الفصل الخامس

الوضع الإداري والوزاري

كان الوضع الإداري والوزاري في عصر الانحلال هذا متقلقلًا مضطربًا تبعًا للاضطراب العام في الدولة؛ فالخلافة ضعيفة، والناس في فوضى، وأصحاب الأغراض والمطامع يعملون في الخفاء على زعزعة أركان الدولة وتجزئتها، والقواد والوزراء وأصحاب الدواوين يتنازعون الأمر فيما بينهم، وقد تقدم الكلام في الفقرة الخامسة من الفصل الثالث، وفي الفقرتين الخامسة والسادسة من الفصل الرابع في الكتاب الأول من هذا الجزء عن شيءٍ من هذه الفوضى الإدارية والوزارية، ونريد هنا أن نبين نبذة عن الوزراء وأعمالهم الإدارية وأحوالهم في خلال تلك الفترة؛ أي منذ عهد المتوكل إلى آخر زمن المقتدر.

(١) عهد المتوكل

ابتدأ التصادم بين سلطة الخليفة ووزيره منذ عهد المعتصم؛ فقد ولَّى المعتصم وزارتَه لكاتبه قبل الخلافة، الفضل بن مروان، فتسلَّط هذا على الخليفة وعلى أموره كثيرًا، قال صاحب كتاب «العيون والحدائق بأخبار الحقائق»، ص١٧: «فلما أفضت الخلافة إلى المعتصم صار الفضل هذا صاحب الخلافة والأمر والنهي والدواوين بحكمه.» ولم يكن الفضل سوى عاميٍّ لا علم عنده ولا معرفة، وكان رديء السيرة جهولًا بالأمور،١ ولما غضب عليه الخليفة وَزَرَ له أحمد بن عمار، وكان طحَّانًا غنيًّا جاهلًا بآداب الوزارة، قال عنه ابن طباطبا: «مكث مدة في وزارة المعتصم حتى ورد كتاب من بعض العمال يذكر فيه «خصب الناحية وكثرة الكلأ» فسأل المعتصم أحمد بن عمار عن «الكلأ»، فلم يدرِ ما يقول، فدعا محمد بن عبد الملك الزيات، وكان أحد خواصه وأتباعه، فسأله عن «الكلأ» فقال: أول النبات، يُسمَّى بقلًا، فإذا طال قليلًا فهو الكلأ، فإذا يبس وجف فهو الحشيش. فقال المعتصم لأحمد: انظر أنت في الدواوين، وهذا يعرض عليَّ الكتب. ثم استوزره، وصرف ابن عمار صرفًا جميلًا. وقد أعاد الزيات للوزارة عهدها الزاهر لفضله وعقله، ولكنه كان جبَّارًا فظًّا مبغضًا إلى الناس، وَزَرَ للواثق والمتوكل بعد المعتصم، وكانت خاتمته من أفجع الخواتم، وخلفه في الوزارة محمد بن الفضل الجرجرائي، وكان شيخًا ظريفًا منصرفًا إلى الأدب والغناء مشهورًا بهما، ولما ضاق الناس به وبلهوه عزله الخليفة وقال: ضجرت من المشايخ فأريد حدثًا. فاستوزر عبيد الله بن خاقان، وكان كاتبًا حاسبًا، إلا أنه كان مخلَّطًا كثير العيوب، ولكن كرمه غطَّى على ذلك، وفي عهده حسُنت الصلات بينه وبين القادة، للتركية التي تجمع بينهما، ولما قُتل الخليفة اجتمع الجند الأتراك على بابه، وحرسوه من أن يصيبه أي أذًى.»٢

(٢) عهد المنتصر

كان عهده قصيرًا كثير الاضطرابات، ومنذ عصر هذا الخليفة ضاعت هيبة الخلافة، واضطرب حال الوزارة بين الخليفة الضعيف والقائد المتسلط، وكانت الوزارة في الغالب إلى جانب الخلافة ضد القيادة، وكانت الخصومة قوية بينها وبين القيادة حتى كادت — أي الوزارة — أن تزول بعد زمن المتوكل إلى زمن المعتمد، أما في عهد إمرة الأمراء، فقد أصبحت كالخلافة، لا سلطان لها ولا شأن.

وَزَرَ للمنتصر كاتبُه قبل الخلافة أحمدُ بن الخصيب، وكان أحمد هذا سخيفًا مطعونًا في عقله، طائشًا أحمق، إلا أنه كان ذا مروءة ولم يكن بالرجل الصالح لتولي هذا المنصب.

(٣) عهد المستعين

ظل ابن الخصيب وزيرًا له ثم عزله، وولَّى أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وكان أديبًا عاقلًا فاضلًا، وكانت أجوبته وتوقيعاته من أحسن التوقيعات، فانضبطت الأمور بعض الشيء بعد فسادها، وحسُنت أحوال البلاد، ولكن القادة الأتراك ضاقوا به ذرعًا، فتهددوه بالقتل فهرب. ثم اضطربت الأحوال وخلا منصب الوزارة فترة لا يجرؤ واحد على توليه، كان المستعين يستكتب خلالها تارة محمد بن الفضل الجرجرائي، وتارة شجاع بن القاسم، ولكن أحدًا لم يتسمَّ باسم الوزارة.

(٤) عهد المعتز

كان عهده عهد فوضى وفتن، استولى الجنود الأتراك فيه على كل شيء، وخلا منصب الوزارة، ممن يحتله أول الأمر، ثم عهد إلى أبي الفضل جعفر بن محمود الإسكافي بالوزارة، وكان هذا عاميًّا جاهلًا ولكنه كان يستميل الناس والأجناد بالعطايا والأموال، ثم إن المعتز عزله وولَّى عيسى بن فرخان شاه، ولم تكن له ميزة سوى الكرم، وظل في الوزارة حتى غضب عليه الأتراك، فعزله الخليفة، وولَّى أبا جعفر أحمد بن إسرائيل الأنباري، وكان ذكيًّا فاضلًا حاذقًا مدبرًا، أحسن تصريف الأمور، فلم يعجب الأتراك، فأخذوه واستصفوا أمواله، فشفع فيه المعتز وأمه إلى متقدم الأتراك صالح بن وصيف، فلم يلتفت إليهما وحبسه وضربه، وظل مسجونًا أيام المهتدي. ولما فُعل بأحمد بن إسرائيل ما فُعل عاد المعتز فولَّى الإسكافي من جديد.

(٥) عهد المهتدي

أبقى المهتدي أبا الفضل الإسكافي في وزارته ثم استبدله بسليمان بن وهب وهو من أسرة نصرانية نبيلة، حذقت في الدواوين، وكان أديبًا نابغًا في الكتابة والأدب وحسن الحظ، قال ابن طباطبا (في الفخري، ص٢١٨): «كان أبو أيوب سليمان بن وهب، أحد كتَّاب الدنيا ورؤسائها فضلًا وأدبًا وكتابة في الدرج والدستور، وأحد عقلاء العلم وذوي الرأي، وكان بنو وهب من رؤساء الناس وحذَّاقهم وفضلائهم وكرمائهم، وكانت دولتهم ناضرة، والأدب في زمانهم قائم المواسم واضح المعالم.» وخلع المهتدي وهو وزيره.

(٦) عهد المعتمد على الله

كان أخو الخليفة أبو أحمد الموفق هو على المتولي الخلافة والوزارة، فكان يعزل من يريد من الوزراء، ويولِّي من يريد، ولما تولى المعتمد اتفقت الآراء على استيزار عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فضبط الأحوال وأحسن الإدارة إلى أن مات، فاستوزر المعتمد الحسن بن مخلد كاتب الموفق، فاجتمعت له وزارة المعتمد وكتابة الموفق، وكان الحسن أحد الكتاب الكبار قالوا: كان له دفتر صغير يحمله بيده فيه أصول الممالك ومحمولاتها بتواريخها، فلا ينام كل ليلة حتى يقرأه، ويتحقق ما فيه بحيث لو سُئل في الغد عن أي شيءٍ كان فيه، أجاب من خاطره بغير توقف، ولا مراجعة دستور، ثم إن المعتمد عزله وولَّى سليمان بن وهب، وكان عالمًا فاضلًا، وفي عهده ذاع صيت آل وهب وسَمَتْ مكانتهم، ولكن لم يلبث أن عُزل وولي أبو الصقر إسماعيل بن بلبل مكانه، وكان فاضلًا جمع بين السيف والقلم، وحُمد عهده حتى سُمِّي الوزير المشكور، مدحه البحتري وابن الرومي، وسمت مكانته وذاع فضله، إلا أن المعتمد عزله واستصفى أمواله، ثم قتله، بإشارة أخيه الموفق، ثم طلب إليه تولية أحمد بن صالح بن شيرازد القطري بلي، مولاه، وكان أحمد أديبًا فاضلًا عارفًا بصناعته، ولم يلبث في وزارته أكثر من شهرٍ ثم مات سنة ٢٦٦، فولي عبيد الله بن سليمان بن وهب، وكان فاضلًا بارعًا حاذقًا استمر في وزارته إلى عهد المعتضد إلى أن مات سنة ٢٨٨.

(٧) عهد المعتضد

وَزَرَ له عبيد الله بن سليمان، ولما مات عزم المعتضد على أن يستصفي أمواله، ويقتل أولاده، فجاء ابنه القاسم واستعان بالقائد بدر المعتضدي، وكتب على نفسه صكًّا بمليوني دينار، فاستوزره المعتضد، وكان القاسم من الدهاة الأفاضل الأذكياء الفضلاء، ولكنه كان جبارًا سفاحًا وهو الذي سمَّ ابن الرومي، ومات المعتضد وهو وزيره.

(٨) عهد المكتفي بالله

لما مات المعتضد كان المكتفي بالرقة، فقام الوزير القاسم بأخذ البيعة للمكتفي بالله وكتب إليه كتابًا أرسله مع البردة والقضيب، فحضر المكتفي وأقره على الوزارة ولقَّبه ألقابًا فخمة، وظل في الوزارة على عهد المكتفي إلى أن حضرته الوفاة، فأوصى الخليفة باستيزار العباس بن الحسن، فاستوزره، وكان أديبًا داهيًا ولكنه كان ضعيفًا في الحساب، منصرفًا إلى اللهو والملذات، وكان يقول لنوابه في الأعمال: أنا أوقِّع إليكم، وأنتم افعلوا ما فيه المصلحة. وقد اضطربت الأمور في عهده، وساءت أحوال البلاد حتى قُتل الخليفة.

(٩) عهد المقتدر

أقر المقتدر بالله العباسَ بن الحسن على الوزارة، ولكن الأجناد كانوا غير راضين عنه، فقتلوه، وساءت إدارة الدولة في هذا العهد جدًّا، من جراء السياسة الخرقاء التي اتبعها الخليفة في تعيين وزراء وعزلهم، فقد ولي الوزارة في عهده نحو اثني عشر وزيرًا، وعُزل بعضهم مرارًا وأُعيد.

وبعد، فنحن نرى من هذه النظرة الخاطفة إلى الوزارة أن الصفة الغالبة على أكثر هؤلاء الوزراء هي العسف والظلم والجهل وسياسة الدولة بالمكر والحيل، وأن من كان فيهم قويًّا نبيلًا مخلصًا في عمله، محبًّا لخليفته، مدبِّرًا لدولته، حريصًا على مصالح الأمة، قتلوه أو عزلوه، ومن كان منهم ضعيفًا أو سخيفًا أو ظالمًا متهتكًا تركوه وساموا الرعية به.

وهكذا ساءت إدارة الدولة وفشت الرشوة والفوضى فيها، وعمَّت أسباب الانحلال، ولا أدل على ذلك من كلمة العباس بن الحسن لنوابه ورؤساء أعماله: «أنا أوقِّع وأنتم اعملوا ما فيه المصلحة.» وليست تلك المصلحة طبعًا مصلحة الشعب ولا مصلحة الدولة، ولكنها مصلحة الوزير ومصلحة نوابه ومصلحة جيوبهم.

١  الفخري، ص٢٠٦.
٢  الفخري، ص٢٠٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤