الفصل الثالث

في نتائج الانحلال وظهور دول جديدة

هي: (١) دولة السلاجقة. (٢) دولة الخوارزمية. (٣) دولة الأتابكية.

***

(١) دولة السلاجقة

ينتسب السلاجقة إلى سلجوق بن دقاق (تقاق أو أديقاق)١ أحد رؤساء التركمان (الغز) الساكنين سهول تركستان فيما وراء النهر، وكان ذا طموح فتقرَّب من ملوك السامانيين، وأخذ قدره يسمو، حتى هابه الأتراك وقرَّبه السامانيون وبخاصة بعد أن اتخذ مدينته مستقرًّا، ولما مات خلف ثلاثة أولاد، ميكائيل وموسى وأرسلان، فأخذوا يوسِّعون رقعة بلادهم ويعظم سلطانهم إلى أن هلكوا، فبرز أولاد ميكائيل وهم: بيغو، وطغرل بك، وجفري بك، ولما انقرضت الدولة السامانية سنة ٣٨٩ﻫ طمعوا في الاستيلاء على أراضيها، فأخذوا يحتلون بعض بقاعها وعظم ملكهم، واستطاع طغرل بك أن يستولي على خراسان. وفي سنة ٤٢٩ﻫ استولى على مرو، ونيسابور، وبلخ، وجرجان، وطبرستان، وخوارزم، وهمذان، والري، وأصفهان، وتخاذل بنو بويه أمامه، ولمع اسم السلاجقة في العالم الإسلامي. ولما ثار البساسيري أبو الحارث أرسلان على الخليفة، رأى هذا أن يستنجد بطغرل بك لإنقاذه فكتب إليه طغرل بك يلبي رغبته، ويظهر له العبودية والطاعة، ودخل طغرل بغداد، وخُطب له في جوامعها يوم الجمعة في ٢٢ محرم، وقبض على الملك الرحيم البويهي وقضى على آل بويه، وأخذ أمر السلاجقة يسمو حتى سيطروا على العراق والمشرق كله. ولما مات طغرل بك خلفه ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل، وكان حازمًا عاقلًا مدبرًا استطاع أن يوسِّع حدود المملكة الإسلامية على حساب الدولة الرومانية الشرقية، وامتدت أملاكه من أقصى الشرق إلى جزيرة العرب وإلى بحر مرمرة بعد أن هزم الإمبراطور البيزنطي رومانوس وأسره في موقعة ملاذكرد سنة ٤٦٤ﻫ، ولم تقُم للروم بعدها قائمة. وكان عهد ألب أرسلان عهد عز ورخاء وعلم، بفضل حزمه وإدارة وزيره العالِم العظيم نظام الملك الطوسي مؤسس المدارس النظامية٢ ومدبر الدولة، واستمرت الدولة في السمو أيام هذين العاقلين، إلى أن مات ألب أرسلان وخلفه ابنه أبو الفتح ملكشاه، فظل نظام الملك يدير الدولة، وقيَّض الله إتمام الفتوح والقضاء على الباطنية. بلغت الدولة في عهد ملكشاه أقصى حدود الصين في الشرق وبلاد الشام والجزيرة العربية وبلاد الروم إلى بلاد جورجيا، وكان يعين نظام الملك أيضًا في تدبيره فاضلان آخران هما: كمال الدولة أبو الرضى فضل الله بن محمد صاحب ديوان الإنشاء والطغراء، ومشرف الملك أبو سعيد محمد بن منصور صاحب ديوان الذمام والاستيفاء، وكلاهما حازم مدبِّر داهية جواد، ولما مات ملكشاه أخذت الأمور تضطرب بعض الاضطراب لاختلاف أولاد ملكشاه الأربعة، واشتداد أمر الباطنية، فانقسمت الدولة إلى دويلات عُرفت بدول الأتابكية.
بعد موت ملكشاه وانقسام أولاده، تجزأت الإمبراطورية السلجوقية إلى أربعة فروع سلجوقية، وهي:
  • (١)

    سلاجقة العراق وفارس.

  • (٢)

    سلاجقة سورية في حلب ودمشق.

  • (٣)

    سلاجقة كرمان.

  • (٤)

    سلاجقة الروم في آسيا الصغرى.

وذلك بعد أن مرت بعهودٍ ثلاثة.

(١-١) العهد الأول، عقب موت ملكشاه

فقد مات ملكشاه وله أربعة أولاد هم: بركياروق وله «١٢ سنة» ومحمد وله «١١ سنة ونصف» وسنجر وله «٨ سنوات»، ومحمود وله «٤ سنوات»، وكان لكل واحدٍ من هؤلاء الأبناء أمٌّ مختلفة وحاشية تعمل على أن يتولى هو السلطنة، فوقع الخلاف بينهم وتوسَّعت شُقة الفتنة بين الأطراف، ويظهر أن جماعة بركياروق كانوا أقوى، فاستطاعوا أن يسيطروا أول الأمر، ثم تغلبت جماعة محمد إلى أن هلك بركياروق سنة ٤٩٨ﻫ فتولى بعده ابن ملكشاه الثاني ووقعت الفتنة من جديد بين محمدٍ وابن أخيه، فانتصر محمد بعد حروبٍ دامت أكثر من ثلاثة عشر عامًا، ضعف فيها الشرق الإسلامي أمام الصليبيين في الخارج والإسماعيليين في الداخل.

(١-٢) العهد الثاني

مات محمد في سنة ٥١١ﻫ/١١١٧م وكان قد عهد بالأمر بعده لابنه محمود، فثار عمه سنجر عليه ووقعت بين الجانبين معارك، انتهت بتصالحهما واقتسام أجزاء المملكة، ولم تكن سيطرتهم على بلاد الشام إلا سيطرة اسمية، فتمكَّن الصليبيون من انتزاعها من أيديهم، وكوَّنوا فيها إمارات صليبية أربع في بيت المقدس، وأنطاكية، وطرابلس، والرها، ولم يبقَ بيد المسلمين سوى دمشق ومصر، أما آسيا الصغرى فقد انفصلت تمامًا، وتكوَّنت فيها أسرة مستقلة، وكذلك حال الجزيرة وفارس وأذربيجان وديار بكر.

(١-٣) العهد الثالث

مات محمود سنة ٥٢٥ﻫ/١١٣٠م فانقسم السلاجقة ثلاثة أقسام؛ «الأول» على رأسه داود بن محمود الذي نُودي به بعد أبيه. «الثاني» على رأسه الأخوان مسعود وسلجوق شاه ابنا ملكشاه. «الثالث» بقيادة طغرل بك بن محمود وعمِّه سنجر، وقد وقعت عدة معارك بين كل من الأقسام، إلى أن استقر مسعود على العرش سنة ٥٣٢ﻫ/١١٣٧م وهو آخر سلطان سلجوقي قوي، ولما مات سنة ٥٤٧ﻫ/١١٥٢م أخذت الأسرة السلجوقية في السقوط، فوجدها الخوارزميون لقمة سائغة للازدراد.

figure

(٢) الدولة الخوارزمية

تنتسب هذه الدولة إلى القائد التركي «توشتكين» أحد رجال ملكشاه السلجوقي، وكان لتوشتكين هذا ولدٌ اسمه قطب الدين محمد، وعُرف بالإدارة والعلم والعقل، فعهد إليه بركياروق السلجوقي بإقليم خوارزم ولقَّبه خوارزمشاه، ولما أخذت الدولة السلجوقية في الانهيار بعد موت ملكشاه وتفرَّق رجالها، أخذ قطب الدين خوارزمشاه يطمع في الاستقلال بولايته وتوسيع رقعتها، ولكن لم يبدأ التوسيع الفعلي إلا في عهد ابنه أتسز بن خوارزمشاه حينما أعلن أتسز عصيانه على سنجر السلجوقي، فقدِم هذا عليه في سنة ٥٣٣ﻫ وفرَّق شمله ووطَّد نفوذه في خوارزم وولَّى عليها غياث الدولة سلمان شاه ابن أخيه محمد. فأخذ أتسز يجمع جموعه وهاجم غياث الدين فأخرجه من خوارزم، ثم تحالف هو وملك بلاد الخطا على محاربة سنجر، فاستطاعوا أن يفتكوا بالجيش السنجري في سنة ٥٣٦ﻫ/١١٤١م ويستولوا على بلاد ما وراء النهر،٣ وعلى مرو عاصمة سنجر، ثم تمكَّن سنجر من إخراجهم منها صلحًا، ثم وقعت الحرب من جديد بينهم، ولم تقتصر الحرب بين السلجوقية والخوارزمية على السيف بل تعدتها إلى القلم، فكان لكل فريق شعراؤه وأدباؤه الذين يهاجمون الفريق الآخر،٤ ثم رجحت كفة الخوارزمية على أيام «إيل أرسلان بن أتسز» الذي أخذ يفتك بالسلاجقة، ولما مات إيل أرسلان سنة ٥٦٢ﻫ/١١٧٢م تولى العرش ابنه سلطان شاه محمود، بمساعدة أمه التي أقصت ابن إيل أرسلان الأكبر وهو علاء الدين تكش، فسار علاء الدين وطرد أخاه، ووقعت بين الأخوين فتنٌ انتهت باستقرار علاء الدين وسيطرته على المملكة وتوسيعها حتى بلغت أخباره مسامع الخليفة الناصر لدين الله العباسي، فأراد الاستعانة به على طردِ ملكٍ آخرَ سلجوقي في العراق وهو طغرل بك، وكانت هذه الفرصة مواتية لأغراض تكش، فجيَّش جيشًا والتقى بالسلاجقة قرب الري في سنة ٥٩٠ﻫ/١١٩٣م وانتصر عليهم. وهكذا سيطر تكش على مُلْك سلاجقة العراق، ثم على همذان وأصفهان والري ورجع إلى خوارزم يوطِّد فيها أركان دولته، ويعمل على توسيعها، فحارب بلاد «الخطا» واستولى على إحدى مدنهم الكبرى، وهي بخارى سنة ٥٩٤ﻫ/١١٩٧م، وحارب الإسماعيلية وفتك بهم في سنة ٥٩٣ﻫ/١١٩٦م وسيطر على قلعتهم «الموت» عاصمتهم.

ولما مات في سنة ٥٩٦ﻫ/١١٩٩م وخلفه ابنه قطب الدين محمد الذي ترك لقبه، وتلقَّب بلقب أبيه علاء الدين، وسار على خطته في الغزو والفتح، على الرغم من تألب المجاورين عليه مثل شهاب الدين ملك الدولة الغورية، واستطاع في سنة ٦٠٢ﻫ/١٢٠٥م أن يقطع مدينتي بلخ وهراة عن الدولة الغورية. وفي سنة ٦٠٦ﻫ/١٢٠٩م سيطر على بلاد ما وراء النهر، وفي سنة ٦١١ﻫ/١٢١٤م سيطر على كرمان ومكران وسواحل المحيط الهندي والبلاد الواقعة غربي نهر السند. وفي سنة ٦١٢ﻫ/١٢١٥م أحاط بغزنة عاصمة الدولة الغورية، فاضطُر صاحبها «قتلغ تكين» أن يخطب ودَّه ويضرب السكة باسمه. ومما هو جدير بالذكر أن علاء الدين قد عثر أثناء احتلاله لغزنة على رسائل كان الخليفة الناصر بعث بها إلى الغوريين لمعاونته على الفتك بالخوارزمية، فكانت هذه الرسائل سببًا في سنة ٦١٤ﻫ/١٢١٧م لبعض الحملات على بلاد الخليفة فسار يريد العراق، ولكنه لم يتمكَّن من إتمام حملته، لما بلغه من قيام الخطر المغولي، فرجع إلى عاصمته لاتخاذ الاحتياطات الضرورية.

ولما مات علاء الدين سنة ٦١٧ﻫ تولَّى الأمر بعده ابنه جلال منكوبرتي، فاستمر إلى سنة ٦٢٨ﻫ حين حاربه التتر وقضَوا على الدولة الخوارزمية.

(٣) دولة الأتابكية والشاهات

هي عدة دول زاحمت الدولة السلجوقية، وسُميت بهذا الاسم لا لنسبتها إلى بيتٍ واحد أو إلى أتابك٥ واحد، ولكنها كانت متصلة بالبيت السلجوقي بصلة «الأتابكية» نسبة إلى «الأتابك» ومعناه الأمير الوالد، وهو كل مَن يربي المَلك ويهتم بتدبير شئونه، فكان آل سلجوق كلما برز شخص عظيم من مربي رجالات أسرتهم سمَّوه «أتابكًا» تكرمةً له وتعظيمًا، وقد استطاع هؤلاء الأتابكية أن يصلوا إلى الولايات والإمارات ثم تمكَّنوا أن يستقلوا بولاياتهم وإماراتهم وأورثوها أبناءهم من بعدهم، أما «الشاهات» فمفردها «شاه» ومعناه الأمير، وقد أطلقه السلاجقة على مَن كان مولًى لهم ثم ولَّوه بعض الولايات فعظم سلطانه فيها واستقل عنها.

و«الأتابكية» و«الشاهات» حكموا مناطق مختلفة وأسسوا دويلات متعددة انفصلت عن الدولة السلجوقية؛ فقد كان الأمير السلجوقي إذا ولي إمارة استصحب معه مربيه، فكان ذلك المربي هو صاحب النفوذ الفعلي للدولة، وربما عمل لحسابه الخاص، منفصلًا عن سياسة سلاجقة بغداد، ولما مات ملكشاه، استقل كل أمير بما تحت يده، سواء أكان ذلك إقليمًا أو بلدة، وتسابقوا للإغارة على جيرانهم، فاشتبكوا ببعضهم وانتهزت القبائل التركية هذه الفرصة، فأخذت تغير على سهول آسية العربية. وفيما يلي إلماع إلى هذه الدويلات:

(٣-١) دويلة الشاهات الأرتقية

تنتسب هذه الدويلة إلى أرتق بن أكسب التركماني، أحد مماليك ملكشاه وقواده، وقد استطاع معين الدولة سقمان بن أرتق أن يستولي على حصن كيفا سنة ٤٩٥ﻫ، ويستقل بها في عهد بركياروق، ثم ضم إلى دولته مدينة ماردين وما إليها، وفي سنة ٥٠٢ﻫ انقسمت هذه الدويلة إلى مملكتين؛ إحداهما بالحصن والأخرى بماردين، أما مملكة الحصن فاستمرت إلى سنة ٦٢٠ﻫ وانتهت على يد الأيوبيين، وأما مملكة ماردين فاستمرت إلى سنة ٨١١ﻫ، أي بعد ظهور المملكة العثمانية بمائة وإحدى عشرة سنة، على يد دولة القره قيونلي. ومما يجب ذكره أن وجود هذه الدولة في هذا الحيز الجغرافي الحساس الذي كانت عنده كان من العوامل التي أضعفت وحدة المسلمين بسبب كثرة ما وقع بشأنها من منازعات.

(أ) سلسلة ملوك ماردين

  • نجم الدين غازي بن أرتق ٥٠٢–٥١٦ﻫ.

  • حسام الدين تيمور تاس بن غازي سنة ٥٤٧ﻫ.

  • نجم الدين ألبي بن تيمور ناس سنة ٥١٧ﻫ.

  • قطب الدين غازي بن ألبي سنة ٥٨٠ﻫ.

  • حسام الدين يوسف بن أرسلان سنة ٥٩٧ﻫ.

  • ناصر الدين أرتق أرسلان بن غازي سنة ٦٣٧ﻫ.

  • نجم الدين غازي بن أرتق أرسلان سنة ٦٥٨ﻫ.

  • قره أرسلان بن غازي سنة ٦٦١ﻫ.

  • داود بن قره أرسلان سنة ٦٩٣ﻫ.

  • غازي بن قره أرسلان سنة ٧١٢ﻫ.

  • صالح بن غازي سنة ٧٦٥ﻫ.

  • أحمد بن صالح سنة ٧٦٩ﻫ.

  • محمود بن أحمد سنة ٧٦٩ﻫ.

  • داود بن صالح سنة ٧٧٨ﻫ.

  • عيسى بن داود سنة ٨٠٩ﻫ.

  • صالح بن داود سنة ٨١١–٩٠٨ﻫ.

(ب) سلسلة ملوك حصن كيفا

  • معين الدين سقمان بن أرتق سنة ٤٩٥–٤٩٨ﻫ.

  • إبراهيم بن سقمان سنة ٥٠٢ﻫ.

  • ركن الدين داود بن سقمان سنة ٥٤٣ﻫ.

  • فخر الدين قره أرسلان سنة ٥٧٠ﻫ.

  • نور الدين محمد بن أرسلان سنة ٥٨١ﻫ.

  • قطب الدين سقمان بن محمد سنة ٥٩٧ﻫ.

  • ناصر الدين محمود بن محمد سنة ٦١٩ﻫ.

  • ركن الدين مودود بن محمود سنة ٦٢٠ﻫ.

(٣-٢) دويلة أتابكية دمشق (٤٩٧–٥٤٩ﻫ/١١٠٣–١١٥٤م)

أسَّسها طغتكين مملوك تتش بن ألب أرسلان والي دمشق عندما تُوفي ملكشاه،٦ وقد امتد نفوذه إلى حلب والجزيرة وديار بكر وأذربيجان وهمذان، وأُقيمت له الخطبة في بغداد، وقد استمرت هذه الدولة إلى أن قُضي عليها سنة ٥٤٩ﻫ بزعامة نور الدين محمود بن زنكي، ثم انتقلت إلى الأيوبيين فوليها الملك الأفضل في حياة صلاح الدين ثم الملك العادل.

(٣-٣) دولة أتابكية الموصل (٥١٦–٦٦٠ﻫ/١١٢٢–١٢٦٢م)

كانت هذه أعظم دول الأتابكية؛ فقد امتد سلطانها مما بين النهرين إلى بلاد الشام، ومؤسِّسها هو عماد الدين زنكي بن آق سنقر، وكان أبوه أحد مماليك ملكشاه، فلما تولَّى ملكشاه السلطنة كان لآق سنقر قدْر رفيع في الدولة فسمَّاه قسيم الدولة، وأقطعه حلب، وأعمالها، وحماة ومنبج واللاذقية وتكريت إلى أن قتله تتش السلجوقي في سنة ٤٨٧ﻫ، فلما قُتل تتش في سنة ٤٨٨ﻫ تمكَّن عماد الدين زنكي بن آق سنقر من استرجاع مملكة أبيه، ولمع نجمه فسيطر على واسط والبصرة بالإضافة إلى مملكته في الموصل والجزيرة ونصيبين، ولما استفحل أمر الصليبيين في سورية، ولم يبقَ بأيدي المسلمين فيها سوى حمص وحماة ودمشق، تطلع المسلمون إلى عماد الدين لإنقاذهم من براثن الصليبيين، فتمكَّن من استرداد حلب في سنة ٥٢٢ﻫ كما استولى على حماة، وظلت الحروب بينه وبين الصليبيين إلى أن قُتل سنة ٥٤١ﻫ/١١٤٦م، وكان من أهدافه أن يسلط أصحاب الأطراف على السلطان مسعود السلجوقي ليصفو له الجو في مملكته ويتمكَّن من إتمام حروبه مع الصليبيين، واستطاع أن يستولي على الرها وينقذها من الصليبيين سنة ٥٣٩ﻫ/١١٤٤م، وكان استيلاؤه عليها فوزًا كبيرًا للمسلمين؛ لأن سقوطها كان بداية نهاية النفوذ الصليبي في المشرق كما يقول «باركر»٧ وقد حاول عماد الدين أن يستولي على دمشق، ولكن الصليبيين كانوا يعينون أتابكة دمشق عليه فيرتد عنها فاشلًا٨ إلى أن تمكَّن من الاستيلاء عليها سنة ٥٤٩ﻫ/١١٥٤م. ولما مات عماد الدين خلفه ابنه سيف الدين غازي على القسم الشرقي من المملكة، واتخذ الموصل مقرًّا له، كما خلفه ابنه نور الدين محمود على القسم الغربي واتخذ مدينة حلب مقرًّا له، واتفق الأخوان على محاربة الصليبيين فحارباهم بعنف إلى أن تمكَّن صلاح الدين من الاستيلاء على الدولة الأتابكية وضم شملها إلى دولته.

(٣-٤) دولة أتابكية سنجار (٥٦٦–٦١٧ﻫ/١١٧٠–١٢٢٠م)

أسَّس هذه الأتابكية عماد الدين زنكي الثاني بن قطب الدين مودود من ٥٦٦ﻫ إلى ٥٩٤ﻫ في الموصل، ولما مات خلفه ابنه قطب الدين محمد، وظل من سنة ٥٩٤ﻫ إلى ٦١٦ﻫ، ثم خلفه ابنه شاهنشاه، وقد استمرت دولته إلى سنة ٦١٧ﻫ حين استولى عليها الأيوبيون في عهد الملك الأشرف موسى بن أيوب.

(٣-٥) دولة أتابكية الجزيرة (٥٧٦–٦٤٨ﻫ/١١٨٠–١٢٥٠م)

ابتدأت في سنة ٥٧٦ﻫ بوفاة سيف الدين غازي بن مودود صاحب الموصل؛ فإن بلاده انقسمت بين ولديه؛ عز الدين مسعود ملك الموصل، وسنجر شاه ملك جزيرة ابن عمر، وقد استمرت هذه الأتابكية إلى أن أخذها الأيوبيون سنة ٦٤٨ﻫ.

(٣-٦) دولة أتابكية الإربل (٥٣٩–٦٣٠ﻫ/١١٤٤–١٢٣٢م)

أسَّسها زين الدين علي بن بكتكين أحد مماليك عماد الدين زنكي، لما عيَّنه حاكمًا على الموصل سنة ٥٣٩ﻫ/١١٤٤م، وفي سنة ٥٤٤ﻫ ضم إلى مملكته سنجار وحران وإربل، إلا أنه تنازل عن أملاكه كلها لسيده، ولم يبقَ له إلا إربل، فحكمها هو وأبناؤه من بعده حتى أخضعها المغول.

(٣-٧) دولة أتابكية أرمينية (٤٩٣–٦٠٤ﻫ/١١٠٠–١٢٠٧م)

أسَّسها سقمان القطبي مملوك قطب الدين إسماعيل السلجوقي سنة ٤٩٣ﻫ في بلدة «مرند» من بلاد أذربيجان، وامتد سلطان سقمان إلى «خلاط»، فجعلها عاصمة مُلْكه، وقد تعاقب عليها أبناؤه إلى أن آلت في سنة ٦٠٤ﻫ إلى الملك الأوحد نجم الدين أيوب ابن الملك العادل الأيوبي إلى أن استولى عليها الخوارزميون ثم استولى عليها المغول.

(٣-٨) دولة أتابكية أذربيجان (٥٣١–٦٢٢ﻫ/١١٣٦–١٢٢٥م)

أسَّسها إيل ركز مملوك السلطان مسعود السلجوقي حين ولَّاه على إقليم الران شمال أذربيجان سنة ٥٣١ﻫ، ثم أخذ يوسِّع مُلْكه حتى استولى على جميع أذربيجان وبلاد الجبل وهمدان وأصفهان والري وتغليس ومكران، ولما مات سنة ٥٦٨ﻫ خلفه أبناؤه إلى سنة ٦٢٢ﻫ حين استولى عليها هولاكو، ويظهر أن مناعة هذه البلاد قد جعلت هولاكو يتخذها مستودعًا للأسلاب والنفائس التي سطا عليها في فتوحاته.

(٣-٩) دولة أتابكية فارس (٥٤٣–٦٨٦ﻫ/١١٤٨–١٢٨٧م)

أسَّسها سنقر بن مودود بن سلغر التركماني في شيراز سنة ٥٤٣ﻫ، وامتد نفوذها إلى كرمان وأصفهان والعراق العجمي في عهد سعد بن زنكي بن سنقر، ثم خضعت لجنكيز خان، فلم يفسدها ولم يعمل فيها تخريبًا كما فعل في غيرها من المناطق الإسلامية.

١  أخبار الدولة السلجوقية للحسيني، ص١.
٢  ألَّفنا عنه كتابًا مطولًا هو الجزء الثاني من رسالتنا عن «التربية والتعليم في الإسلام» التي قدمنا إلى جامعة «السوربون» بباريس لنيل شهادة الدكتوراه، وقد طُبعت بالفرنسية في باريس سنة ١٩٤٩، وقد طُبع الجزء الأول منها في «دار العلم للملايين» ببيروت سنة ١٩٤٧.
٣  ابن الأثير ١١: ٣٧–٤٠.
٤  انظر كتاب «براون» في تاريخ الأدب الفارسي ٢: ٣٠٩.
٥  الأتابك لفظ تركي يُطلق على الوصي أو المربي الذي يتولى إدارة البلاد والإشراف على ولي العهد.
٦  ابن الأثير ٧: ٩٠.
٧  انظر: The Grusades p. 51, Barker.
٨  ابن الأثير ١١: ٣٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤