الفصل السابع

الوضع العلمي والثقافي في تلك الفترة من عهد الانحلال

نشأت الحركة العقلية والعلمية القوية في العصر العباسي الأول، ونبغ في الإسلام طبقة من العلماء الأعلام، وضعوا أسس العلم الإسلامي، وصنَّفوا فيه التصانيف الرئيسية في كل فنٍّ من فنون العلم المعروفة وقتئذٍ من دينٍ وأدب ولغة وعربية وفلسفية وحكمة وتاريخ، وكان من أعلام تلك الحركة وقادتها جماعة نذكر في مقدمتهم: الخليل بن أحمد الفراهيدي والكسائي وسيبويه وأبا حنيفة النعمان ومالكًا والأوزاعي، والحسن البصري، وأبا محنف لوط بن يحيى، وسيف بن عمر، ومحمد بن إسحاق، والحجاج بن مطر، وثابت بن قرة، وحُنين، وأبا نواس، ومسلم بن الوليد، وبشارًا وإبراهيم الموصلي وغيرهم، ممن تشهد آثارهم بفضلهم ومقدار جهدهم في وضع أسس البناء العقلي والعلمي والأدبي الإسلامي، ولؤلؤة هذه الفترة عصر المأمون، كما فصَّلناه في تاريخ «عصر الازدهار».

أما في الفترة الانحلالية التي نؤرِّخها فقد ظل النشاط العلمي والأدبي استمراريًّا مزدهرًا، ولم يتأثر قط بالانحلال السياسي، وعلى الرغم من انفصال بعض أجزاء الإمبراطورية واستقلالها عن البلد الأم، كانفصال شمال الشام والموصل في عهد بني حمدان؛ فإن الحركة العلمية كانت قوية بل اعتُبرت تلك الفترة من تاريخ الشام أزهر عصر علمي ثقافي رفيع، وصلت إليه، فكان بلاط أمير الحمدانيين سيف الدولة مألفًا لأكابر علماء المسلمين وأدبائهم وشعرائهم وفلاسفتهم على ما فصَّلناه، وكذلك نقول في مصر أيام الطولونيين، وفي المشرق أيام السامانيين، وقد نبغ في العالم الإسلامي في تلك الحقبة من عصر الانحلال العباسي السياسي طبقة من المؤلفين في كافة فروع العلم لا تقل مكانة آثارها عن مكانة الطبقة التي وُجدت في العصر العباسي الأول (عصر الازدهار) من حيث الثقة العلمية، وجودة التأليف، بل ربما فاقتها من حيث الإتقان التأليفي، وحسن جمع المعلومات وتبويبها، تبعًا لنصوص التطور الزمني.

ففي علوم الحديث: نبغ الأئمة الستة: البخاري (٢٥٦ﻫ/٨٩٢م)، ومسلم (٢٦١ﻫ/٨٧٥م)، وأبو داود (٢٧٥ﻫ/٨٨٨م)، والترمذي (٢٧٩ﻫ/٨٩٢م)، والنَّسائي (٣٠٣ﻫ/٩١٥م)، وابن ماجه (٢٧٣ﻫ/٨٨٦م)، وغيرهم من الأئمة الذين وطَّدوا أركان الحديث النبوي وعلومه، وما تزال كتبهم إلى يومنا هذا هي المراجع الصحيحة الموثوقة الحافظة للإسلام ودينه وآدابه.

وفي الفقه والتشريع: نبغ أحمد بن حنبل (٢٤١ﻫ/٨٥٥م)، وداود الظاهري (٨١٥م)، وطبقة جليلة من تلاميذ أبي حنيفة النعمان، ومحمد بن إدريس الشافعي ومالك بن أنس والأوزاعي، فرَّعوا الفروع التي جاء بها شيوخهم، وصنَّفوا في ذلك تصانيف ما تزال إلى أيامنا هذه، المرجع الأسمى لمباحث التشريع والفقه الإسلامي.

أما في علوم الطب والحكمة والفلسفة، فقد ظهرت في هذه الفترة ثمرات الغرسة الطيبة التي بذرها المأمون، وخطا العرب في هذه الفترة خطوات في علوم النبات والحيوان والفيزياء، والكيمياء، والعقاقير، والأقرباذين، والعناية بأحوال الأطباء، والكحالين، والصحة العامة عناية مدهشة، على الرغم من ذلك الانحطاط السياسي، وهو أمر لم تبلغه أمَّة من الأمم السابقة فيما نعلم، يقول الأستاذ فيليب حتي، في كتابه: «تاريخ العرب المطول»، ص٤٤٦ نقلًا عن ابن أبي أصيبعة: «أوعز علي بن عيسى وزير المقتدر إلى سنان بن ثابت بن قرة الطبيب العالم، بأن يُنفِذ جماعةً من الأطباء يطوفون البلاد ومعهم خزانة للأدوية والأشربة ويعالجون من يرونهم من المرضى، وأن يُنفِذ آخرين لزيارة المرضى في السجون، وتُظهِر لنا هذه المعلومات اهتمام أولياء الأمر بالصحة العامة، وهو أمر لم يكن معروفًا في سائر العالم آنذاك.»

ولا بد لنا أن نذكر بعض من قاموا بتلك الحركة، فمن أئمة النهضة العلمية والحكمة في هذه الفترة: علي بن ربَّن (ربان) الطبري، صاحب كتاب «فردوس الحكمة»،١ ومحمد بن زكريا الرازي (٣٢٠ﻫ/٩٢٥م) الذي ألَّف للساماني منصور الكتابَ المنصوري، ويعقوب بن إسحاق الكندي الكوفي فيلسوف العرب،٢ والفارابي محمد بن محمد بن طرخان (٣٤٠ﻫ/٩٥٠م)، وأبو عبد الله محمد بن جابر البتاني الحراني (٩٤٩م) وكان أعظم فلكيي العصر، ومحمد بن موسى الخوارزمي (٢٣٧ﻫ/٨٥٠م) إمام رياضيي العرب وصاحب الآثار الجليلة.

وأما الجغرافيا ودراسة الشعوب وعلوم الطبوغرافية وما إليها فقد اهتم الخلفاء والأمراء بها، وحرضوا العلماء على إتقان هذا الصنف من العلم المفيد في تخطيط البلاد ودراساتها وطبوغرافيتها، ومن النابغين في هذه الفترة من أهل هذا العلم: ابن خرداذبة (٢٣٢ﻫ/٨٤٦م) صاحب كتاب «المسالك والممالك»، وكتابه من خير ما ذخرت به الخزانة العربية إلى اليوم، وقد استعان كثيرًا بأبحاث بطليموس، وفي الكتاب معلومات طبوغرافية وتاريخية مهمة جدًّا، ومما يدلنا على عناية الخلفاء بتقويم البلدان، أن الخليفة الواثق أرسل بين سنة ٢٢٧ و٢٣٢ﻫ (سنة ٨٤١–٨٤٦م) بعثة إلى بلاد يأجوج ومأجوج (الصين) لدراسة أحوالها.

وفي سنة ٣٠٩ﻫ سار الرحالة الجغرافي أحمد بن فضلان٣ إلى بلاد البلغار ودرس أحوالهم، وكتب عنهم بيانًا مفصلًا، تلبيةً لرغبة الخليفة المذكور، وقد حفظ لنا ياقوت في «معجم البلدان» هذا البيان الذي يُعتبر أقدم بيان جغرافي موثوق عن البلاد الروسية. ومن نابغي الجغرافيين أبو زيد البلخي (٣٢٢ﻫ/٩٢٤م) الذي كان من علماء البلاط الساماني.

وأما في السيرة والتاريخ، وعلم الرجال والأنساب فقد نبغ أئمة من كبار العلماء الموثوق بهم أمثال ابن هشام (٢١٨ﻫ/٨٢٣م) صاحب مختصر سيرة النبي لمحمد بن إسحاق (١٥١ﻫ)، والواقدي (٢٠٧ﻫ/٨٢٣م) وتلميذه ابن سعد كاتب الواقدي (٢٣٠ﻫ/٨٤٥م) وتلميذه البلاذري (٢٧٩ﻫ/٨٩٢م) صاحب فتوح البلدان وأنساب الأشراف، ومحمد بن جرير الطبري (٣١٠ﻫ/٩٢٣م)، والمدائني (٢٢٥–٨٣٩)، وقد ذكر له ابن النديم في الفهرست مائتين وأربعين كتابًا ضاعت، ولم يبقَ سوى ما اقتُبس منها، وهشام بن الكلبي (٢٠٤ﻫ/٨١٩م) وله مائة وأربعون كتابًا ضاعت ولم يبقَ منها سوى كتابي «الأصنام» و«المثالب».

وأما ما في الأدب فقد تقدم فنَّا الكتابة والشعر، ولمع اسم كتَّاب كبار على رأسهم الجاحظ (٢٥٥ﻫ)، وابن قتيبة (٢٧٦ﻫ)، وابن دريد (٣٢١ﻫ)، ومما تجب ملاحظته، ظهور بحوث أدبية سياسية كالبحوث التي قامت حول فكرة الشعوبية التي كان من مناهضيها الجاحظ، وابن دريد، وابن قتيبة، ومن مؤيديها حمزة الأصفهاني (٣٥٠ﻫ)، والبيروني (٤٣٠ﻫ)، وقد خلَّف كلٌّ من هؤلاء بحوثًا ومقالات ورسائل أدبية رائعة في تأييد وجهة نظره.

أما الشعر فكان من أئمة أصحابه في هذه الفترة أبو تمام الطائي الشاعر الحكيم العالم (٢٣١ﻫ)، والبحتري الشاعر العالم الأديب (٢٨٤ﻫ)، وابن المعتز الخليفة المؤلف العالم (٢٦٩ﻫ)، والمتنبي الحكيم (٣٥٤ﻫ)، وأبو فراس (٣٥٧ﻫ)، وغيرهم وهم من نعرفهم مكانةً وسموًّا وآثارًا وشهرة.

وأما الخطابة فقد انحطت عما كانت عليه في السابق في العصر الأموي والعصر العباسي الأول الذي نبغ فيه كثير من الخلفاء، كالمنصور، والمهدي، والرشيد، والأمين، ومن غيرهم كداود بن علي بن عبد الله بن العباس، وخالد بن صفوان، أما في هذا العصر، فلم ينبغ من خطيبٍ بارز المكانة من الخلفاء، أما غيرهم فكانوا من الخطباء المتوسطي المكانة.

وأما العربية وعلومها فقد نبغ فيها جمهرة كبيرة كأبي عبيدة (٢٠٩ﻫ/٨٢٤م)، والأصمعي (٢١٣ﻫ/٨٢٨م)، وأبي زيد الأنصاري (٢١٤ﻫ/٨٢٩م)، والفراء (٢٠٧ﻫ/٨٢٢م)، وغيرهم من كبار أئمة اللغة والنحو والعروض.

١  فهرس ابن النديم، ص٢٩٦؛ وابن خلكان ٢: ٥٠٣.
٢  تاريخ آداب اللغة العربية لجرجي زيدان ٢: ٢١٢.
٣  انظر: تاريخ الآداب العربية لجرجي زيدان ٢: ٣٠٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤