الألفاظ الإدارية

(١) مصالح الدولة

كانت مصالح الدولة قبل الإسلام عبارة عن مناصب كبار الأمراء من قريش في الكعبة، كالسدانة والسقاية والرفادة والقيادة والمشورة والأعنة والسفارة والحكومة والعمارة وغيرها، وكلها عربية يدل لفظها على معناها. فلما ظهر الإسلام وفتح المسلمون الشام والعراق ومصر وفارس، أنشَئوا على أنقاض دولتَي الروم والفرس دولة دوَّنوا فيها الدواوين، ونظَّموا الجند، وسنُّوا القوانين على ما اقتضاه تمدنهم مما لم يكن له مثيل في جاهليتهم، فاضطُرُّوا للتعبير عن ذلك إلى ألفاظ جديدة فاستعاروا بعضها من لغات القوم الذين أقاموا بينهم وخاصة الفرس واليونان والرومان، واستعملوا لما بقي ألفاظًا عربية حوَّلوا معانيَها حتى تؤدِّي معاني تلك الموضوعات، كما فعلوا في الاصطلاحات الشرعية واللغوية. ولو شئنا ذكر كل ما استُحدِث من تلك الألفاظ لما وسعه غير المجلدات، فنكتفي بالأمثلة.

(١-١) الألفاظ الإدارية العربية

أول الألفاظ الإدارية التي استُحدِثت في الدولة العربية «الخليفة»، فإنها كانت تدل في الأصل على من يخلف غيره ويقوم مقامه بدون تخصيص، ثم انحصر معناها فيمن يخلف النبي وأول الخلفاء أبو بكر، ومنها صارت تؤدِّي معنى «السلطان يحكم بين الخصوم، والسلطان الأعظم، والمحكم الذي يستخلف من قبله.» ويُقال نحو ذلك في سائر مناصب الدولة، كالوزارة والإمارة والنقابة والكتابة والحجابة والشرطة ونحوها.

فإن الوزارة كانت تدل على المعاونة، ثم تغير معناها باختلاف الدول واختلاف حال الوزراء فيها، ويشتق دار مستتر لفظ الوزير من أصل فارسي قديم (بهلوي) هذا نطقه «ويجيرا»، ومعناه حكم أو أقر.

•••

ومثل ذلك «الكاتب»، فقد رأيت فيما تقدم أن الأصل في دلالة «كتب» الحفر على الخشب أو الحجر لأنهم كانوا يكتبون بالحفر، فلما كتبوا بالمداد صار معناها الكتابة المعروفة. ولما ظهر الإسلام احتاجوا إلى من يكتب السُّوَر فكان الذين يكتبونها يُسمَّوْن كَتَبَة الوحي، وكان بعضهم يكتبون بين الناس في المدينة. فلما تولَّى أبو بكر استخدم كاتبًا يكتب له الكتب إلى العُمَّال والقُوَّاد، ولمَّا تولَّى عمر ودوَّن الدواوين استخدم الكَتَبة لضبط أسماء الجند وأعطياتهم، فصار الكاتب يدل على الكتابة والحساب. ولما استبدَّ الكُتَّاب في الدولة المصرية وغيرها صار الكاتب بمعنى الوزير، ويراد بالكاتب الآن العالِم المنشئ.

ومن ذلك لفظ «الدولة»، فقد كانوا يريدون «انقلاب الزمان، والعقبة في المال، والفتح في الحرب»، ثم دلوا به على المَلِك ووزرائه ورجال حكومته، ولم يكن لها هذه الدلالة قبلًا.

و«الحجابة» تدل في الأصل على السر والمنع فالحاجب الساتر أو المانع، فكان حاجب الخليفة من أصغر رجال الدولة. فلما ضعف الخلفاء واستبدَّ الحُجَّاب صار معنى الحاجب عندهم مثل معنى الوزير.

•••

وقِسْ على ذلك سائر مناصب الدولة، كالإمارة والشرطة والقضاء والحسبة والنقابة والإمامة، وغيرها من اصطلاحات الجند كالمسترزقة والمتطوعة والعلوفة والعسكر، وضروب الحرب وأبواب الهجوم كالزحف والكر والفر والبيات والكفاح والغرة، وصنوف الأسلحة كالدبابة والكبش والعرادة وغيرها. ناهيك باصطلاحات الدواوين على إجمالها، كقولهم الثغور والعواصم والإقليم والقصبة والعمل والولاية والضياع والحكومة والسكة والتوقيع والوظيفة والخراج والجزية والعشور والمرافق والصوافي والجوالي والجباية والوقف والمصادرة والمستغَلات والصدقة والمكوس والمراصد ودار الضرب والضمان والدفاتر والجرائد والخرائط والإيغار والراتب والجاري والعطاء والبيعة والدعوة والختم والخطط والمطالعة والمؤامرة، وغير ذلك كثير جدًّا.

فالألفاظ المذكورة عربية الأصل وأكثرها معروف قبل الإسلام، ولكن مدلولاتها تغيرت بتغير أحوال المسلمين بعد إنشاء دولتهم، إذ حدث بإنشائها معانٍ جديدة اضطُرُّوا في التعبير عنها إلى ألفاظ جديدة، فنوَّعوا ما عندهم إمَّا عمدًا أو عفوًا فصارت إلى ما هي عليه.

ﻓ «الخراج» مثلًا كان معناه في الجاهلية الكراء والغلة، ويدل ذلك على معنى ضرب الخراج في الإسلام، فإنهم كانوا يعدون الأرض ملكًا لهم وقد سلَّموها لأهلها على سبيل الإيجار بالكراء، فصار معنى الخراج بعد ذلك «ما وُضِع على رقاب الأرض من حقوق تُؤدَّى عنها»، ثم صار الخراج مقاسمة أو مساحة أو سَيْحًا أو سقيًا، وأكثرها ألفاظ جديدة لمعانٍ جديدة.

و«الحكومة» كانت تدل في الجاهلية على الفصل بين المتخاصمين لأنها مصدر حَكَم أي قَضَى، وتلك كانت أعمال صاحب الحكومة في الجاهلية، ثم تحوَّل معناها إلى «أرباب السياسة أو رجال الدولة».

و«السكة» في الأصل الحديدة المنقوشة التي كانوا يضربون عليها النقود، ثم سُمِّيَت النقود بها، واشتقوا منها الأفعال والأسماء لهذا المعنى.

•••

و«التوقيع» الأصل فيه «التأثير»، من قولهم: «وقَّع الوبر ظهر البعير توقيعًا»: أثَّر فيه، ثم استعملوه في الإسلام لما يوقِّعه الكاتب على القصص المرفوعة إلى الخليفة أو السلطان أو الأمير، فكان الكاتب يجلس بين يدي السلطان في مجالس حكمه، فإذا عرضت قصة (عرضحال) على السلطان أمر الكاتب أن يوقِّع عليها (يؤشِّر) بما يجب إجراؤه، ثم تحوَّل معناها إلى اسم علامة السلطان كالإمضاء عندنا. وعلى نحو هذا النمط تحوَّل معنى «الإمضاء» اليوم إلى التوقيع ومعناه في الأصل «التنفيذ»، فكان توقيع السلطان على القصة عبارة عن أمر رجال الدولة في إمضائها أي تنفيذ توقيعه، ثم تحوَّل معناها إلى التوقيع أي وضع العلامة على الصكوك ونحوها.

ومن هذا القَبِيل «الوظيفة»، فإن الأصل في معناها «ما يُقَدَّر من عمل وطعام ورزق وغير ذلك»، ومنها «وظَّف عليه الخراج ونحوه» أي قدَّره، فاستعملها كُتَّاب الدولة العربية لهذا المعنى مع بعض الانحراف فقالوا: «وظَّف الرجل توظيفًا: عيَّن له في كل يوم وظيفة»، فالموظف هو الذي يأخذ الوظيفة أو الراتب، ثم توسَّعوا في لفظ الوظيفة فدلُّوا بها على المنصب أو الخدمة المعينة، والمشهور أن استعمالها لهذا المعنى من اصطلاحات هذا العصر، ولكنه أقدم من ذلك كثيرًا فقد استعملها لهذا المعنى جماعة من فحول الكتبة، كابن خلدون في مقدمته والمقريزي في خططه وغيرهما. وتولَّد في أثناء تحوُّل هذه اللفظة إلى هذا المعنى ألفاظ أخرى تقوم مقامها في معناها الأول، كالراتب والجاري والماهية (وهذه فارسية الأصل من «ماه» شهر، والماهية الشهرية.) واستحدثوا لفظة أخرى للمنصب لم يكن لها هذا المعنى من قبل وهي «الخطة»، فمعناها في «القاموس» «الأرض التي تنزلها ولم ينزل بها نازل قبلك»، و«الخطة» بالضم «الخصلة وشبه القصة والأمر والجهل» فاستعملوها بمعنى المنصب لعلاقة لا نعلمها، ومن ذلك قول ابن خلدون: «الوزارة أُمُّ الخُطَط الإسلامية والرُّتَب الملوكية.»

(١-٢) انتقال اللفظ من معنًى إلى آخر

وانتقال الألفاظ من معنًى إلى آخر بلا علاقة ظاهرة بين المعنيَين كثير في اللغة العربية، ومنها الأضداد أي اللفظ ذو المعنيَين المتضادَّين. وأسباب هذا الانتقال كثيرة يصعب تتبُّعها في كل ما نراه من الاختلاف في معاني اللفظ الواحد أو مشتقاته، لكننا نذكر أربعة منها على سبيل المثال:
  • (١)

    دخول كلمة أعجمية لفظها يشبه لفظ كلمة عربية فيجعلونها من مشتقاتها، كما فعلوا بالبلاط بمعنى القصر فإنهم أخذوها عن اللاتينية، فأشبهت لفظ البلاط الحجر المعروف فجعلوها من مشتقات «بلط».

    ومثل قولهم «تباشير»، فقد شقها «القاموس» من «بشر» فقال: «التباشير البشرى … وتباشير الصبح أوائله، وكذلك أوائل كل شيء، ولا يكون منه فعل.» واللفظة فارسية مركبة من «تبا» مثل، و«شير» لبن، أي أبيض كاللبن. وكان الفرس يدلون بها على بياض الصبح عند أول شروق الشمس، فاقتبسها العرب منهم ودلوا بها على أوائل كل شيء وعلى البشرى.

  • (٢)

    استعمال لفظين معًا لمعنًى ثم إهمال أحدهما بالاستعمال التماسًا للاختصار، فيَبقَى الآخَر للدلالة على ذلك المعنى، مثل قولهم: «ارتفاع» بمعنى جباية، فيقولون: «ارتفاع الدولة» ويريدون مقدار جبايتها أي مجموع دخلها. وليس في هذه اللفظة ما يُلمَح منه هذا المعنى ولا ذكره لها «القاموس»، وأصل هذه الدلالة أنهم كانوا يستعملون «ارتفاع» مع لفظ «جباية» فيقولون: «ارتفاع جباية الدولة»، أي مقدار ما بلغت إليه جبايتها (من «ارتفع السعر» أي غلا)، ثم أسقطوا «الجباية» للاختصار فظلت «ارتفاع» وحدها لنفس ذلك المعنى.

    ومثل ذلك قولهم: «أشفى العليل» بمعنى «امتنع شفاؤه» (أي ضد معنى المادة الأصلي الشفاء.) وسبب هذا التضاد أن «أشفى» من مشتقات «شفا» الواوية بمعنى الإشراف أو الاقتراب، وليس من مشتقات «شفى» اليائية كما أوردها «القاموس»، فكانوا يقولون: «أشفى المريض على الموت» أي أشرف عليه، ثم اختصروه فقالوا: «أشفى المريض» لنفس هذا المعنى، والتبس على صاحب «القاموس» أصل مادتها فعدَّها من مشتقات «شفى».

    وكذلك قولهم «عَقَد له» بمعنى «ولَّاه»، وليس في مادة «عقد» ما يقرب من هذا المعنى، ولا رأينا في «القاموس» أنها تُستعمَل لمعنى الولاية، ولكنها كثيرة الورود في كتب التاريخ لهذا المعنى. والأصل في هذه الدلالة أن الخلفاء في صدر الإسلام كانوا إذا وجَّهوا جيشًا إلى حرب عقدوا له الألوية وسلَّموها إلى الأمراء لكل أمير لواء، وكان توجيههم إلى الفتح يتضمن معنى الألوية على البلاد التي يفتحونها، ثم صار الخلفاء بعدهم يعقدون ذلك اللواء للأمراء عند توليتهم بعض الإمارات فيُقال: «عقد له اللواء على البلد الفلاني»، أي ولَّاه إياه، ثم اختصروا فقالوا: «عقد له.»

    ولمثل هذا السبب يستعمل كُتَّابنا اليوم «برهة» بمعنى الزمن القصير وهي تدل في الأصل على الزمن الطويل، فالظاهر أنهم كانوا يقولون: «برهة قصيرة» أو «برهة وجيزة» للزمن القصير، ثم استعملوا «برهة» وحدَها لهذا المعنى.

  • (٣)

    تفرع اللفظ الواحد بالقلب والإبدال إلى ألفاظ كثيرة تدل على تفرعات المعنى الأصلي، وأمثلة ذلك كثيرة في اللغة لا حاجة إلى ذكرها. ولكن قد يتنوع المعنى ويبقى اللفظ على حاله فيندر أن يُهْتَدَى إلى سبب ذلك التنوع، ومن أغرب الأمثلة على ذلك «جن» ومشتقاتها، فإنها تدل على معانٍ كثيرة ترجع إلى الظلمة والاختفاء والجنون والجن والجنة، ولا يَخْفَى ما بين هذه المعاني من التباين والتناقض. فلنتبع هذه اللفظة إلى أصلها لعلنا نهتدي إلى تعليل هذا الاختلاف:

    يظهر لنا أن هذه المادة قديمة في تاريخ اللغة، بدليل وجودها في جميع اللغات السامية وأمهات اللغات الآرية، فهي في العبرانية والسريانية على نحو ما هي في العربية لفظًا ومعنًى، وفي السنسكريتية «جان» الروح وكذلك في الفارسية. ويَظهَر أنها حدثت والإنسان في أول أدوار حياته، أي يوم كان المغول والآريون والساميون وغيرهم عائلة واحدة، لأن الصينيين يدلون على الروح بنحو هذا اللفظ أي «تسن»، وأما في اليونانية واللاتينية فتدل على الولادة أو التسلسل وهما من فروع المعنى الأصلي. و«جانا» في السنسكريتية «مسكن الأرواح أو الآلهة»، ولعل هذا هو الأصل في دلالة لفظ «الجَنَّة» (الفردوس) في اللغات السامية أيضًا.

    ثم تُنُوقلت حكاية الخليقة عند الساميين أجيالًا قبل تدوينها، فعرض في أثناء ذلك انتقالهم إلى اعتقاد التوحيد فأثَّر هذا الانتقال على معنى تلك اللفظة وتحول إلى ما نعلمه. فلما كُتِب سفر الخليقة كان المعنى الأول قد تُنُوسِي من اللغة العبرانية فضاع كما ضاع معنى لفظ «عدن»، فأدَّى ذلك إلى الرجم في تفسيرهما بعد ذلك. أما في السنسكريتية فلفظ «أدن» أو «عدن» معناه الأكل أو الطعام، وربما كان هذا هو المراد بجَنَّة عدن في حكاية سفر الخليقة، لأن الله خلق الإنسان ووضعه في «جنة عدن» وغرس له فيها الأشجار ليأكل ومنعه من شجرة الخير والشر، كأنه أقامه في جَنَّة فيها أكل.

    •••

    ثم إن دلالة مادة «جان» أو «جن» على الروح في اللغات السامية لا يزال أثرها باقيًا في لفظ «الجان» العربية، والأصل في دلالتها «كل ما استتر عن الحواس من الملائكة أو الشياطين» أي الأرواح على إطلاقها. وكان اعتقاد الناس في سبب الجنون أنه حلول تلك الأرواح في المجنون، فعبَّروا عن الجنون بلفظ مشتق من «الجان» فقالوا: «جُنَّ الرجل، على المجهول: زال عقله أو فسد أو دخلته الجن.» ونظرًا لاختفاء الأرواح عن حواس البشر وخاصة عن أنظارهم، دلوا بتلك اللفظة على الظلمة والاختفاء أو الاستتار، فقالوا: «جَنَّ الليل: أظلم، وجَنَّه الليل: سَتَرَه»، فتَعلَّل بذلك تنوع معنى هذه اللفظة إلى المعاني الخمسة التي ذكرناها، وكل ما لمشتقات هذه اللفظة من المعاني يرجع إلى أحدها.

    ويحسن بنا في هذا المقام أن نتتبع تاريخ هذه اللفظة في الإفرنجية وما يقابلها في اللغات السامية، فقد خسرت دلالتها على «الروح» في كل اللغات الآرية (إلَّا الفارسية والسنسكريتية)، وصارت تدل على ما يقارب ذلك وهو التوليد من Gen ومشتقاتها، ومنها Genus في اللاتينية ومشتقاتها بمعنى الصنف من الناس، ويقابلها في العربية «جنس». ويقابل Gen في العربية «جيل»، واللفظ والمعنى متقاربان.

    ولم تخسر لفظة «جان» دلالتها على «الروح» إلا بعد أن تولَّد ما يقوم مقامها، لأسباب ترجع إلى تغيير حدث في عادات الأمم أو اعتقاداتهم. وأهم ما حدث في اعتقادات البشر الانتقال من الشرك إلى التوحيد، فلما اعتقد الساميون بالتوحيد أصبحت الأرواح السماوية عندهم أي الملائكة خدَمًا للإله العظيم ينفذها حيث شاء لتبليغ أوامره أو نواهيه، فعبروا عن الروح بلفظ «الرسول»، وهذا معنى «الملاك» في اللغات السامية فإنه اسم مفعول من «مالك» أرسل، وأصل المادة «ملك» مشى أو سار، ومنها قولهم في التوراة «ملاك الرب» أي رسول الله. وقد فُقِدت هذه المادة في العربية، ولا يزال أثرها باقيًا في «ألوكة» أي الرسالة.

    وحدث نحو ذلك في اللغات الآرية، فإن معنى الملاك عندهم يرجع إلى Angel وهي مأخوذة من «أنجلوس» اليونانية ومعناها «الرسول»، كأنهم ترجموا لفظ ملاك إلى لسانهم حرفيًّا.
  • (٤)

    اكتساب اللفظ معنًى جديدًا من عادة شائعة، كما اكتسب لفظ «بَنَى» معنى الزواج من ضرب القباب على العروس ليلة الزفاف، وجملة «عقد له» معنى «ولَّاه» وقد تقدم ذكرها.

    وبالجملة، فقد حدث في أثناء التغيير الإداري في الدولة الإسلامية نهضة عظيمة، أحدثت تغييرًا كبيرًا في اللغة لفظًا ومعنًى، وليس ما ذكرناه إلا أمثلة قليلة.

(١-٣) الألفاظ الإدارية الأعجمية

أما الألفاظ التي اقتبسها العرب في أثناء إنشاء دولتهم فكثيرة أيضًا، نأتي بأمثلة منها:

من أقدم ما اقتبسوه من الألفاظ الإدارية الفارسية «الديوان» على عهد عمر بن الخطاب، فإنه أول من دوَّن الدواوين في الإسلام، فوضع الديوان على نحو ما كان عند الفرس واستعار له اللفظ الفارسي، فاستعمله أولًا للدلالة على ديوان الجند فكانوا إذا قالوا «الديوان» أرادوا ديوان الجند فقط، ثم أطلقوه على سائر الدواوين وألحقوا به ألفاظًا تميز بينها، كديوان الإنشاء وديوان العرض وديوان الضياع وديوان الخراج … وهي كثيرة. ودلوا به على الكتاب الذي تُدوَّن فيه أسماء الجنود، فكانوا إذا قالوا: «فلان من أهل الديوان» أرادوا أنه ممن أُثبِتت أسماؤهم في ذلك الكتاب، ثم أُطلِق على كل كتاب، ثم انحصر في الدلالة على الكتب التي تُجمَع فيها الأشعار، فإذا قالوا: «ديوان فلان» أرادوا به مجموع أشعاره.

ولما كان أهل الديوان يجتمعون في مكان واحد سموا ذلك المكان ديوانًا، وأطلقوا لفظ الديوان على كل مجلس يُجتمَع فيه لإقامة المصالح أو النظر فيها، والعامة تعبر بالديوان عن المقعد.

وقس على ذلك كثيرًا من الألفاظ الفارسية المتعلقة باصطلاحات الحكومة وخاصة الجند والأسلحة ونحوها، كالخوذة والجامَكِيَّة والجزية والدولاب والدَّلَق ودِهْقان والدَّانِق ورُسْتَاق وسَبَاهِيٍّ والبريد وزنديق وكسرى ونيشان ويَلْمَق والطراز ونحوها.

والألفاظ اليونانية الإدارية قليلة في اللغة العربية، ومنها الأسطول والمنجنيق والدرهم والبطاقة والقُنْداق والكردوس والليمان.

وإذا تدبرت تاريخ هذه الألفاظ في لغاتها الأصلية أو بعد انتقالها إلى العربية، رأيت مدلولاتها تنوعت بتنوع الأحوال، فالدرهم مثلًا الأصل فيه الدلالة على الوزن ثم دلوا به على نقدٍ وزنه درهم، ثم أُطلِق على النقود كلها.

وأما الألفاظ اللاتينية فمنها: البلاط (بمعنى قصر الملك) والدينار والدُّمَسْتق.

وربما أدخلوا ألفاظًا تركية أو هندية أو كلدانية أو نبطية أو نحوها، مما يضيق المقام عن استيفائه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤