الفصل الرابع

أحوال البلاد الداخلية

(١) الخلافة

أصبحت الخلافة في هذا العهد رئاسة دينية تشريفية! وقد انزوى الخلفاء في قصورهم يحاولون استعادة مكانتهم الدينية والاجتماعية، وتعاقب على الخلافة خلفاء انصرفوا إلى إقامة الشعائر الإسلامية وحماية تعاليمه، إلى أن قضى هولاكو عليهم وقتل آخرهم، فوجم المسلمون في أرجاء الإمبراطورية الإسلامية حتى اعتقد فريق بدنو يوم القيامة، وصاروا ينظرون إلى كل حدثٍ رهيب أنه سخطٌ من الله، وأن خلوَّ العالم الإسلامي من خليفة دليلٌ على سوء المصير، وأنه لا بد لهم من خليفة يحمي الإسلام، إلى أن كانت سنة ٦٥٨ﻫ وتولَّى الملك الظاهر بيبرس سلطة مصر، فاستقدم الإمام أحمد بن الإمام الظاهر بالله العباسي أحد مَن نجَوا من مذابح المغول، واستقبله بمظاهر الإجلال، وبايعه هو والعلماء والأمراء والعظماء بالخلافة، وتلقَّب بالمستنصر بالله. واستمرت الخلافة العباسية في مصر إلى أن قضى عليها السلطان سليم العثماني.

(٢) الوزارة

من الأمور الغريبة التي يلاحظها المرء أن أكثر الوزراء في هذا العهد، سواء أكانوا وزراء الخليفة أو وزراء السلطان، كانوا من خيرة الناس خلقًا ودينًا وإصلاحًا وتعميرًا.

فمن وزراء الخلفاء: ابن جهير فخر الدولة محمد بن محمد، وكان من عقلاء الرجال ودهاتهم، أرسله القائم بأمر الله إلى ملك الروم، فأحسن الرسالة، ولما عُزل وأُعيد ثانيةً فرِح الناس بعودته فرحًا شديدًا، ويُقال أن سقَّاءً ذبح ثورًا له لم يكن يملك غيره، وتصدَّق بلحمه، فأعطاه الوزير بغلًا بآلته، وأعطاه شيئًا من الذهب.١ ومنهم ابنه عميد الدولة محمد بن محمد بن محمد بن جهير وزير القائم والمقتدي، وكان رجلًا فاضلًا حصيفًا، وكان نظام الملك وزير السلطان يعجب منه ويقول وددت أني وُلدت مثله، ثم زوَّجه ابنته واستوزره المقتدي وفوَّض إليه الأمور، ثم عزله الخليفة فشفع له نظام الملك وأعاده.
ومنهم أبو علي الحسن بن علي بن صدقة، وكان فاضلًا نِحريرًا عالمًا بشئون القوانين، لقَّبه الخليفة المسترشد بجلال الدين، سيد الوزراء، صدر الشرق والغرب ظهير أمير المؤمنين، وكانت له معرفة بالحساب وأعمال السواد، ومنهم نقيب النقباء علي بن طبرزد الزيبي، وكان فاضلًا مشرعًا عالمًا بالقوانين وأسباب الرئاسة، ومنهم الوزير العالم الجليل مؤيد الدين محمد بن محمد العلقمي، وكان أديبًا بارعًا راوية فاضلًا خطاطًا، وقد أطنب ابن طباطبا في مديحه وقال: «اتهمه الناس بأنه خامر، وليس ذلك بصحيح، ومن أقوى الأدلة على عدم مخامرته سلامته في هذه الدولة؛ فإن السلطان هولاكو لما فتح بغداد وقتل الخليفة سلَّم البلد إلى الوزير وأحسن إليه، وحكَّمه، فلو كان خامر على الخليفة لما وقع الوثوق إليه.»٢

ومن وزراء السلاطين: نظام الملك الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي (سنة ٤٨٥ﻫ)، وكان وزيرًا حازمًا عالي الهمَّة مدبِّرًا برع في الآداب العربية والفارسية وألَّف فيهما وسمع الحديث النبوي، وكان ألب أرسلان لا يقطع أمرًا دون رأيه، ولما مات وتسلطن ملكشاه صار نظام الملك كأنه السلطان، فأقام على تدبير الدولة عشرين سنة، وكان من حسنات الدهر، فهو أول مَن أسَّس المدارس في الإسلام وبغداد والمشرق وأجرى الجرايات على الفقهاء والمتصوفة، وأسقط في زمانه كثيرًا من الضرائب الجائرة، وهو الذي أزال لعن الأشاعرة ومنع سبَّ عقيدتهم من المنابر، وكان عميد الملك الكندري قد حسَّن للسلطان طغرل بك أن يلعن الأشعرية، وهو الذي فتك بالباطنية وأفسد دسائسهم وأمورهم إلى أن قتلوه قرب نهاوند.

ومنهم عميد الملك محمد بن منصور الكندري أول وزراء الدولة السلجوقية استوزره طغرل بك، وكان فصيحًا باللغتين العربية والفارسية، ذا ثقافة واسعة وعلم وأدب ونبل، وكان يقوم بالترجمة بين الخليفة والسلطان.

ومنهم كمال الدين محمد بن الخازن الرازي٣ وزير السلطان غياث الدين مسعود، وكان من أحسن الوزراء تدبيرًا وعقلًا، وقد اطمأنت البلاد في عهده وهدأت.

والحق أن وزراء السلاطين الأُوَل، كانوا من خير الناس، فلما هلك ملكشاه واضطرب أمر الأسرة السلجوقية بعده، فسدت الأمور، وكان من توابع هذا الفساد أن الوزارة قد انحطت، وإليك ما يقول بعض الكتَّاب عن حق السلطان محمد: «قد كثر تعجبي من السلطان يتأنق في تخيُّر كلاب الصيد وفهوده، وإنما يقتني منها ما يراه موافقًا لمقصوده، فيسأل عن فروعه وأصوله وانقطاعه ووصوله، فما باله لا يتخيَّر لإيوانه ومراتب سلطانه من الكفاة الأفاضل والصدور الأماثل!»

(٣) أحوال الباطنية

نظَّم الإسماعيليون، الذين عرفنا أمرهم فيما مضى، طريقة سرية للدعوة إلى مذهبهم في أرجاء العالم الإسلامي، وقد كانت هذه الطريقة تعتمد على كثيرٍ من الأسرار والأمور المحجوبة، وتفسير القرآن الكريم والآثار الإسلامية تفسيراتٍ لا تعتمد على ظواهر النصوص، بل على الباطن، والمجازات، والاستعارات، والكنايات، وزعموا أن كثيرًا من هذه النصوص لا تُفهم إلا بالمعلومات المكتومة التي تناقلها الخلف عن السلف عن الأئمة، وأنها لا تُعطى إلا لمن يُقسِم على أن يحفظ في باطنه؛ لأن في هذه العقيدة تعاليمَ لا يجيزها عامة المسلمين، وأفكارًا تخالف ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، كفكرة حلول الألوهية في «إسماعيل»، وانتظار رجعته مهديًّا، وفكرة تناسخ الأرواح، وفكرة نشوء الكون متجليًا عن ذات الله سبحانه، وفكرة المراتب السبعة أو التسعة التي يتدرج فيها المريد حتى يصل إلى درجة الكمال المطلق، وغير ذلك من الأفكار التي ينبغي أن تظل طي الكتمان، ولا يطلع على أسرارها وبواطن دقائقها إلا المخصوصون المأمونون.

وقد رأينا أن عبد الله القداح وأباه ميمونًا قد اتخذا مدينة «سلمية» مقرًّا لحركتهما السرية، بعد مقرها الأول في «البصرة»، وأن هذين المقرين صارا بؤرة للنشاط الإسماعيلي في سائر أنحاء العالم الإسلامي.

ولما كان أصحاب هذه الفكرة ضعافًا أول الأمر، لم تأبه بهم الخلافة العباسية، فتركتهم وشأنهم، أو وكلت بهم رجال العقائد وأصحاب المقالات الإسلامية، يبيِّنون عوار عقيدتهم ويشنعون عليهم وعلى ما انطوت عليه فكرتهم من مخالفات شرعية وعقلية، ويظهر أنهم أنفسهم قد انزووا يعملون في الخفاء على نشر دعوتهم حتى يتيح لها الزمن أن تخرج قوية قاهرة.

ولما كانت الدعوتان، الإسماعيلية والفاطمية، تشربان من معينٍ واحد، وكان نجاح الفاطمية في المغرب ومصر والشام قويًّا، رأى الإسماعيليون أن الفرصة مواتية لهم لنشر دعوتهم والدعاية لها في سائر أرجاء الإسلام، وكان من عادة الفاطميين أن يبعثوا الدعاة لنشر مذهبهم والدعوة لهم سرًّا، وكان للدعاة في مصر رئيس هو «داعي الدعاة» الذي يلي «قاضي القضاة» في المكانة والمرتبة، وكان يجمع الدعاة، ويطلعهم على أسرار الدعوة، ويبثهم في الأقطار الإسلامية. وقد اهتم الفاطميون بنشر دعوتهم في العراق وإيران لأن الإيرانيين والعراقيين يميلون إلى آل علي. وكان غرض الفاطميين هو نشر عقيدتهم أولًا، والقضاء على العباسيين ثانيًا.

ومما تجدر الإشارة إليه أن أصحاب هذه الدعوة قد انقسموا منذ زمن الخليفة المستنصر (٤٨٧ﻫ/١٠٩٤م) إلى قسمين؛ قسم يقول إن المستنصر أوصى بالأمر بعده لابنه نزار، وقِسم قال بل إنه أوصى بها لابنه المستعلي، واتخذت الفرقة الأولى بلاد المشرق مركزًا لها برعاية الحسن بن الصبَّاح، وبقيت الثانية في مصر والمغرب.٤ وتفصيل ذلك أن الحسن بن الصباح قدِم إلى مصر لدراسة الدعوة وتتبُّع أحوالها، وأعطاه المستنصر أموالًا وبعثه للدعوة في المشرق، ورأى بعد وفاة المستنصر أن ابنه نزارًا أولى من أخيه المستعلي بولاية أبيه لكفايته، ورأى وزير المستنصر، وهو بدر الجمالي، أن المستعلي أفضل، واختلف الرجلان واضطُر الحسن أن يستقلَّ بفكرته، ومنذ ذلك الحين انقسمت الفاطمية إلى هذين القسمين. أما معلوماتنا عن الحسن بن الصباح وأحواله فهي أنه كاتبٌ ذكي، نشأ في خدمة ألب أرسلان ولمع اسمه في عهد ملكشاه، وكان شيعيًّا متحمسًا، ولكنه كان يكتم فكرته لتعصب السلاجقة ولسنيتهم، فلما اكتشفوا أمره طردوه من خدمتهم، فأعلن اعتناقه المذهب الإسماعيلي، وبعثه عبد الملك بن عطاش رئيس الدعوة الإسماعيلية في العراق داعيةً إلى أصفهان فذهب إليها، ثم رأى أن يسافر إلى مصر ليتعمق في دراسة العقيدة الفاطمية على يد فلاسفتها وعلمائها في القاهرة، فخرج من أصفهان سنة ٤٦٩ﻫ/١٠٧٦م عن طريق أذربيجان وميافارقين وعكا، ومنها ركب البحر متخفيًا في زي تاجر إلى أن بلغ مصر، وما زال قدْره يسمو هناك ويتغلغل في شئون الدعوة والدولة إلى أن مات الخليفة المستنصر، وأُريد تسمية الخليفة الجديد، فقال الوزير بدر الجمالي: إن المستنصر قد عهد بالأمر إلى ابنه الأصغر وهو المستعلي، وما ذلك إلا لأنه جده لأمه، ولأنه يريد إبقاء نفوذه وسيطرته على الدولة، وخالفه الحسن بن الصباح في ذلك وقال: لا، إن الولاية للابن الأكبر وهو الأمير نزار،٥ وهكذا اضطُر الحسن بن الصباح أن ينشق عن المذهب الفاطمي المصري ويؤسِّس حركته الباطنية الجديدة، وقد قويت حركة الحسن بن الصباح في عهد السلاجقة حتى أضحت خطرًا يهدد سلامة البلاد، قال البنداري: «وكان بينهم (أي الإسماعيلية) رجل من أهل الري — هو الحسن بن الصباح — ساحَ في العالم، وكانت صناعته الكتابة، فخفي أمره حتى ظهر وقام، فأقام من الفتنة كل قيامة واستولى في مدينة قريبة على حصونٍ وقلاعٍ منيعة، وبدأ من القتل والفتك بأمورٍ شنيعة، وخفيت عن الناس أحوالهم، ودامت حتى استتبعت على الاستتار بسبب أنه لم يكن للدولة صاحب أخبار، وكان الرسم في أيام الديلم (البويهيين) ومَن قبْلهم من الملوك أنهم لم يخلوا جانبًا من صاحب بريد، فلم يخفَ عندهم أخبار الأقاصي والأداني، وحال الطائع والعاصي، حتى ولي أمر الدولة السلجوقية ألب أرسلان محمد بن داود، ففاوضه نظام الملك في هذا الأمر، فأجابه أنه لا حاجة بنا إلى صاحب خبر؛ فإن الدنيا لا تخلو كلُّ بلد فيها من أصدقاء لنا وأعداء … فلم يشعر إلا بظهور القوم، وقد استحكمت قواعدهم واستوثقت معاقدهم وأخافوا السبل، وأجالوا على الأكابر الأجل.»٦
والحق أن الحسن قد استطاع أن ينشر في برهة وجيزة دعوته في أرجاء المشرق من فارس إلى العراق، كما استطاع أن يستولي على بعض الحصون والقلاع، ويتخذها مقرًّا لرجاله، وكان استيلاؤه سنة ٤٨٣ﻫ على قلعة الموت٧ التي كان بناها ملكشاه بدايةً لقوة حركته، ومركزًا استطاع منه أن يستولي على كثيرٍ من بلاد خوزستان وقوهستان … وكان ابن الصباح مغرمًا ببناء القلاع على رأس الجبال متباعدًا عن المدن متحصنًا بها لئلا يسهل الوصول إلى جماعته، وقد ألَّف حوله جماعة من الأشداء المتعصبين فأمرهم بالفتك بمخالفيهم، ومما هو جدير بالذكر أن الحسن نظَّم الدعوة الفاطمية تنظيمًا جديدًا، فسمَّى نفسه «داعي الدعاة» أو «رئيس الدعوة»، ثم يأتي من بعده «طبقة ثانية» هي طبقة كبار الدعاة، ويختص كل واحد منهم بإقليم من أقاليم الدعوة الثلاثة وهي «العراق» و«قوهستان» و«الشام»، ثم تليهم طبقة ثالثة هي «طبقة الدعاة» وهم الذين تدربوا في قلعة الموت، وتفرقوا في الأقاليم الثلاثة تحت إشراف «رئيس الدعوة»، وكانوا متفقهين بالمذهب الإسماعيلي عارفين بأسراره، ثم تليهم «طبقة رابعة» وهي «طبقة الرفاق» وهم الذين يطَّلعون على الأسرار ولا يُطلب إليهم نشرها، ثم تليهم طبقة خامسة وهي «طبقة اللاصقين» وهم طبقة لم تتعمق في معرفة أسرار الدعوة وأصولها، ولكنهم ممن يتعهدون تنفيذ كل ما يُطلب إليهم، ثم تليهم «طبقة سادسة» هم «طبقة الفدائيين» الذين باعوا أنفسهم من داعي الدعاة، وهم الشبان المتحمسون الذين استعان بهم الحسن على تنفيذ خططه وقتل خصومه، ثم تليهم «طبقة سابعة» وهم «طبقة المستجيبين» أو العوام الذين يدخلون في الدعوة.

وأبرز هؤلاء الطبقات نشاطًا هم الفدائيون الذين كان الحسن يختارهم من الشبان الأقوياء المتحمسين البارعين في الاحتيال والتخفي واستعمال الأسلحة المتعددة، ومعرفة اللغات الكثيرة، وكان أبرز أمكنة نشاطهم المساجد والكنائس وقتل خصومهم فيها أيام الجُمع والآحاد، وكان من عادتهم أن يكونوا من ثلاثة، حتى إذا ما فشل الواحد في خطته وقُتل، قام الآخران بإتمام العمل، وهكذا تمكَّن للدعوة من قتل كثير من خصومها كالخليفتين المسترشد والراشد، الوزير ونظام الملك وغيرهم كثير، ولا شك في أن براعة الدعاة بإغراء هؤلاء الشبان هي التي جعلتهم يتحمسون بشدة لحركتهم ويتفانون في نشرها.

وقد نقل لنا المستشرق إدوار براون (في تاريخ الآداب الفارسية ٢: ٢٠٧) فصلًا عن الرحالة الإيطالي ماركو بولو٨ الذي زار البلاد في القرن السابع، وكتب عن هؤلاء الفدائيين فصلًا قال فيه: «إن زعيم الإسماعيلية، الحسن بن الصباح أمر بإنشاء حديقة متسعة غنَّاء، في وادٍ بين جبلين وملأها بأشجار الفاكهة المختلفة، كما أقام فيها القصور الجميلة وزيَّنها بالذهب، وحفر فيها أقنية وفساقي ملأها خمرًا ولبنًا وعسلًا وماءً صافيًا، وكان يسميها الجنة، وقد حشر فيها الجواري الحسان المغنيات الراقصات، وإن الحسن كان يخدِّر هؤلاء الشبان بالحشيش، ثم يحملهم إلى الجنة جماعات جماعات تتراوح بين الأربعة والعشرة، فإذا أفاقوا من تحشيشهم اعتقدوا أنهم في الجنة التي وعد الله المتقين، ثم يُحملون إلى قصره بعد أن يُخدَّروا ثانية، فإذا أفاقوا آمنوا بقدرته وتفانوا في طاعته، ويقصون ما رأوه على الآخرين، فيتوقون بدورهم إلى دخول الجنة.» ويقول بروكلمان (في تاريخ الشعوب الإسلامية ٢–١٣٨): «إن ما أورده ماركو بولو هو مجرد خرافة.» ولكن ابن خلكان يورد لنا شيئًا شبيهًا بذلك عن حصن مصياف،٩ وقد نشر الحسن بن الصباح هؤلاء الفدائيين في كافة أرجاء العالم، فخافه الأمراء والكبراء ودفعوا له الضرائب دفعًا لشره، وخصوصًا بعد موت ملكشاه، وانقسام الأسرة السلجوقية من بعده، وظهور الصليبيين في الشام، وقد قُدِّر عدد الفدائيين في زمن ملكشاه بنحو مائة وستين ألف رجل١٠ فإذا كان هذا عددهم في زمن ملكشاه السلطان القوي الذي فتك بهم مرات، وحاول مرات أن يحتل قلعتهم «الموت» فلم يفلح، وكان وزيره نظام الملك أعدى أعدائهم لا يترك فرصة للفتك بهم، وقد ملأ رسالته «سياستنامة» كثيرًا من التهجم عليه والتحريض على قتلهم، أقول إذا كان هذا عددهم في ذلك الزمان فما قولك بالأزمنة التالية، حين اقتتل السلاجقة فيما بينهم، حتى استعان بعضهم، وهو بركياروق، على خصومه بالإسماعيلية.١١ وقد ازداد نفوذهم أيام سنجر الذي اضطُر إلى مصالحة الحسن بن الصباح، وفي أيامه قتلوا الخليفة المسترشد ثم ابنه الراشد من بعده، فخافهم الخلفاء في قصورهم.
ولما مات الحسن بن الصباح سنة ٥١٨ﻫ/١١٢٤م، أخذت أحوال الباطنية تختلف قوة وضعفًا، ولما فشلوا في الاستيلاء على البلاد الإسلامية، عمدوا إلى السلب والنهب، وإثارة حروب العصابات، ثم اضطُروا أثناء الحروب الصليبية في سورية، أن يحاربوا الصليبيين عدة مرات، واستطاعوا في سنة ٥٣٣ﻫ/١١٤٠م أن يستعيدوا احتلال قلعة مصياف — على السفح الشرقي لجبل النصيرية — التي كانت مقرًّا لنائب زعيمهم راشد الدين سنان سنة ٦٩٢ﻫ/١١٩٢م، وذلك بعد أن استطاعوا استمالة رضوان بن السلطان تتش أمير حلب السلجوقي إلى مذهبهم، كما استطاعوا الاستيلاء على حصن كيف والقدموس والعليقة،١٢ وكان راشد الدين الملقَّب «شيخ الجبل» من أشد خصوم الصليبيين، وله معهم عدة معارك، ولما فتح المغول مصياف (مصياد، مصياث) سنة ٦٥٨ﻫ/١٢٦٠م قدِم بيبرس فأوقع ضربة قاضية بالحشاشين سنة ٦٧٠ﻫ/١٢٧٢م.
وتولَّى زعامة الإسماعيلية بين سنة ٦٠٧–٦١٨ﻫ/١٢١٠–١٢٢١م جلال الدين حسن، ورأى أنهم لم يصبحوا قادرين على مهاجمة خصومهم الأقوياء، وهم رجال الدولة الخوارزمية، والأتابكية، والخلفاء العباسيين، فرأى أن خير وسيلة هي أن يطلب إلى جماعة منهم أن يُظهِروا شعائر الإسلام، وترْك ما كانوا عليه، وأرسلهم سفراء عنه إلى الخليفة في بغداد، وإلى علاء الدين بن محمد خوارزمشاه، وإلى الأتابكية، يعلنون رجوعهم إلى الحق والإسلام، فاستُقبلت رسله بالاحترام، وخُلِعت عليهم الخِلَع، وطلب جلال الدين من بعض فقهاء المسلمين، بعد أن أحرق كتب الإسماعيلية، أن يفقِّهوا جماعة الإسماعيلية بتعاليم الحنيفية،١٣ ولم تَطُل حركة جلال الدين هذه طويلًا؛ فإنه بعدما مات، خلفَه ابنه علاء الدين محمد، فرجع عما كان سار عليه أبوه حينما اكتسح المغول الدولة الخوارزمية، فوقف منكوبرتي ضده وفتك بالإسماعيلية سنة ٦٢٤ﻫ، ولكن هولاكو فتك بهم سنة ٦٥٤ﻫ/١٢٥٦م قبل مسيره إلى بغداد،١٤ وأسر هولاكو زعيمهم ركن الدين خورشاه. وهكذا انتهى أمر الإسماعيلية في النهاية بعد استيلاء هولاكو على قلعة الموت، ولم يبقَ في أيديهم إلا قلاعهم الشامية، ومنذ ذلك الحين تشتتوا ما بين شمالي سورية وفارس وعمان وزنجبار والهند على الأخص؛ حيث يقيم منهم حوالي مائة وخمسين ألفًا يُعرف واحدهم بالخوجة أو المولى، وهم اليوم خاضعون لسلطة آغا خان الذي ينتسب إلى آخر داعي دعاة في الموت،١٥ ولا يزال قسمٌ منهم موجودًا في مدينة سلمية والقدموس ومصياف في سورية، كما أن في سورية اليوم صنفًا آخر منهم يُعرف باسم «النصيرية» أو «العلوية» وهم إسماعيليون في الأصل، يرجع اسمهم إلى محمد بن نصير الذي ظهر في الشطر الثاني من القرن التاسع، ويبلغ عددهم نحوًا من ثلاثمائة ألف في سورية، ويقيمون في محافظة اللاذقية.
١  الفخري، ص٢٥٧.
٢  تاريخ الفخري، ص٢٩٦.
٣  أخبار الدولة السلجوقية للحسيني، ص١٢٢.
٤  انظر كتاب: Von Harnnet, Hist de l’Ordre des Assassins p. 75.
٥  ابن الأثير ١٠: ٩٨؛ وبراون في تاريخ الأدب الفارسي ٢: ٢٠٣؛ وصبح الأعشى ١٣: ٢٣٧؛ وكتاب Sykes A. Hist of Persia p. 55؛ وكتابنا عن «المدرسة النظامية ونظام الملك الطوسي» (المقدمة)، طبع باريس.
٦  البنداري: تاريخ دولة آل سلجوق، ص٦٢.
٧  تقع في ناحية روذباد على ستين فرسخًا من الشمال من قزوين.
٨  هو الرحالة الشهير ماركو بولو، وُلد في البندقية في سنة ١٢٥٤م، ورحل مع أبيه نيقولا وعمه ماتيوس إلى بلاد الصين من طريق بدخشان وصحراء غربي آسيا الوسطى، واستطاع أن يحظى بعطف ملك المغول قبلاي قاآن، وقد كلَّفه هذا ببعض الأعمال في بلاد الصين، ولما عاد إلى أوروبا في سنة ١٢٩٥م، جمع ثروات طائلة وأخبارًا مثيرة وقصصًا غريبة عن الشرقين؛ الأوسط والأقصى.
وخلف كتابًا جليلًا مفيدًا يحتوي على أوصاف رحلته، ومات بالبندقية سنة ١٣٢٥م.
٩  انظر: تاريخ العرب المطول، حتي ٢: ٥٣٧.
١٠  Dubeuse La Perse p. 346.
١١  تاريخ ابن خلدون ٥: ٥٦.
١٢  انظر: رحلة ابن بطوطة ١: ١٦٦.
١٣  انظر كتاب: Von Hammar: Hist. de l’ordre des assassins p. 219.
١٤  نفس المرجع، ص٢٥٧.
١٥  انظر: «تاريخ العرب المطول»، تأليف الأستاذ حتي ٢: ٥٣٨-٥٣٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤