الفصل السابع

في الوضع الاجتماعي

(١) العاصمة. (٢) السكان. (٣) الأخلاق. (٤) الملابس.

***

(١) العاصمة

تعددت العواصم في هذه الفترة، فذهبت عن بغداد نضارتها، وعمَّتها الكآبة والخراب لِما مر عليها من صروف الدهر ونكبات الأيام. وقد صوَّرها لنا الرحالة ابن جبير الذي زارها في سنة ٥٨٠ﻫ، فقال: «هذه المدينة العتيقة، وإن لم تزل حضرة الخلافة العباسية ومثابة الدعوة الإمامية القرشية الهاشمية، قد ذهب أكثر رسْمها ولم يبقَ منها إلا شهير اسمها، وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها، والتفات أعيُن النوائب إليها، كالطلل الدارس والأثر الطامس، فلا حسن فيها يستوقف البصر، ويستدعي من المستوفز العقلَة والنظر، إلا دجلتها التي هي بين شرقيِّها وغربيِّها منها كالمرآة المجلوة بين صفحتين أو العقد المنتظم بين لبتين … أما الجانب الغربي فقد عمَّه الخراب، واستولى عليه، وكان المعمور أولًا، وعمارة الجانب الشرقي محدثة لكنه مع استيلاء الخراب عليه، يحتوي على سبع عشرة محلة، كل محلة منها مدينة مستقلة، في كل واحدة منها الحمامان والثلاثة، والثماني منها بجوامع يُصلي الجمعة، فأكبرها القرية، ثم الكرخ وهي مدينة مسورة، ثم محلة باب البصرة، وهي أيضًا مدينة وبها جامع المنصور، ثم الشارع وهي أيضًا مدينة، فهذه الأربع أكبر محلات … وأما الشرقية فهي دار الخلافة … قد اتُّخذ فيها المناظر المشرفة، والقصور الرائعة، والبساتين الأنيقة، والشرقية حصينة الأسواق، عظيمة الترتيب، وبها من الجوامع ثلاثة: جامع الخليفة، وجامع السلطان، وجامع الرصافة، وحماماتها لا تُحصى عدة، ذكر لنا أحد أشياخ البلد أنه بين الشرقية والغربية نحو الألفي حمام، وأكثرها مطلية بالقار مسطحة به، فيُخيل للناظر أنه رخام أسود صقيل لكثرة القار عندهم، والمدارس بها نحو الثلاثين، وهي كلها بالشرقية، وما منها مدرسة إلا وهي يقصِّر القصر البديع عنها، وأعظمها وأشهرها «النظامية».»١

(٢) السكان

كان سكان بلاد الإمبراطورية الإسلامية في هذا العهد هم سكانها الذين حدثناك عنهم في العهد السابق، إلا أن العناصر البارزة منهم هي العناصر الطورانية؛ فالسلاجقة والخوارزمية والأتابكية هم من التركمان والأتراك الطورانيين الذين كانت ديارهم في تركستان مما وراء النهر، ثم انثالوا منه إلى إيران فالشرق الأوسط، وهم قوم أشداء محاربون، عُرفوا بذلك منذ زمن الجاحظ، فقد أطنب في رسالته التي ألَّفها عنهم في تفضيلهم، وبيان مزاياهم وشجاعتهم حتى يقول: «ومزية الأتراك في الحروب، وهم كذلك أصحاب عمد، وسكان فيافٍ، وأرباب مواشٍ، وهم أعراب العجم، كما أن هذيلًا أكراد العرب، لم تشغلهم الصناعات ولا التجارات ولا الطب والفلاحة والهندسة ولا غراس ولا بنيان، ولا شق أنهار ولا جباية غلات، ولم يكن همُّهم غير الغزو والغارة والصيد وركوب الخيل ومقارعة الأبطال وطلب الغنائم، وتدويخ البلاد، ولذتهم في الحروب، وهي فخرهم وحديثهم وسمرهم، وقد اتصفوا بالصفات التي تستتبع النجدة والفروسية من الكرم وبُعد الهمة وطلب الغاية والحزم والعزم والصبر.» وعلى الجملة فقد كان لهؤلاء الأتراك — من تركمان وديلم وخوارزم — سلطان كبير في هذا العهد الذي نؤرخه.

ومن سكان الإمبراطورية الإسلامية في هذا العهد الصليبيون من أمم أوروبا فقد أقاموا في الشام قرنين، اختلطوا فيها بالسكان، وعلى الرغم من الفتن والحروب بين الطرفين؛ فإن كلًّا من الجانبين قد أثَّر في الجانب الآخر، وأفاد من مزاياه وتضرر بعيوبه، وقد فصَّلنا ذلك في كلامنا على نتائج الحملات الصليبية. يقول ابن جبير إنه كان بين الجانبين حدٌّ يُعرف بحد المقايسة، فهم يتشاطرون الغلة على استواء ومواشيهم مختلطة لا حيف يجري بينهم فيها.٢ وقد كان هؤلاء الصليبيون ثلاث طبقات:
  • (١)

    طبقة العبيد الذين كان يحضرهم التجار الجنويون والبنادقة إلى الشام من جورجيا وروسيا وأرمينية، وكان هؤلاء على شر حالة، ولم يكن الصليبيون يسمحون ببيع الرقيق المسيحي إلى المسلم، والعكس بالعكس، وكان الأسرى من الجانبين، المسلمين والصليبيين، يعاملون معاملة الرقيق، إلا في حالاتٍ خاصة كأن يكون الأسير شريفًا أو شخصية معروفة.

  • (٢)

    طبقة التجار والزراع والموظفين، وقد كان هؤلاء موضع احترام الجانبين من مسلمين وصليبيين.

  • (٣)
    طبقة الأشراف والنبلاء ورجال الكنيسة وهؤلاء كانوا يعيشون في ترفٍ ويسر، ولهم إقطاعات وقد جمعوا ثروات ضخمة، وكانت لهم قصور فخمة لا تقل عن قصور أمراء المسلمين رونقًا وفخامة.٣
ومن طرائف أخبار الصليبيين والمسلمين أنهم كثيرًا ما كانوا يتناسون أحقادهم وتراثهم في الحروب ويجتمعون معًا في الحفلات العامة من أعراس وولائم، وقد حفظ لنا أسامة بن منقذ الأديب الشاعر والكاتب المعاصر، وأحد فرسان المسلمين وأدبائهم في أيام الصليبيين في «كتاب الاعتبار» صورًا رائعة من الصلات الاجتماعية بين الجانبين، كما يذكر الرحالة ابن جبير أنه حضر إحدى حفلات لزواج صليبي في صور، ووصفها لنا وصفًا دقيقًا، فقال: «إن الرجال والنساء قد اصطفوا صفين عند باب العروس وراحت الأبواق والمزامير وجميع الآلات اللهوية حتى خرجت العروس تتهادى بين رجلين يمسكانها من يمينٍ وشمال، كأنهما من ذوي أرحامها، وهي في أبهى زي وأفخر لباس، تسحب أذيال الحرير المذهب سحبًا على الهيئة المعهودة من لباسهم، وعلى رأسها عصابة من ذهب قد حُفَّت بشبكة ذهب منسوجة، وعلى لبتها مثل ذلك منتظم، وهي رافلة في حليها وحللها تمشي فترًا في فتر، وأمامها جلة رجالها من النصارى في أفخر ملابسهم، ووراءها أكفاؤها ونظراؤها من النصرانيات، يتهادين في أنفس الملابس، وقد تقدمهم المسلمون وسائر النصارى من النظَّار قد عادوا في طريقهم محاطين يتطلعون ولا ينكرون عليهم، فساروا حتى أدخلوها في دار بعلها.٤ وكان جمهور المسلمين يؤاخي الصليبيين وربما صلوا في بقعةٍ واحدة كل يقوم بشعائره.٥ ويحدثنا أسامة بن منقذ: أنه وجد في بيت المقدس أيام أخذ النصارى إياه، أنهم بنوَا في أحد أجزائه كنيسة لهم، وأن أسامة زارها، وكان المسجد الأقصى تحت حماية الداوية من الصليبيين، وكانت بين أسامة وبينهم مودة، فإذا زارهم أكرموه،٦ وكانت له معهم ومع أمرائهم أخبار وقصص تدل على الصداقة والمودة الصحيحة، وقد ضمن ذلك في كتابه «الاعتبار».٧

(٣) الأخلاق

ضعف الوازع الديني هذه الفترة في الإمبراطورية الإسلامية لتكالب الناس على الدنيا، وتلبية الشهوات النفسية، وفشو الباطنية المشككين في الأديان الداعين إلى الانسلاخ من تعاليم الإسلام وشعائره، وقد رأينا طرفًا من ذلك فيما مضى.

تجدر الإشارة ها هنا إلى أن وجود الملاحدة قد قوَّى من جانبٍ آخر الروح الدينية عند جماعة من المسلمين حينما رأت فساد هؤلاء وبُعدهم عن الدين، فازدادت تعلقًا به، وغالت في عبادة الله والانصياع لأوامره وإقامة شعائره، وهم الصوفية والزهاد الذين قويت حركتهم في أواخر العصر العباسي، وبخاصة تحت ظل الخوارزمية والأتابكية. وكان على رأس هؤلاء المتصوفة جماعة منهم الشيخ عبد الكريم بن هوازن القشري ٤٣٧ﻫ/١٠٤٥م (مؤلف الرسالة القشرية)، والإمام الغزالي، ومحيي الدين بن عربي، والجيلي، وابن الفارض، وسعدي، وحافظ الشيرازيان.

ومن مظاهر الأخلاق التي أراد المصلحون تقويمها بها «حركة الفتوة» التي رعاها الخليفة الناصر لدين الله وشجَّع عليها ووجَّه الشبان إليها ليتركوا حياة الترف والفساد، ويتمرنوا على جهاد النفس، وينخرطوا في فرق الجندية التي تقوي أجسادهم وتهيئهم للقاء العدو بعد تلك الميوعة والتخنث والفساد الذي صاروا إليه.

(٤) الملابس

كان من نتائج اتصال الشرق بالغرب بعد الحملات الصليبية أن تشبَّه الصليبيون بالمسلمين في ملابسهم، كما أن كثيرًا منهم تزوجوا نصرانيات أرمنيات أو عربيات، ولا شك في أن ذلك البيت المختلط قد أصبح أثاثه ولباس أهله مختلطًا كذلك، فقد أخذ الصليبيون عن المسلمين استعمال «الكوفية» ووضعوها حول القبعة القصيرة الجوانب وعمدوا إلى إطالة ملابسهم وتحليتها بالجواهر والأحجار الكريمة على عادات الشرقيين، وصاروا يلبسون «الكلوتة»، وهي نوع من ألبسة الرأس تشبه الطربوش ويؤثَر عن «بُلدوين» الأول (سنة ١١١٠–١١١٨م) أنه كان على الرغم من قرب عهده ببلاده كان يؤثِر الألبسة الإسلامية،٨ وكانت السيدات الصليبيات يأخذن عن النساء المسلمات كثيرًا من ألبستهن وأنماط زينتهن، فكن يطلن الثياب ويجرجرن أذيالهن، حتى إن بعض الأسر الصليبية صارت تفرض على بناتها إذا بلغن الحلم، أن يضربن بخمرهن على وجوههن، ويمنعنهن أن يخرجن سافرات، بل إنهم ما كانوا يسمحون لهم بالخروج من البيوت إلا للضرورة كالذهاب إلى الكنيسة والحمام، كما كان حال المسلمات اللواتي لم تكن تسمح لهم إلا بالذهاب إلى المساجد والحمامات. وربما نقل بعض الصليبيين عادات المسلمين إلى بلادهم؛ فقد روى المؤرخ روي Rey: أن نساء الطبقة الوسطى من أهل البندقية كن يعشن عيشة شرقية خالصة، بل إنهن ما كان يُسمح لهن بالخروج إلى الكنائس نظرًا لوجودها ملحقة في قصورهن.٩
وأخذ الصليبيون من المسيحيين صناعة السيوف والأسلحة الأخرى، وصاروا يتزينون بهذه الأسلحة، وكانت دمشق والقاهرة مشهورتين بصنع السيوف والرماح.١٠

أما بعد؛ فهذه صورة مجملة عن الأمة العربية الإسلامية في العصر الذي نؤرخه، وهي كما ترى صورة قاتمة من بعض النواحي مشرقة من بعضها الآخر، ولكنها على كل حال صورة واضحة الملامح بقيت فيه الشخصية العربية الإسلامية ظاهرة القسمات.

أما فيما بعد هذا العصر، وهذا ما سنكشفه لك في الجزء المقبل، فقد تبدَّلت الأحوال من سيئٍ إلى أسوأ.

١  الرحلة، ص٤٥٣.
٢  رحلة ابن جبير، ص٤٥٤-٤٥٥.
٣  الاعتبار لأسامة بن منقذ، ص١٠٧.
٤  ابن جبير: الرحلة، ص٢٨٨.
٥  ابن جبير: الرحلة، ص٢٨٦.
٦  الاعتبار لأسامة بن منقذ، ١٣٤-١٣٥.
٧  الاعتبار لأسامة بن منقذ، ص٦٥، ٨٧، ١١٩.
٨  انظر كتاب: Brehier: L’Eglise et l’Orient. p. 61.
٩  حبشي، «نور الدين والصليبيون»، ص١٥٦.
١٠  انظر كتاب: Rey: Colonies Franҫais. p. 90.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤