثم استطاع أنصار المقتدر، وعلى رأسهم القائد «مؤنس» المظفر أن يعيدوه إلى دست الخلافة، وفي أيام المقتدر قوي شأن القرامطة وضعُف شأن الخلافة ضعفًا لا مزيد عليه؛ فقد كان شابًّا غرًّا لا يعرف شيئًا من الكياسة ولا السياسة، وكانت تدير الأمر أمه السيدة «شغب» وقهرمانة (ثمل)، فهما اللتان كانتا تقومان بشئون الدولة، وتأخذان الرِّشى، وهو لاهٍ ساهٍ كما كان مواليه من الأتراك، كمؤنس ومحمد بن ياقوت هم الذين يدبرون الدولة، والحق أن أيامه كانت أسوأ عهدٍ مرت به الدولة العباسية منذ تأسيسها؛ لأن النساء والخدم والأشرار كانوا هم المسيطرين، وقد استمرأ هؤلاء الأشرار لذة الحكم في عهد هذا الصبي الذي انصرف — حتى بعد أن بلغ سن الرشد — إلى اللهو والإسراف والانغماس في الشهوات، ومن سوء حظ الأمَّة أن عهده قد دام طويلًا، فاستشرى الفساد، وأخذ الوزراء والكتَّاب والقادة يتناطحون ويتآمرون، حتى عم البلاء وانتشر الشر ووقعت الفتنة في البلاد داخلها وخارجها، وكان خاتمة ذلك كله مقتل الخليفة سنة ٣٢٠ﻫ/٩٣٢م، وبقتله عمَّت الفوضى، وطغت على الدولة العباسية موجة فتن وجراح لم تلتئم إلا بعد فترة طويلة.
١  انظر بروكلمان: «تاريخ الشعوب الإسلامية» المُعرَّب ٢: ٥٥؛ والدوري: «دراسات في العصور العباسية المتأخرة»، ص٧٥؛ و«تاريخ الحركات الفكرية» لبندلي الجوزي.
٢  «الفخري»، ص٢٢٥.
٣  انظر تفصيل ذلك في كتاب: «النبراس»، ص٩٥، طبعة الأستاذ عباس العزاوي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤