أولًا: وضع المشكلة

مستقبل الإنسانية هو الشِّق الثاني من التاريخ العام بعد الشق الأول؛ النبوة. وإذا كانت النبوة تعني ماضي الإنسانية، فإن المعاد يُشير إلى مستقبل الإنسانية. والماضي والمستقبل، البداية والنهاية، كلاهما جانبان للتاريخ العام؛ إذا كان ماضي الإنسانية يمثِّل حركة الذهاب، فإن مستقبل الإنسانية يمثِّل حركة الإياب؛ وإذا كانت النبوة تمثِّل فعل الله في التاريخ من خلال الأنبياء، فإن المعاد يمثِّل فعل الله في التاريخ من خلال الشهداء؛ وإذا كان ماضي الإنسانية يتحدد في الزمان، فإن مستقبلها يكون أقرب إلى أن يتحدد في الخلود. الدنيا بداية الآخرة، والآخرة نهاية الدنيا، والانتقال من أحدهما إلى الآخر هو الانتقال من الحياة الدنيوية إلى الحياة الأخروية، وما الموت إلا لحظة الانتقال من الحياة الأولى إلى الحياة الثانية.

(١) هل هو أصلٌ مستقل؟

مستقبل الإنسانية أو المعاد موضوعٌ يتلو طبيعيًّا موضوع النبوة؛ فالنبوة تتعلق بماضي الإنسانية وتاريخ وعيها تطورًا واكتمالًا، في حين يتعلق المعاد بمستقبل الإنسانية ونتائج أفعالها المستقلة؛ الحرة العاقلة. كلاهما تاريخٌ عام؛ الأول تاريخ الماضي والثاني تاريخ المستقبل. الأول تاريخٌ تحقَّق في حين أن الثاني تاريخ لم يتحقق بعد، ولكنه في سبيل التحقق. فالمعاد نهاية النبوة ومستقبلها، والنبوة بداية المعاد وماضيه. موضوع مستقبل الإنسانية أو نهاية العالم، أي المعاد، يأتي بطبيعة الحال بعد تطوُّر الوحي وتاريخ الإنسانية الماضي كدرسٍ ثانٍ فيها؛ الأول بفعل الأنبياء والثاني بفعل الشهداء، وكأن النبوة لها معنيان: الأول تحققها كنظر، والثاني تحققها كعمل. التحقق الأول في الماضي قام به الأنبياء، والثاني في المستقبل يقوم به الشهداء. التاريخ إذن مُتصِل من الماضي إلى المستقبل، متحقِّق بالفعل ومُمكِن التحقق من جديد. وفي هذه الحالة لا يكون مستقبل الإنسانية أو المعاد موضوعًا مستقلًّا عن ماضي الإنسانية أي النبوة، فتدخل أمور المعاد على أنها جزء من النبوة، فكلاهما من السمعيات.١
وقد يكون الموضوع مع موضوع آخر، وهو النظر والعمل؛ أي مع الأسماء والأحكام نظرًا لارتباطهما معها، فأفعال الاستحقاق هي أفعال الإيمان والعمل، أفعال الإقرار والتصديق، وأمور المعاد ما هي إلا نتيجة لها. وفي هذه الحالة يكون مستقبل الإنسانية مشروطًا بحاضرها، ويكون التاريخ العام تحقُّقًا للتاريخ المتعيِّن ابتداءً من أفعال الاستحقاق للفرد. ولما كانت أفعال الفرد هي أفعال الاستحقاق؛ أي الأفعال الحرة العاقلة، ارتبط الموضوع أيضًا بأفعال الشعور الداخلية مثل الإيمان والكفر، والتوفيق والهداية والخذلان والضلال.٢
وقد يعود الموضوع إلى الحسن والقبح العقليَّين والعقل الغائي والصلة بين العقليات والسمعيات والفرق بين الوجوب والإمكان؛ أي إلى أصل العدل في العقليات؛ فقانون الاستحقاق الذي ينبني عليه مستقبل الإنسانية نتيجةٌ للحسن والقبح العقليَّين وتوليد الأفعال لنتائجها توليدًا طبيعيًّا؛ فإذا كانت الأفعال حسنة أو قبيحة في ذاتها، فإن إثابة المُطيع وعقاب العاصي شيءٌ حسن في ذاته، كما أن عقاب المطيع وإثابة العاصي شيءٌ قبيح في ذاته. والموضوع مُرتبِط بالغائية والغرض؛ لأن نفي الاستحقاق يقوم على نفي الغاية والغرض، في حين أن إثبات الاستحقاق يقوم على إثبات الغاية والغرض. وهو مُرتبِط أيضًا بمسألة السمع والعقل؛ فكثيرًا ما تُوضَع مسائل الثواب والعقاب مع السمعيات، وإذا ما أُلحِق قانون الاستحقاق بالسمعيات لم يعُد قائمًا على العقل؛ وبالتالي ينتفي القانون ذاته. وقد يرتبط الموضوع بالوجوب والجواز؛ تدخل أمور المعاد ضمن الواجبات؛ فالله لا يجوز عليه الكذب، والخُلف كذب، وهو الكذب النظري؛ أي الإخبار بشيء غير واقع، وهو الكذب العملي أيضًا؛ أي الإخبار بشيء على أنه سيفعله في المستقبل ثم لا يفعله، سواءٌ كان هذا الواجب شرعيًّا أم عقليًّا. وعند المتأخرين يدخل في الجواز؛ إذ يجوز على الله الترك والفعل، ويجوز عليه عقاب المطيع وثواب العاصي؛ فالاستحقاق يدخل في الجواز لا في الواجبات، مثل ثواب المطيع وعقاب العاصي، ولا في المستحيلات، مثل عقاب المطيع وثواب العاصي.٣
وقد يرتبط موضوع المعاد بصفة الكلام في التوحيد؛ أي في الأصل الأول من العقليات؛ فالمعاد خبر، والخبر قول أو خطاب، وكلاهما كلام. ويتأرجح الحديث في الكلام بين الكلام كصنعة أزلية، أو الكلام للخطاب مثل الأمر والنهي والخبر والاستخبار. الأول موضوع ديني عقائدي في التوحيد، والثاني موضوع علمي لغوي في النبوة كرسالة.٤
وقد يبدو الموضوع كأصل مستقل هو «الوعد والوعيد»، أحد الأصول الخمسة بعد التوحيد والعدل؛ فإذا كان الأصل الأول للتوحيد قد ضم موضوعَي الذات والصفات، وكان الأصل الثاني العدل قد احتوى على موضوعَي خلق الأفعال والحسن والقبح العقليَّين، يكون الأصل الثالث وهو الوعد والوعيد يُشير إلى أمور المعاد؛ نظرًا لأنهما يتعلقان بأحكام الأفعال من حيث نتائجها في التاريخ واستمرارها فيه بعد الموت؛ لذلك ارتبط موضوع الوعد والوعيد كأصل من الأصول الخمسة بالمعتزلة،٥ في حين ارتبط موضوع المعاد بالأشاعرة. ويتداخل مع أصل العدل سواءٌ في خلق الأفعال أو في الصلاح والأصلح؛ فالإرادة المُطلَقة لا تمنع من اختراق الحرية الإنسانية لها. وإذا كان الوعد والوعيد نتيجة للتكليف، فإن التكليف قائم على العقل وحرية الاختيار. وقد تُسمَّى «علوم» الوعد والوعيد لأنها تشمل عدة موضوعات تتناول الأصلَين العقليَّين؛ التوحيد والعدل، وباقي الموضوعات السمعية كالنبوة والأسماء والأحكام. وقد يتركز الوعد والوعيد على أحد موضوعاته، مثل الاستحقاق لو أنه في العقائد المتأخِّرة يرتكز على السمعيات؛ أي على تشخيص الاستحقاق بعد نفيه كمبدأ عقلي.٦
ويقوم تحديد الوعد والوعيد على النفع والضرر، وهما مقياسان للتشريع بالإضافة إلى مفهوم المستقبل كمكان للحدوث؛ فهما لا يعنيان الثواب والعقاب في الحال، بل في المآل، وليسا مجرد مكافأة أو عقاب، بل استمرار لمقياس النفع والضرر في الشريعة. فأفعال الاستحقاق هي أفعال وردود أفعال؛ أفعال مباشرة وأفعال متولِّدة، مقدمات ونتائج، عِلَل ومعلولات. فإذا كانت أفعال الدنيا هي الأفعال المباشرة، فإن الوعد والوعيد يمثِّلان الأفعال المتولِّدة أو ردود الأفعال أو نتائج الأفعال أو معلولات الأفعال الأولى باعتبارها عِللًا لها. لا يوجد فعل إلا وله رد فعل، ليس فقط في الحال، وهو موضوع الشريعة أو علم أصول الفقه، بل أيضًا في المآل، وهو موضوع العقيدة؛ أي علم أصول الدين.٧
ويشتمل موضوع المعاد على قسمَين رئيسيَّين: الأول كل ما يتعلق بقانون الاستحقاق نفيًا أو إثباتًا، وهل يجوز فيه الخصوص أو الاستثناء أو الشفاعة أو الولاية والعداوة أو الموافاة البشارة وشروط التوبة. والثاني تطبيق هذا المبدأ في الحياة بعد الموت؛ وبالتالي كل ما يتعلق بالمعاد الجسماني أو الروحاني وحياة القبر وعلامات الساعة، واليوم الآخر وما فيه من حساب وميزان وصحف وكتبة وإنطاق للجوارح وصراط وحوض، وجنة ونار، إلخ. فالقسم الأول هو قانون الاستحقاق الذي طبقًا له سيتم الحساب، الجزء الثاني عملية الحساب ذاتها. الأول هو القانون، والثاني هو الاتهام والمرافعة والحكم والتنفيذ. ولا يأتي الثاني قبل الأول؛ لأن العلم بالقانون شرط المساءلة.٨

(٢) أفعال الاستحقاق

وأفعال الاستحقاق هي أفعال الشعور الخارجية الحرة العاقلة، وليست أفعال الشعور الداخلية أو أفعال الاضطرار التي لا تتوافر فيها الحرية أو العقل كأفعال الصِّبية والمجانين وأفعال النائم والساهي. وقد كانت حرية الإرادة وكمال العقل من مُكتسَبات العدل الذي تولَّد من التوحيد، وكان استقلال الوعي الإنساني الفردي من مُكتسَبات النبوة؛ أفعال الاستحقاق إذن هي أفعال كل فرد حر وعاقل ومسئول. القادر على النظر والعمل هو الإنسان الواعي الحر العاقل، وليس الطفل أو الصبي أو المجنون أو الذي ينتسب إلى آبائه أو قومه أو عشيرته؛ فيكون مثلهم إيمانًا أو كفرًا، طفلًا أو بالغًا. كل نفس بما كسبت رهينة، وكل إنسان قد أُلزِم طائره في عنقه، ولا تزر وازرةٌ وِزر أخرى. أفعال الأطفال والصِّبية ليست أفعال استحقاق؛ وبالتالي لا يستحقون العقاب في النار أو في غيرها. فليس أطفال المشركين في النار مثل آبائهم؛ لأنهم لم يبلغوا بعدُ مرحلة البلوغ وسن التكليف. وكيف يتحول الطفل من الكفر إلى الإيمان حتى يصح له الثواب، أو من الإيمان إلى الكفر حتى يستحق العقاب؟ وهل يتحمل الطفل جريرة أبيه؟ وما ذنبُ طفلٍ كفر أبوه فيدخل النار مثله، في مقابل طفل آخر آمن أبوه فيدخل الجنة مثله؟ إذا كان الأبوان مسئولين عن إيمانهما وكفرهما، فأين تقع مسئولية الطفلَين؟ وأين تكافؤ الفرص بالنسبة لهما؟ وماذا لو شب الطفل وبلغ وأدرك وأنكر دين آبائه وارتد عنه وآمن بعد كفر ولكنه اخترم قبل أن يبلغ أشده؟ وماذا لو شب الطفل من أبٍ مُؤمِن ثم كفر بعد البلوغ وكمال العقل ولكنه اخترم وهو صغير؟ هنا يظهر ارتباط إيمان الأطفال بالصلاح والأصلح من جديد؛ مما يدل على استحالة تأسيس السمعيات دون العقليات. وكيف يظل أطفال المؤمنين مؤمنين أطفالًا بالغين حتى يكفروا، ويظل أطفال الكفار كفارًا أطفالًا وبالغين حتى يؤمنوا، وليس لديهم الوعي الحر العاقل المسئول الذي به يُمكِنهم أن يتحولوا من الإيمان إلى الكفر أو من الكفر إلى الإيمان؟ فإذا ما تحوَّل أطفال المؤمنين بعد البلوغ وكمال العقل والإدراك من الإيمان إلى الكفر، وإذا ما تحوَّل أطفال الكافرين بعد البلوغ وكمال الإدراك والعقل من الكفر إلى الإيمان، فإن هذا التحدي الأخير هو فعل الاستحقاق؛ لأنه الفعل الحر العاقل وليس الفعل السابق. وإن ممارسةَ الأطفالِ الشرائعَ مثل أبوَيهم قبل مرحلة البلوغ وكمال العقل إنما تتم تقليدًا وتبعية، وإيمان المقلِّد لا يجوز، والتقليد ليس طريقًا إلى المعرفة كما وضح ذلك في نظرية العلم. وكما يُدان الكافر المقلِّد إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، كذلك لا يُؤخَذ بإيمان المؤمن المقلِّد؛ فالنظر أول الواجبات كما وضح ذلك أيضًا في نظرية العلم. وماذا لو تحوَّل الأبوان وهما عاقلان بالغان من الكفر إلى الإيمان أو من الإيمان إلى الكفر؛ هل يتحول أطفالهما معهما من الكفر إلى الإيمان أو من الإيمان إلى الكفر، وهم لا يعرفون ما الإيمان وما الكفر؟ ألا يكون ذلك أخذ فرد بجريرة آخر، وتحميل غير العاقل البالغ مسئولية العاقل البالغ؟٩ وإذا كان من الطبيعي أن يُدعى الأطفال إلى الإسلام بعد البلوغ وكمال العقل، فمن غير المعقول أن يصدر حكم عليهم بالبراءة منهم قبل البلوغ وهم غير مُدرِكين وغير عاقلين وغير بالغين. والأقرب إلى العقل الحكمُ ببراءتهم وليس بالبراءة منهم، الحكم بموالاتهم وليس بعداوتهم، وإلا ففيمَ كان الحكم الشرعي في حالة الحرب بتحريم قتل الأطفال والنساء؟ فالأطفال لم يبلغوا بعد ولم يصِلوا إلى كمال العقل، والنساء يُطِعن أزواجهن في الغالب إيمانًا وكفرًا. ولا يكفي البلوغ وحده، بل لا بد من كمال العقل؛ فالبلوغ العضوي قد لا يُصاحِبه كمال العقل، وقد يأتي كمال العقل قبل البلوغ العضوي.١٠ وكيف يُحكَم على الأطفال بأنهم مؤمنون أطفالًا وبالغين طبقًا لإيمان آبائهم، أو بأنهم كافرون أطفالًا وبالغين طبقًا لكفر آبائهم، وتتم التسوية بين الطفولة والبلوغ، بين اللاعقل والعقل؟ وما دور البلوغ والعقل إذا صدر حكم بعدهما؟ وبناءً عليهما فكيف يصدر حكم مُخالِف قبلهما وطبقًا لأي مقياس سوى التقليد؟١١ إن وعي الإنسان لا يحدث بالتقليد أو بالوراثة، بل بالإدراك والتمثل والاختيار العاقل. ويزداد الأمر خطورة في الفقه المترتِّب على الحكم على الأطفال بالإيمان والكفر فيما يتعلق بالدية والميراث؛ فقتل الطفل الكافر لا دية له ولا يرث ولا يُورَث؛ وبالتالي تُستباح دماء الأطفال وأموالهم ومُمتلَكاتهم أخذًا بجريرة الآباء. والحقيقة أن الوصول في الحكم على الأطفال إلى حد استباحة دمائهم وأموالهم إنما يرجع في حقيقة الأمر إلى أطفال المخالفين الذين استباحوا دماء أطفال مخالفيهم؛ واحدة بواحدة، وطفلًا بطفل. إن قتل غير البالغ العاقل جريمةٌ يحرِّمها الشرع؛ لأن أفعاله خارجة عن الاستحقاق.١٢
والحقيقة أن الاعتماد على الحُجج النقلية لا يبرِّر الحكم بأخذ الأطفال بجريرة الآباء؛ فالحجة النقلية لا تُعطي الظن لخضوعها للتأويل ولقواعد التفسير ولمنطق اللغة من مُحكَم ومُتشابِه، ومُجمَل ومبيَّن، وخاص وعام، وظاهر ومؤوَّل، وحقيقة ومجاز، ولشتى صِيَغ الخطاب؛ فالخبر غير الأمر أو النهي، والقصص غير التشريع. إن الحكم بالإيمان والكفر لا يكون إلا على العقلاء البالغين، والأطفال ليسوا كذلك؛ فلا سبيل إذن إلى التفرقة بين أطفال المؤمنين وأطفال المشركين في الدنيا أو في الآخرة، ولا ضير أن يرث الأطفال فيما بينهم في الدنيا أو أن يُوجَدوا معًا في الآخرة، لا فرق بين مؤمن وكافر؛ لأنهما حكمان لا ينطبقان عليهم. وإن كثيرًا من هذه الحجج النقلية مُعارَضة بأخرى تؤكِّد المسئولية الفردية، مثل: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ، وغيرها من الآيات المُماثِلة.١٣
ونظرًا لصعوبة الحكم بعذاب الأطفال وبأخذهم بجريرة آبائهم، فقد يُترَك الأمر اختيارًا لله، إن شاء عذب وإن شاء غفر، لا عن طريق الاستحقاق ولا عن طريق الانتقام، بل لأنه صاحب المشيئة والإرادة. وهذا تخلٍّ عن قانون الاستحقاق وعن أصل العدل وإرجاع المسألة إلى التوحيد، إلى صفة الإرادة. وإذا ما كان أطفال المؤمنين في الجنة، فليس لأن آبائهم مؤمنون، بل لأنهم أطفال لم يبلغوا ولم يصِلوا بعد إلى الأمر والتكليف.١٤ وكيف يؤجِّج الله نارًا فيأمر الأطفال باقتحامها، فإن فعلوا استحقوا الجنة وإن لم يفعلوا استحقوا النار؟ وكيف يدخل الأطفال النار ثم يخرجون منها إلى الجنة؟ هل هو عقاب أم ثواب؟ ولماذا يُعاقِب من لا يُقحِم نفسه في النار ويُلقي بنفسه إلى التهلكة وهو غير مكلَّف؟ وعلى أي أساس تتم التفرقة بين الأطفال؛ بين من يرمي نفسه في النار ومن يُحجِم عنها؟ وأين الخوف الطبيعي؟ وأي طفل سيُلقي نفسه في النار؟ وهل للطفل إرادة عاقلة واختيار حر يختار بهما بين الإقدام والإحجام؟ وهل يمتحن الله الأطفال بعد الاخترام وقبل التكليف وبعد انقضاء الزمان؟ إن ذلك الامتحان لا يحدث للبالغين ولا للذِين لم تبلغهم دعوة الإسلام؛ فامتحان البالغ المكلف في الدنيا وليس في الآخرة، والذي لم تبلغه دعوة الإسلام غير مكلَّف، وأفعاله خارج الاستحقاق بالرغم من إمكانية العاقل الوصول إلى أصلَي التوحيد والعدل.١٥
وقد يُغالي البعض الآخر في قدرات الطفل على المعرفة والتمييز، ويجعله قادرًا على إعمال عقله وعلى الوصول إلى أصلَي التوحيد والعقل، فإن استطاع نال الثواب وإن عجز نال العقاب!١٦ وكردِّ فعلٍ على تكفير الأطفال وعقابهم على كفرهم بناءً على كفر آبائهم، قد يجعل البعض إيمان الأطفال وراثيًّا من عهد الذر الأول! فيُولَد الأطفال مؤمنين، سواءٌ وُلِدوا من مؤمنين أو كفار منذ قولهم «بلى» الأولى، ومن مات منهم قبل البلوغ دخل الجنة، وفي هذه الحالة أيضًا تنتفي المسئولية الفردية؛ لأن الإيمان وراثة حدث قبل سن البلوغ وكمال العقل. وماذا يحدث لو بلغ الطفل وكفر وأبواه مؤمنان، أو إذا آمن وأبواه كافران؟ كيف يتحول البالغ العاقل من الكفر إلى الإيمان أو من الإيمان إلى الكفر وقد كان الإيمان ضرورة أولى وواقعة كونية لا يُمكِن التحول عنه بفعل إرادي حر؟١٧ وقد يُحاوِل البعض التخلص من المأزق كليةً بتحريم دخول الأطفال مؤمنين أو مشركين الجنة أو النار، بل يصيرون ترابًا؛ لأنهم أقرب إلى الكائنات الطبيعية غير المكلَّفة، وهو أقرب إلى العقل، إلا أنه يُنكِر قيمة الحياة التي تظهر في براءة الطفل وضحكته وحب الناس له وتضحية الوالدَين في سبيله.١٨
والأقرب إلى العقل في هذا كله أن الأطفال ما داموا غير مكلَّفين، فإنهم لا يستحقون ثوابًا ولا عقابًا. ولما كان العقاب أقسى وأخطر، فالعقاب خطأً أشدُّ من الثواب خطأً؛ فإن الأطفال لا يكونون في النار حتى يبلغوا ويصِلوا إلى كمال العقل والقدرة على التمييز، وتُصبِح أفعالهم أفعال استحقاق. ليس المهم في أي مكان يذهبون في الآخرة، ولكن المهم هو أنهم ليسوا في النار. وإذا تساوى الثواب والعقاب فالله إلى الثواب أقرب، وإن تساوى الاستحقاق بين الجنة والنار فالإنسان إلى الجنة أقرب. لا يستحق الطفل موالاة أو عداوة قبل البلوغ وكمال العقل، ولكن نظرًا لأنه طبيعة فإنه يكون قبل البلوغ إلى الموالاة أقرب.١٩
لذلك كان الأقرب إلى العقل والطبيعة أن يكون الأطفال في الجنة، لا ثوابًا ولا تفضُّلًا، بل لأن ذلك أقرب إلى الخير، والطبيعة خيرة والعقل فيَّاض معطاء، ولا فرق في ذلك بين أطفال المؤمنين وأطفال الكافرين؛ فكلاهما لم يبلغا ولم يحدث لهما كمال العقل وهو شرط التكليف، خاصةً إذا كانت المعارف كسبية نظرية استدلالية، والنظر ليس مشروطًا بالبلوغ؛ النظر بلوغٌ عقلي في حين أن البلوغ كمالٌ جسدي. وأهم ما يصل إليه النظر هو العقليات؛ أي أصلا التوحيد والعدل، إثبات الذات والصفات، وإثبات الحرية والعقل، ولا يهم بعد ذلك تفريعاتها ودقيقاتها. وقد يكون النظر بخاطر وقد لا يكون، على ما هو معروف في نظرية العلم في المقدمات النظرية الأولى.٢٠ وقد يُضاف أصل الوعد والوعيد، والحقيقة أنه من السمعيات وليس من العقليات، مثل النبوة والإيمان والإمامة عند القدماء. وهذا لا يمنع من تصوُّر الأفعال حسنة في ذاتها أو قبيحة في ذاتها، أو أن لكل فعل نتيجة واستمرارًا، وأن نتائج الأفعال من جنسها، وتلخيص ذلك كله في قانون الاستحقاق أو في الواجب العقلي؛ فلا يحسن الفعل لأجل الثواب ولا يقبح العقاب، بل لأجل الوجوب العقلي. وإن كانت الموضوعات سمعية فالنظر فيها ضروري في الحالة الثانية أو في الحالة الثالثة بمجرد سماعها في الحالة الأولى،٢١ ولكن يظل أصل المعارف معرفة النفس؛ أي معرفة الذات ثم معرفة أصلَي التوحيد والعدل. ولا تعارُض بين كون الأطفال في الجنة، لا فرق بين مؤمنين وكافرين، وبين استحقاقهم للثواب والعقاب طبقًا للإيمان والكفر بعد تمام العقل؛ فالعقل شرط التكليف. فإذا كان عاقلًا ولم يصِل إلى التوحيد والعدل؛ أي إلى أصلَي العقليات، استحق العقاب، بل ودوام العقاب؛ فكمال الإنسان في تمام العقل، وليس بالضرورة في وقت البلوغ؛ فقد يكون العقل تامًّا قبل البلوغ، وقد يقع البلوغ ولا يحصل تمام العقل.٢٢ بل إن الكمال العقلي شرطُ البلوغ الجسدي في الشرع، ولا تُقبَل صلاة المجنون أو الساهي أو النائم حتى ولو بلغ الحُلم، ولا تختلف الفِرَق في كون العقل شرطَ التكليف، أو في القول بالمعارف العقلية وبأصلَي التوحيد والعدل، إنما الخلاف فقط في كون هذه الأصول عقلية أم شرعية؛ لذلك يبطل عذاب الأطفال أخذًا بجريرة الآباء بطلانًا شرعيًّا؛ لمعارضته نصوص الوحي الجلية، وعلى هذا إجماع الأمة؛ فالإنسان مُؤاخَذ بعد الفعل وليس قبل الفعل، وإذا كان مؤاخَذًا بعد الفعل، فكيف يكون مؤاخذًا قبله والفعل لم يتم بعد؟ وإذا كان الإنسان يُولَد على الفطرة، وكانت الفطرة دين العقل والطبيعة وهو دين الحنفاء، فإن الصبي والمجنون كلَيهما يموتان عليه؛ وبالتالي يموتان مؤمنَين، ويكون مكانهما الجنة، ولا ينطبق ذلك إلا على البشر، دون غيرهم من الموجودات الحية الأخرى؛ الملائكة أو الجن أو الشياطين. فالملائكة لا يتوالدون ولا أطفال لهم، والجن والشياطين إن كانوا يتوالدون فإنهم غير مكلَّفين مثلنا برسلنا ووحينا وشريعتنا، ولا ينفي ذلك كون الجنة دار جزاء على الأعمال؛ لأنها أيضًا دار تفضُّل لما كان الخير أقرب إلى العقل والطبيعة، ولا يهم ماذا يفعل الأطفال في الجنة؛ هل خُدامها أم سادتها؟ بل دلالة ذلك على العدل وتطبيق لأصله طبقًا لقانون الاستحقاق.٢٣ وينتج عن ذلك فقهٌ عملي في الدنيا؛ إذ يُدفَن المؤمنون من أطفال المشركين في مقابر المسلمين، ويُحال بينهم وبين أبوَيهم، ومع ذلك يُجعَل لهم من أموالهم. ولو بلغوا وكانوا على دين آبائهم لم يكونوا مُرتدِّين. ولو كانوا من آباءٍ مسلمين ثم ارتدوا بعدما بلغوا فلم يكونوا مُرتدِّين لبقائهم على الأصل. ولو أسلم أحد أبوَيهم كانوا على دينه؛ فدين الطفولة إلى إسلام البالغين أقرب.٢٤
وكما تتطلب أفعال الاستحقاق البلوغ وكمال العقل، فإنها أيضًا تتطلب القصد والنية. والطاعة التي لا يُراد الله بها ليست فعل استحقاق؛ فالأعمال بالنيات، والعمل غير المشروط بالنية لا يكون استحقاقًا، فإن أتى صاحب الهوى والزنديق بأفعال حسنة دون قصد منه وهو في كفره، فهي لا تُعتبَر كذلك؛ لأن النية هي شرط استحقاق الفعل. وإذا ما أتى صاحب الهوى أو الزنديق بفعل حسن لأنه حسن في ذاته فتلك نية وقصد، وتكون فعل استحقاق بالرغم من الكفر النظري، وذلك مثل أفعال أهل الكتاب الحسنة التي يُؤجَرون عليها ويستحقون عليها الثواب، بالرغم من اضطرابهم في أصلَي التوحيد والعدل، وقولهم بالتثليث والتجسد في التوحيد، وبالخطيئة والخلاص في العدل. وإن كفر المجوسي لإيمان المجوسي بمجوسيته لا يعني طاعته لله لكفره بسائر الديانات الأخرى، فتلك الطاعة بالمصادفة والتبعية وليست بالقصد والنية. ولا حتى النظر والاستدلال الأول يكون طاعة لله إن لم يكن الهدف منه معرفته والقصد إليه. النظر والتوجه إلى الموضوع من شروط صحة النظر، وإن إعلاء قيمة النظر لا يكون بالتعرف على موضوعه بالمصادفة، بل بالقصد إليه وجعله أول الواجبات.٢٥ كما لا تدخل في أفعال الاستحقاق أفعالُ الخطأ والسهو؛ لأنه ينتفي منها القصد والنية، في حين أن الإصرار على أي ذنب كفر. فعل الاستحقاق إذن هو الفعل القائم على الإرادة والقصد مع سبق الإصرار وعقد العزم.٢٦ ولا تلزم أفعال الاستحقاق إلا مَن بلغته الدعوة، ومن لم تبلغه الدعوة فإنه معذور غير مسئول؛ لذلك كان أحد واجبات الرسول التبليغ، وكان اسمه مشتقًّا من الرسالة؛ أي حامل البلاغ والإعلان. فكل مَن بلغته الرسالة أصبحت أفعاله أفعال استحقاق في أي ركن من الأرض كان وأصبح مكلَّفًا، ومن لم تبلغه الدعوة كان معذورًا بجهله وغياب معرفته، وإذا كانت أفعال الأطفال خارج الاستحقاق فإن بلوغهم الدعوة وعدم فهمها يُعادِل عدم بلوغها، بالرغم من القدرة على فهمها.٢٧ أفعال الاستحقاق إذن هي أفعال البالغين كاملي العقول، أفعال القصد والنية بعد التبليغ، وليست أفعال الصِّبية والمجانين وأفعال السهو والخطأ والنسيان أو من لم تبلغه الدعوة، هذه الأفعال وحدها هي التي ينطبق عليها قانون الاستحقاق. الأفعال القابلة للحُكم هي الأفعال المؤثِّرة المقصودة، القائمة على التدبر والروية، وتتوافر فيها النية الحسنة أو السيئة. وصاحب الفعل هو المكلَّف الحر العاقل البالغ. وهي الأفعال المستحَقَّة المدح والذم وما يتبعهما من الثواب والعقاب؛ فالفعل قد يقبل المدح فقط دون أن يترتب عليه ثواب، وقد يقبل الذم فقط دون أن يترتب عليه عقاب؛ فالاستحقاق إذن على درجتَين؛ الأولى استحقاق عند الناس وهو المدح والذم، والثاني استحقاق عند الله وهو الثواب والعقاب.٢٨ والاستحقاق يكون على الفعل وعلى الترك؛ فالترك فعلٌ سلبي لأن عدم الفعل فعل، والإمساك عن الفعل إتيان لفعل، وإن منع الفعل عن التحقق هو تحويل له من الخارج إلى الداخل، ومن الواقع إلى الإمكان؛ فعدم الفعل ليس فعلًا عدمًا، بل هو فعل شعور داخلي أو فعل إرادة تحيط بالشعور وتمنعه من التخارج. فالثواب والعقاب على الفعل وعلى عدم الفعل لأنهما فعلان مختلفان؛ أحدهما إيجابي والآخر سلبي؛ فالمندوب فعل والمكروه عدم فعل، والأول له ثواب، ثواب الفعل؛ والثاني له أيضًا ثواب مثل الأول، ثواب عدم الفعل. فإذا كان الفعل حركة فإن عدم الفعل معنًى؛ أي امتناع الإرادة عن التحقق. فالإنسان غير الجماد في حالة عدم الفعل؛ لأن عدم الفعل عند الإنسان فعلٌ إرادي، في حين أنه في الجماد سكونٌ طبيعي. ولا يتشابه عدم الأفعال؛ فعدم الإيمان ليس مثل عدم الكفر؛ الأول قبيح والثاني حسن. فإن تشابها في الفعل الإرادي فإنهما مُتمايِزان في الصفة؛ فصفات الحسن والقبح موضوعية في الأفعال.٢٩
١  قد تدخل مسائل الوعد والوعيد كجزء من الأُخرويات؛ الحشر والجزاء، وهي بدورها كجزء من النبوة، وهي القسم الثاني من علم التوحيد بعد المقدمات والإلهيات (الطوالع، ص٢٢٠–٢٢٨). وهي أحدُ أركانٍ ثلاثة بعد معرفة أركان شريعة الإسلام، ومعرفة أحكام الأمر والنهي والتكليف، ثم معرفة فناء العباد وأحكامهم في المعاد (الفِرَق، ص٣٢٣).
٢  القاعدة الثالثة: الوعد والوعيد والأسماء والأحكام. وتشمل مسائل الإيمان والتوبة والوعد والوعيد والإرجاء والتكفير والتضليل، إثباتًا عند جماعة ونفيًا عند جماعة. ومنها الخلاف بين المرجئة والوعيدية والمعتزلة والأشعرية والكرامية (المِلَل، ج١، ص١١-١٢)، انظر الباب الثالث: الإنسان المتعين، الفصل السابع: خلق الأفعال، ثانيًا: أفعال الشعور الداخلية، خامسًا: أفعال الوعي الفردي والاجتماعي.
٣  وأما علوم العدل فهي أن يعلم أن أفعال الله حسنة، وأنه لا يفعل القبيح ولا يُخلُّ بما هو واجب عليه، وأنه لا يكذب في خبره، ولا يجوز في حكمه، ولا يعذِّب أطفال المشركين بذنوب آبائهم، ولا يُظهِر المعجزة على الكذابين، ولا يكلِّف العباد ما لا يُطيقون ولا يعلمون، بل يُقدِرهم على ما كلَّفهم، ويعلِّمهم صفةَ ما كلَّفهم، ويدلهم على ذلك ويبيِّن لهم؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من أحيا عن بينة، وأنه إذا كلَّف المكلَّف وأتى بما كُلِّف على الوجه الذي كُلِّف فإنه يُثِيبه لا محالة، وأنه سبحانه إذا آلم فإنما فعله لصلاحه ومنافعه وإلا أخلَّ بواجبه، وأنه يعلم أنه تعالى أحسن نظرًا بعباده منهم بأنفسهم. وفيما يتعلق بالدين والتكليف لا بد من هذا التقييد، ولأنه يُعاقِب العصاة ولو خُيِّروا في ذلك لما اختاروا لأنفسهم العقوبة؛ فلا يكون الله والحال هذه أحسن نظرًا منهم، وكذلك فإنه ربما يبقى المرء وإن علم من حاله أنه لو اخترمه لاستحق بما سبق منه الثواب وكان من أهل الجنة، ولو أبقاه لارتد وكفر وأبطل جميع ما اكتسبه من الآخر، ومعلومٌ أنه لو يخيَّر بين التبقية والاخترام لاختار الاخترام دون التبقية؛ فيكون الله أحسن نظرًا لعباده منهم لأنفسهم، والحال هذه (الشرح، ص١٣٣). المعلوم بالخبر والسمع ونحن نعلم من الوحي إليه بسماع، كالحشر والنشر والثواب والعقاب وأمثالهما (الاقتصاد، ص١٠٧؛ الطوالع، ص٢٢٠). إدراك الثواب أو العقاب آجلًا بالعقل سيَّما بالبداهة محلُّ عبث وخفاء جدًّا؛ لأن إثبات الحشر والقيامة لا يظهر بالعقل (الدر، ص١٤٩). وأما علوم الوعد والوعيد فهو أن يعلم أن الله وعد المطيعين بالثواب وتوعَّد العصاة بالعقاب، وأنه يفعل ما وعد به وتوعَّد عليه لا محالة، ولا يجوز عليه الخُلف والكذب. والخُلف أن يُخبِر أنه يفعل فعلًا في المستقبل ثم لا يفعله (الشرح، ص١٣٥-١٣٦). أما عند الأشاعرة فإنه جائزٌ عليه التَّرك؛ أي ترك الإيجاد والمُمكِنات، سواءٌ وُجِدت أو لم توجد؛ يعني أن إيجاد كل مُمكِن أو تركه أمرٌ جائز في حقه تعالى، إن شاء فعل وإن شاء ترك. ومن ذلك بعثة الرسل ورؤية الباري وإثابة العاصي وتعذيب المطيع (شرح الخريدة، ص٤٢).
٤  عند أهل السنة، الوعد والوعيد كلام الله الأزلي، وعدَه على ما أمر وأوعد على ما نهى؛ فكل من نجا واستوجب الثواب فبوعده، وكل من هلك واستوجب العقاب فبوعيده، فلا يجب عليه شيء من قضية العقل. وعند أهل العدل، لا كلام في الأزل، وإنما أمرٌ ونهي ووعد ووعيد، أوعد بكلام مُحدَث؛ فمن نجا فبفعله استحق الثواب، ومن خسر فبفعله استوجب العقاب، والعقل من حيث الحكمة يقتضي ذلك (المِلَل، ج١، ص٦٣-٦٤).
٥  وهم «المعتزلة»، سمَّوا أنفسهم أصحاب العدل والتوحيد، كقولهم بوجوب ثواب المطيع وعقاب العاصي على الله، ونفي الصفات القديمة (شرح الفقه، ص٦٤).
٦  جملة الكلام في هذا الباب يقع في ثلاثة مواضع: (أ) المستحَقُّ بالأفعال. (ب) الشروط التي معها تستحَقُّ. (ﺟ) كيفية الاستحقاق؛ أهو على طريق الدوام أم على طريق الانقطاع؟ (الشرح، ص٦١١). وهذا هو اعتراض إبليس: إذا خلقني على مقتضى إرادته ومشيئته فلِمَ كلَّفني بمعرفته وطاعته؟ وما الحكمة في التكليف بعد ألا ينتفع بطاعة ولا يتضرر بمعصية؟
٧  الوعد كل خبر يتضمن إيصال نفع إلى الغَير أو دفع ضرر عنه في المستقبل، ولا فرق بين أن يكون حسنًا مستحَقًّا وبين ألا يكون كذلك. والوعيد كل خبر يتضمن إيصال ضرر إلى الغير أو تفويت نفع عنه في المستقبل، ولا فرق بين أن يكون حسنًا مستحَقًّا وبين ألا يكون كذلك. ولا بد من اعتبار الاستقبال في الدين؛ لأن نفعه في الحال أو ضره مع القول لم يكن واعدًا ولا متوعِّدًا (الشرح، ص١٣٤-١٣٥).
٨  يضع الإيجي في «المواقف» القسم الثاني قبل الأول؛ فيتحدث في المرصد الثاني في المعاد عن اثنَي عشر مَقصدًا: (١) في إعادة المعدوم. (٢) في حشر الأجساد. (٣) في حكاية مذهب الحكماء المُنكِرين لحشر الأجساد في أمر المعاد. (٤) الجنة والنار؛ هل هما مخلوقتان؟ (٥) في فروع للمعتزلة على أصلهم في حكم القول والإيجاب على الله والنظر ها هنا في الثواب والعقاب. (٦) في تقرير مذهب الأصحاب. (٧) في الإحباط. (٨) في العفو. (٩) في الشفاعة. (١٠) في التوبة. (١١) إحياء الموتى في القبور وناكر ونكير وعذاب القبر. (١٢) في أن جميع ما جاء به الشرع من الصراط والميزان والحساب وقراءة الكتب والحوض والورود وشهادة الأعضاء حق (المواقف، ص٣٧١–٣٨٤).
٩  هذا هو موقف معظم فرق الخوارج، مثل الأزارقة والثعالبة والعجاردة والشبيبة والخلفية والحمزية والنجدية، وأحيانًا يُنسَب إلى الجمهور وإلى بشر. فعند الخوارج، أطفال المشركين حُكمُهم حكم آبائهم يعذَّبون في النار، وأطفال المؤمنين حكمهم حكم آبائهم. ثم اختلفوا بعد موت أطفالهم عن أديانهم إلى قولَين: (أ) ينتقلون إلى حكم آبائهم. (ب) هم على الحال التي كان آباؤهم عليها في حال موتهم لا ينتقلون بانتقالهم. وقد عبَّر الأزارقة عن ذلك بوضوح؛ إذ ترى أن أطفال المشركين في النار وأن حكمهم حكم آبائهم، وكذلك أطفال المؤمنين حكمهم حكم آبائهم (مقالات، ج١، ص١٦٢). في بيان من مات من ذراري المشركين، زعمت الأزارقة أن أطفال المشركين مشركون، وأنهم في النار مع آبائهم، وكذلك قالوا في أطفال مخالفيهم من أهل الإسلام، وقالوا في أطفال موافقيهم إذا ماتوا إنهم في الجنة. واختلف هؤلاء في الطفل إذا مات في حال شرك أبوَيه ثم أسلم أبواه وصار موافقًا لهم؛ فمنهم من قال يصير تابعًا لأبوَيه في الآخرة، ومنهم من قال يكون حكمه في الآخرة حكم المشركين؛ لأنه مات في حال شرك أبوَيه (الأصول، ص٢٥٩). وعند العجاردة تجب البراءة من الطفل حتى يُدعى إلى الإسلام، ويجب دعاؤه إذا بلغ، وقبل ذلك أطفال المشركين مع آبائهم في النار (المِلَل، ج٢، ص٤٣). صارت الخلفية إلى قول الأزارقة في شيء واحد، وهي دعواهم أن أطفال مخالفيهم في النار (الفِرَق، ص٩٦). قضَوا بأن أطفال المشركين في النار ولا عمل لهم ولا شرك (المِلَل، ج٢، ص٤٥). وقالت الحمزية إن هؤلاء كلهم في النار، ويقطعون بأن أطفال الكفار في النار (الاعتقادات، ص٤٨). ويرى فريق من الثعالبة أن الأطفال يشتركون في عذاب آبائهم، وأنهم ركن من أركانهم؛ أي بعض من أبعاضهم (مقالات، ج١، ص١٦٩). وعند بشر بن المعتمر أن الله يقدر على عذاب الأطفال، ولو عذَّب الطفل لكان بالغًا كافرًا مستحِقًّا العذاب (مقالات، ج١، ص١٦٢). وأما الأطفال فالجمهور على أن أطفال المشركين في النار لقول الرسول … (شرح الدواني، ج٢، ص٢٦٨-٢٦٩).
١٠  وزعم قوم من العجاردة في الأطفال أن البراء منهم واجب قبل البلوغ؛ فإذا مات طفلًا فقد مات على وجوب البراء منه (الأصول، ص٢٥٩). وقالت العجاردة إن من بلغ الحُلم من أولادهم وبناتهم فهم براء منه ومن دينه حتى يُقِر بالإسلام فيتولوَه حينئذٍ؛ فعلى هذا إن قتله قاتلٌ قبل أن يلفظ بالإسلام فلا قوَد ولا دية، وإن مات لم يرث ولم يُورَث (الفصل، ج٥، ص٣٢). وتزعم فِرقة من العجاردة أنه يجب دعوة الطفل إلى الإسلام إذا بلغ، وتجب البراءة منه قبل ذلك حتى يُدعى إلى الإسلام ويصفه هو (مقالات، ج١، ص١٦٤).
١١  هذا هو موقف الثعالبة (الخوارج) إذ يقولون: الغلام مُسلِم أبدًا حتى يبدو لنا منه خروج من الإسلام. وكيف نشهد بالكفر على من يعلَم من الدين مثل ما نعلم، ويؤدي من الفرائض مثل ما نؤدي، ويتولى ويتبرأ مما نتبرأ منه، ويحتج على من خالفنا بمثل حجتنا وهو معنا في مجلس يُخاصِم خصماءنا، إذا غلبته عينه نام ثم استيقظ فقال: إني قد احتلمت. ثم حدَّث حديثًا غير ذلك؛ نكفِّره ونستحلُّ دمه، إنَّا إذن لمن الظالمين؟ (التنبيه، ص١٧٨-١٧٩). العجاردة مُفترِقةٌ عشرَ فِرق، يجمعها القول بأن الطفل يُدعى إذا بلغ، وتجب البراءة منه قبل ذلك حتى يُدعى إلى الإسلام أو يصفه هو (الفِرَق، ص٩٤). وقالت الواثقة الخوارج بقول الثعالبة إنهم مؤمنون أطفالًا وبالغين حتى يكفروا، وإن أطفال الكفار كفار أطفالًا وبالغين حتى يؤمنوا، وبرئت منهم البهيسية (مقالات، ج١، ص١٨٠). وقالوا بأن أطفال المؤمنين مؤمنون وأطفال الكافرين كافرون (المِلَل، ج٢، ص٤١). وفارقت الشبيبة الواقفة وقالوا في أطفال المؤمنين بقول الثعالبة إنهم مؤمنون أطفالًا وبالغين حتى يكفروا، وإن أطفال الكفار كفار أطفالًا وبالغين حتى يؤمنوا (مقالات، ج١، ص١٨٠).
١٢  وترى الأزارقة قتل الأطفال (مقالات، ج١، ص١٥٩؛ الفِرَق، ص١٨٩-١٩٠؛ التوبة، ص٤٢١-٤٢٢). والذين جمعهم «الخوارج» من الدين أشياء، منها أنهم استباحوا قتل نساء مخالفيهم وقتل أسطفالهم، وزعموا أن الأطفال مشركون وقطعوا بأن أطفال مخالفيهم مخلَّدون في النار، وزعم نافع وأتباعه أن دار مخالفيهم دار كفر، ويجوز فيها قتل الأطفال والنساء (الفِرَق، ص٨٣-٨٤). وزعموا أن أطفال المشركين في النار مع آبائهم (المِلَل، ج٢، ص٣٣). كما استحل نجدة بن عامر الحنفي قتل أطفال مخالفيهم ونسائهم (الفِرَق، ص٨٧).
١٣  يرد ابن حزم على الأزارقة؛ فقد احتجت الأزارقة ببعض الأقوال على لسان نوح وببعض الأحاديث، وبأنه لا يدخل في الجنة إلا المؤمنون، فكيف بأطفال المشركين وإلا لزمت وراثته وتوريثه؟ نوح خاص على قومه وليس عامًّا على كل الناس، وقد كان إبراهيم ومحمد من أبوَين كافرَين مشركَين، وقد كان آباء الأزارقة كفارًا وكذلك آباء الصحابة. وإن عدم الصلاة على أطفال المشركين لا تعني أنهم غير مؤمنين؛ فالشهداء لا يُصلَّى عليهم. وانقطاع المواريث ليس حجة على أنهم غير مؤمنين؛ فإن المؤمن الفاضل لا يرث ولا يُورَث، وقد يأخذ المسلم مال عبده الكافر، وقد يرث الكافر مال العبد المسلم ثم يموت. وكثير من الفقهاء يورِّثون المسلمين مالَ المُرتدِّ إذا مات مرتدًّا، ويورِّثون المسلمين من أقاربهم الكفار ودفنهم في مقابرهم (الفصل، ج٤، ص٩٣–٩٦).
١٤  تقول إحدى فِرَق الخوارج إنه جائزٌ أن يُؤلِم الله في النار أطفال المشركين على غير المجازاة لهم، وجائزٌ ألا يُؤلِمهم، وأطفال المؤمنين يلحقون بآبائهم (مقالات، ج١، ص١٩٠). وعند إحدى فِرق الروافض يجوز أن يعذِّبهم الله ويجوز أن يعفو عنهم (مقالات، ج١، ص١٢١). ووقف كثير من الإباضية في إيلام أطفال المشركين في الآخرة، فحبَّذوا أن يُؤلِمهم الله على غير طريق الانتقام، وجوَّزوا أن يُدخِلهم الجنة فضلًا. ومنهم من قال إن الله يُؤلِمهم على طريق الإيجاب لا التجويز (مقالات، ج١، ص١٧٦). وعند البعض الآخر يجوز تعذيبهم على سبيل الانتقام، أو أن يدخلوا الجنة تفضلًا (المِلَل، ج٢، ص٥٣).
١٥  يقول بعض الأشاعرة في أطفال المشركين إن الله يؤجِّج لهم في الآخرة نارًا ثم يقول لهم اقتحموها كما جاءت بذلك الرواية (الإبانة، ص١٢). وذهبت طائفة إلى أنه يُوقِد لهم يوم القيامة نارًا ويُؤمَرون باقتحامها، فمن دخلها منهم دخل الجنة ومن لم يدخلها منهم أدخل النار (الفصل، ج٤، ص٩٣-٩٤). وأما من قال إنهم تُوقَد لهم نار فباطلٌ؛ لأن الأثر الذي فيه هذه القصة إنما جاء في المجازين وفيمن لا يبلغه ذِكر الإسلام من البالغين (الفصل، ج٤، ص٩٨).
١٦  زعمت الغيلانية من القدرية أن الطفل إذا عرف حدوث العالم وتوحيد صانعه ضرورة، وأقرَّ بذلك وبما جاء من عند الله، فهو مؤمن؛ وإن اعتقد ضد ذلك أو أقر بضده فهو كافر. في بيان من مات من ذراري أطفال المشركين. وقال أبو مالك الحضرمي إن عرف الطفل ربه وأقر به ثم مات فقد مات مؤمنًا، وإن عرف ربه ولم يُقِر مات كافرًا مستحِقًّا لعذاب الكفر، وإن لم يعرف ولم يُقِر لم يكن مؤمنًا ولا كافرًا، وإن أقر ولم يعرف كان مسلمًا ولم يكن مؤمنًا. أما الروافض فإن الشيطانية (السلطانية) منهم زعموا أن المعارف ضرورية والعبد مأمور بالإقرار، وقالوا إذا أقر الطفل بالله وبتعاليم دين الإسلام فهو مؤمن، وإن مات قبل الإقرار به لم يكن مؤمنًا ولا كافرًا ولا مستحِقًّا للعذاب (الأصول، ص٢٥٧–٢٦٠). وقيل مَن علِم الله منه الإيمان والطاعة على تقدير بلوغه ففي الجنة، ومَن علِم منه الكفر والعصيان ففي النار (شرح الدواني، ج٢، ص٢٦٨-٢٦٩).
١٧  زعمت الكرامية أنهم يُولَدون مؤمنين بالإقرار السابق منهم في الذر الأول، سواءٌ وُلِدوا من مؤمن أو كافر؛ فإن بلغ الواحد منهم وكفر نظر، فإن كان أبواه كافرَين أقر على كفره، وإن كان أبواه أو أحدهما مؤمنًا صار مرتدًّا عن الدين. فقلنا لهم على هذا القول لو كان الطفل الذي أبواه كافران مؤمنًا لوجب إذا مات قبل البلوغ أن يُدفَن في مقابر المسلمين وأن يغسَّل ويُصلَّي عليه كما يُفعَل ذلك لأطفال المؤمنين، ووجب أن يكون ماله للمسلمين دون الكافرين، ووجب أيضًا أنه لو بلغ واختار دين أبوَيه أن يكون مرتدًّا يُقتل برِدَّته ولا يُقبَل منه الجزية (الأصول، ص٢٥٧). وزعمت الكرامية أن الأطفال كلهم مؤمنون بقولهم بلى في الذر الأول، ومن مات منهم قبل بلوغه دخل الجنة لإيمانه السابق (الأصول، ص٢٥٩). وهي الآية الكريمة: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (٧: ١٧٢). وزعمت الكرامية أن الإيمان قد وُجد من الكل في الذر الأول، ثم اختلفوا فيما بينهم؛ فزعم المعروف منهم بالأصرم أن الذرية لم يكونوا يومئذٍ مأمورين بالإيمان، وإنما سُئلوا عن التوحيد فأجابوا، فصارت إجابتهم إيمانًا وإن لم تكن طاعة. وقال أكثرهم كانوا مأمورين، وكان الجواب منهم طاعة. فقلنا لهم لو كان ذلك إيمانًا ووُلد عليه لم يجُز للمسلمين استرقاق أولاد المشركين؛ لأنه لم يظهر من أطفالهم شرك بعد الإيمان الأول، ثم الدليل على تعليق الوجوب بالبلوغ والعقل قول النبي: «رُفع القلم عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يُفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» (الأصول، ص٢٥٦-٢٥٧).
١٨  كان ثمامة يقول إن إبراهيم بن الرسول وجميع أولاد المسلمين الذين يموتون قبل الحُلم وجميع مجانين الإسلام لا يدخلون الجنة أبدًا لكن يصيرون ترابًا (الفصل، ج٥، ص٣٧).
١٩  قالت فِرقة أخرى من العجاردة ليس للأطفال قبل البلوغ حكم إيمان ولا حكم كفر ولا حكم ولاية ولا حكم عداوة. وقد أُلزِم هؤلاء ألا يُنزِلوهم إذا ماتوا أطفالًا جنة ولا نارًا (الأصول، ص٢٦٠). أما الثعالبة أصحاب ثعلبة بن عامر فقد كان مع عبد الكريم بن عجرد يدًا واحدة إلى أن اختلفا في أمر الطفل؛ فقال ثعلبة أنا على ولايتهم صغارًا وكبارًا حتى نرى منهم إنكارًا للحق ورضًا بالجور. فتبرأت العجاردة من ثعلبة. نُقِل عنه أيضًا أنه قال ليس لهم حكم في حال الطفولية من ولاية وعداوة حتى يُدرِكوا ويُدعَوا، فإن قبِلوا فذاك وإن أنكروا كفروا، وكان يأخذ الزكوات من عبيدهم، وقال إني لأبدأ منه بذلك ولا أدع اجتهادي في خلافه (المِلَل، ج٢، ص٤٨-٤٩). فالثعلبية على ولاية الأطفال إلا إن ظهر منهم باطل من وقت التكليف (اعتقادات، ص٤٩). فقول الثعالبة إنه ليس لأطفال المؤمنين ولا لأطفال المشركين ولاية ولا عداوة ولا براءة حتى يبلغوا، فيُدعَون إلى الإسلام فيُقِروا به أو يُنكِروه (مقالات، ج١، ص١٦٧). وتقول الصلتية (العجاردة الخوارج) إذا استجاب الرجل وأسلم تولَّيناه وبرئنا من أطفاله؛ لأنه ليس لهم إسلام حتى يُدرِكوا فيُدعَون إلى الإسلام فيقبلونه (مقالات، ج١، ص١٦٦-١٦٧). وذكرت الصلتية أنه إذا استجاب لنا الرجل وأسلم تولَّيناه وبرئنا من أطفاله؛ لأنه ليس لهم إسلام حتى يُدرِكوا فيُدعَون حينئذٍ إلى الإسلام فيقبلونه. ليس لأطفال المؤمنين ولا لأطفال المشركين ولاية ولا عداوة حتى يُدعَوا إلى الإسلام فيقبلوا أو يُنكِروا (الفِرَق، ص٩٧-٩٨؛ المِلَل، ج٢، ص٤٤؛ اعتقادات، ص٤٨؛ الأصول، ص٢٥٩).
٢٠  هذا هو موقف المعتزلة؛ فأطفال المشركين والمؤمنين عندهم في الجنة (مقالات، ج١، ص١٩٠؛ التنبيه، ص٤١). والأطفال في الجنة عند الإسكافي وجعفر بن حرب وجعفر بن مبشر والكعبي؛ لأن المعارف كسبية (الأصول، ص٢١٠-٢١١). وقد اختلفوا في وقت وجوب إيمان الأطفال؛ فعند من قال باكتساب المعارف من المعتزلة أن وقت وجوب الإيمان وقت صحته؛ فكلُّ مَن صح منه الإيمان وجب عليه الإيمان، وذلك عند تمام العقل الذي صح معه الاستدلال المؤدي إلى المعرفة وليس البلوغ شرطًا فيه، ثم إن النظَّام والإسكافي وجعفر بن حرب قالوا واجبٌ على من خلقه الله عاقلًا ورأى نفسه وغيره من العالم أن يعلَم أن له وللعالم صانعًا، ثم إن خطر بباله بعد ذلك هل صانعه جسم أم لا، هل يجوز أن يرى أم لا؟ هل خلق الخلق لمنفعة أم لا؟ فعليه بعده النظر والاستدلال. وإن خطر بباله هل لصانعه أن يُعاقَب إن عصاه؟ هل له أن يُديم عقابه أم لا؟ فعليه أن يُجيز ذلك ولا يقطع عليه. وقال جعفر بن بشر بمثل قول النظَّام في جميع ذلك إلا في الوعيد؛ فإنه أوجب على الفكر أن يعلَم إن عصى ربه ولم يعرفه عاقبه دائمًا، وزعم أن دوام الوعيد يُعرَف بالعقل. وقال بشر بن المعتمر بوجوب المعرفة والإيمان على العاقل من غير خاطر، إلا أنه أوجب النظر والاستدلال في المعرفة. انظر أيضًا الباب الأول: المقدمات النظرية، الفصل الثالث: نظرية العلم، رابعًا: النظر يُفيد العلم، سادسًا: وجوب النظر.
٢١  قال الباقون من المعتزلة إن الطفل قبل كمال عقله ليس بمؤمن ولا كافر، لكنه إذا مات على ذلك دخل الجنة. واختلفوا فيه إذا أكمل عقله قبل البلوغ؛ فمنهم من قال يلزمه بعد معرفته بنفسه أن يأتي بجميع معارف العدل والتوحيد وكل ما كُلِّف بعقله في الحال الثانية من معرفته بنفسه، فإن لم يأتِ بذلك في الحال الثانية من معرفته بنفسه صار عدوًّا لله كافرًا، وأما الذي لا يعلم إلا بالشرع فعليه أن يأتي بمعرفته في الحال الثانية من حال سماع الأخبار على وجهٍ يقطع العذر، وهذا قول أبي الهذيل. وقال بشر بن المعتمر إن الحال الثانية حال فِكر واعتبار، وإنما يجب عليه ذلك في الحال الثالثة. واعتبر الإسكافي وجعفر بن حرب وجعفر بن مبشر مهلةً يُمكِن فيها الاستدلال (الأصول، ص٢٥٧-٢٥٨). لا يحسن الفعل لأجل الثواب بل لأجل الإيجاب (اللطف، ص٤٧). في بيان ما يصح أن يدخل تحت التعبد من اللطف والمفسدة (اللطف، ص٢٦–٢٨). انظر أيضًا الباب الثالث: الإنسان الكامل، الفصل الثامن: العقل الغائي (الحسن والقبح)، ثالثًا: صفات الأفعال.
٢٢  وأما المعتزلة فقد أفشَوا في الناس قولهم بأن من مات طفلًا كان من أهل الجنة، لكنهم ناقضوا في ذلك بإيجاب القائلين منهم بأن المعارف الدينية اكتساب على الطفل إذا كمل عقله بجميع المعارف العقلية، حتى إذا مات بعد توجُّه وجوب المعرفة فيه وقبل حصولها له مات كافرًا مستحِقًّا للخلود في النار. ومنهم مَن أوجب هذه المعرفة عليه في الحال الثالثة من معرفته بنفسه، وبه قال أبو الهذيل. ومنهم مَن أوجبها عليه في الحال الثالثة من معرفته بنفسه، وبه قال بشر بن المعتمر. ومنهم من اعتبر فيها مدةً يُمكِن النظر والاستدلال على ذلك. وكلهم يقول إن تلك المدة إذا مضت ولم يستدل مات كافرًا مستحِقًّا الخلود، دون أن لم يكن قد بلغ الحُلم ولا السن الذي يكون بلوغًا عند أئمة المسلمين. وفي هذا بطلان تمويههم على العامة بأنهم يقولون: إن الأطفال في الجنة (الأصول، ص٢٦٠-٢٦١). ويُشارِك المعتزلة في ذلك بنص الفِرَق الأخرى مثل الروافض؛ فعند هشام بن الحكم لا يجوز أن يعذِّب الله الأطفال، بل هم في الجنة (مقالات، ج١، ص١٢١). وعند الميمونية أطفالُ الكفار في الجنة (المِلَل، ج٢، ص٤٧). ولا ترى الصفرية (الخوارج) قتل أطفال مخالفيهم ونسائهم، وتُخالِف الأزارقة في ذلك (الفِرَق، ص٩١). ولا يرَون قتل أطفال المشركين وتكفيرهم وتخليدهم (الفِرَق، ص١١٧؛ المِلَل، ج٢، ص٥٦).
٢٣  وهذا هو موقف أهل السنة أيضًا؛ فقال أبو العباس القلانسي ومَن تبِعه من الأشاعرة بوجوب المعارف العقلية على العاقل من جهة العقل. وقال أبو الحسن وضرار وبشر بن غياث وقتُ صحة الإيمان والمعرفة وقتُ كمال العقل، ووقت وجوبهما عند اجتماع العقل والبلوغ، ولا وجوب إلا من جهة الشرع (الأصول، ص٢٥٦-٢٥٧). وأما من قال إنهم يعذَّبون بعذاب آبائهم فباطل، وقد صح الإجماع على أن ما عملت الأطفال قبل بلوغهم من قتل أو وطء أجنبية أو شرب خمر أو قذف أو تعطيل صلاة أو صوم، فإنهم غير مؤاخَذين في الآخرة بشيء من ذلك ما لم يبلغوا، وكذلك لا خلاف في أنه لا يؤاخِذ الله أحدًا بما لم يفعله نصًّا عن الرسول؛ فمن المُحال أن يكون الله يؤاخِذ الأطفال بما لم يعملوا مما لو عاشوا بعده لعملوه وهم لا يؤاخذهم بما عملوا، ولا يختلف اثنان في أن إنسانًا بالغًا مات ولو عاش لزنى أنه لا يؤاخذ بالزنى الذي لم يعمله، وقد أكذب الله ممن ظن هذا نصًّا؛ فصح أنه لا يجزي أحدًا بما لم يعمل ولا مما لم يسن؛ فقول الرسول إن صح لا يعني أن فيهم كفارًا ولا أنهم في النار ولا أنهم مؤاخَذون بما لو عاشوا لكانوا عاملين به مما لم يعملوه بعد (الفصل، ج٤، ص٩٧-٩٨). وأما المجانين الذين لا يعقلون حتى يموتوا فإنهم يُولَدون على الملة حنفاء مؤمنين، ولم يغيِّروا ولا بدَّلوا، فماتوا مؤمنين وهم في الجنة (الفصل، ج٤، ص٩٩). وقد نص الله على أنه فطر الناس على الإيمان، وأن الإيمان هو صبغة الله، فصح يقينًا أن كل نفس خلقها الله من بني آدم ومن الجن والملائكة مؤمنون كلهم عقلًا مميِّزون. فإن ذلك كذلك استحقوا كلهم الجنة بإيمانهم حاشا مَن بدَّل هذا العهد وهذه الفطرة وهذه الصبغة، وخرج عنها إلى غيره، ومات على التبديل. وبيقين ندري أن الأطفال لم يغيِّروا شيئًا من ذلك؛ فهم من أهل الجنة، وصح يقينًا أن كل من مات قبل أن تحتاله الشياطين عن دينه فقد مات حنيفًا، وهذا تدخل فيه الملائكة والجن والإنس عبادًا له مخلوقين، وصح يقينًا أن الغواية داخلة على الإيمان، وأن الأصل من كل واحد هو الإيمان، وأن كل مؤمن في الجنة، وصح أنهم لا يدخلون النار ولا أي دار إلا الجنة، وصح بالثابت من السنن وصحيحها أن جميع من لم يبلغ من أطفال المسلمين والمشركين ففي الجنة. فإن قال قائل: إذا قُلتم إن النار دار جزاء فالجنة كذلك ولا جزاء للصبيان. قُلنا: إنما نقف عند ما جاءت به النصوص في الشريعة؛ فقد جاء النص بأن النار دار جزاء فقط، وأن الجنة دار جزاء وتفضُّل؛ فهي لأصحاب الأعمال دار جزاء بقدر أعمالها، ولمن لا عمل له دار جزاء وتفضُّل من الله مجرد (الفصل ج٤، ص٩٨-٩٩). وقال النووي إن أطفال المشركين من أهل الجنة. وقالت المعتزلة لا يعذَّبون، بل هم خُدام الجنة. وهو قول بلا دليل (شرح الدواني، ج٢، ص٢٦٨-٢٦٩). وأما أهل السنة فإنهم أجمعوا على أن من مات من ذراري المؤمنين صغيرًا وبلغ مجنونًا ومات كذلك، يكون مع المؤمنين في الجنة؛ وتوقَّف المتحرِّجون منهم في أطفال المشركين لاختلاف الأخبار فيهم، فرُوي فيهم قول النبي: «لو شئت لأسمعتك تضاغيهم في النار.» وفي خبر آخر: «إنهم قوم أهل الجنة.» وعن ابن عباس أنه يُوقَد لهم نار فيؤمَرون باقتحامها؛ فمن اقتحمها لم تضره النار شيئًا وصار من أهل الجنة. وعسى هؤلاء هم الذين روى تضاغيهم في النار (الأصول، ص٢٦١).
٢٤  وعلى أصول أصحابنا لا يجب على الطفل قبل بلوغه وتمام عقله شيء. فإن أظهر طفل من أطفال المشركين حكمة الإسلام ومات عليه، فقد قال أبو حنيفة: إنه مات مسلمًا. وقال أصحابنا أمره إلى الله. لكنَّا ندفنه في مقابر المسلمين ونحول بينه وبين أبوَيه قبل موته لئلا يفتناه عن الدين، ولكنَّا نجعل ماله لأبوَيه. ولو لم يمت وبلغ واختار دين أبوَيه لم نجعله مرتدًّا وجعله أبو حنيفة مرتدًّا. وأجمع الفقهاء على أن الطفل مع أولاد المسلمين لو أظهر كلمة الردة لم يكن مرتدًّا، فإن مات على ذلك ورثه المسلمان من أبوَيه ودُفِن في مقابر المسلمين. واختلفوا في الطفل إذا كان أبواه كافرَين فأسلم أحدهما؛ فقال أصحابنا يصير مسلمًا بإسلام أحدهما، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة. واعتبر مالك منه دين أبيه، كما اعتبر نسب أبيه (الأصول، ص٢٥٨-٢٥٩).
٢٥  هذا هو مذهب أصحاب طاعة لا يُراد الله بها، ومنهم أبو الهذيل والإباضية؛ فقد زعم هؤلاء أنه يصح وجود طاعات كثيرة ممن لا يريد الله بها، كما قال أبو الهذيل وأتباعه من القدرية، فقد قال بطاعات كثيرة لا يُراد الله بها، وزعم أنه ليس في الأرض صاحب هوًى ولا زنديق إلا وهو مطيع لله في أشياء كثيرة وإن عصاه من جهة كفره، واستدل أبو الهذيل على دعوى صحة وقوع طاعات لله ممن لا يعرفه بأن قال: إن أوامر الله بإزائها زواجر، فلو كان من لا يعرفه ترك جميع أوامره وجب أن يكون قد صار إلى جميع زواجره، وأن يكون من ترك جميع الطاعات فقد صار إلى جميع المعاصي، ولو كان كذلك الدهري يهوديًّا ونصرانيًّا ومجوسيًّا وعلى أديان سائرة الكفرة، وإذا صار المجوسي تاركًا لكل كفر سوى المجوسية علِمنا أنه عاصٍ بمجوسيته التي قد نُهي عنها، ومطيع لله ما تركه من أنواع الكفر؛ لأنه مأمور بتركهما. فقلت له: ليس الأمر في أوامر الله وزواجره على ما ظننته، ولكن لا خصلة من الطاعة إلا وتُضادُّها معاصٍ مُتضادَّة، ولا خصلة من الإيمان إلا وتُضادُّها خصال مُتضادَّة، كل نوع منها يُضادُّ النوع الآخر كما تُضادُّها الطاعة، وذلك بمنزلة القيام والقعود والاضطجاع والاستلقاء، وقد يخرج من القعود مَن لا يصير إلى جميع أضداده، وإنما يخرج من القعود بنوع واحد من أضداده، كذلك يخرج عن كل طاعة لله بنوع واحد من الكفر المضاد للطاعات كلها؛ لأن ذلك النوع من الكفر يُضادُّ نوعًا آخر من الكفر، كما يُضادُّ سائر الطاعات. وهذا واضح في نفسه وإن جهله أبو الهذيل (الفِرَق، ص١٢٦). وقد قالت الإباضية (الخوارج) بطاعةٍ لا يُراد بها، على مذهب أبي الهذيل، ومعنى ذلك أن الإنسان قد يكون مطيعًا لله إذا فعل شيئًا أمره الله به وإن لم يقصد اللهَ بذلك الفعل ولا أراده به (مقالات، ج١، ص١٧٢؛ الفِرَق، ص٧٢؛ المِلَل، ج٢، ص٥٣). وقال أصحابنا (أهل السنة والجماعة) إن ذلك لا يصح إلا في طاعة واحدة، وهو النظر الأول؛ فإن صاحبه إذا استدل به كان مطيعًا لله في فعله وإن لم يقصد به التقرب إلى الله؛ لاستحالة تقرُّبه إليه قبل معرفته، فإذا عرف الله فلا يصح منه بعد معرفته طاعةٌ منه لله إلا بعد قصده التقربَ بها إليه (الفِرَق، ص١٠٥). وقال أهل السنة والجماعة إن الطاعة لله ممن لا يعرفه إنما تصح في شيء واحد، وهو النظر والاستدلال الواجب عليه قبل وصوله إلى معرفة الله، فإن يفعل ذلك يكن مطيعًا لله لأنه قد أمره به، وإن لم يكن قصد بفعله لذلك النظر الأول التقرب به إلى الله، ولا تصح منه طاعة لله سواها إلا إذا قصد بها التقرب إليه؛ لأنه يُمكِنه ذلك إذا توصَّل بالنظر الأول إلى معرفة الله، ولا يُمكِنه قبل النظر الأول التقرب به إليه إذا لم يكن عارفًا به قبل نظره واستدلاله (الفِرَق، ص١٢٥-١٢٦). وقال بطاعاتٍ لا يُراد الله ولا يقصد بها التقرب إليه كالقصد إلى النظر الأول. وبالنظر الأول فإنه لم يعرف الله بعد، والفعل عبادة (المِلَل، ج١، ص٧٨).
٢٦  واختلفوا فيما يقع من الإنسان على طريق السهو والخطأ؛ هل يكون معصية على قولَين: (أ) قد يكون ذلك معصية. (ب) لا يكون ذلك معصية إلا أن يقع بقصده (مقالات، ج١، ص١٥٠)؛ لذلك قال بعض الإباضية الإصرارُ على أي ذنب كان كفرٌ (مقالات، ج١، ص١٧٢).
٢٧  الكلام فيمن لم تبلغه الدعوة؛ نصًّا لا تلزم النذارة إلا من بلغته لا من لم تبلغه، وأنه لا يعذَّب أحد حتى يأتيه رسول؛ فصح بذلك أن من لم يكن يبلغه الإسلام أصلًا فإنه لا عذاب عليه، وهكذا جاء النص عن الرسول، وكذلك من لم يبلغه الباب من واجبات الدين فإنه معذور لا ملامة عليه. ورأيت قومًا يذهبون إلى أن الشرائع لا تلزم مَن كان جاهلًا بها ولا من لم تبلغه. وهذا باطل، بل هي لازمة له لأن الرسول بُعث إلى الإنس كلهم وإلى الجن كلهم، وإلى كل من لم يُولَد إذا بلغ بعد الولادة. وذلك بأمر الله نصًّا، وهو عمومٌ لا يجوز أن يُخصَّ منه أحد. وقد أبطل النص أن يكون أحدٌ سدًى، والسدى هو المُهمَل الذي لا يؤمَر ولا يُنهى؛ فأبطل هذا الأمر، ولكنه معذور بجهله ومَغيبه عن المعرفة فقط. وإن مَن بلغه ذِكر النبي حيثما كان من أقاصي الأرض ففرضٌ عليه البحث عنه، فإذا بلغته نذارته ففرضٌ عليه التصديق به واتباعه وطلب الدين اللازم له والخروج عن وطنه لذلك، وإلا فقد استحق الكفر والخلود في النار والعذاب بنص القرآن. وكل ما ذكرنا يُبطِل قول من قال من الخوارج إنه في حين بعث النبي يلزم في أقاصي الأرض الإيمان به ومعرفة شرائعه، فإن ماتوا في ذلك الحال ماتوا كفارًا إلى النار، ويُبطِل هذا قول الله، وليس في وسع أحد علم الغيب. فإن قالوا فهذه حجة الطائفة القائلة إنه لا يلزم أحدًا شيءٌ من الشرائع حتى تبلغه. قُلنا لا حجة لهم فيها؛ لأن كل ما كُلِّف الناس فهو في وسعهم واحتمال بِنيتهم إلا أنهم معذورون بمغيب ذلك عنهم، ولم يُكلَّفوا ذلك تكليفًا يعذَّبون به إن لم يفعلوه، وإنما كُلِّفوه تكليفَ مَن لا يعذَّبون حتى يبلغهم. ومن بلغه عن الرسول أن له أعراض الحكم مُجمَلًا ولم يبلغه نصه، فُرِض عليه اجتهاد نفسه في طلب ذلك الأمر وإلا فهو عاصٍ لله (الفصل، ج٤، ص٨٢-٨٣). إن القول بأن أطفال المشركين في النار متروك، وكيف لا وقد جعل الشرع البالغَ الجاهل بالله ممن لم تبلغه الدعوة معذورًا؟ وقال فخر الإسلام: وكذا نقول في الذي لم تبلغه الدعوة إنه غير مكلَّف بمجرد العقل وإنه إذا لم يصِف إيمانًا ولا كفرًا ولم يعتقد على شيء؛ أي مما يكون منافيًا للإيمان، ولا موافقًا للعصيان، كان معذورًا. وإذا وصف الكفر وعقده، أو عقده ولم يصِفه، لم يكن مقدورًا وكان من أهل النار مخلَّدًا (شرح الفقه، ص٤٥). من لم تبلغه دعوة شريعة لم يكن مكلَّفًا، ولم يكن له في الآخرة ثواب ولا عقاب. إن عذَّبه في الآخرة كان ذلك عدلًا منه ولم يكن عقابًا له، كما أن إيلام الأطفال والبهائم في الدنيا عدلٌ من الله وليس بعقاب على شيء. وإن أنعم عليه في الآخرة فهو فضل منه وليس بثواب له على الطاعة، كما أن إدخاله ذراري المسلمين الجنة فضلٌ منه وليس بثواب على الطاعة. وإن كان هذا الذي لم تبلغه دعوة الإسلام غير معتقد كفرًا ولا توحيدًا فليس بمؤمن ولا كافر، إن شاء الله عذَّبه في الآخرة عدلًا، وإن شاء أنعم عليه فضلًا (الأصول، ص٢٦٣-٢٦٤). كل عاقل فعل فعلًا قبل ورود الشرع لا يستحق به ثوابًا ولا عقابًا. فإن استدل العاقل قبل ورود الشرع عليه على حدوث العالم وتوحيد صانعه وقِدمه وصفاته وعدله وحكمته فعرف ذلك واعتقده، كان موحِّدًا مؤمنًا ولم يكن بذلك مستحقًّا من الله ثوابًا عليه؛ فإن أنعم عليه بالجنة ونعيمها كان ذلك فضلًا منه عليه. ولو أنه اعتقد قبل ورود الشرع عليه الكفرَ والضلال لكان كافرًا ومُلحِدًا، ولم يكن مستحقًّا العقاب على ذلك. فإذا عذَّبه الله بالنار على التأييد فله ذلك، وليس بعقاب وإنما هو ابتلاء منه؛ إيلام كإيلام البهائم والأطفال في الدنيا من غير استحقاق، وذاك عدل من الله! الثواب يكون على الطاعة، والطاعة موافقة الأمر، والعقاب على المعصية، والمعصية موافقة النهي ومخالفة الأمر، والمسألة في حالة لم يرد فيها أمر ولا نهي على أحد؛ فاستحال الحكم بالثواب والعقاب على شيء من الأفعال. هذا مذهب الأشعري ومالك والشافعي والأوزاعي والثوري وأبي ثور وأحمد بن حنبل وداود وأهل الظاهر والضرارية أصحاب ضرار بن عمر (الأصول، ص٢٤-٢٥). لو استدل مُستدلٌّ قبل ورود الشرع على حدوث العالم وتوحيد صانعه وصفاته وعرف ذلك ما كان يستحق به ثوابًا، ولو أنعم الله بعد معرفته به نِعمًا كثيرة كان ذلك تفضيلًا عليه. ولو كفر إنسان قبل ورود الشرع ما كان مستحقًّا عقابًا، وإن عذَّبه عليه كان ذلك عدلًا منه، كابتدائه بإيلام من لا ذنب له من الأطفال والبهائم (الأصول، ص٢٠٢-٢٠٣).
٢٨  المستحِقُّ بالأفعال المدح والذم وما يتبعهما في الثواب والعقاب. والذم قولٌ يُنبِئ عن اتضاع حال الغير، وهو على ضربَين: (أ) يتبعه العقاب من جهة الله، وهذا يُستحقُّ على المعصية. والمعصية فعلٌ يكرهه الغير من نوع من الرتبة. (ب) لا يتبعه العقاب من جهة الله. والمدح قولٌ ينبئ عن عظمة حال الغير، وينقسم أيضًا إلى: (أ) ما يتبعه الثواب من جهة الله، وذلك يُستحقُّ على الطاعة. (ب) ما لا يتبعه الثواب فهو المدح القابل للنعمة المستحِق. الشرط في الذم المستحِقُّ العقاب شرطان: الأول يرجع إلى الفعل، مثل أن يكون قبيحًا، والآخر إلى الفاعل وهو أن يُعلَم قبحه؛ استبعاد الصبي، والمدح يتبعه الثواب من جهة الله، والشرط في استحقاقه شرطان: الأول يرجع إلى الفعل وهو أن تكون منفعة زائدة على حسنة، والآخر يرجع إلى الفاعل وهو أن يكون عالمًا بأن له صفة زائدة. وما لا يتبعه من جهة الله له شرطان: الأول يرجع إلى الفعل وهو أن يكون إحسانًا، والثاني يرجع إلى الفاعل وهو أن يكون قاصدًا وجه الإحسان إليه (الشرح، ص٦١١–٦١٤).
٢٩  استحقاق الذم، في أن العلم بأن الموصوف لم يفعل ما متعلَّقه، في كيفية استحقاق المدح والثواب بالواجب والندب (الأصلح، ص١٧٧–١٨٠؛ الشرح، ص٦٣٨–٦٤٤). تكفير أبي هاشم لأنه قال بعقاب من ليس فيه معصية (الفِرَق، ص١٨٤–١٨٩). استحقاق الذم (ص٢٣٥-٢٣٦). الشبهة والرد عليها، استحقاق الذم على لا معنى، عدم تَساوي الإيمان والكفر في الفعل وعدم الفعل (ص٢٧٠–٣١٠).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤