الفصل الثامن

الوضع الاجتماعي في هذا العصر

تطور الوضع الاجتماعي في العصر العباسي عمَّا كان عليه في العصر الأموي، كما عرفنا ذلك؛ فقد كانت البيئة الاجتماعية للدولة الأموية بيئة عربية متحضرة تأخذ من مظاهر حضارة البلاد المفتوحة ما يلائم طبعها، ويوافق مزاجها العربي، أما في العصر العباسي وخصوصًا العصر الذي نبحث فيه، فقد تبدلت تلك الأوضاع تبدلًا ظاهرًا، وإليك مجالِي ذلك التبدل:

(١) الأسرة

كانت نُظُم الأسرة في العصر العباسي نُظُمًا عربية خالصة، أو كالخالصة، وكان القوم يقيمون وزنًا كبيرًا للدم العربي، أما في العصر العباسي، وهذا العصر الذي نبحث فيه بصورةٍ خاصة، فقد تبدلت الأحوال، وغزت النساء الأعجميات من رقيقات وغيرهن بيوت الطبقة العليا والطبقة الوسطى؛ فأمهات الخلفاء العباسيين كلهن غير عربيات، حاشا أم السفاح، والمهدي، والأمين، والبلاط العباسي ودُور الأمراء وكبار الوزراء والقادة كانت تعج بالجواري من روميات، وأرمنيات، وفارسيات، وحبشيات، وتركيات، وبذلك ضاع الدم العربي النقي، وضاعت تلك الطبقة العربية، التي تعتز بدمها العربي في العصر الأموي، وحلَّت محلها طبقة من الهجناء الذين لا تهمهم عراقة الأنساب ولا نقاوة الدماء، وخصوصًا في عصر الانحلال؛ فقد انحطت الأسرة العربية انحطاطًا مريعًا، وسقط مستوى الأخلاق، وضاعت تقاليد عربية وإسلامية كثيرة لكثرة انغماس الناس في الشهوات والموبقات التي جاءتهم بها فارس وغيرها. وهكذا تدنت المرأة إلى دركٍ بعيد، فتبعها المجتمع.

(٢) المسكن

ليست عندنا معلومات دقيقة عن وضعية البيت العربي في هندسته ومفروشاته وآنيته في العصر الأموي، ولا العصر العباسي الأول، وإنما هي معلومات متفرقة ليست ذات غناء كبير، ويظهر أن البيت أو الدار الإسلامية في العصر العباسي، ظلت كما كانت عليه في العهد الإسلامي وما قبل الإسلامي؛ لأن العرب ليسوا أصحاب بناء ولا لهم في ذلك قَدمٌ راسخة، وإن كانت الأبنية العالية ذات الطبقات الكثيرة قد عُرفت في الحجاز واليمن منذ الجاهلية، كما عُرفت السراديب التي تقي من الحر، وأغلب الظن أنهم لما دخلوا البلاد المفتوحة أعجبهم نمط البيوت التي كانت في الشام والعراق ومصر، فاستساغوها بعد أن غيَّروا فيها بعض التغيير الذي اقتضته البيئة الإسلامية من جعْل محلات خاصة بالنساء بعيدة عن أمكنة الرجال، وما زال هذا الأمر يتطور حتى وُجد فيما بعدُ نظام «الحرملك» و«السلاملك».

وقد وصف المستشرق «ديمومبين» البيتَ العربي وصفًا نظن أنه جاء مطابقًا للواقع، حيث يقول: «عرفت بلاد العرب منذ الجاهلية بيوتًا ذات عدة طبقات، وقلاعًا من السهل أن تقاوم ضد أسلحة البدو البسيطة، وتكون الغرف المشيدة تحت الأرض ملجأ في حالات تطرف درجات الحرارة، وبين النماذج المتعددة للبيوت التي يسكنها المسلم الوسط، نجد أن بيوت البحر الأبيض المتوسط، ذات الطابق الواحد هي الشائعة: صالة صغيرة تفتح على المدخل حيث يجد الزائر دكة يستريح عليها منتظرًا أحد أفراد المنزل، أو تقوده خادم عجوز خلال ممر إلى فناء المنزل المستطيل الذي يحوي في وسطه بركة ماء وتزينه بضع شجيرات، ويحيط بالمنزل ممرات تتدلى فيها الكروم، وعليها تُفتح الأبواب والشبابيك الضيقة للغرف، وأحدها أوسع من الآخر، وتمتد وتتسع في بيوت الأغنياء مكونة من الإيوان على هيئة حرف T، وفي كل مكان فجوات في الجدران وهي الرواشن التي تكون كخزائن أو تصنع عليها رفوف، وفي إحدى الزوايا سُلَّم يؤدي إلى السطح حيث توجد غالبًا غرفة عليا، والسطح هو مجال النساء وملجأهن في ليالي الصيف، أما الجدران من الخارج فعارية، فيها على الغالب بضع نوافذ لا تُفتح، وأما الداخل فمحجوب تمامًا عن أعين المارة ومحميٌّ ضد حوادث السطو، والأثاث قليل بضعة صناديق غطَّاها النجار والرسام برسومٍ بسيطة، وبعض المغارس والحصر والسجاجيد، وعدد من المعلقات على الجدران والأبواب، وأدوات شتى وأوانٍ معدنية وأخرى فخارية، وكلها سواء كانت متقنة أو عادية اكتسبت شكلًا قديمًا نبيلًا.١ هذا ما يقول أستاذنا المستشرق العلامة ديمومبين، ولكنه قد أهمل ذكر ديوان الجلوس الذي يُوضع في الدواوين، وغرف الجلوس التي تحيط بها من ثلاث جهات وقد فُرشت عليها المراتب، ومن ورائها النمارق والوسائد والطراريح، كما أهمل ذكر نظام الإضاءة، وهو في الغالب الشموع، أو قناديل الزيت التي تُوضع في المشاكي، وربما استُعمل النفط في البلاد التي كان معروفًا فيها.

هذه هي حال دُور الطبقة الوسطى، أما الطبقة الدنيا فكانت أقرب إلى دُور البداوة، ساحة صغيرة قد جُزئت أربعة أو ثلاثة أجزاء، رُفع في كل جزء منها حيطان من طين، سُقفت بالخوص أو أوراق الشجر، بلا شبابيك ولا كوًى غالبًا، وفي هذه «الغرف» يسكن الإنسان وإلى جانبه ماشيته وحيواناته في الغالب. أما الطبقة العليا فكانت تسكن في قصورٍ فخمة في الداخل حصينة في الخارج، منها ذو الطبقة الواحدة، ومنها ذو الطبقتين، أو الثلاث، وهي في الغالب صورة طبق الأصل عن القصور الساسانية أو البيزنطية، لها ساحة ضخمة فيها بركة ماء، ولها إيوان أو إيوانان أو أربعة، أحاطت بها الغرف من جهاتها الأربع، وإلى جانب الغرف مستتبعات القصر وحمَّامه، وربما جُعل فيه فرن وطاحون وأحواض وما إلى ذلك من متممات الرفاهية وأسباب النعيم.

(٣) الطعام والشراب والطيب

لا نعرف كثيرًا عن الأطعمة في العصر العباسي، ولا شك في أن انتقال العاصمة الإسلامية إلى العراق، القريب من فارس، قد أدخل كثيرًا من الأطعمة الفارسية في المطبخ العربي، وقد كتب بعض كتَّاب هذه الفترة رسائلَ وكتبًا في وصف الأطعمة والأشربة والطيوب، ومن أجلِّها كتاب «أبي الحسن علي بن هارون بن المنجم» وإبراهيم بن المهدي، وجخطة البرمكي، وقد ضاعت كلها، وإنما وصلنا كتبٌ أُلِّفت بعد هذا العهد.

وقد جعلوا للطعام آدابًا وآينًا،٢ وأخذوا أكثره من التقاليد الفارسية، وقد حفظ لنا الأديب الكاتب الوشاء في كتابه الثمين «الموشَّى»، طرفًا ذات قيمة عن آداب الطعام وصفات الظرفاء والمؤدبين (الجنتلمان)، كما نجد في بعض الكتب الأدبية والتاريخية والدينية نتفًا ومعلومات تبيِّن طرفًا من آداب الطعام والشراب ومجالسهما؛ ففي «كتاب الوزراء للجهشياري» أن «الوزير ابن الفرات كان يدعو إلى طعامه في كل يوم تسعة من الكتَّاب من آداب الطعام والشراب ومجالسهما، ففي «كتاب الوزراء للحر شياري، ص٢٤١» أن «الوزير ابن الفرات كان يدعو إلى طعامه في كل يوم تسعة من الكتَّاب الذين اختص بهم، وكان منهم أربعة نصارى كانوا يقعدون إلى جانبه وبين يديه، ويُقدم إلى كل واحدٍ منهم طبقًا فيه أصناف الفاكهة الموجودة في الوقت من خير شيء، ثم يجعل في الوسط طبقًا كبيرًا يشتمل على جميع الأصناف، وكل طبق فيه سكين يقطع بها صاحبها ما يحتاج إلى قطعه … ومعه طست زجاج يرمي فيه التفل، فإذا بلغوا من ذلك حاجتهم واستوفوا كفايتهم، شيلت الأطباق وقُدِّمت الطسوت والأباريق فغسلوا أيديهم وأُحضرت المائدة مغشاة بدبيقي تحتها سفرة أدم، وحواليها مناديل الغمر … فلا تزال الألوان تُوضع وتُرفع أكثر من ساعتين.»
وأما الشراب فقد عظُم تعاطيه في هذا العصر، وصار كثير من الخلفاء يشربون الخمر، وعُرف ذلك عنهم، فلم يأنفوا منه، وجدَّد العباسيون نُظُم مجالس الشراب الساسانية وآداب الندمان على الطريقة الفارسية، وصرنا نجد في بيوت الكبراء إلى جانب الطباخين والخَدَمة، رجالًا يُسمَّون الشرابيين، عملهم العناية بالشراب وآلته وفاكهته وريحانه، وكان الساقون في الغالب من أهل الذمة، ولم يتورع عن الشراب كثير من كبار الدولة على الرغم من تحريمه، حتى القضاة! فقد روى الثعالبي أن جماعة من الكبراء «كانوا ينادمون الوزير المهلبي في مجالس لهوه وشرابه ومن بينهم القضاة: ابن قريعة، والتنوخي، وما منهم إلا أبيض اللحية طويلها، وكانوا يحضرون وعليهم المصبَّغات، فإذا أصبحوا عادوا إلى عادتهم من التزمُّت والتوقُّر والتحفُّظ بأبَّهة القضاة وحشمة المشايخ الكبراء.» وكان شرب الخمر مقللًا لانتشار المخدرات الأخرى من حشيشٍ، وأفيون، على الرغم من أن الحنفية قد أباحوها كما يُفهم من كلام العاملي٣ ولم تصر بعدُ لهذين المخدرين المكانة التي كانت لهما في أواخر القرن الرابع والقرن الخامس.
١  انظر ديمومبين: Les Institutes musulmanes، والترجمة ص٢٢٥-٢٢٦.
٢  «الآيين» كلمة فارسية معناها النظام والدستور المرتَّب، أو هو ما نسميه الآن بالبروتوكول.
٣  انظر كتاب: المخلاة، ص١٨٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤