الفصل السابع

في الوضع الاجتماعي

(١) السكان

برز بين سكان الإمبراطورية الإسلامية في هذا العصر، عنصرٌ جديدٌ هو عنصر الأتراك، وقد كان لهذا العنصر أثر كبير في حياة الأمة الإسلامية وتاريخها، وكان مبدأ ظهور هذا العنصر على مسرح الحياة العباسية منذ زمن المعتصم؛ فقد استقدم في سنة ٢٢٠ قومًا من بخارى وسمرقند وأشروسنة وغيرها من بلاد ما وراء النهر فألبسهم ثياب الديباج ومناطق الذهب وسلطهم، وأخذ يزيد عددهم حتى صاروا ثمانية عشر ألفًا،١ فاضطُر أن يخرج بهم عن بغداد، حتى أكثر الناس من التهجم عليهم وعليه، قال دعبل يخاطب المعتصم في ذلك:
لَقَدْ ضَاعَ أَمْرُ النَّاسِ حَيْثُ يَسُوْسُهُمْ
وَصِيفٌ وَأَشْنَاسٌ وَقَدْ عَظُمَ الخَطْبُ
وَإِنِّي لَأَرْجُوْ أَنْ تَرَى مِنْ مَغِيبِهَا
مَطَالِعَ شَمْسٍ قَدْ يَغَصُّ بِهَا الشَّرْبُ
وَهَمُّكَ تُرْكِيٌّ عَلَيْهِ مَهَانَةٌ
فَأَنْتَ لَهُ أُمٌّ وَأَنْتَ لَهُ أَبُ
وأخذ الناس يضعون الأحاديث على لسان النبي وصحابته في ذمٍّ «ليكونن المُلك في ولدي حتى يغلب على عزِّهم الحُمر الوجوه الذين كأن وجوههم المَجانُّ المُطرَّقة.»٢ وغير ذلك من الأحاديث التي تدل على مقدار كره الناس لهم حتى صاروا يحنون إلى أيام سيطرة الفرس وصرنا نسمع شاعرًا كالبحتري يقول:
أتَسَلَّى عَنِ الخُطوبِ وَآسى
لِمَحَلٍّ مِن آلِ ساسانَ دَرسِ
أَذكَرتْنيهُمُ الخُطوبُ التَّوالي
وَلَقَد تُذكِرُ الخُطوبُ وَتُنسي
أَيَّدوا مُلكَنا وَشَدُّوا قُواهُ
بِكُماةٍ تَحتَ السَّنَّورِ حُمسِ
وَأَراني مِن بَعدُ أَكلَفُ بِالأَشـ
ـرافِ طُرًّا مِن كُلِّ سِنخٍ وَأُسِّ

وليس البحتري في هذه القصيدة شعوبيًّا، ولكنه رأى سوء حال البلاد في عصر الأتراك فتأسف على عهد الفرس.

أما الفرس في هذا العصر فقد رأوا أن مكانتهم في الدولة قد انحطت فأخذوا يوجهون قواهم إلى الاستقلال ببلادهم عن جسم الدولة مثل مرداويج الزياري، وطاهر بن الحسن، ويعقوب الصفار والساماني، وابن بويه، وصار شعراؤهم وكتَّابهم يعلنون سخطهم لهذا العهد كمهيار الديلمي وحمزة الأصفهاني.

وأما العرب فقد رأوا تسلط الترك أيضًا بعد تسلط الفرس، فانطووا على أنفسهم، ورجعوا إلى قبائلهم يستعينون بهم على إيجاد سلطة لهم، فلما قووا أخذوا يحتلون القلاع والمدن ويؤسسون الدويلات كالعقيليين والحمدانيين والمرداسيين والمزيدين، وقد نبغ منهم شعراء اعتزوا بعروبتهم كالمتنبي والمعري وابن أبي حُصينة.٣

هؤلاء هم سكان الإمبراطورية الإسلامية، وهناك بعض العناصر الأخرى «كالروم» من مسلمين ونصارى ولم يكن لهم نفوذ عسكري، أما في النواحي الثقافية والاجتماعية فقد لعبوا دورًا هامًّا، نذكر منهم ابن الرومي الشاعر، وابن جني النحوي وغيرهما، و«كالسودان» من زنجٍ وأحباش وقد لعبوا دورًا هامًّا في الحياة الإسلامية وكانوا يُجلبون من أفريقية أرقاء فيخدمون في الأرض والبيوت، وكان لهم آثار في البيت الإسلامي والبيئة الإسلامية، وما ننسى لا ننسى حركتهم في البصرة، وما أعقبها من فتن ومشاكل، و«كاليهود» و«النصارى» المنتشرين في أرجاء الدولة، وكانوا يمتهنون الجهبذة والصياغة والصيرفة والحساب والطب والصيدلة.

تبع الانحلال السياسي انحلال خلقي بارز، فكثُر شرب الخمر، وجاهر الناس به، ولم يَعُد للخليفة ولا القاضي ولا المحتسب تلك الهيبة التي كانت له من قبل، وفشا الزنا في الناس عامتهم وخاصتهم، وعمَّت الموبقات الأخرى، وتناقش الفقهاء في هذا العصر في اللواط، واختلفوا في أمره، فأراد بعضهم أن يعتبره مثل الزنا يُرجم صاحبه ويُقتل، وقال آخرون: لا، بل يُعزَّر إذا فعل بغلامه المملوك، ويُحدُّ إذا كان بغيره.٤ ويقول المستشرق ميتز (في كتابه: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع ٢: ١٣٥): إن هذا اللواط أتى من المشرق مع جيوش العباسيين الذين جاءوا من خراسان، على أن بلاد الأفغان كانت مشهورة بذلك في القرن الثالث والرابع للهجرة، ثم شاع واستقر في القرن الرابع، ويذكر الثعالبي (في اليتيمة ١: ٤٨٣): «أنه كان على شاطئ دجلة مكان للهو فيه إلى جانب الخمار والخمر «ظبي غرير» أو «ظبية غريرة»، وقاصده لا يدفع لهذا كله في الليلة إلا درهمين، وقد اتخذ المُجَّان بعض الأديرة مواطن لعبثهم ولهوهم، كما نجد ذلك مفصلًا في كتاب «الديارات» للشابشي، وقد عم البلاد بهذا الداء، بالزنا والفسق وشرب الخمر، في بغداد إلى درجةٍ اضطرت الفقهاء الحنابلة إلى الثورة لمطاردة هؤلاء الفساق، وكسر أوائل الغناء ودنان الخمر، وتخريب دُور اللهو والمجانة.٥ وفي سنة ٣٢١ﻫ أمر الخليفة الظاهر بتحريم الخمر والغناء وسائر الأنبذة وأمر ببيع الجواري المغنيات على أنهن سواذج لا يعرفن الغناء، ثم وضع مَن يشتري له كل حاذقة في صنعة الغناء فاشترى منهن ما أراد بأرخص الأثمان.٦
ومن مظاهر الانحلال الاجتماعي ما يحدِّثنا به المؤرخون من وقوع بعض الأعمال الوحشية من فظاعات التعذيب والقسوة وامتهان الكرامة على الخوارج وأصحاب العقائد المخالفة لمذهب الحاكم؛ فقد روى صاحب زبدة الفكرة (مخطوط باريز ٥: ١٧٩) أن الحسين بن حمدان القرمطي وابنه حين قبض عليهما مؤنس وجاء بهما إلى بغداد أُلبسا برانس طوالًا من اللُّبود وقمصانًا من الشعر الأحمر. وقال المسعودي (في مروج الذهب ٨: ١٦٩): «لما قُبض على القرمطي ببغداد ألبسوه درَّاعة ديباج وبرنس خز طويل.» ويقول عريب (في ذيله على الطبري، ص٥٧): «إنهم ألبسوه برنسًا طويلًا بشفاشج وجلاجل.» وقال ابن الأثير (في تاريخه ٨: ٢٠٥): «بل ألبسوه برنسًا بأذيال الثعالب.» وقال مسكويه (في تجارب الأمم ٦: ٥٠١): «بل برنسًا طويلًا كما يلبس النساء.» ولما هُزم ابن أبي الساج وأُدخل بغداد أُلبس برنسًا طويلًا بشفاشج وجلاجل وحُمل على الفالج، وقد ذكر عريب (في ذيله على تاريخ الطبري) أن الناس لما رأوه كذلك استاءوا، ولما اتُّهم الحلاج الصوفي بالكفر صُلب حيًّا إلى أن مات، وهي من أفظع العقوبات، وقد ضاعت المُثُل الأخلاقية، ودرست المبادئ الإسلامية فأُهين الخليفة، وسُقي السُّم، وسُملت عيونه، وضُرب وجُر برجله وعُذِّب وشُتم وحُبس حتى يموت جوعًا وعطشًا.٧ ولا شك في أن هذا كله آتٍ من الانحلال الخلقي والنفسي.

(٢) الأسرة

تكلمنا في الكتاب الأول عن شيءٍ من أحوال الأسرة في العصر العباسي الأول، وعن دخول العناصر غير العربية من فارسية ورومية وحبشية وتركية إلى البيت الإسلامي، وعن انحطاط الأسرة واضطراب شأنها بذلك الخليط من الجواري، ونضيف ها هنا أن البيت الإسلامي أضحى يعجُّ بالزوجات المتعددات، عدد غير محدود من السُّرِّيات، وقد تبع الناس في ذلك خلفاءهم؛ فقد عجَّ قصر الخلافة في هذا العصر، بعددٍ كبير من الجواري والخصيان حتى صار الخلفاء كلهم إلا قليلًا أبناء جَوارٍ. قال ابن حزم في نقط العروس: «لم يلِ الخلافة في الصدر الأول مَن أُمُّه أَمَة، حاشا يزيد وإبراهيم ابني الوليد، ولا وليها من بني العباس مَن أُمُّه حرة حاشا السفاح والمهدي والأمين.»٨ وإذا كان هذا حال الخلفاء، فما قولك بأسر الوجوه والأعيان، أما السوقة والرعاع فقد تاهوا في تلك البيئة المنحلة المضطربة. ومما يجب أن نلاحظه ها هنا أن الجواري في هذا العصر قد كثرن وصارت لهم دُور للهو والفسق، ويقول أبو حيان التوحيدي:٩ أحصينا ونحن جماعة في الكرخ أربعمائة وستين جارية في الجانبين، ومائة وعشرين حرة، وخمسة وتسعين من الصبيان من البدور، يجمعون بين الحسن والحذق والظرف والعشرة، هذا سوى مَن كنا لا نظفر به ولا نصل إليه لعزَّته وحرسه ورقبائه، وسوى ما كنا نسمعه ممن لا يتظاهر بالغناء والضرب إلا إذا نشط في وقت، أو ثمل في حال، أو خلع العذار في هوًى قد حالفه وأضناه.» ونحن نرى هذا سرَّ انحطاط المجتمع وفساد الأسرة، وإلا ما معنى وجود هؤلاء «الصبيان البدور» الخمسة والتسعين الذين ذكرهم أبو حيان التوحيدي، ووصفهم أبو حيان في موضعٍ آخر فقال: «خمسة وتسعون غلامًا جميلًا يغنُّون للناس،١٠ وإنه كان بها غلام موصلي ممن ملأ الدنيا عيارة وخسارة، وافتضح أصحاب التستر والوقار، وأصناف الناس من الصغار والكبار بوجهه الحسن وثغره المبتسم وحديثه الساحر وطرفه الفاتر وقده المديد، ولفظه الحلو ودله الخلوب … يسرقك منك ويردك عليك … فحاله حالات، وهدايته ضلالات، وهو فتنة الحاضر والبادي.» وقد تفنَّن القوم في أسماء هؤلاء الغلمان فسمَّوهم الأسماء المخنثة، مثل: نسيم ومؤنس ووصيف وفاتن وجميلة (لغلام ذكر)، ولا شك في أن هذا كان انحطاطًا وانحلالًا لأفراد الأسرة ما بعده انحطاط، وأبو حيان حجَّة في قوله أمين في نقله. وفي هذا العصر نبغ في بغداد شعراء فسقة مُجَّان غطَّوا على أبي نواس وفسقه وعهره وبذُّوه، ولم يتركوا في هذا الحال مزيدًا لمستزيد، وعلى رأسهم ابن حجاج وابن سُكَّرة الشاعران الفاسقان العاهران اللذان ملأا شعرهما قحة وسوء خلق عجيبين.

(٣) المسكن

تحدثنا في الباب الخاص بالمسكن في الكتاب الأول عن شيءٍ من البيت العربي وطرزه وأوضاعه، ونضيف ها هنا أن حفائر مدينة سامراء قد كشفت لنا، كما يحدِّثنا الأستاذان الأثريَّان «ساره»، و«هرتسفيلد» عن طريقة بناء المسكن العربي في القرن الثالث حيث يقول: «كانت الدُّور بسامراء تُبنى على مثالٍ واحد يصل بينها وبين الشارع أو الدرب دهليز مسقوف يفضي إلى صحنٍ واسع قائم الزوايا، يبلغ عرضه ثلثي طوله في العادة، ويتصل له من جانب العرض القاعة الكبرى وصورتها هكذا (  ) وفي أركانها غرف صغيرة، ويحيط بالصحن أيضًا غرف متجاورات مربعة للسكنى والحدائق المنزلية، وفي معظم الدُّور أقنية صغرى ثانوية، تشتمل على أماكن للمرافق المنزلية أيضًا، ولا تخلو الدُّور قطُّ من حمامات ومجارٍ تحت الأرض، وكثيرًا ما يكون فيها آبار وتشتمل أحيانًا على صحون ذات طارمات وعلى سراديب للسكنى مهيأة بوسائل التهوية، والدُّور كلها من طابقٍ واحد، وإذا كانت الأرض المحيطة بها غير مستوية اتخذ منها أصحاب الدُّور مسطحات مرتفعة بمهارة، وقد تبلغ الغرف في الدار الواحدة «٦٠» غرفة، وبها شبابيك تُقفل بألواحٍ من الزجاج المتنوع الألوان، ويتراوح عرض اللوح بين «٢٠» و«٥٠» سنتمترًا، وهكذا كانت قصور الخلافة إلا أنها أوسع وأضخم وأفخم.» ويقول الإصطخري (ص٨٣) نقلًا عن رجلٍ زار دار الخلافة عامرها وغامرها حوالي أواخر القرن الرابع، فقال: «إنها مثل مدينة شيراز، وكانت زخارف هذه القصور فائقة حد الوصف من رياضٍ وأشجار زينة وأزهار وفرش وتحف، ومن أروع هذه التحف ما كان في قصر المقتدر من تحفٍ أجلُّها الشجرة الفضية التي كان وزنها خمسمائة ألف درهم، وهي تقوم وسط بركة مدورة صافية الماء، وللشجرة ثمانية عشر غصنًا، لكل غصن شاحنات كثيرة عليها الطيور والعصافير من كل نوعٍ مذهبة ومفضضة، وأكثر قضبان الشجرة فضة وبعضها مذهب وهي تتمايل في أوقاتٍ لها، وللشجرة ورق مختلف الألوان يتحرك كما تحرك الريح ورق الشجر، وكل من هذه الطيور يصفر ويهدر، وقد أدخل الخليفة رسل الروم إلى هذه الدار، فكان تعجبهم منها أكثر من تعجبهم من جميع ما شاهدوه.»١١

(٤) الطعام والشراب

ذكرنا شيئًا من هذا في الفصل الخاص به في الكتاب الأول، ونضيف هنا أن الترف والرفاهية، قد ازدادت على سُفر الأغنياء، وجعلوا لذلك آدابًا وتقاليد؛ فقد روى الثعالبي عن أبي رياش أنه كان آية في حفظ أيام العرب وأنسابها وأشعارها، ولكنه كان وسخ اللبسة قليل التنظيف، شرهًا على الطعام، سيئ المؤاكلة، دعاه والي البصرة أبو يوسف اليزيدي إلى مائدته يومًا، فلما أخذ في الأكل مد يده إلى بضعة لحم فانتهشها ثم ردها إلى القصعة، فكان بعد ذلك إذا حضر مائدته أمر أن يُهيَّأ له طبق ليأكل عليه على حدة.»١٢ ولا شك في أن هذه الآداب والتقاليد الطعامية، قد دخلت بيوت الأعيان والطبقة البرجوازية، كما أن الغاية بتنويع الطعام قد بلغت أوجهَا في ذاك العصر؛ فقد رُوي أن ابن مسكويه خازن كتب عضد الدولة البويهي ألَّف كتابًا في تركيب الباجات من الأطعمة، وأنه أحكمه غاية الأحكام وأتى فيه من أصول علم الطبخ بكل غريب حسن،١٣ أما الحلوى فقد تفنَّنوا فيها تفنُّنًا لا من حسن الطعم بل من حسن الشكل والصورة؛ ففي ديوان المتنبي (ص١٨) مقطوعة لطيفة قالها في شكر رجل أهدى إليه سمكًا مصنوعًا من السكر واللوز مطبوخًا بالعسل. وكما أننا نجد في هذا العصر آدابًا وتقاليد، كان أهل الظرف والترف يتقيدون بها، وقد أحصاها الوشاء في كتابه الطريف «الموشى»، وفيه فصَّل لنا آداب مجالس الشراب وآداب موائد الطعام، كما يحدثنا أنهم كانوا يكرهون أنواعًا من الأطعمة، ويبتعدون عن طعامها مثل الهندباء والفجل والحرف لنتنها، والكرَّاث والبصل لرائحتها، والثوم والبصل لمغبَّة أكلها، كما أنهم كانوا يمتنعون عن أكل الزيتون والتمر والمشمش والنبق والصاب والخوخ والأجاص وغيرها مما له نوًى لما في إخراج نواه أمام الحاضرين من نقص في المروءة، وأنهم كانوا لا يأكلون السمسم المقلي والزبيب الأسود؛ لأنهم يشبهونه بالبعر، ولا الباقلي والبلوط والخرنوب الشامي وغير ذلك مما يرون في أكله على مجالس الشراب نقصًا في آداب الشراب، وإنما كانوا يأكلون مع الشراب مملوح البندق ومقشر الفستق وتفاح الشام وسفرجل بلخ وقصب السكر المغسول بماء الورد، ويطيبون مجالسه بالعود الهندي والطين الخراساني، والملح الصنعاني.١٤ ولا شك في أن هذا كان نوعًا من الرفاهية والترف لم تصل إليه مجالس اللهو والشراب في أرقى عصورها في أوروبا.

(٥) مستوى المعيشة

لا نعرف شيئًا حقيقيًّا عن مستوى المعيشة في هذا العصر، وعن أحوال الطبقات فيه، غير أنه لا شك في أن الناس يمكن تقسيمها إلى خمس طبقات:
  • (١)

    الحكام من خليفة وسلطان وأمير وعامل ومَن إليهم.

  • (٢)

    طبقة كبار التجار والزراع والملاكين والموظفين البارزين ومَن إليهم.

  • (٣)

    طبقة عامة التجار والزراع وكبار السوقة، والجنود المرتزقة.

  • (٤)

    طبقة العامة من صغار السوقة وعمال الحوانيت والباعة والكتبة والمحترفين والفلاحين ورجال العلم.

  • (٥)

    طبقة المكدين والمتصوفة والمتفقهة.

  • (١)

    أما أهل الطبقة الأولى فقد كانت مواردهم الواسعة سببًا في أن يحيوا حياة بذخ وترف لا حد لهما؛ فقصورهم تعج بالخدم والحشم والرقيق والطرف والتحف، أما ما ينفقونه على بناء قصورهم فشيء لا يُصدَّق. قالوا إن المتوكل بنى قصره «العروس» بثلاثين مليون درهم، و«الجعفري» بعشرة ملايين و«العزيب» بعشرة أيضًا، و«الشيدان» بعشرة كذلك و«البرخ» بعشرة أيضًا، و«الصُّبح» بخمسة ملايين … إلى آخر ما يرويه مؤرخو العصر عن قصور هذا الخليفة.

  • (٢)
    وأما طبقة كبار التجار والزرَّاع والملاك والموظفين، فكانت كذلك طبقة مترفة لا تقل فخامة قصورها ورياشها عن قصور الطبقة الأولى، نذكر من هؤلاء آل الجصاص التجار الجوهريين الذين بلغت ثروتهم حدًّا مدهشًا.١٥
  • (٣)

    وأما طبقة عامة التجار والزراع وصغار الملاكين والموظفين فكانت أحوالهم متوسطة يتبلغون هم وأهلهم بطعامٍ جيد، وسكن حسن وخدم محدودين.

  • (٤)

    وأما طبقة العامة من صغار السوقة والباعة وعمال الحوانيت والباعة والكتبة والمحترفين والفلاحين، فإنهم كانوا يعيشون في شدةٍ وضنك على الرغم من تعبهم وكدِّهم؛ لأن الطبقات الثلاث الأولى استنزفت موارد الدولة واستغلت خيراتها، وليست لدينا معلومات عن مقدار موارد هؤلاء البؤساء، ولكنا عثرنا على بعض النُّتف التي تعطينا صورة عن حالهم ومقدار ما كانوا يتبلغون به؛ فقد روى التنوخي (في كتاب: الفرج بعد الشدة ٢: ١٥٥): «أن رجلًا فقيرًا جاء إلى البصرة في القرن الرابع وطلب عملًا من صاحب حانوت، فاستخدمه الحانوتي كاتبًا لحساباته مقابل نصف درهم في اليوم إلى طعامه وكسوته، ثم زيدت الأجرة إلى درهم في اليوم.» ويقول مسكويه (في تجارب الأمم ٢: ١٩٨) في سنة ٣٥٢ﻫ: قال إن أبروتها الطبيب كان يدور من بابٍ إلى آخر ليعالج المرضى، ويأخذ دانقًا ونصفًا أو ربع درهم عن كل مريض.» فإذا كان هذا حال كاتب الحسابات والطبيب، فما قولكم بالعمال والفلاحين والباعة المتجولين!

    أما رجال العلم فقد وضعناهم في عداد هذه الطبقة لأنهم كانوا دومًا في شر حالة؛ فكتُب الأدب والتاريخ والطبقات مليئة بأخبار هؤلاء البائسين، وإليكم ببعض النُّتف التي تؤيد ما ذكرناه:

    كان أبو حيان التوحيدي الإمام الأديب الكاتب الفيلسوف البليغ الصوفي يعيش من نسْخ الكتب والوراقة والتأليف، وإليك وصف حاله: «ولقد اضطررت بينهم بعد العِشْرة والمعرفة في أوقاتٍ كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفُّف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى الدَّين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يَحسُن بالحر أن يرسمه بالقلم.»١٦ وقد ملأ كتبه «الإمتاع» و«الصداقة» و«المقايسات» بشكوى الزمان من سوء الحال والفقر، واضطُر آخر عمره — ولا شك في أنه أُصيب بنوعٍ من الجنون — إلى أن يحرق كل كتبه.

    وكان أبو علي القالي الإمام اللغوي الأديب، يشكو البؤس والفقر فلا يجد أحدًا يعطيه قوته حتى اضطُر أن يبيع كتبه ليعيش، ثم عزم أن يهاجر إلى الأندلس فهاجر إليها ولقي الحياة الهنية بقرب أميرها الكريم الحكم الأموي.

    وكان الفقيه الشاعر اللغوي الأديب الأبيوردي مَضْرب المثل في البؤس والحاجة، وقد حكى عنه الخطيب البغدادي أنه مكث سنتين لا يقدر على شراء جُبة يلبسها في الشتاء.

    وهناك مئات من الآدميين ومن العمال والفلاسفة والأطباء وأهل الحكمة والفن عاشوا في شظفٍ وبؤس ما بعدهما مزيد، ونختم هذا الكلام بهذه القصة، بل الفاجعة التي يرويها أبو حيان فيقول:

    «شاهدنا في هذه الأيام شيخًا من أهل العلم ساءت حاله وضاق رزقه، واشتد نفور الناس عنه، ومقت معارفه له، فلما تولى هذا عليه دخل يومًا منزله ومدَّ حبلًا إلى سقف البيت واختنق به، فلما عرفنا حاله جزعنا وتوجعنا وتناقلنا حديثه وتصرفنا فيه.»١٧ وهذا بلاء ما بعده بلاء. والحق أن العلماء كانوا نوعين؛ «نوع» تمكَّن من الاتصال بالخليفة أو السلطان أو الأمير، أو بعض رجال الدولة، أو الأغنياء الرحماء، فهم في حالةٍ ميسورة، بل ربما بلغوا طبقة الأغنياء، ولكنهم قلة. و«نوع» لم تمكِّنه ظروفه من الاتصال بالخليفة، أو رجال دولته، أو أنهم لم يرضوا ذلك، فهم في بؤسٍ وعنت أو في كفافٍ وتقشُّف.
  • (٥)

    طبقة المكدين والمتصوفة والمتفقهة: كان المكدون من شحاذين محترفين أو بؤساء عاجزين أو مقعدين يعيشون من صدقات الناس وإحسانهم، وكانوا يتخذون المساجد والطرقات العامة وأبواب المساجد والحمامات محلات لهم، يسألون الناس فيها الإحسان والتصدق، وكان العربي يأنف من أن يهوي إلى هذه الطبقة، بل يفضِّل أن يرجع إلى البادية يسرق أو يغزو.

    أما المتصوفة والمتفقهة فهم الذين كانوا يعيشون من ريع الأوقاف وإحسان المحسنين ويقنعون بما يرد إليهم من جامكيات الأوقاف، وأعطيات المحسنين، وقد ظهر في هذا العصر نوع من «الزوايا» التي يجد فيها المتصوف و«المدارس» التي يجد فيها الفقيه طعامه وشرابه ولباسه.

١  النجوم الزاهرة ٢: ٢٣٣.
٢  انظر: معجم البلدان، مادة «تركستان».
٣  انظر ديوانه الذي نشرناه مع شرح أبي العلاء المعري عليه في المجمع العلمي العربي.
٤  طبقات الشافعية للسبكي ٣: ١٨.
٥  ابن الأثير ٨: ٢٢٥.
٦  ابن الأثير ٨: ٢٠٤.
٧  انظر الفظائع المشينة التي أُجريت في تعذيب المعتضد والقاهر في كتاب «مسكويه» ٥: ٤٤٦.
٨  ظهر الإسلام لأحمد أمين، ص١٢٤.
٩  الإمتاع والمؤانسة ٢: ١٨٣.
١٠  الإمتاع والمؤانسة ٢: ١٧٤.
١١  Ester Vorlaüfiger Bericht die ausgrabungen Von Sammarra 14، قارن معه ترجمة ميتز لأبو ريدة ٢: ١٧٣.
١٢  يتيمة الدهر للثعالبي ٢: ١٢٠.
١٣  أخبار الحكماء للقفطي، ص٣٣١.
١٤  الموشى، تأليف الوشاء، ص١٣٠–١٣٣.
١٥  انظر: فوات الوفيات ١: ١٣٨.
١٦  الإمتاع والمؤانسة للتوحيدي ١: ٣١.
١٧  المقايسات للتوحيدي، ص٢١٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤