الفصل الخامس

في الأحوال الخارجية

(١) الحروب الصليبية. (٢) التجارة الخارجية.

***

(١) الحروب الصليبية

(١-١) الحملة الأولى

تبتدئ الحملة الصليبية الأولى بين المسلمين ونصارى أوروبا في سنة ١٠٩٥م/٤٨٨ﻫ، أما النضال بين المسلمين والنصارى، فيرجع إلى عهدٍ أقدم؛ أي حين تمكَّن المسلمون أن يسيطروا على ما كان بيد دولة الروم الشرعية من أقاليم حوض البحر الأبيض المتوسط في الشرق، وحين سيطر على شبه جزيرة إيبريا في أوروبا؛ فقد تركت المسيحية للإسلام تلك الديار وفي نفسها حسرة، وكانت تفكِّر دومًا في استعادتها حتى استطاعت استعادة شبه جزيرة إيبريا، وقضت على الإسلام في المغرب العربي (بديار الأندلس). أما في المشرق فإن سلسلة الحروب والغزوات التي كانت بين المسلمين والروم منذ أيام عمر بن الخطاب إلى عهد ريكاردوس قلب الأسد في الحروب الصليبية، ثم في عهد الجنرالين اللنبي وغورو في الاحتلال البريطاني والفرنسي للشرق الأوسط، ثم في حملة قنال السويس الأخيرة وضرب مدينة بورسعيد من قِبل القوات الفرنسية والإنكليزية سنة ١٩٥٦م، ما هي إلا رد على حملات الإسلام الأولى التي أقضَّت تمضجع النصرانية.

لم تنقطع الحروب بين المسلمين والروم في آسية الصغرى منذ أيام بني أمية وبني العباس إلى عهد سيف الدولة، وكانت هذه الحروب سجالًا بين الجانبين، وقد اشتدت هذه الحملات قوةً في عهد سيف الدولة ونقفور فوكاس؛ فقد كان لسيف الدولة حملات قاسية كما كان لخصمه نقفور حملات مشابهة، وقد استطاع إمبراطور الروم نقفور في سنة ٩٦٤م/٣٢٢ﻫ طرد المسلمين من جزيرة إقريطس (كريت)١ وقد هدأت حملات الإمبراطورية البيزنطية فترةً، حين وقعت الحرب الأهلية بينهم، فخُلع الإمبراطور نقفور وحل محله حنا الشمشيق John Zimiskes المعروف بالدمستق، وقد كان هذا جبارًا ذا مطامع، وضع بيت المقدس أمام عينيه ولكنه مات ولم يصل إلى مطمحه لقوة الدفاع الإسلامي.
ويظهر أن الإمبراطورية الرومانية البيزنطية، قد وجدت نفسها محتاجة إلى الاستعانة بالغرب الكاثوليكي ضد المسلمين فعمدت إلى ذلك. ويذكر بعض المؤرخين أن الإمبراطور «ألكسيس كومنين» Alexés Comnène استنجد بروبرت كونت الفلاندر سنة ١٠٧١–١٠٩٣م حينما مرَّ به في سنة ١٠٨٧م وهو عائد من حجِّه إلى الأراضي المقدسة٢ ثم إنه كتب إليه رسالة بهذا الخصوص،٣ كما كتب إلى البابا إربان الثاني يستنجد به لتجهيز حملة ضد المسلمين.

والحق أن الحملة الصليبية الأولى في سنة ٤٨٨ﻫ/١٠٩٥م لم تكن إلا حجًّا مسلحًا، شجَّع عليه البابا، وأثار عواطف النصارى على ما يلقاه النصارى في المشرق، وبخاصة بيت المقدس، وذلك حين دعا إلى مؤتمر «كلير مونت» يوم الأحد في ١٨ كانون الأول سنة ١٠٩٥م/٤٨٨ﻫ، واتخذ المؤتمرون من نصارى أوروبا الكاثوليك قرارًا بإنفاذ الحملة الصليبية الأولى للأراضي المقدسة، وأخذ «المؤمنون» ينخرطون في الحملة، ولم يكتفِ البابا بذلك بل راح يطوف في أرجاء فرنسة وإيطالية داعيًا إلى الجهاد في سبيل إنقاذ مهد المسيح من المشركين.

وهناك شخصان قد لعبا دورًا هامًّا في حض الناس على المشاركة بهذه الحملة، وهما «بطرس» الناسك الذي جنَّ جنونه في الدعوة لهذه الحملة المقدسة، و«غوتيه المعدم» Gautier sans avoir ولما تم جمع المؤمنين خرج بطرس الناسك في نيسان سنة ١٠٩٦ ومعه خمسة عشر ألف صليبي، فساروا إلى القسطنطينية ووصلوها في ٢٠ تموز سنة ١٠٩٦م ثم تتابعت الحملات الأخرى كحملة «كودفروا دي بويون» Gaudfroi de Gouillon٤ التي وصلت في ٢٣ كانون الأول سنة ١٠٩٦، وحملة «ريموند» كونت «تولوز»٥ وحملة «تنكريدو٦ بوهيمند النرماندي» أمير «تارنت» في ١٥ نيسان سنة ١٠٩٧، وحملة الكونت «روبرت كورتهوز بن وليم» الفاتح وأخو «هنري الأول» ملك إنكلترا، وكان فيها عدد كبير من الأشراف والأساقفة والمؤرخ «فوشيه Fouchet» الذي خلَّف لنا تاريخًا يبيِّن فيه كثيرًا من أحوال حملته وصورًا مشرفة عن استقبال الروم للصليبيين، وقد اعترفت كل هاته الحملات الصليبية بولائها للإمبراطور البيزنطي، ووعدها بتسليم كل ما تسيطر عليه إليه، واسترجاع الأراضي التي اقتطعها المسلمون من مملكته.
ويقول ابن القلانسي مؤرخ دمشق، إن «الإفرنج عند ظهورهم عاهدوا ملك الروم ووعدوه بأن يسلِّموا إليه أول بلد يفتحونه، ففتحوا «نيقية».»٧ وهكذا خرجت هذه القوات الصليبية بقيادة «تنكريدو» و«كودفروا دي بويون» كما أنفذ معها الإمبراطور فرقة بيزنطية بقيادة ثاتيكبوس، فحاصروا نيقية ففتحوها وكسروا القوات السلجوقية، ثم ساروا جنوبًا، واصطدموا بجيش الأمير قيلج أرسلان السلجوقي فشتَّت شملهم في ٢٠ رجب سنة ٤٩٠ﻫ/تموز سنة ١٠٩٧م ثم أعادوا تجميع قواهم وكسروا المسلمين. ثم اتجهوا نحو «قونية» ووجدوها خالية، فاحتلوها ثم انقسموا ثلاثة أقسام؛ «أحدها» وجهته قيلقيا، «والثاني» إلى أنطاكية، «والثالث» إلى بلاد أرمينية.

أما حملة أرمينية فقد كانت بزعامة «بلدوين دي بويون»، ولا شك في أن اتجاهه ذلك الاتجاه هو انحراف عن الهدف الرئيسي للحملة التي جاءت ﻟ «إنقاذ» بيت المقدس، وما ذلك إلا لأن بلدوين كانت له مطامع شخصية في بلاد أرمينية.

وأما حملة أنطاكية وكانت بقيادة بوهيمند فقد وصلها، وكانت مدينة محصنة فيها أكثر من أربعمائة برج وحصن قائمة على الجبال المحيطة بها، وكان عليها القائد التركي «ياغي سيان»، ولما علم بمقدمهم حصَّنها واستغاث بدقاق أمير دمشق، وبكر بغا أمير الموصل، وبالسلطان بركياروق، واستطاع أن يصمد أمام الصليبيين إلى أن جاءه الغوث بقيادة دقاق أمير دمشق، والتحم الفريقان واشتد الأمر على الصليبيين واضطُر بطرس الناسك إلى الهرب، ولكن «تانكريدو» أرجعه، وباء الصليبيون بفشلٍ مريع، جعلهم يتراجعون ويجمعون قواهم من جديد، ومما زاد في قوَّتهم أن الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي الوزير الفاطمي قد بعث رسولًا إلى الصليبيين لعقد اتفاقية بينه وبينهم ضد السلاجقة المخالفين له في العقيدة، على أن يستقلوا هم بأنطاكية وتكون لهم الحرية الكاملة بإقامة شعائرهم في القدس، وقد رحَّب الصليبيون بهذه الاتفاقية، وأدركوا ما ينطوي عليه العالم الإسلامي من انقسام. ولما بلغت هذه الأخبار مسامع الملك رضوان السلجوقي صاحب حلب، تناسى خصومته لياغي سيان التركي، وقدِم إليه منجدًا بقوًى كثيرة، والتقى الجيشان وكانت الغلبة للصليبيين لمعاونة الأرمن والنصارى السوريين إياهم في حملتهم، واستمر تقدُّم الصليبيين إلى حلب والمعرة والبارة.

وقد فرِحت الدولة الفاطمية بهذا الانتصار الصليبي لسببين؛ «أولهما» الشماتة بالخلافة العباسية التي تؤيد السلاجقة، و«ثانيهما» اعتقادهم بأن حملة الصليبيين إنما هدفها القدس فقط. واستمر الصليبيون يتقدمون في الديار الشامية حتى سيطروا على بيت المقدس وقضَوا على الأمير افتخار الدولة حاكم القدس المصري في ١٣ تموز سنة ١٠٩٩ / ٢٣ شعبان سنة ٤٩٢ بقيادة «تانكريدو» و«غودفروا» بعد معارك دامية، استحال فيها المسجد الأقصى إلى بِركةٍ من الدماء؛٨ مما جعل هذه الوقعة لطخة في تاريخ الصليبيين كما يقول المؤرخ Grousset.٩ وقد بلغت أخبار هذه الفظائع دمشق، فبعث أميرها وفدًا إلى بغداد برئاسة زين الدين إلى سعد الهروي مستغيثين بالخليفة والسلطان السلجوقي، وأخذ الشعراء يصوِّرون للناس فظاعة هذه النكبة الكبرى حتى قال قائلهم:
أحل الكفر بالإسلام ضيمًا
يطول عليه للدين النحيبُ
فحقٌّ ضائعٌ وحِمًى مباحٌ
وسيفٌ قاطعٌ ودمٌ حبيبُ
وكم من مسجدٍ جعلوه ديرًا
على محرابه نُصِب الصليبُ
دمُ الخنزير فيه لهم خلوقٌ
وتحريق المصاحفِ فيه طيبُ١٠
على أن تملُّك الصليبيين للقدس قد أثار بينهم مشاكل داخلية استمرت قرنين حتى تهيأ للمسلمين استردادها، ولم تكن القدس هي المملكة الصليبية الوحيدة في ديار الشام، بل كان لهم هناك ثلاث ممالك أخرى في «أنطاكية» و«الرها» و«طرابلس»، كما قسَّم الصليبيون المدن الكبرى في الساحل الشامي إلى مستعمراتٍ أوروبية أنشأت فيها «مارسيلية» و«البندقية» وغيرها من المدن الإيطالية أحياء بِرُمَّتها.١١ وهكذا انتهت الحملة الصليبية الأولى التي يُقال إن عدد رجالها يقارب المليون.

(١-٢) الحملة الثانية

لما استشهد عماد الدين الزنكي أمير الشام، الذي كان شجًى في حلوق الصليبيين، طمع هؤلاء في استرداد ما أخذه منهم كالرها، ولكن ابنه محمودًا وقف أمامهم وقفةً قوية خيبت آمالهم، فاستنجدوا بأوروبا فبعثت إليهم في سنة ٥٤٢ﻫ بالحملة الثانية؛ وكانت مؤلَّفة من فرنسيين بقيادة الملك لويس السابع، وألمان بزعامة الملك كونراد الثالث، ومعهم عدد كبير من الفلامنديين والطليان، وقد كان عدد أفراد هذه الحملة مليونًا،١٢ ولما وصلت مراكبهم في سنة ٥٤٣ﻫ ساحل صور وعكا، ووصل المسافرون برًّا التقَوا في بيت المقدس فحجُّوا وصلَّوا صلاة الموت وعزموا السير إلى دمشق، ولم يشعر أهل دمشق إلا وملك الألمان وملك الفرنسيس احتاطا بدمشق فلقيهم الجيش الإسلامي وهزمهم وفرَّق جموعهم، وكان بقيادة مجير الدين أرتق بن محمد، ومعين الدين أتسز، وكانت الجيوش الموصلية بقيادة سيف الدين غازي، والجيوش الحلبية بقيادة نور الدين محمود، فسدَّد الجميع ضربات قاضية على رأس الجيش الصليبي، فتفرق أصحابه شذرَ مذرَ، ولكنهم عبثوا بالساحل الشامي بعد أن رحلوا عن دمشق.

واستطاع نور الدين أن يسيطر على الشام ومصر ويوحِّد إمارتها بقيادته، فخافه الصليبيون وحسبوا له حسابًا، وتقهقروا إلى السواحل، فلما مات سنة ٥٦٩ﻫ خلفه ابنه الملك الصالح إسماعيل.

ولكن صلاح يوسف بن أيوب صاحب مصر، رأى أنه من المتعذر إدارة البلاد إذا لم يحكمها رجل واحد قوي، فعزم على توحيد القطرين (مصر والشام) كما كان الحال أيام نور الدين، فتم له ذلك في سنة ٥٧٨ﻫ حين قصد الشام من مصر، ففتح طبرية وجنين والغور، وحاصر بيروت وعكا وفتحها، ثم سار نحو غرب الفرات حتى وصل آمد ثم رجع ففتح حلب، وبلغه أن الفرنج المقيمين بالقدس قصدوا دمشق، كما أن الفرنج المقيمين بالكرك والشوبك قصدوا المسير إلى المدينة المنورة لنبش قبر الرسول فرجع سريعًا وطردهم عن دمشق، ثم حاصر الكرك سنة ٥٨٠ﻫ وفتح نابلس. وفي سنة ٥٨٣ﻫ تجمَّع الصليبيون عليه فسار إليهم والتقى جمعاهما في «حطين» قرب طبرية، فأباد جموعهم وأسر ملك الفرنج الكبير، وصاحب الكرك، وصاحب جبيل، وقتل منهم أربعين ألفًا، ولم يبقَ منهم إلا خمسة آلاف أسلم منهم قسمٌ فأطلقه، ومَن لم يسلم أسَره. ثم سار إلى عكا ففتحها، ثم فتح الناصرة وقيسارية وحيفا وصفورية ودبورية وأكثر مدن فلسطين، وحاصر عسقلان والرملة وغزة والجليل واللد فاستسلمت جميعها. ثم نازل القدس وفيها رءوس النصرانية — الصليبية وملوكها — وضيَّق عليهم الخناق فطلبوا الأمان فقال: على شريطة أن يؤدي كل رجل عشرة دنانير، وكل امرأة خمسة، وكل طفل دينارين، ومن عجز أُسِر؛ فقبلوا وتسلم المدينة، وكان فيها ستون ألف رجل ما عدا النساء والأطفال، فوفَّى لهم بعهده وأجلُّوه وقدَّسوه، وكان فتح القدس هذا فتحًا مبينًا مخلدًا، أعاد الله على العرب مثله اليوم ليفتحوا الأراضي المحتلة من فلسطين ويطهِّروها من أوضار الصهيونيين الظالمين.

وفي ذلك اليوم الأغر يوم فتح القدس، يقول عبد المنعم الحلباني في قصيدته التي قالها مهنئًا صلاح الدين، رضي الله عنه:

وفيْتَ لهم حتى أحبُّوك ساطيًا
بهم ووفاءُ العهدِ قيْدُ المُخاصمِ
فخافوا فخابوا فانتدَوا فتلاوَموا
فقالوا خُذلْنا بارتكابِ الجرائمِ
وخُصَّ صلاحُ الدينِ بالنَّصرِ إذْ أتى
بقلبٍ سليمٍ راحمًا للمُسالمِ
فخطُّوا بأرجاءِ الهياكلِ صورةً
لك اعتقدوها كاعتقادِ الأقانمِ
يَدِين لها قسٌّ ويَرقى بوصفها
ويكتُبه يشْفى به في التَّمائمِ

(١-٣) الحملة الثالثة

بينما كان صلاح الدين على أسوار عكا سنة ٥٨٦ﻫ جاءته الأخبار من بلاد الروم أن ملوك أوروبا قادمون لينجدوا الصليبيين في الشام ومعهم مائة ألف صليبي، فحزن الناس وكانت هذه الحملة مؤلَّفة من ثلاثة ملوك هم «فريدريك باربروس» ملك ألمانيا الذي غرق في الطريق، و«فيليب أوغست» ملك فرنسة، و«ريكاردوس» قلب الأسد ملك إنكلترا، وقد وصلت الحملة إلى عكا، بعد أن فُتحت قبرص، فتلقتها جيوش المسلمين في عكا فردوهم عنها، ثم ساروا إلى يافا فأخلاها المسلمون ورأى السلطان تخريب عسقلان والرملة واللد، وسار إلى القدس، وراسله الصليبيون على الصلح، فلم يقبل ووقعت بين الجانبين معارك، ثم طلب ملك الإنكتار (الإنكليز) الصلح، فصالحه صلاح الدين بعد فشل المسلمين في الاستيلاء على عكا، وعُقدت الهدنة بين الجانبين في البر والبحر لثلاث سنوات وثلاثة أشهر، على أن تستقر بيد الفرنج موانئ يافا وعكا وقيسارية وأرسوف وحيفا، وتظل عسقلان خرابًا. واشترط السلطان دخول بلاد الإسماعيلية في الهدنة، واشترط الفرنج دخول أنطاكية وطرابلس في الهدنة، وأن تكون اللد والرملة مناصفة بينهما فتم ذلك. وكانت وفاة صلاح الدين بعد الهدنة بيسيرٍ، تغمده الله برحمته.

(١-٤) الحملة الرابعة

لما مات صلاح الدين واضطرب الأمر بين أولاده وابن أخيه الملك العادل، قوي الصليبيون وأخذوا يجمعون جموعهم لغزو المسلمين، ولكن ما عتَّم الملك العادل أن وضع يده على المملكة الأيوبية كلها، وتخلص من أولاد أخيه صلاح الدين، الأفضل، والظاهر، وتمَّ له ملك الشام ومصر. وحدث في سنة ٥٩٥ﻫ أن تجمَّع الفرنجة في حصن الأكراد والمرقب وأغاروا على حماة. ثم في سنة ٦٠٠ﻫ خرجوا إلى بيت المقدس فهُرع إليهم الملك العادل، واضطُروا إلى مهادنته، وتم الصلح على أن يسلِّم إليهم مدن يافا والناصرة واللد والرملة.

(١-٥) الحملة الخامسة

وفي سنة ٦٠٢ﻫ/١٢٠٤م قدِم على سواحل عكا جمعٌ عظيم من الصليبيين الألمان والنمساويين والمجر والهنكر فدخلوها، وانثالوا على المدن المجاورة والأيوبيون لاهون بالمشاكل بينهم، وقد غنم الصليبيون من المسلمين مغانم كثيرة، وكان في هذه الحملة كثير من الصليبيين الشبان المتحمسين من فرنسة وألمانية حتى سُمِّيت هذه الحملة بحملة الشبان. ولما مات الملك العادل في سنة ٦١٥ﻫ ازداد البلاء على المسلمين وطمعت الفرنج فيهم، واستولوا على كثيرٍ من ديار الشام ومصر، ولما استولى الفرنج على دمياط واتجهوا نحو المنصورة عظُم الأمر على بني أيوب وطلبوا إلى الفرنج الصلح على أن يتنازلوا لهم عن القدس وعسقلان وطبرية واللاذقية وجبلة وجميع ما فتح صلاح الدين من الساحل، ما عدا الكرك والشوبك، فلم يرضَ الفرنج، وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار لقاء تخريب سور القدس وقالوا لا بد من تسليم الكرك والشوبك. فجمع الأيوبيون صفوفهم وعزموا على لقاء عدوِّهم، وتم لهم النصر على الفرنج وأُسر ملكهم القديس وثلاثون ألفًا من رجاله.

وقال ابن أبي شامة: «وبلغني أن النصارى ببعلبك سوَّدوا وسخَّموا وجوه الصور في كنيستهم حزنًا على ما جرى على الفرنج.» ولم يكن سبب تسليم القدس ثانية للصليبيين آتيًا من ضعف القوى الإسلامية، بل للخلاف بين الملكَين الكامل والمعظم؛ فقد كان الكامل يخشى إن توجَّه لمقاتلة الإمبراطور فريدريك قائد الحملة السادسة أن يفاجئه الملك المعظم؛ ففضَّل تسليم القدس إلى فريدريك، ولله في خلقه شئون.

(١-٦) الحملة السادسة

قاد هذه الحملة الإمبرور فريدريك الثاني صاحب صقلية سنة ١٢٢٨م/٦٢٤ﻫ؛ فقد كان داهية سياسيًّا، لم يدخل في حرب، ولكنه فاوض الملك الكامل الأيوبي على استلام القدس وبيت لحم والناصرة، وهي المحلات المقدسة عند المسيحيين، فأجابه إلى ذلك لمدة عشر سنوات، على ألا يتعرضوا لقبة الصخرة ولا المسجد الأقصى، ويكون الحكم في الرساتيق المجاورة إلى والي المسلمين.

ولما بلغت هذه الأخبار إلى العالم الإسلامي قامت قيامة الناس على سوء تصرُّف الملك الكامل، وأُقيمت المآتم، فحدقت قلوب أهل دمشق على الملك الكامل وفسد أمره من ذلك الحين، وساءت أمور الأيوبيين حتى استمد بعضهم بالفرنج،١٣ وظلت البلاد في اضطرابٍ حتى الزحف المغولي.

ولما جاء هولاكو سنة ٦٥٧ﻫ قضى على الجميع، وظلت القدس بأيدي الصليبيين إلى أن استردها الملك الصالح أيوب في سنة ٦٣٧–٦٤٧ﻫ بمساعدة الخوارزميين.

(١-٧) الحملة السابعة

في سنة ٦٩٠ﻫ/١٢٧٠م عزم الملك القديس لويس التاسع، ملك فرنسة بعد أن خرج من الأسر وعاد إلى بلاده، على أن يسترجع بيت المقدس وينتقم لنفسه من المسلمين الذين أسروه في المنصورة، ولم يتخلص منهم إلا بمبلغٍ جسيم، فأخذ هو وأخوه يجمعان جموعهما لفتح تونس ومصر والشام واحتلال القدس، ولكن ذلك لم يتم؛ فقد مات في تونس بالطاعون سنة ١٢٧٠م/٦٩٠ﻫ، وقُضي على الحروب الصليبية. وهكذا انتهت هذه الحروب بعد أن دامت قرنين من سنة ٤٩١ﻫ إلى سنة ٦٩٠ﻫ، وقد كان لها نتائج خطيرة نُجمِل بعضها بالنقاط الآتية:
  • (١)

    إن حملات الصليبيين عاقت المسلمين عن التقدم والسير في سبيل الحضارة التي كانوا يسيرون إليها بخطواتٍ سريعة في العصر العباسي الأول، ثم بخطواتٍ بطيئة في العصر الثاني والثالث.

  • (٢)

    أفادت تلك الحملات الصليبيين فوائدَ جليلة لأنها أطلعتهم على مقدار الحضارة والتقدم في ديار الإسلام والروم معًا.

  • (٣)

    نقل الصليبيون بعد هذه الحملات صناعات كثيرة عن بلاد الشام ومصر، كصناعة الورق والنسيج والحديد والأسلحة والزيوت.

  • (٤)

    أفاد الأوروبيون الصليبيون وبخاصة الطليان من بنادقة وجنويين وبيسيين، فوائدَ مادية جُلَّى في التجارة والاقتصاد من المشرق حتى بعد انتهاء هذه الحروب.

  • (٥)

    كان من جرَّاء هذه الحروب إيقاد روح التعصب المقيت بين المسلمين ومَن في بلادهم من أهل الذمة بعد أن كادت هذه الروح تنمحي، وقد لقيت منها بلاد الإسلام شرًّا مستطيرًا.

  • (٦)

    استفاد الصليبيون كثيرًا من ثقافة العرب والمسلمين فدخلت لغاتهم كثير من الكلمات العربية، وتطعمت آدابهم بالآداب العربية، ونقلوا كثيرًا من كتب العلم والفن والحكمة، من شرح فلسفة أرسطو إلى كتب علم الطبخ والموسيقى والأزياء والأقمشة والزهور والبقول والنبات.

  • (٧)
    نقل الصليبيون كثيرًا من أصول الهندسة البنائية وريازة العمران Architecture وتجلَّى ذلك في كثيرٍ من الأبنية من قصورٍ وكنائس التي زخرفوها بالأرابسكا Arabesques.
  • (٨)
    نقل الصليبيون كثيرًا من عادات أهل الشام ومصر إلى ديارهم، كما تأثَّر المسلمون بالصليبيين في كثيرٍ من عاداتهم في البيوع والتجارة واللباس والطعام.١٤

(٢) التجارة الخارجية

قويت في هذه الفترة الصلات التجارية الخارجية بين المسلمين وبين الروم وأوروبة وجزر البحر الأبيض المتوسط قوةً واضحة، وكانت تجارات العراق والمشرق تقلع من موانئ صور وطرابلس — أكبر موانئ الساحل الشرقي — إلى سواحل القسطنطينية في بحر إيجة وخليج البندقية، وبحر تيطس (الأسود) وجزر قبرص ورودس وإقريطس.

كان هذا كله قبل الحملات الصليبية، أما بعد أن كانت هذه الحملات، فقد ازدادت الصلات التجارية الخارجية، وتوثقت جدًّا، ويقول بيكولوتي: «إن أربع موانئ هي: عكا، وبيروت، وطرابلس، واللاذقية، وخمس مدن داخلية هي: الرملة، ودمشق، وحماة، وأنطاكية، وحلب، قد استفادت من التجارة مع اللاتين ولا سيما البيسيين، والجنويين، والطسقانيين، وكلهم إيطاليون، وهذه الجمهوريات الأربع، بيزة وجنوة والبندقية وطسقان، التي كانت تقتسم إيطاليا، هي أول مَن اتجر مع الشام من أمم الغرب وجاراهم بعض تجار من أهل بلجيكا وإنكلترا، ثم عدلوا لبُعد بلادهم. وكان لهؤلاء الطليان والفرنسيين من التجار — أمالفي ومارسيليا — مكاتب تجارة في الإسكندرية، وفي المدن الساحلية والداخلية في الشام يقايضون بواسطتها حاصلات الشرق مع حاصلات الغرب، ولما فتح الجنويون ثم البنادقة جزيرة قبرص، زادت صلات الشام مع هذه الجزيرة التي هي على بُعد ٩٣ كيلومترًا من ساحل الشام.»١٥ وعقد صلاح الدين في ١٥ صفر سنة ٥٦٩ﻫ/١١٧٢م معاهدة تجارية بينه وبين جمهورية بيزا منح البيسيين عدة امتيازات، وتقاضى منهم مقابلها ضرائب معينة.

وكان لأهل الجمهوريات الإيطالية مزايا كثيرة في ديار الشام، كما كانت لهم مراكز في مصر، واعتاد الأوروبيون بعد الحروب الصليبية على كثيرٍ من بضائع الشرق الإسلامي وأغذيته، فقويت الصلات بين الجانبين، وأصبحت جزيرة قبرص بمكانةٍ رفيعة لأنها النقطة المتوسطة بين أوروبة وديار الشام ومنافذ النيل.

قال المؤرخ صالح بن يحيى صاحب تاريخ بيروت: «إن مراكب البنادقة أخذت تتردد إلى بيروت بعد الحروب الصليبية بالمتاجر قليلًا قليلًا، وكانت مراكب البنادقة تحضر إلى قبرص، فيرسل صاحب قبرص بضائعهم في شونتين١٦ كانتا له إلى بيروت نقلة بعد أخرى، وكان للقبارصة جماعة فيها، ولهم فيها خانات وحمامات وكنائس ثم بطل ذلك.» وكان على ميناء بيروت دواوين وعمال ومشارفون وشادٌّ١٧ يوليهم نائب دمشق.» يقول الأب لامنس: «في سنة ١١٣٦م جاءت مراكب فرنسية وعليها تجار فرنسيون من مرسيليا، ثم أخذت بعض مرافئ فرنسة كمونبيليه وآرل تبعث بسفنها إلى الشرق، وبذلت جنوة جهدها لتبقى لها الأفضلية في التجارة مع الشام، وكانت عكا المرفأ الأعظم أولًا بين موانئ الشام وقاعدة التجارة ومركز القناصل العامين، ثم مرافئ صور وطرابلس والسويدية التي كانت تُسمَّى ميناء مارسمعان ثم بيروت، ومنذ القرن الخامس عشر تقدمت بيروت سائر موانئ الشام، أما البضائع التي كان التجار الفرنج ينقلونها إلى بلادهم، فأهمها الحرير والقطن والكتان والأنسجة من حريرية وقطنية ومزركشات ومذهبات وشغوف ومناديل مما يُصنع في معامل الموصل وحلب وحماة وحمص ودمشق، وكان الزجاج العراقي والصوري والطرابلسي موضع إعجاب الأوروبيين، فكان يُنقل إليهم. وكان للسكَّر ومصنوعاته والبهارات والتوابل وغير ذلك مما تستورده أسواق حلب من الهند والعجم سوقٌ رائجة في أوروبا. أما السفن التي كانت ترد من أوروبا إلى المشرق فكانت تحمل جوخ الفلاندر والآلاف من حجاج بيت المقدس.»
ومما تجدر الإشارة إليه أن الأوروبيين بدءوا منذ ذلك الحين يقيمون قنصليات لهم في هذه الديار، ويُقال إن أول قنصل كان للبنادقة هو «فرنسيسكو واندللو» وكان في دمشق سنة ١٣٨٤ﻫ، ويقول الأب لامنس: «إن أول ما ورد اسم القنصل في حملة النزالة الجنوبية التي كانت في عكا أواسط القرن الثاني عشر، وأنهم قد دعوه أولًا نائب القومص أو القومس Vicont Vicecong ثم انتشرت هذه الرتبة في أماكن شتى في النصف الثاني من ذلك القرن، وعُرف أصحابها بالقناصل، وأُطلق أولًا على الإيطاليين، وبعد زمنٍ طويل صار للفرنسيين قنصل.» ويذكر Rey في كتابه: Les Colonies Francaises en Syrie، ص٧ «أن قناصل فرنسة في مدن صور وجبيل وأنطاكية كان لهم الإشراف على الفنادق الموسومة باسمهم، وقد بالغت بعض الجوالي الأجنبية فأقامت لها محاكم خاصة للنظر في قضاياهم التجارية، كما أقاموا سجونًا لتنفيذ عقوبات مَن يُحكم عليه من رعاياهم.»١٨
١  انظر كتاب: Rousset: La Premiée Crisade p. 29.
٢  انظر كتاب: Valisiev: L’Empire Byzantin, p. 468.
٣  وقد شكَّ بعض المؤرخين في صحة هذه الرسالة. انظر حسن حبشي في: «الحروب الصليبية الأولى»، ص٣٠٠.
٤  يسميه العرب «كدفري».
٥  يسميه العرب «قومس طولوشة».
٦  يسميه العرب «تنكري» Tankrède.
٧  ذيل تاريخ دمشق لابن القلانسي، ص١٣٥.
٨  أبو الفداء ٤؛ وابن الأثير ١١: ١٩٨.
٩  انظر كتابه: Hist. de Croisdes I, 165.
١٠  ابن الجوزي، مرآة الزمان، ص٥٢٢.
١١  خطط الشام، كرد علي ٣: ٢٧٨.
١٢  خطط الشام، كرد علي ٢: ١٩.
١٣  خطط الشام، تأليف: محمد كرد علي ٢: ١٠٣.
١٤  انظر: خطط الشام للمرحوم محمد كرد علي (الجزء الثاني)؛ وتاريخ أبي الفداء؛ وتاريخ ابن الأثير؛ وتاريخ ابن القلانسي؛ وكتاب Grausset, Hist. des Croissades وكتاب: Rousset, la Premiére Croissade وكتاب Vasiliev, L’Empire Pizantin.
١٥  خطط الشام ٤: ٢٦٢.
١٦  الشونة: هي مركب تجاري كبير.
١٧  شاد الميناء: هو الموظف الجمركي الذي يشرف على المراكب التجارية الواردة والصادرة ويتقاضى منها الأموال لبيت المال، ومثله العامل، والمشارف.
١٨  انظر تفصيل ذلك في كتاب الأستاذ حبشي: «نور الدين والصليبيون»، ص١٤٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤