الفصل الثالث

ظهور دويلات جديدة

ظهرت في هذه الحقبة دويلات جديدة هي:

(١) دولة آل بويه. (٢) دولة الحمدانيين. (٣) دولة الغزنويين.

***

(١) دولة آل بويه (من ٣٣٤ إلى ٤٤٧ﻫ/٩٤٥–١٠٥٥م)

(١-١) أوليتها

كان أبو شجاع بويه تركيًّا مغمورًا يصيد السمك ببلاد الديلم١ وكان له ثلاثة أولاد هم أبو الحسن علي، وأبو علي الحسن، وأبو الحسين أحمد، وقد انخرطوا ثلاثتهم جنودًا في خدمة «مرداويج بن زيار»، صاحب الدولة الزيارية، وبرزت مواهبهم العسكرية الفائقة فاعتمد عليهم مرداويج، فولَّى عليًّا على مدينة «كَرَج» (بين أصفهان وهمدان)، وكان حازمًا عاقلًا حسن التصرف، فأحبه أهل الكرج، وأخذ قدره ينبل حتى خاف منه مرداويج على نفسه فاستدعاه إليه، ولكن عليًّا رفض المثول بين يديه، وأعلن عصيانه عليه، وسار إلى «أصفهان» فاستولى عليها، واشتد قلق «مرداويج»، فكتب إليه يعاتبه ويستميله ويطلب إليه أن يعود إلى طاعته حتى يمده بالجند والمال ليوسِّع ملكه، ولا يطلب منه مقابل ذلك إلا الخطبة له في تلك البلاد، وفي الوقت الذي كتب إلى علي، كتب إلى أخيه «وشميكر بن زيار» أن ينقضَّ على علي ويفتك به، فأحس علي بذلك، ورحل عن أصفهان قاصدًا بلاد «أرجان» فاستولى عليها سنة ٣٢١ﻫ/٩٣٣م، ثم استولى على بلاد «النوبندجان»، ثم سار إلى «أصطخر» فامتلكها، ثم سار إلى «شيراز» فهرب أميرها ياقوت واستولى على أمواله، ولما رأى سعة ملكه وقوة سلطانه، كتب إلى الخليفة الراضي بالله، وإلى وزيره ابن مقلة، يطلب أن يعهد إليه بما في يده من البلاد، وبعث إليه بألف ألف درهم، فأُجيب إلى طلبه وبعث إليه الخليفة بالخِلْعة واللواء.
ولما بلغت هذه الأخبار «مرداويج» ثار ثائره، وسار إلى «أصبهان» وبها أخوه «وشميكر»، فاتفقا على أن يسير بعسكرٍ كثيف إلى «أصطخر» للاستيلاء عليها، وقطع الطريق بين علي بن بويه وبين الخليفة، ولما تم لهما النصر في «الأهواز» رأى ابن بويه أن يصالح «مرداويج»، وتم الصلح بينهما في سنة ٣٢٢ﻫ. ولما فتح «مرداويج» بلاد الأهواز، فكَّر في السير إلى بغداد والقضاء على الدولة العباسية وإنشاء مملكة فارسية ساسانية مركزها «طيسفون»، وهي عاصمة الدولة الكسروية قبل الفتح العربي، وكان يقول: أنا أرُدُّ دولةَ العجم وأُبْطِل مُلك العرب.٢ ولكن عهد «مرداويج» لم يَطُل بعدئذٍ، فقتله مماليكه لسوء إدارته في «عيد السذَق» سنة ٣٢٣ﻫ، وانهار بموته مشروعه، وقوي أمر آل بويه، فسيطروا على الري وأصفهان سنة ٣٢٦ﻫ، وما زال أمرهم يسمو حتى إن عليًّا فكر في احتلال بغداد، ولم يفعل ذلك آئنذٍ، ولكنه أخذ يعد عدته، فلما أنس ضعف الخلافة، ومات أمير الأمراء توزون، عظُم طمعه بالاستيلاء على المملكة العباسية، وهو يومئذٍ أمير فارس وأخوه الحسن أمير على الجبال وأخوهما الصغير أحمد لا عمل له، فسيَّره علي إلى الأهواز فتملكها بعد حروبٍ بينه وبين بجكم الرائقي، الذي انهزم إلى واسط، فرأى أحمد بن بويه أن يتآمر مع عامل واسط على احتلال العاصمة، وكان له ما أراد في ١١ جمادى الأولى سنة ٣٣٤ﻫ/١٧ كانون الثاني سنة ٩٤٦.٣

(١-٢) معز الدولة

لما دخل أحمد بغداد استقبله المستكفي بالله وخلع عليه، وحلف كلٌّ منهما لصاحبه هذا بالخلافة وذاك بالسلطة، ولقبه الخليفة أحمد بصاحب العراق معز الدولة، كما لقَّب أخويه عليًّا بعماد الدولة، والحسن بركن الدولة، وأمر أن تُضرب ألقابهم وكُنَاهم على النقود. وهكذا سقط السلطان العباسي سقوطًا رسميًّا، وأصبح الخليفة رئيسًا دينيًّا لا غير، ولم يَعُد له وزن ولا هيبة، وإنما سمح له معز الدولة البويهي بتسمية كاتب يدير إقطاعاته وإخراجاته كما رأينا.

وقد حاول معز الدولة أن يخلع الخلافة عن العباسيين ويوليها بعض آل علي، وكان شيعيًّا زيديًّا متعصبًا، ولكن بعض خواصه حذَّروه من ذلك فعدل، كما تقدَّم، ولم يمكث المستكفي في الخلافة بعدئذٍ أكثر من نصف شهر، خلعه بعدها معز الدولة سنة ٣٣٤ﻫ متهمًا إياه بالتآمر عليه، مع قواده والاستنجاد بالحمدانيين.

وقد أراد معز الدولة أن ينقل الخلافة إلى العلويين الزيديين، وعدل عن ذلك للأسباب التي قدمناها، ولكنه أظهر المذهب الشيعي وتعصَّب له، وأعلن الاحتفال بالمواسم الشيعية، واستهان بالخليفة العباسي. يقول ابن الأثير (في تاريخه ٧: ١٤٩): «وكان من أعظم الأسباب في ذلك أن الديلم كانوا يتشيعون، ويغالون في التشيُّع، ويعتقدون أن العباسيين قد غصبوا الخلافة، وأخذوها من مستحقيها، فلم يكن عندهم باعث ديني يحثهم على الطاعة، ولما نزل «المستكفي» عن الخلافة ولَّى معز الدولة «المطيع لله».»

وفي سنة ٣٣٥ﻫ قدِم جيش ناصر الدولة بن حمدان للانتقام للمستكفي، ولكنه أخفق في حملته، فسجن معز الدولة المستكفي ثم قتله.

ولم يكن حال «المطيع» مع البويهيين خيرًا من «المستكفي»، فقد استخلفه معز الدولة على ألا يبغيه سوءًا، ولا يمالئ عليه عدوًّا، فقبل «المطيع» بذلك، ولكن ذلك لم يمنع بهاء الدولة سنة ٣٨١ﻫ/٩٩١م من أن يصادر الخليفة ويستصفي أمواله، ويهينه في مجلس الخلافة ويضربه ويخلعه على ما قدمنا سابقًا.

ومعز الدولة هو الذي وطَّد ملك البويهيين في العراق، ولم يكن بارعًا في الإدارة براعته في الجندية، ففسدت البلاد في عهده، وساءت الإدارة المالية وعَمَّ الفقر، وكثرت نوائب الناس في زمنه، فصادر الأموال، واستخلص الأراضي فوزَّعها على الجند إقطاعًا، ولم يكونوا أصحاب زراعة، فأهملوا مشارب القرى وطرق الري؛ لأن غرضهم كان الاستثمار ليس غير، وتسلطوا على الفلاحين فاستعمروهم وعمَّت الفوضى، ووقعت المجاعات حتى أكل الناس الميتة والسنانير والكلاب، وكانت ثالثة الأثافي، أن جنده اختلفوا فيما بينهم ووقعت حروب أهلية بين عنصريهم «الديلم» و«الأتراك»، ولقي الناس من ذلك عنتًا كبيرًا، وقد كادت هذه الفتنة أن تؤدي إلى خلع المعز سنة ٣٣٥ﻫ بيد الديالمة لما رأوه يميل إلى الأتراك، ولكن الأتراك تمكنوا من القضاء على تلك الفتنة، فأقطعهم بلاد واسط والبصرة، وساروا إليها وأخربوا البلاد ونهبوا الأموال ولقي الناس منهم شرًّا مستطيرًا٤ حتى اضطُر معز الدولة أن يعيد نظره في الأمر ليخفف وطأة الخراب، فاهتم بالري وسد بثوق الأنهار، وعُني بالأقنية ونظَّم أحوالها؛ ففي سنة ٣٣٤ﻫ سد بثق نهر الرفيل، وخرج بنفسه لسد البثوق في نهر بادوريا النهروانان، واهتم بإصلاح شئون الزراعة في السواد، وعهد إلى أبي الفرج بن أبي هشام بذلك، وكان فاضلًا في هذه الصناعة، عارفًا بشئونها فانصلحت الأحوال وأخذت البلاد تنتعش قليلًا قليلًا.
وفي سنة ٣٣٧ﻫ أراد معز الدولة توسيع رقعة ملكه، وتوجَّه إلى الموصل فدخلها وهرب ناصر الدولة الحمداني منه إلى نصيبين، وأراد اللحاق به، ولكن أخاه رُكن الدولة كتب إليه يخبره بأن جيوش الدولة السامانية خرجت باتجاه جرجان والري، فاضطُر إلى أن يصالح ناصر الدولة الحمداني ليمد جيش أخيه، وكان الصلاح بين معز الدولة وناصر الدولة على أن يؤدي الحمداني للمعز كل سنة ثمانية آلاف درهم عن بلاد الموصل والجزيرة كلها والشام، ويخطب لآل بويه الثلاثة، ولم يستمر هذا الاتفاق طويلًا، فهاجم معز الدولة الموصل واحتلها ثانية، وهرب ناصر الدولة الحمداني إلى «نصيبين» ثم إلى «ميتا فارقين» فلحق به معز الدولة، واضطُر ناصر الدولة أن يلحق بأخيه سيف الدولة الحمداني بحلب، ثم عُقد صلح جديد في محرم سنة ٣٤٨ بين معز الدولة البويهي وسيف الدولة الحمداني، وضمن سيف الدولة أن يدفع ألفي ألف وتسعمائة ألف درهم لناصر الدولة، وعاد ناصر الدولة إلى الموصل، ولم يكد معز الدولة ينتهي من مشكلة بني حمدان، حتى وقعت بالعراق فتنتان عظيمتان:
  • أولاهما: أن عامله في البصرة أبا القاسم البريدي أعلن استقلاله سنة ٣٣٩، وامتنع عن تأدية الخراج لمعز الدولة ووقعت حروب وفتن كثيرة بين الجانبين انتهت بالقضاء على البريدي، وقد انتهز قرامطة «البحرين» و«هجر» هذه الفتن فجددوا عزمهم على مهاجمة البصرة واستطاعوا في سنة ٣٤١ﻫ أن يحاصروا البصرة، ولكن الوزير المهلبي وزير معز الدولة قاومهم وردهم على أعقابهم بعد أن أفسدوا البلاد إفسادًا عظيمًا.
  • وثانيتهما: أن عمران بن شاهين استقل بأرض «البطيحة»، في العراق، وعمران هذا كان جابيًا للخراج، جمع أموال الخراج وهرب إلى البطيحة في سنة ٣٢٩ﻫ فأقام بين أهلها بين القصب والآجام متحصنًا بها، مقتصرًا على ما يصيدون من الأسماك والطيور والأوز، ثم أخذ يقطع الطريق على من يسلك البطيحة، ولما قام أبو القاسم البريدي بثورته تعاون معه، واتفقا معًا على معز الدولة، فبعث إليه معز الدولة وزيره أبا جعفر الصيمري على رأس جيشٍ كثيف، كاد أن يتغلب به على عمران، ولكنه فشل واستمر عمران وأولاده ووزراؤه يستقلون بالبطيحة من سنة ٣٢٩ﻫ إلى سنة ٤٠٨ﻫ.

ودولة عمران بن شاهين: هي إحدى الدويلات التي انفصلت عن جسم الدولة العباسية، وظلت كذلك إلى أيام السلاجقة، وكان سبب فشل معز الدولة بالقضاء على هذه الدولة أنه انشغل كذلك بعد وفاة أخيه الأكبر عماد الدولة بالثورة في شيراز، فطلب إلى وزيره الصيمري أن يترك البطيحة ويتوجه إلى شيراز، فتنفس عمران الصعداء، وأخذ يجمع قواه ويعيث فسادًا في تلك المناطق، فاضطُر معز الدولة أن يُنفذ إليه جيشًا ثانيًا فالتقى به عمران وفرَّق شمله وغنم منه سلاحًا وجندًا، ثم قطع الطريق بين بغداد والبصرة فلم يستطع أحد العبور من منطقته إلا إذا دفع إليه مالًا، فضاق الناس به واضطُر معز الدولة أن يأمر وزيره المهلبي فسار إلى البطيحة ولم يكن نصيبه خيرًا من القواد الذين سبقوه، واضطُر المهلبي إلى النجوة بنفسه، واضطُر معز الدولة إلى مصالحة عمران وتقليده إمارة البطيحة، واستمر ملك عمران ومن بعده في البطيحة إلى سنة ٤٠٨ﻫ حين صارت البطيحة كلها بؤرة فساد وسلب وإجرام، إلى انقضاء عهد الدولة السلجوقية، ثم عادت إلى حوزة خلفاء بغداد.

(١-٣) عز الدولة بن معز الدولة (٢٥٦–٣٦٧ﻫ)

هو عز الدولة بختيار بن معز الدولة أحمد، ولي العراق بعد أبيه في ١٣ ربيع الآخر سنة ٣٥٦ﻫ إلى أن خلعه عمه عضد الدولة سنة ٣٦٧ﻫ، فكانت سلطنته إحدى عشرة سنة قضى سبعًا منها في عهد الخليفة المطيع، والباقي في عهد الطائع، وكانت البلاد في عهده على شر حال؛ فقد انصرف هو إلى اللهو واللعب، وأساء معاملة وزرائه وقواده، وسلَّط الجند وكبار الديلم على أصحاب الأرضين، قال مسكويه (في تاريخه، ص٣٠٢–٣٠٧): «وكان لا ينظر في دخل ولا خرج، وإنما يُلزِم وزيره تمشية الأمور؛ حيث لا يعنيه ولا ينصره، ولا يمنع أحدًا من جنده شيئًا، فإذا وقفت أموره على وزيره واستبدل به، فلا يلبث الأمر أن يعود من الالتياث والانحلال إلى أسوأ ما كان.» وصار كل طامح إلى الوزارة يتعهد لبختيار بسد نفقاته وجمع الأموال له ينال وزارته. وفي عهده لقي المسلمون وأهل الذمة أسوأ المعاملة وصُودرت أموالهم، حتى بطلت الأسواق وانقطعت المعايش (كما في تاريخ مسكويه، ص٣٠٢–٣٠٨) إلى أن فرَّج الله الغمة عن البلاد حين خلعه ابن عمه عضد الدولة ثم قتله في سنة ٣٦٧ﻫ.

(١-٤) عضد الدولة (٣٦٦–٣٧٢ﻫ)

هو عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو بن ركن الدولة الحسن بن بويه، كان أبوه ركن الدولة أميرًا على الريِّ وطبرستان وجرجان والجبل وفارس والأهواز، فلما مات سنة ٣٦٦ﻫ خلفه ابنه عضد الدولة، وكان قويًّا حازمًا سيطر على مملكة أبيه، وعزم على السيطرة على بغداد فسار إليها، وخلع ابن عمه بختيار في سنة ٣٦٧ﻫ، ثم سار نحو الموصل فطرد أبا تغلب الحمداني منها، واستولى على ملك الحمدانيين، وبث سراياه في طلب أبي تغلب، فهرب أبو تغلب إلى بلاد الروم، وسيطر عضد الدولة على ديار ربيعة، وديار بكر، وديار مصر، وبذلك سيطر عضد الدولة على إيران والعراق والجزيرة والجبال والري والحجاز وما إليها من البلاد، وأضحى سيد المشرق، ولا غرو فإن ما امتاز به من حزمٍ وجرأة وإدارة وعقل قد وطَّد ملكه.

هذا مع علمٍ غزير وأدب وفير وحكمة وفضل. ولعضد الدولة محاسن وأعمال جليلة، منها: أنه بنى على مدينة الرسول سورًا قويًّا لحمايتها من الغارات والأعداء، ومنها أنه أظهر منبر الإمام علي (عليه السلام) بالكوفة وبنى على المشهد، وهو الذي صنف له أبو علي الفارسي كتابي «الإيضاح» و«التكملة» في النحو، وفي عهده تحسنت أحوال البلاد الزراعية من تنظيم للري، وعدل في الجباية، وهو الذي أمر ببناء القناطر، وبحفر كثيرٍ من الأنهر والأقنية المندرسة، وإعادة بنائها وإصلاحها.٥ وهو الذي أخَّر ابتداء أخذ الخراج إلى وقت النيروز المعتضدي الذي تنضج فيه الغلال، وكان الخراج يُؤخذ سلفًا قبل إدراك الغلال، وشجَّع الزرَّاع على عرض مظالمهم من الإقطاعيين والعسكريين.٦ وهو الذي شرع في سنة ٣٦٩ﻫ بعمارة بغداد وكانت قد خربت بتوالي الفتن فيها، فعمَّر مساجدها وأسواقها وأدرَّ الأموال على الأئمة والمؤذنين والعلماء والقراء والغرباء والضعفاء الذين يأوون إلى المساجد، وألزم أصحاب الأملاك الخربة بعمارتها وجدَّد ما دثر منها، وأطلق مكوس الحجاج، وأصلح الطريق من العراق إلى مكة، وأطلق الصلات لأهل البيوتات والشرف والضعفاء المجاورين بمكة والمدينة، وفعل مثل ذلك بمشهد «علي» و«الحسين» (عليهما السلام)، وأجرى الجرايات على الفقهاء والمتكلمين والمفسرين والنحاة والشعراء والنسابين والأطباء والحُسَّاب والمهندسين، وأذن لوزيره نصر بن هارون النصراني في عمارة البِيَع والأديرة وإطلاق الأموال على فقرائهم.٧ وهو الذي بنى البيمارستان العضدي ببغداد في سنة ٣٦٧ﻫ/٩٧٨م ووقف عليه مبلغ مائة ألف دينار، وكان يشرف على الطِّبابة فيه ٢٤ طبيبًا وكحَّالًا، يعلِّمون الطب ويداوون الناس ويدرِّسون الفلسفة.٨

كما كانت له مساوئ، منها: أنه أحدث في أواخر أيامه رسومًا ظالمة، منها رسوم بيع الدواب والأمتعة، وأنه منع من عمل الثلج والقز وجعل ذلك تجارة خاصة به، ومات عضد الدولة في شوال سنة ٣٧٢ﻫ ببغداد، وحُمل إلى مشهد الإمام علي فدُفن عنده.

(١-٥) صمصام الدولة وعقبه إلى انقراض الدولة

صمصام الدولة هو أبو كاليجار المرزبان ابن عضد الدولة، تولَّى الأمر بعد أبيه بإجماع القواد، وكان إخوته وبنو أعمامه متفرقين في الولايات، وهو في العراق، ولكنه لم يكن حازمًا مثل أبيه، فوقعت الفتنة بينه وبين إخوته وأبناء عمومته، فانتهز الأكراد، بقيادة شجاع دوستك، هذه الفرصة فاستولوا على الموصل، وحاولوا الاستيلاء على بغداد ولكنهم فشلوا، وتم الصلح بينهم وبين البويهيين، واستمر أمر صمصام الدولة في اضطراب حتى استطاع أخوه شرف الدولة أن يدخل بغداد ويقضي عليه في رمضان سنة ٣٧٦ﻫ.

استولى شرف الدولة على بغداد سنة ٣٧٦ﻫ فلم يطل عهده فيها؛ لأن جنوده من تُرك وديلم، كانوا لا ينفكون متحاربين إلى أن مات في سنة ٣٧٩.

ويجب ألا ننسى أن عهد شرف الدولة على الرغم من اضطرابه السياسي كان عهد علم؛ فقد رعى شرف الدولة ما كان ابتدأ به أبوه من تعضيد العلم وحب أهله والإحسان إليهم،٩ وقد اقتدى شرف الدولة بالمأمون في مساعدة العلماء على الترجمة والتأليف وإنشاء المرصد الكبير.

ولما مات سنة ٣٧٩ خلفه أخوه بهاء الدولة أبو نصر بن عضد الدولة، ولم يكن عهده من الناحية السياسية خيرًا من عهد أخيه؛ فإن الأتراك والديلم عادوا من جديدٍ إلى التصادم، ثم نشبت فتن كثيرة بينه وبين أهل بيته، وفي سنة ٣٨١ﻫ قبض بهاء الدولة أبو نصر فيروز بن عضد الدولة، على الخليفة الطائع طمعًا في أمواله وخلعه، وولى القادر الخلافة، وكان عهده عهدًا مضطربًا كثرت فيه الحروب بينه وبين أهل بيته إلى أن مات سنة ٤٠٣ﻫ، وكان سلطانه على العراق والأهواز وفارس وكرمان.

وفي عهد بهاء الدولة استمرت الحركة العلمية التي أسَّس نواتها أبوه، ورعاها أخوه، وقد كان وزيره سابور بن أردشير العالم الفاضل يرعى العلم وأهله، وهو الذي بنى «دار الحكمة» في بغداد وجعل فيها خزانة كتب ضخمة، يذكر ابن الأثير،١٠ أن عدد كتبها نحو عشرة آلاف مخطوطة نفيسة، وإلى هذه الدار تردد أبو العلاء المعري أيام زيارته بغداد وذكرها في شعره.

ولما مات خلفه ابنه سلطان الدولة أبو شجاع بن بهاء الدولة، ولم يكن عهده خيرًا من عهد أبيه، وكان جنوده لا يطيعونه، فأفسدوا البلاد، وثار عليه أخوه شرف الدولة أبو علي بن بهاء الدولة، فانتزع منه المُلك في المحرم سنة ٤١٢ﻫ ونفاه عن العراق، ثم تصالح الأخوان على أن يكون لشرف الدولة العراق، ولسلطان الدولة فارس وكرمان، إلى أن مات سلطان الدولة سنة ٤١٥ بشيراز فخلفه ابنه أبو كاليجار بن سلطان الدولة. وفي سنة ٤١٦ﻫ مات شرف الدولة فخلت سدة السلطنة من وجود سلطان، وسيطر الأجناد، وخطبوا أول الأمر لجلال الدولة أبي طاهر بن بهاء الدولة، صاحب البصرة ثم قطعوا خطبته، وخطبوا لابن أخيه أبي كاليجار صاحب الأهواز وطلبوه إلى بغداد فوعدهم أن يجيء، ولكنه تأخَّر لما كان بينه وبين عمه أبي الفوارس صاحب كرمان من الحروب، فازدادت الفتن ببغداد لعدم وجود سلطان فيها، وكثُر شر الجند الأتراك فكتب عقلاء البلاد إلى جلال الدولة بن بهاء الدولة يستدعونه إلى بغداد وخطبوا له في سنة ٤١٨ﻫ، ولكنه لم يستطع ضبط الأمر طويلًا، وكثُر شغب الجند عليه. وفي سنة ٤٢٦ﻫ فسد أمر الخلافة والسلطة البويهية معًا في بغداد، وسيطر الأجناد والأكراد على البلاد، إلى سنة ٤٣٥ﻫ حين مات جلال الدولة بعد أن ملك ١٧ سنة إلا شهرًا، ولما مات خلفه ابن أخيه أبو كاليجار المرزبان بن سلطان الدولة ولقَّبه الخليفة بمحيي الدولة، ولم يكن عهده حسنًا، ولما مات سنة ٤٤٠، خلفه ابنه أبو نصر فيروز الملقب بالملك الرحيم، وأقام ملكًا إلى سنة ٤٤٧ﻫ حين قدم السلطان طغرل بك السلجوقي مستوليًا على بغداد.

وهكذا انقرضت الدولة البويهية، التي حكمت قرابة قرن وسيطرت على العراق وفارس واتخذت شيراز عاصمة لها، وبغداد مقرًّا لأمرائها، فقد كان لهم فيها قصور تُسمَّى دار المملكة.١١ وبلغ أوج هذه الدولة في عهد عضد الدولة الذي سيطر على أرجاء الإمبراطورية الإسلامية، واستطاع أن يتزوج ابنة الخليفة الطائع، ويزوجه ابنته مؤملًا أن تصل الخلافة إليه، وهو أول من لُقِّب بشاهنشاه، أي ملك الملوك. وفي عهد هذه الدولة ازدهرت المعرفة والحكمة، كما نبغ إخوان الصفا في عهده.

(٢) الحمدانيون (٢٩٣–٤٠٢ﻫ)

ينتسب الحمدانيون إلى حمدان بن حمدون بن الحارث التغلبي الوائلي العدوي، حوالي «؟–٣٠٠» ومؤسس هذه الدولة، وهو أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان، وكان من القادة المقدَّمين في الدولة العباسية، ولَّاه المكتفي بالله إمرة الموصل وأعمالها سنة ٢٩٣ فأقام فيها وتوسط سلطانه هو وإخوته على هاتيك الديار.

وفي سنة ٣٠٣ أمر المقتدر بالقبض على أبي الهيجاء وإخوته وحبسهم١٢ ثم عفا عنهم. وأقام أبو الهيجاء في بغداد، وولى ابنه ناصر الدولة الحسن أميرًا على الموصل، وكانت له عدة وقعات مع الأكراد الجلالية الذين اشتدت شوكتهم فأخضعهم وانقادوا لدولته سنة ٣١٤ﻫ.
وفي سنة ٣١٨ﻫ عُزل ناصر الدولة عن الموصل، ووليها عمَّاه سعيد ونصر ابنا حمدان، وولي ناصر الدولة ديار ربيعة ونصيبين وسنجار والخابور ورأس عين، وميافارقين، وارزن.١٣ وفي سنة ٣٢٢ﻫ أُعيد ناصر الدولة إلى الموصل فعظم سلطانه. وفي سنة ٣٢٣ﻫ عزل الخليفة الراضي ناصر الدولة عن الموصل، وولَّاها أبا العلاء بن حمدان، فلما ذهب إليها مظهرًا أنه إنما جاء ليطلب مال الخليفة، وكان ناصر الدولة يعلم بأمره، فبعث إليه من قتله، ولما بلغ ذلك الخليفة بعث وزيره ابن مقلة في جيشٍ كبير فهرب ناصر الدولة، وأقام الوزير بالموصل مدة ثم لما قفل عنها رجع ناصر الدولة وكتب إلى الخليفة الراضي يعتذر منه فعفا عنه.

ولما مات الخليفة الراضي، وتولى المتقي، ووقعت الفتنة بين أبي عبد الله البريدي وابن رائق كما ذكرنا، واضطُر الخليفة على السفر إلى الموصل، بعد استيلاء البريدي على بغداد، كان المتقي قد أنفذ إلى ناصر الدولة يستمده على البريديين، فأرسل أخاه سيف الدولة نجدة له في جيشٍ كثيف، فلقي الخليفة المتقي وابن رائق بتكريت قد انهزما من بغداد، وخدم سيف الدولة الخليفة خدمةً عظيمة، وسار في ركابه إلى الموصل، ثم إن الخليفة المتقي خلع على ناصر الدولة وجعله أمير الأمراء في شعبان سنة ٣٣٠ﻫ وبعث أخاه سيف الدولة في ملاحقة البريديين الذين تسلطوا على واسط، فأخرجهم منها، وكان يريد الانحدار إلى البصرة لأخذها من البريديين، ولكنه لم يتمكن من ذلك لقلة المال عنده، فكتب إلى الخليفة يستمده، ولما تأخر المال أخذ سيف الدولة يستميل القادة الأتراك أن يسيروا معه للاستيلاء على الشام ومصر، فلم يتفقوا معه على ذلك، واضطُر إلى الرجوع إلى بغداد، ثم انحدر إلى الموصل.

وفي سنة ٣٣٠ﻫ اتفق توزون وناصر الدولة بن حمدان أن يقتسما المملكة، فيكون للأول أعمال البصرة وما إليها، وللثاني الموصل وما إليها شمال الشام والعواصم وحمص، وبعث ناصر الدولة أبا بكر محمد بن علي بن مقاتل أميرًا على قنسرين وحلب، ثم استبدله بابن عمه أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان، فقدم حلب وطرد أميرها يأنس المؤنس المولَّى عليها من قبل الإخشيد أبي بكر محمد بن طغج، وحين علم الإخشيد بذلك، قدم على حلب بجيش لَجِب، فهرب الحسين الحمداني إلى الرقة، ولما وصلها كان فيها الخليفة المتقي، فلم يأذن له بدخولها، واستدعى الخليفة الإخشيد، فجاءه وأكرمه، وثبت ملكه على الشام ومصر، ورجع الإخشيد إلى مصر بعدما ولَّى حلب أبا الفتح عثمان بن سعيد الكلابي، فحسده إخوته الكلابيون واستدعوا سيف الدولة فقدمها بموافقة أخيه ناصر الدولة واستولى عليها سنة ٣٣٣ﻫ وهو الاستيلاء الأول، واستمر أمر الدولة الحمدانية يقوى حتى سيطرت على الموصل وحلب ودمشق.

وبقي ناصر الدولة في إمارته على الموصل والجزيرة والشام، على أن يؤدي عنها الأموال للبويهيين ويخطب لهم، وعلى الرغم من أنه أراد أن يقطع صلته بالبويهيين مرات؛ فإنهم استطاعوا أن يفسدوا عليه خططه باتفاقهم مع ابنه أبي تغلب فضل الله الذي حجر على أبيه وسجنه واستولى هو على الموصل وأطرافها سنة ٣٥٦ﻫ، وجرت له مع عضد الدولة البويهي حوادث انتهت بزحف عضد الدولة على الموصل، فغزا أبو تغلب ونزل بظاهر دمشق وانتقل منها إلى الرملة وقُتل بظاهرها سنة ٣٦٩ﻫ.

أما سيف الدولة فإنه ما لبث أن استقر بحلب منذ سنة ٣٣٣ﻫ حتى وافاه الإخشيد وخادمه كافور، فالتقى بهما عند الرستن، وفرَّق جمعهما، ثم سار إلى دمشق، فلم يوفَّق إلى فتحها، ورجع إلى حلب، فلحق به الإخشيد واسترد حلب، فهرب سيف الدولة إلى الرقة. وفي سنة ٣٣٤ﻫ عاد فاستولى عليها، وتم الاتفاق بينه وبين الإخشيد على أن تكون حلب وحمص وأنطاكية لسيف الدولة، ودمشق للإخشيد، ولكن سيف الدولة لم يلبث أن استولى على دمشق، ثم اضطُر إلى مغادرتها بعد أن قدم عليه كافور الإخشيدي، فاكتفى سيف الدولة بسورية الشمالية، واتخذها له مقرًّا وملكًا، وكان سيف الدولة لا يفتأ يغزو الروم ويفتك ببلادهم وجيشهم، وكانت غزواته لبلاد الروم على الشكل الآتي:
  • في سنة ٣٣٣ﻫ غزا سيف الدولة بلدة الصفصاف وعرسوس فغنم وعاد.

  • وفي سنة ٣٣٥ﻫ كان الفداء بين المسلمين والروم على يد عامل سيف الدولة في الثغور، وكان عدد الأسرى ٢٤٨٠ أسيرًا، وفَضَل للروم على المسلمين ٢٣٠ فوفَّاهم سيف الدولة من ماله.

  • وفي سنة ٣٣٧ﻫ غزا الروم فانكسر وأخذ الروم مرعش وأوقعوا بأهل طرسوس، ثم غزاهم سيف الدولة فملك حصن بَرْزَية، وفي ذلك يقول المتنبي قصيدته:

    وفاؤكما كالرَّبْعِ أشجاهُ طاسمُه
  • وفي سنة ٣٣٩ﻫ غزاهم وأوغل وفتح حصونًا كثيرة وغنم وسبى، ثم ضيقوا على جيشه، فلم ينجُ إلا هو وقليل، وفي سنة ٤٣١ غزا الروم سروج فخربوا مساجدها وانصرفوا، فتبعهم سيف الدولة وفتك وعمَّر ما خربوا وأعاد بناء مرعش، وفي ذلك يقول المتنبي قصيدته:

    فدَيْناكَ من رَبْعٍ وإن زِدتنا كرَبا
  • وفي سنة ٣٤٢ﻫ خرج سيف الدولة إلى ديار مصر وأوقع بالدمستق وأسر ابنه قسطنطين، وفي ذلك يقول المتنبي قصيدته:

    لَيَاليَّ بَعْدَ الظَّاعِنِينَ شُكُولُ
  • وفي سنة ٣٤٣ﻫ سار إلى الحدث وأوقع بالدمستق الذي جاءه بجموع الروم والأرمن والروس والبلغر والصقلب والخزرية، فهزمهم وأسر صهر الدمستق نوذس البطريق، وأقام في الحدث حتى بناها ووضع بيده آخر شرافة، فقال أبو الطيب قصيدته:

    على قدْرِ أهلِ العزْمِ تأتي العزائم

    وقد غلط ابن الأثير فذكر أسر ابن الدمستق في هذه الوقعة، كما غلط بعض المؤرخين في هاتين الوقعتين (هذه الوقعة والتي قبلها) فتوهموا أنها وقعة واحدة مع أنهما اثنتان.

  • وفي سنة ٣٤٤ﻫ ورد عليه رسول الروم مع فرسان طرطوس وأذنة والمصيصة في طلب الهدنة والفداء، فقال أبو الطيب قصيدته:

    أرَاعَ كَذا كُلَّ الأنَامِ هُمَامُ
  • وفي سنة ٣٤٥ﻫ سار سيف الدولة ومعه المتنبي لغزو الروم إلى تل بطريق فأحرقه، وفتك بالروم ووصل آمد وأنشده فيها المتنبي قصيدته:

    الرَّأي قبْلَ شجاعة الشُّجعان
  • وفي سنة ٣٤٩ﻫ بلغ خرشنة ولكن الروم ردُّوه، واستردوا جميع ما أخذه وفرقوا جنده، واستطاع هو أن يهرب منهم، وفيها يقول المتنبي قصيدته:

    غَيري بِأَكثَرِ هَذا الناسِ يَنخَدِعُ
  • وفي سنة ٣٥١ﻫ غزا دمستق الروم الديار، واستولى على عَيْن زَرْبَة، ففتك بأهلها ثم دخل حلب، وانهزم سيف الدولة، فأخذ الدمستق كنوز سيف الدولة وأحرقوا الجامع ومكتبته، وفي هذه المعركة أُسر أبو فراس الحمداني في معركة منبج، وكان متقلدًا لها، ثم رجع الدمستق إلى بلاده فعاد سيف الدولة إلى حلب.

  • وفي سنة ٣٥٤ﻫ هاجم نقفور الرومي المصيصة وفتحها، وأسر من أهلها عددًا عظيمًا.

  • وفي سنة ٣٥٥ﻫ تم الفداء بين الروم وسيف الدولة، فسار سيف الدولة بالبطارقة الذين هم في أسره إلى الفداء، ففدى أبا فراس وجماعة من أكابر الحلبيين.

  • وفي سنة ٣٥٦ﻫ مات سيف الدولة بحلب ونُقل إلى ميافارقين، فخلفه ابنه سعد الدولة أبو المعالي شريف، ولم يَقُم بعمل إلى أن مات سنة ٣٨١ﻫ/٩٩١م، فتولى بعده ابنه أبو الفضائل سعيد الدولة، وكان سعيد صغيرًا فتولى الأمر مولاه لؤلؤ، فطمع الخليفة العزيز الفاطمي، بتملك حلب، فجهَّز جيشًا بقيادة منجوتكين، فاستنجد لؤلؤ بملك الروم فأنجده بجيشٍ كبير ولكنه انخذل أمام الجيش المصري، وصالح لؤلؤ منجوتكين فقبل، ولكن الخليفة الفاطمي لم يرضَ بالصلح، وأمر منجوتكين أن يعود إلى حلب فاستنجد لؤلؤ بالروم ثانية فقدموا بجيشٍ عظيم، وهزموا الجيش المصري، وجاء ملك الروم إلى حلب، فاستقبله أبو الفضائل بالإكرام.

  • وفي سنة ٣٣٩ﻫ مات لؤلؤ فخلفه ابنه مرتضى الدولة ابن لؤلؤ، وكان ظالمًا عسوفًا أفسد البلاد، فتمنى أهلها زواله.

  • وفي سنة ٤٠٢ﻫ أغار صالح بن مرداس في ٥٠٠ فارس على حلب واستولى عليها وقضى على دولة الحمدانيين، وطرد ابن لؤلؤ القائم بأمر ولدي سعيد الدولة، وهما أبو الحسن علي وأبو المعالي شريف، وبذلك انتهت دولتهم وسيطرت الدولة المرداسية.

(٢-١) العلم والأدب في عهد البويهيين والحمدانيين

كان القرن الذي نبغت فيه دولة الحمدانيين من أزهر عصور الإسلام، إن لم يكن أزهرها في العلم والأدب؛ ففي هذا العصر، وُجِدت دُور التعليم في المشرق: العراق والشام ومصر والمغرب، وفيه أُسِّست دُور الحكمة؛ فقد ذكر ياقوت الحموي أن أبا القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي الفقيه الشافعي (٣٢٣) أسَّس دارًا للعلم في بلده، وجعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم، وقفًا على كل طالب علم، لا يمنع أحدًا من دخولها، وإذا جاءها غريب يطلب الأدب وكان معسرًا أعطاه وَرَقًا وورِقًا، وكان ابن حمدان يجلس فيها ويجتمع إليه الناس، فيملي عليهم من شعره وشعر غيره، ثم يملي حكاياتٍ مستطابة، وطُرَفًا من الفقه وما يتعلق به. ويذكر ابن النديم (في الفهرست، ص١٣٩)، أن أبا علي بن سواد الكاتب ومن رجال عضد الدولة أنشأ دارَي كتب؛ «إحداهما» بالقصر و«الأخرى» برامهرمز، وجعل فيهما إجراء (راتبًا) على كلِّ مَن قصدهما، ولزم القراءة والنسخ، وكان في الثانية أستاذ يدرِّس الكلام على مذهب المعتزلة. وفي سنة ٣٨٣ﻫ أسَّس الوزير أبو نصر سابور بن أردشير، وزير بني بويه، «دار العلم» في الكرخ ببغداد، ونقل إليها آلاف الكتب والمجلدات ومعظمها بخط أصحابها، وجعل النظر فيها لاثنين من العلويين، وقد احترقت هذه الدار عام ٤٥٠ﻫ/١٠٥٨م.١٤

وفي حلب جعل سيف الدولة من جامعها ومن قصره دارَي علم يجتمع فيهما أئمة الأدب والدين في عصره، ويجري عليهم أمواله ويرفع شأنهم. يذكر أبو الفداء (في تاريخه ٢: ٤٥٨) أن سيف الدولة أجرى على أبي نصر الفارابي الفيلسوف المشهور (٣٣٩ﻫ) أربعة دراهم كل يوم، كما كان سيف الدولة يحضر مجالس العلماء ويتنافس وإياهم، وربما تطور النقاش العلمي إلى وثب وضرب؛ فقد روى ابن خلكان (في الوفيات ١: ٦٥)، أن ابن خالويه النحوي كان خشنًا، فوقع بينه وبين المتنبي كلام في مجلس سيف الدولة، فوثب ابن خالويه على أبي الطيب وضرب وجهه بمفتاحٍ كان معه، فخرج من المجلس ودمه يسيل على وجهه. وقد ضمت حلقات سيف الدولة في قصره ومسجد حلب أئمةً فحولًا في كل فنون العلم، نذكر منهم سيد شعراء العربية أبا الطيب المتنبي الذي جلَّ عن أن يُعرَّف لقدره وفضله وأدبه وعلمه وشعره، ومنهم أبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني، الكتاب الأدبي الأشهر، ومنهم ابن نباتة الخطيب اللَّسن. ومن الأئمة الذين كانوا يحضرون مجلس سيف الدولة، أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (؟–٣٩٢ﻫ) مخترع مباحث الاشتقاق الأكبر، ومؤلف سر الصناعة والخصائص.

ومنهم العالم الشاعر الفحل أبو بكر محمد بن أحمد الصنوبري الأنطاكي (؟–٣٣٤ﻫ)١٥ أمين خزانة كتب سيف الدولة الذي يصفه كشاجم بأنه «بحر ما له شط»، ويقول عنه ميتز:١٦ «إنه أول شاعر للطبيعة في الأدب العربي …» وقد ترك آثارًا قوية في الأدب العربي، وكان الوزير المهلبي يحب شعره فنشره ببغداد.١٧ ومنهم كشاجم الملقَّب بريحانة أهل الأدب في الموصل وحلب، ومنهم أبو فراس الحمداني …

والحق أن سيف الدولة مَدين في شهرته في التاريخ العربي أولًا لمناصرته للعلم والأدب، ثم لجهاده في مناضلة الروم بعد أن أعيا قواد الإسلام أمرهم، وإن حلقة الأدب التي رعاها الأمير الحمداني الشاعر لتعيد إلى الذهن ذكرى الرشيد والمأمون.

(٣) الدولة الغزنوية (٣٥١–٥٨٢ﻫ/٨٦٢–١١٨٦م)

يُنسب تأسيس هذه الدولة إلى «ألب تكين» التركي أحد موالي السامانيين، الذين ارتفع شأنهم في الدولة السامانية، حتى صار أحد أفراد الحرس الملكي، ثم رئيسًا لهذا الحرس، ثم نال إمرة خراسان سنة ٣٥٠، ولكنه لم يلبث فيها طويلًا لأن السلطان الساماني عزله عن ولاية خراسان، فصار إلى أطراف المملكة في الشرق، واستطاع أن يجمع جموعًا من أفراد جيشه ويستولي على غزنة من حكامها الأصليين وجعلها سنة ٣٥١ نواة مملكته التي سنراها تسيطر على إقليمي أفغانستان وفارس والبنجاب حتى بشاور.

ولما مات آل تكين خلفه مولاه وصهره سبكتكين جد ملوك هذه الأسرة السادسة عشرة الذين حكموها بعده.

وقد أوجزنا في كلامنا على الدولة السامانية ذكر الدور الذي لعبه سبكتكين، وابنه محمود في وقف سيل الأتراك القرخانيين لما أرادوا الانسيال على الدولة السامانية.

وكيف أنهم استطاعوا منذ ذلك الحين أن يوطدوا أقدامهم في منطقة «جيحون» حتى «خراسان»، وإليك تفصيل ما أوجزناه هناك.

في سنة ٣٦٦ﻫ لمع اسم سبكتكين١٨ ناصر الدولة (صاحب غزنة) لعقله ودينه ومروءته وإدارته وجهاده، فالتف الغزنويون والأتراك حوله، حتى استطاع أن يكوِّن جيشًا عظيمًا، غزا به بلاد الهند، فنشر فيها الإسلام بعد معارك وحروب كثيرة، وصفها ابن الأثير بقوله (في التاريخ ٨: ٢٢٧): «جرى بينه وبين الهنود حروب يشيب لها الوليد، وكشف بلادهم.» ثم سيطر على قصدار وبست في سجستان، وتوغل في فتوحاته في البنجاب، واضطر ملكها جيبال أن يتخلى له عن إقليم كابل المؤدية إلى سهول الهند، فتوغل فيها حتى لُقِّب ببطل الإسلام وهازم الكفرة، إلى أن مات ابنه إسماعيل سنة ٣٨٧ﻫ ولم يكن حازمًا مدبرًا كأبيه، فنازعه أخوه محمود وطلب إليه التخلي عن الرس فلم يقبل، ثم اضطره إلى التخلي فتم ذلك سنة ٣٨٨ﻫ، وتولى محمود عرش الدولة الغزنوية، وفي هذه السنة مات السلطان نوح الساماني وخلفه ابنه منصور فأصدر محمود إليه أمرًا بلزوم التخلي له عن خراسان، ولكن منصورًا خُلع قبل أن يتم ذلك، وتولى أخوه عبد الملك، فانتحل محمود صفة الدفاع عن منصور، وتمكَّن من طرد عبد الملك الذي لجأ إلى بخارى، فقوي نفوذ محمود وكاتب الخليفة فاعترف بسلطانه ولقَّبه بيمين الدولة، وأذن له بنقش اسمه على السكة، وتوسَّعت مملكة يمين الدولة فشملت إقليم البنجاب ولاهور وملتان والعراق العجمي وخراسان وطخارستان وبلخ وما وراء النهر وسجستان، واتخذ محمود مدينة «غزنة» مقرًّا لمملكته، وغزا محمود بلاد الهند نحوًا من سبع عشرة غزوة كان في أكثرها موفقًا ناجحًا، وسيطر محمود على ذخائر بلاد الهند وهياكل الهندوس، وحطَّم أصنامها وكان استيلاؤه على صنم سومنات سنة ٤١٦ في كجرات، وهو أعظم أصنام الهند. قال ابن الأثير (في تاريخه ٩: ١١٨-١١٩): «وهذا الصنم كان أعظم أصنام الهند وهم يحجون إليه … ويعطون سَدَنته كل مالٍ جزيل، وله من الوقوف ما يزيد على عشرة آلاف قرية، وقد اجتمع في البيت الذي هو فيه من نفيس الجوهر ما لا تُحصى قيمته، وأما البيت الذي فيه «سومنات» فهو مبني على ست وخمسين سارية من الساج المصفح بالرصاص، وكان بيت الصنم مظلمًا، وإنما الضوء الذي عنده من قناديل الجوهر الفائق، وكان عنده سلسلة ذهب فيها جرس وزنتها مائتا مَنٍّ.» وظل محمود يغزو ويتوغل في بلاد الهند حتى سنة ٤٢٠ﻫ، وفيها مَرِض وأقعده المرض عن الغزو إلى أن مات سنة ٤٢١ﻫ. كان محمود عاقلًا حازمًا فاضلًا محبًّا للعلم وأهله، أُلِّف له كثير من الكتب في فنون العلم، وقصده العلماء من أنحاء الممالك، ولم يكن له في سيرته شيء يُعاب عليه سوى أخذه الأموال بكل طريق، وهو الذي جدد عمارة مشهد طوس، وكان أبوه خرَّبه، ولما أدركته الوفاة أوصى بالمُلك بعده لابنه محمد جلال الدولة مع أنه أصغر من ابنه مسعود، وكان محمد ببلخ فكتب إليه أعيان الدولة يستدعونه إلى «غزنة» فقدمها، وأما أخوه مسعود فقد كان في أصفهان فلما بلغه خبر موت أبيه سار إلى خراسان، ولم تلبث الأمور أن فسدت بين الأخوين فتحاربا، وكان الفوز لمسعود، فاستولى على غزنة في سنة ٤٢٢ﻫ واجتمع له ملك «غزنة» و«خراسان» وبلاد «الهند» و«السند» و«سجستان» و«كرمان» و«الري» و«أصبهان» و«بلاد الجبل».

وفي سنة ٤٣٢ﻫ اختلف مسعود وأخوه محمد فاقتتلا وخُلع مسعود واستولى محمد، ثم إن مودود بن مسعود ثار وقتل عمه محمدًا، واستمر أمراء هذه الأسرة يتنازعون المُلك بينهم حتى انقسمت دولتهم إلى إمارات وضاعت هيبة الغزنوية التي أوجدها سبكتكين وابنه محمود، فتسلط عليهم الأجانب، مثل خانات التركستان، وسلاجقة فارس، واستطاع الفوريون أصحاب أفغانستان أن يصوِّبوا للدولة ضربة مسددة، أتت عليها في سنة ٥٨٢ﻫ/١١٨٦م، ومات آخر الغزنويين، في لاهور.

ومما يجب أن نذكره، أن ظهور هذه الدولة كان أول نصر للعنصر التركي على العنصر الإيراني في ميدان زعامة العالم الإسلامي.

والحق أن هذه الدولة لا تختلف عن الدولتين؛ السامانية والصفارية من حيث أساليب الحكم التي لا تعتمد إلا على القوة، حتى إذا ما زالت القوة دبَّ الضعف في جسم الدولة، وهذا ما جرى على الدولة الغزنوية؛ فإنها حين ضعفت أمام السلاجقة أخذت تنهار حتى سقطت.

(٣-١) العلم في عهد الغزنويين

كان محمود بن سبكتكين وأبوه يحبان العلم وأهله، حتى عُدت «غزنة» في أيام محمود كعبة طلاب العلم والحكمة في العالم الإسلامي، وقد أسَّس محمود فيها معهدًا علميًّا راقيًا، وقف عليه جليل الأوقاف، كما جعل بلاطه موئل العلماء والحكماء والفلاسفة والشعراء، نذكر منهم المؤرخ العربي «العتبي» الذي ألَّف لمحمود تاريخًا جليلًا امتدح به محمودًا، وسجل عهده.

ومن رجال محمود، المؤرخ الفيلسوف العالم الجليل أبو الريحان محمد البيروني الذي قام بعدة رحلات علمية في الديار الهندية، وكان يعرف السنسكريتية، فاستطاع أن يعرف كثيرًا من مغاليق الثقافة الهندية، التي سجَّلها لنا في كتابيه القيمين؛ «تحقيق ما للهند من مقولة» و«الآثار الباقية عن القرون الخالية».

figure

وكان محمود تركيًّا سنيًّا؛ فلذلك رعى الأدب العربي وعني به أكثر من عنايته بالأدب الفارسي، كما أنه وقف وقفةً قوية أمام حركات الإسماعيلية والباطنية على العموم.

ومن الرجال الذين رعاهم السلطان محمود، الشاعر الفردوسي الطوسي، الذي نظم له ملحمة الشاهنامة الكبرى، وقدَّمها إلى سلطان البلاد محمود بعد أن مجَّده كثيرًا في مواطن عديدة منها.

١  وتُسمَّى أيضًا بلاد جيلان، وهي البقاع والجبال الواقعة في الجنوب الغربي لبحر الخزر، وسكانها قسمان؛ الجيل: وهم سكان السهول، ويُسمَّون أيضًا الجيلان. والديلم: وهم سكان الجبال وقصبتها روزبار. والجيلان والديلم ليسوا فُرسًا، وإنما هم عنصر خاص يُطلق عليه اسم الجيلان والديالمة، وقد فُتحت بلادهم أيام عمر (رضي الله عنه) وظل أهلها على دينهم طوال القرون الثلاثة الأولى، ولما ظهر الحسن بن علي الأطروش في بلاد طبرستان دعا الديالمة إلى الإسلام فدخله كثير منهم، وامتد سلطان الزيدية من طبرستان إلى بلاد الديلم، كما قدَّمنا في حديثنا عن الدولة الزيدية.
وربما نسبهم بعض المؤرخين إلى بهرام جور أو سابور الملك الساساني أو إلى وزيره مهرنرسي أو إلى بني ضبة، وكل هذه النسبة إنما وجدت بعد أن علا كعبهم. انظر: تاريخ المنتظم لابن الجوزي ٦: ٢٧٠؛ وابن حسول: تفضيل الأتراك، ص٣٥؛ وابن خلكان ١: ٩٨؛ والفخري ٥: ٣٧٦؛ وابن الأثير ٨: ١٩٧.
٢  تاريخ المنتظم لابن الجوزي ٦: ٢٦٨.
٣  تاريخ مسكويه ٢: ٨٤؛ والمنتظم ٦: ٣٤٠.
٤  انظر تفصيل ذلك في: تاريخ تجارب الأمم لمسكويه ٢: ٩٦، وما بعدها.
٥  تاريخ تجارب الأمم لمسكويه ٢: ٤٠٦.
٦  تاريخ تجارب الأمم لمسكويه ٢: ٤٠٦-٤٠٧.
٧  تاريخ ابن الأثير ٨: ٣٣٤.
٨  ابن أبي أصيبعة ١: ٣١٠؛ والقفطي ٢٣٥.
٩  ابن الأثير ٩: ١٦؛ وملحق تجارب الأمم، للروذراوري، طبع أمدروز ٣: ١٣٦.
١٠  ابن الأثير ٩: ٧١؛ وابن خلكان ١: ٢٥٦.
١١  الخطيب ١: ١٠٥.
١٢  ابن الأثير ٨: ٣٠.
١٣  ابن الأثير ٨: ٦٨.
١٤  تاريخ ابن الأثير ٨: ٢٤٦.
١٥  انظر بحثنا المفصَّل عنه وعن آثاره في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق سنة ٥٦–١٩٥٧؛ متيز ١: ٤٣٠.
١٦  اليتيمة ٢: ١٢.
١٧  حتي ٢: ٥٥٠.
١٨  قال ابن الأثير ٩: ٤٥: كان سبكتكين عادلًا خيِّرًا، كثير الجهاد، حسن الاعتقاد، ذا مروءة تامة وحسن عهد ووفاء، ولا جرم، بارك الله في بيته ودام ملكهم مدة طويلة جازت مدة السامانية والسلجوقية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤