سابعًا: المعاد

بعد حياة القبر بكل ما فيه من عودة الأرواح إلى الأجساد، وسؤال الملكَين، وعذاب القبر، هل ترجع الأموات إلى الدنيا أم تموت من جديد ثم تعود إلى الآخرة؟ وإذا عادت إلى الدنيا، هل تعود كلها عامة وخاصة، شعوبًا وقادة، أم لا يعود إلا الأئمة؟ وأين تذهب الأرواح بعد أن تنتهي حياة القبر؟ هل تعود إلى الدنيا وتتناسخ في أبدانٍ أخرى، أم تُرفَع إلى مكانها ومستقَرها؟ وأين هو هذا المكان أو المستقَر؟ ومتى يبدأ المعاد وكيف؟ هل هو معادٌ جسماني يقوم على إمكانية إعادة المعدوم لما كان العدم شيئًا، أم هو معادٌ روحاني؟ وماذا يعني البعث وكيف يتم؟ كل ذلك أيضًا إنما يوجد في المرحلة المتوسطة بين الدنيا والآخرة، ما بعد الدنيا وما قبل الآخرة، قبل علامات الساعة والحساب والعقاب.

(١) رجعة الأموات

بعد عذاب القبر، وتحقيق الغاية من الحياة فيه بعودة الأرواح إلى الأجساد، هل ترجع الأموات إلى الدنيا فتُعاقَب وتُثاب، أو يكون لها حياةٌ أخرى في هذه الأرض في أجسادٍ أخرى، وهي عقيدة التناسخ، أم تُبعَث الأموات من جديد بعد حياة القبر ومغادرة الأرواح للأجساد، وتبدأ أمور المعاد في الآخرة يوم قيام الساعة ليتم الحساب، الثواب أم العقاب؟ الافتراض الأول هو رجع الأموات، والثاني هو المعاد بشِقَّيه؛ المعاد الجسماني والمعاد الروحاني. وقد تكون رجعة الأموات للعامة أو للخاصة، لعامة الناس أو لخاصة الأئمة، أو لعلي بوجهٍ أخص، مثل عودة الإمام الغائب حتى يقاتل الدجال ويُقِيم العدل والقسط. فإذا مات إمام فإن جميع الأمة لا يموتون، بل يظل في كل عصر إمامٌ حي؛ فالإمام هنا لا يحتاج إلى الرجعة، بل يظل في الأرض ليموت موتة أو موتتَين.١ والحقيقة أنه لو رجع الأموات إلى الحياة لعُجِّل الثواب والعقاب، ولانتفت الغاية من الإعادة؛ فإحضار المستقبل يُغنِي عن تأجيل الحاضر إلى المستقبل. والقول برجعة الأموات إنما يعبِّر عن عقائد المجتمعات المضطهَدة التي مات زعماؤها ولم يحقِّقوا غاياتهم بعد؛ فرجعتهم إنما تعني معاودة رسالتهم واستئناف نشاطهم؛ لذلك كانت الرجعة للأئمة أكثر منها للجماهير. وبوجود الزعامة العائدة، وبعودة البطل، تصحو الجماهير، وتلتفُّ العامة حولها. ويوجد نموذجٌ سابق لذلك في البيئة الدينية والتراث الحضاري الشائع عند بني إسرائيل الذين يشاركون الشيعة في عقدة الاضطهاد.

فإن لم تثبت رجعة الأموات جاءت عقيدة التناسخ ثم عقيدة الرفع. فالتناسخ عود إلى الدنيا وإيثار لها على الآخرة، والرفع تطهر وإيثار للآخرة على الدنيا، وكلاهما طريقان متقابلان. فالتناسخ استعجال بالثواب وبالعقاب، ورفض للانتظار إلى يوم الحساب، وعصفور في اليد خير من عشرة في الغد، وثواب الدنيا وعذابها مُشاهَدان للعيان؛ فالأولى أن تعود الأرواح إلى الدنيا؛ الخيِّرة منها في أجسادٍ حسنة، والشريرة منها في أجسادٍ قبيحة. وهي عقيدة تجمع بين العلم والأسطورة، بين المشاهدة وعقدة الاضطهاد. والروح الخيِّر يكون هو الملاك، والروح الشرير يكون هو الشيطان.

ولما كانت النفس لا تتناهى، فهي تعاود الحلول في الأجسام. وما أسهل بعد ذلك من تأويل الحجج النقلية بحيث تتفق مع عقيدة التناسخ، خاصةً تلك الآيات التي تتحدث عن تركيب الصور وخلق الإنسان وخلق الأزواج من نفسه، بتأويلٍ حرفي يقضي على الدلالة.٢ وهناك صورةٌ أخرى للتناسخ في عقيدة الدهرية تمنع من انتقال الأرواح إلى غير أنواع أجسادها التي فارقت. فلما كان العالم لا يتناهى، فوجب أن تتردد الأنفس في الأجساد أبدًا، ولا يجوز أن تنتقل إلى غير النوع الذي وجب لها بطبعها وشرفها تعلقًا به وإشراقًا فيه، ولا تحتاج النفس في هذه الحالة إلى شرائع، يكفيها شرف طبعها وخلودها. والحقيقة أن هناك تمايزًا بين أنواع النفس، بين النفس الناطقة وهي نفس الإنسان، والنفس غير الناطقة وهي نفس الحيوان. وهذا ما يؤكِّده الحس والعقل، وتؤيِّده المشاهدة والبرهان.٣ أما القول بأن الأرواح تنتقل إلى أجساد أنواعها، فيُعارِضه إثبات تناهي العلم وحدوثه. فكيف تحل نفسٌ لا متناهية في عالمٍ لا مُتناهٍ؟ كما أن الاختلاف بين الأشياء في العالم أكثر من الاتفاق، والفروق أكثر من التشابهات؛ وبالتالي استحال أن تحلَّ الروح في جسدٍ يشابه. ولما كانت الأشخاص متفرِّدة بأرواحها، وكانت الأعمال أحد مظاهر هذا التفرد، استحال أن تحلَّ روح شخص في شخصٍ آخر.٤ كما لا يثبت التناسخ بمجرد مشاهدة عقاب في الدنيا لمن لا يستحق، مثل مرض الأطفال وذبح الحيوان، وبأن يكون بالضرورة عقابًا مستحَقًّا لأرواحٍ اكتسبت هذه الأجساد. فطبقًا للصلاح والأصلح، كان من الأصلح عدم خلق مرض الأطفال أو ذبح الحيوان، بدلًا من عذابهما وجعلهما يتحملان عقاب الآخرين.٥ إن القول بتناسخ الأرواح هو رد فعل طبيعي على القول بحدوث النفس؛ فكلاهما خطآن يُلغي أحدهما الآخر. فالقول بحدوث النفس يسبِّب القول بقِدمها. التناسخ ضد قانون الاستحقاق، فمن الذي سيُعاقَب؟ أي بدن وأي نفس؟ كما يؤدي القول بالتناسخ إلى القول بقِدم الكائنات وأزليتها؛ وبالتالي المشاركة في صفات الله، كما ينفي المعاد وكل ما يتعلق به من بعث وحساب وعقاب. ولو صح التناسخ لتذكَّرنا الحياة الماضية، ولأصبح الإنسان وعاءً للتاريخ، ومخزنًا للحوادث لكل الناس. ولو لزم التناسخ للزم أن تكون الأرواح بعدد الأبدان، وإلا لو زاد عددها لظل بعضها طائرًا في الفضاء بلا أجساد.٦ عقيدة التناسخ إذن نظرةٌ أخلاقية للنفس، تبغي الانتقام والعقاب من النفوس الظالمة التي فقدت براءتها الأولى. عقابها في النزول؛ فنزولها إلى الأبدان نسخ، وإلى الحيوان مسخ، وإلى النبات رسخ، وإلى الجماد فسخ؛ وثوابها في الصعود، التخلص من الأبدان والتعلق بالأجرام. وواضحٌ أن العقاب أهم من الثواب، فتفصيل العقاب أكثر حضورًا من عمومية الثواب.٧
وفي مقابل عقيدة النسخ عقيدة الرفع. الأولى هبوط والثانية صعود. الأولى عود إلى العالم من أجل الانتقام منه أساسًا، والثانية هروب منه تطهرًا وتعففًا عن آثامه. فالبريء الطاهر لا يموت، ولكنه يُرفَع إلى الملكوت، ويعيش في مجتمع الأطهار بعيدًا عن أرض النفاق والآثام، ويستطيع أن يبلغ في هذا الرفع أعلى الدرجات، بل أعلى من الأنبياء والملائكة؛ وبهذا الرفع لا يُقال إن الإنسان يموت.٨ وبهذا المعنى لا يُفهَم في أمور المعاد إثباتها أو إنكارها، بل فهم دلالاتها على أنها تعويض عن الظلم الدنيوي؛ فالأخرويات هي صياغةٌ نظرية لهذا التعويض. وإن إنكارها والقول برجعة الأموات في عقيدة التناسخ هو رفض لانتظار الحساب والعقاب الذي تعِد به الأخرويات التقليدية في آخر الزمان، وانتظار للخلاص في هذا العالم، ورغبة في الإسراع بعقاب الظالم في هذه الدنيا تشفيًا منه، ورؤية الانتصار الآن وهنا ما دامت رجعة الأموات ممكنة، وما دام تناسخ الأرواح ممكنًا. فتحلُّ الروح الظالمة في جسدٍ شرير، وتحلُّ الروح العادلة في جسدٍ خيِّر.

(٢) المعاد الجسماني

يقوم افتراض المعاد الجسماني على الهوية والاختلاف بين الإنسان والعالم، بين العالم الصغير والعالم الكبير؛ فالإنسان عالَمٌ صغير، والعالم إنسانٌ كبير. كما يقوم على جدل الخراب والتعمير، وهو ما سمَّاه القدماء الكون والفساد، جدل الهدم والبناء. فتخريب العالم الصغير هو موت الإنسان، وتعميره هو بعثه وإحياؤه من جديد، وتخريب العالم الكبير هو فناء العالم، إما بتفريق أجزائه، أو عدمه وخرابه في بعثه وإعادته في اليوم الآخر؛ لذلك يشمل الموضوع مسألتَين: الأولى إعادة المعدوم كموضوعٍ ميتافيزيقيٍّ كونيٍّ صِرف، إعادة كل شيء، وهو يتعلق بالعالم الكبير؛ والثاني إعادة الأرواح إلى الأبدان كموضوعٍ إنسانيٍّ خاص. فإذا ثبت الموضوع الأول ثبت الثاني؛ فالثاني ما هو إلا حالةٌ خاصة من الأول. وفي الموضوع الثاني يظهر افتراضان: المعاد الجسماني والمعاد الروحاني. الأول حشر الأجساد، والثاني خلود النفس. والمقصود شرعًا في علم أصول الدين المعاد الجسماني؛ أي حشر الأجساد، في حين أن المعاد الروحاني؛ أي رجوع الأرواح إلى ما كانت عليه من التجرد عن علاقتها بالأبدان واستعمال الآلات، فهو المقصود في علوم الحكمة.٩
ولكن هل يمكن ثبوت المعاد الجسماني فقط وإنكار النفس الناطقة؟ إن إنكار النفس الناطقة عادةً ما يكون نظرةً مادية لا تقول بإعادة شيء، بل بفناء المادة أو بقائها دون القول بالوجود أو البقاء من عدم. وما الفائدة من القول بالمعاد الجسماني دون نفس، والنفس هي مصدر حياة البدن وشرط الإدراك والإحساس بالثواب أو بالعقاب؟ كيف تعود الأجسام دون إعادة الحياة إليها، والنفس إنما تعني هذه الحياة في الأبدان؟ ومع ذلك يمكن إثبات المعاد الروحاني دون المعاد الجسماني، وذلك بعد إثبات تميز النفس عن البدن، وبقائها متجردة عنه بعد فناء البدن. وفي هذه الحالة لا حاجة إلى إحياء الأبدان، ولا يكون الثواب والعقاب جسمانيًّا، بل يكونان روحانيَّين خالصين. والحل الثاني أي إثبات المعاد الروحاني رد فعل على الحل الأول، وهو إثبات المعاد الجسماني. أما إثبات المعادين معًا، الجسماني والروحاني، فهو يجمع بين الاثنين كنتيجةٍ طبيعية لتلافي عيوبهما، وتأكيدًا لمقتضيات الشرع ولحكمة الإشراق.١٠ وقد يسبِّب ذلك رد فعل في إنكار المعادَين معًا؛ وبالتالي يكون الحل الرابع رد فعل على الحل الثالث، كما كان الحل الثاني رد فعل على الحل الأول. أما التوقف عن الحكم في الكل فلصعوبة الحكم على النفس؛ هل هي المزاج المرتبط بالبدن؛ وبالتالي يستحيل إعادتها مع فناء البدن؟ هل هي جوهرٌ باقٍ بعد فساد البنية؛ وبالتالي يمكن القول بالمعاد الروحاني؟ فإذا كان لا يجوز إعادة المعدوم نظرًا لأنه لا شبهة في انعدام الجسم، فإن التردد يكون في انعدام النفس؛ وبالتالي التردد أيضًا في الجزم ببقائها. وبالرغم من أن هذا الحل الخامس في مصدره التاريخي الأول من خارج الحضارة، إلا أنه طبقًا للبنية العقلية، وبعد التعرف عليه وعرضه على العقل، أصبح جزءًا من نسق الحلول، خاصةً وأن التوقف عن الحكم أحد الحلول المتَّبَعة ذاتيًّا في داخل الحضارة في عرض مسائلها الخاصة.١١
فهل الإعادة واجبة؟ وإن كانت واجبة، هل هي واجبة بالشرع أم بالعقل؟ وإن لم تكن واجبة بالشرع، فهل هي جائزة بالعقل؟ وإذا كان الحق هو المعاد الجسماني مُطلَقًا، فهل يكفر المُنكِرون لحشر الأجساد؟ إن الوجوب الشرعي يصطدم بالرواية والسمع الظني، والظن لا يكون أساسًا للوجوب؛ نظرًا لجواز ضعف السند وتأويل المتن، والوجوب العقلي في حاجة إلى براهين يقينية من الحس والمشاهدة. لم يبقَ إذن إلا الجواز الشرعي أو العقلي. ولما كان العقل أساس النقل، يكون الجواز عقليًّا بالأساس. وإذا كان الابتداء ممكنًا، فالإعادة تكون أيضًا ممكنة؛ لأن الإعادة مشروطة بالابتداء، والابتداء شرط الإعادة. ولكن في الواقع، وبصرف النظر عن الحجج العقلية، يعتمد الجواز العقلي على تحليل التجارب البشرية، مثل الرغبة في مقاومة الموت، وتجاوز الفناء، والقصد نحو البقاء.١٢ فالإعادة صياغةٌ نظرية لتجربةٍ إنسانية تريد الإبقاء على الماضي حاضرًا ومستقبلًا؛ حتى ينكشف الحق، ويظهر العدل. وما الزمان ذاته إلا مرآة للخلود. ويحيل أقل الزمان إلى كل الزمان بالضرورة. أما الوجوب العقلي فإنه لقانون الاستحقاق، ثواب المطيع وعقاب العاصي، وهو قانونٌ عام بصرف النظر عن أوجه تحققاته وتشخيصها، بإعادة المعدوم وحشر الأجساد والحساب واليوم الآخر والجنة والنار.
وإذا كانت الإعادة للأجسام، فهل تكون للجواهر أم للأعراض أم لكليهما معًا؟ وهو مبحثٌ ميتافيزيقيٌّ صِرف، يعود إلى نظرية الوجود في المقدمات النظرية الأولى،١٣ بل وتغلب عليها المباحث الطبيعية في الجواهر والأعراض وأنواع الأعراض وأجناس الحركات والتقديم والتأخير، ممَّا يُخرِج الموضوع من مستواه الإنساني، وهو الرغبة في مقاومة الموت والاتجاه نحو الخلود، إلى مستواه الطبيعي أو الميتافيزيقي الصوري الخالص.١٤ ومع ذلك فإن الإعادة للأجسام دون الأعراض تجعلها مركِّزة على الأقوى؛ وبالتالي تسهل إعادة الأضعف، خاصةً وأن الجواهر لا تنفكُّ عن الأعراض، وأن الأعراض لا تُوجَد دون الجواهر، وأن القادر على إعادة الجواهر يكون أقدر على إعادة الأعراض. وإذا كان المعاد معنًى، والمعنى لا يقوم بالعرَض، يكون المعاد فكرة، والفكرة ليست في العرَض، بل في الذهن. وتُثار قضية جواز إعادة الأعراض على أساس أنها هي الإشكال؛ لأن الأعراض محمولة على الجواهر، وإعادتها لا تمثِّل اعترافًا بقدرة أو بعلمٍ زائد؛ نظرًا لأنها قد تتبع إعادة الجواهر؛ فالجواهر لا تتعرى عن الأعراض، والأعراض لا تعود بأعيانها، بل بإعادة الجواهر. وما الفائدة من إثبات قدرة على الأضعف؛ أي إثبات الأعراض وإعادتها؟ ألا يكون إثبات الجواهر وإعادتها أجدى؟ وما الفائدة من إعادة الأعراض وهي أضعف من إعادة الجواهر؟ إن إعادة الجواهر، وليس الأعراض، أقرب إلى العقل، وإلى التعامل مع الماهيات والأسس. وإن قسمة الأعراض إلى باقٍ وغير باقٍ، وجواز إعادة الأولى دون الثانية، هي قسمة تدخل تصور الجوهر في الأعراض؛ إذ إن العرَض الباقي هو الجوهر، وتكون أقرب إلى إعادة الجواهر دون الأعراض؛ لذلك كان من تحصيل الحاصل القول بالإعادة الشاملة للأجسام والأعراض معًا، بالرغم ممَّا يدل عليه القول من تأكيد على الإعادة دون تفريق بين الموضوعات. فإذا كان الإيجاد الأول للجواهر والأعراض معًا، فكذلك تكون الإعادة الثانية أسوة بالإيجاد الأول.١٥ ويبدو أن الغرض من الإعادة ليس فقط تطبيق قانون الاستحقاق، ولكن إثبات القدرة الإلهية، ورجوع إلى أصل التوحيد، وإثبات لجهل الإنسان الذي لا يعرف كيفية بعض الأعراض، ولكن الله أعلم بها. فما كان في مقدور العباد لا تصحُّ إعادته؛ لأن الإعادة دليل على القدرة الإلهية؛ وبالتالي لا بد من سلبها من الإنسان، خاصةً إذا كانت أفعالًا فردية خاصة، وليست أفعالًا نوعية. وإذا كان ما يجهل الإنسان كيفية إعادته يعود، وما عرف الإنسان كيفية إعادته لا يعود، تكون الإعادة كما هي إثباتًا للعلم الإلهي؛ فما يجهله الإنسان يعلمه الله، وما يعلمه الله يجهله الإنسان. والحقيقة أن قضية إعادة المعدوم بعينه قضيةٌ ميتافيزيقيةٌ خالصة، وما يهمُّ هو إعادة الروح إلى البدن؛ حتى يمكن الحساب. فهي قضيةٌ خاصة في الإنسان، وليست قضيةً عامة في الطبيعة.
فإذا ما عادت الأجسام جواهر وأعراضًا، فكيف تتم الإعادة؟ قد تتثبَّت إعادة المعدوم من لا شيء؛ لأن العدم كليٌّ شاملٌ لا يُبقي على شيء؛ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. والله هو الأول والآخر، الظاهر والباطن، لا يبقى معه شيء. بدأ الخلق من لا شيء، ويُعيده من لا شيء. والأجسام نفسها تقبل الوجود والعدم، والله قادر على كل الممكنات، عالم بكل الجزئيات. ألا يتطلب ذلك أن يُهلِك الله كل شيء؛ الملائكة والجن والشياطين والمرَدة والحور العين والولدان المخلَّدون والجنة والنار؛ حتى لا يبقى معه شيء قبل البعث والنشور؟ والحقيقة أن هذه الحجج على جواز إعادة المعدوم من لا شيء، إنما هي حججٌ لاهوتية تُثبِت قدرة الله، وليست حججًا طبيعية تُثبِت إمكانية الإعادة من عدم، وهي أدخل في أصل التوحيد لإثبات صفتَي العلم والقدرة أكثر من دخولها في إثبات المعاد، وهي نفس فكرة الخلق من لا شيء، تُعاد من جديد بالنسبة للإعادة بطريق الأولى؛ فالقادر على الخلق من لا شيء يكون أقدر على إعادته من لا شيء.١٦ وهو التصور القائم على افتراض الانفصال بين الوجود والعدم، أو بين العدم والوجود، ولا يتم الاتصال بينهما إلا عن طريق الأمر التكويني الإرادي، وليس عن طريق التطور الطبيعي، من الوجود إلى العدم أو من العدم إلى الوجود. وقد يمكن إعادة المعدوم عن طريق تفريق الأجزاء وتأليفها، بحيث يحصل منها مثل الهيئة الأولى التي كان الشخص عليها في النشأة الأولى؛ فتكون عودة النفس إلى البدن الأول دون أن يتطلب ذلك بالضرورة عودة المعدوم بعينه؛ فالإعادة تركيبٌ ثانٍ، وليس إعادة من عدم؛ فلا شيء يأتي من لا شيء في الخلق أم في الإعادة.١٧ ولو وقع إعدام الكل لوقع إعدام الجنة والنار، ولو وقع إعدام الكل وعودة الكل لاستحال؛ فالمعدوم لا يعود. وإن لم يعد الشيء بعينه لاستحال الاستحقاق؛ لأن الاستحقاق فردي وليس كليًّا، ولكن هل يتحلل جسد الأنبياء أم إن لهم وضعًا خاصًّا؟ والحقيقة أن ذلك تشخيص للنبوة، ليس فقط في شخص النبي بل في جسده، وقضاء على الرسالة وإحلالها في البدن. وهل يختلف جسد محمد عن أي جسد كائن حي؟ وهل هناك فرق بين إعادة الناس البسطاء، وإعادة الحور العين والغلمان المخلَّدين، وكأن أجسادهم من طبقةٍ أخرى؟ هل يتكون البسطاء من عدمٍ محض، في حين يتكون الحور العين والولدان المخلَّدون من تجميع الأجزاء فحسب؛ رغبةً في ألا يفنى الحور العين والولدان المخلَّدون، وحرصًا عليهم ممَّن يفنون وهم لا يدرون، وكأن الراغب الفاني يشتهي المرغوب فيه الذي لا يفنى، فتفنى الذات، ويبقى موضوع رغبتها؟ ويدل ذلك على أن الموضوع كله إنما يعبِّر عن رغبةٍ إنسانية، وهو ما سمَّاه القدماء بحسب الذهن الذي لا بحسب الخارج. والواقع أن هذا التصور أقرب إلى التصور المادي القائم على اتصال المادة وتطورها من الوجود إلى العدم أو من العدم إلى الوجود، وهو التصور العلمي القائم على الاتصال في مقابل التصور اللاهوتي القائم على الانفصال، وهو تصور لا يحتاج إلى علةٍ فاعلةٍ خارجية، في حين يحتاج التصور اللاهوتي إلى علةٍ فاعلةٍ مشخصة.
وبالإضافة إلى التصور الإرادي المشخص والتصور المادي المتصل، هناك تصورٌ إشراقيٌّ خالص لكيفية الإعادة أقرب إلى الأسطورة منه إلى الدين أو العلم؛ إذ تتحرك النفوس والأشخاص بالشرائع بتحريك النبي والوحي في كل زمان، دائرًا على سبعةٍ سبعة حتى ينتهي إلى الدور الأخير ويدخل زمان القيامة. ترتفع التكاليف، وتضمحل السنن والشرائع. وهي وسيلة لبلوغ النفس الإنسانية كمالها درجة العقل، وائتمامها به، ووصولها إلى مرتبه. وتلك هي القيامة الكبرى، فتتحلل تراكيب الأفلاك والعناصر والمركبات، وتنشق السماء، وتتناثر الكواكب، وتتبدل الأرض، وتُطوى السماء، ويُحاسَب الخلق، ويتميز الخير من الشر، والمطيع من العاصي. وتتصل جزئيات الحق بالنفس الكلي، وجزئيات الباطل بالشيطان المُبطِل. فمن وقت الحركة إلى وقت السكون هو المبدأ، ومن وقت السكون إلى ما لا نهاية له هو الكمال. وفي هذه الحالة، لا يُبعَث إلا من استطاع بلوغ مراتب الكمال العليا من أولاد آدم وحدهم دون غيرهم، طبقًا لقدراتهم على تصفية النفس وتخليد الذات. وهي نظرية في الخلود في العالم عن طريق الكمال، يبلغ عليها الطابع الكوني الإشراقي، وليس الطابع النظري العقلي الخالص.١٨ والحقيقة أنه لا يهمُّ كيفية الإعادة، وكيف تعود الأرواح إلى الأجسام، وكأننا في مبحثٍ طبيعي؛ فالإعادة تصورٌ إنسانيٌّ خالص لتجاوُز الموت واستمرار الحياة. هي رغبةٌ إنسانية، وليست حدثًا طبيعيًّا، مطلبٌ إنساني يفرض نفسه على الطبيعة من كثرة التركيز عليه، واقتضاء تحققه، والاستجابة له.
فإذا ما تم الانتقال من الإعادة كموضوعٍ عام إلى الإعادة كموضوعٍ خاص، أي حشر الأجساد، ظهر موضوع الزمان. فهل يُعاد الزمان باعتباره عرَضًا؟ وإذا عاد، فهل يعود بأبعاده؛ الماضي والحاضر والمستقبل؟ هل يعود بأعمار الإنسان والعالم المتتالية، أم في آخر لحظة فيه؟ هل يعود الزمان وحدةً واحدة أم في لحظاته المتعاقبة؟ ويُثير موضوع إعادة الزمان أشكال التتابع والتتالي والمراحل والتطور. هل يعود مرةً واحدة أم على مراحل؟ هل يعود دفعةً واحدة أم بالتدريج؟ إن عودة جميع الأزمنة تساعد على الشهادة على الأعمال المتحقِّقة فيها، وما وقع فيها من طاعات وآثام. ومع ذلك قد تصعب إعادته؛ نظرًا لاجتماع متنافيات مثل الماضي والحاضر والمستقبل في آنٍ واحد، وهي صعوبة مَنشؤها قياس الغائب على الشاهد، خاصةً لو كان الغائب حالةً افتراضية لا يمكن تصورها، ولكن الزمان تيارٌ جارف، وإذا عاد فإنه يعود كذلك. أما الزمان المتوقِّف فإنه لا يكوِّن حياة، ربما يكون فقط تعاقُب الزمان في الإعادة أسرع إيقاعًا منه في الدنيا. وينعكس الإشكال نفسه على الحشر كله، هل يتم الحشر دفعةً واحدة أم على فتراتٍ متعاقبة؟١٩ وبالإضافة إلى سؤال الزمان تبرز أشكال الهيئة: هل تكون الإعادة كما كان الحال في الدنيا، أم تكون بصورٍ أخرى متغيِّرة؛ الكافر يزداد قبحًا، والمؤمن يزداد حسنًا؟ ولكن الحساب لم يتم بعدُ حتى تتغير الصور، وعودة صور الدنيا وقبحها وقذارتها وأمراضها وبؤسها استمرارٌ للبؤس بعد أن أنهاه موت البائسين، كما أنه استمرار لبهاء الأغنياء، وكأن الموت لم يكن نهاية للترف ومساواة بالفقراء؛ وبالتالي يعيش البؤساء في البؤس مرتَين، كما يحيا الأغنياء في الغنى مرتَين.٢٠ ولماذا يكون حساب يوم الميعاد بمقدار خمسين ألف سنة؟ وما الدافع لتضخيم الحساب؟ هل يرجع السبب في ذلك إلى كثرة العدد؟ قد يكون الهدف هو الدلالة النفسية؛ أي طيلة الانتظار والإحساس بطول الوقت؛ نظرًا لأهمية الحدث فيه.٢١
وقد يُنكَر موضوع الإعادة كله، ليس فقط باعتباره كيفية؛ أي استحالة المعدوم من لا شيء، وإمكان ذلك بالتجميع والتفريق للأجزاء، بل إنكار الإعادة من الأساس كموضوعٍ ميتافيزيقيٍّ خالص، أو كموضوعٍ جزئي في إنكار حشر الأجساد. ويأتي إنكار الإعادة نتيجة لعدة عقائد سابقة، منها إنكار حدوث العالم؛ فما دام العالم موجودًا قديمًا وباقيًا لم يفنَ، فإنه لا يعود. وهو أقرب إلى المنطق والاتساق ما دامت الإعادة نتيجةً طبيعية للقول بالحدوث والإيجاد ومن عدم؛ فالإيجاد من عدم يتلوه طبيعيًّا الإيجاد بعد العدم. أما إذا ثبت حدوث العالم، ثم أُنكِرت الإعادة بعد العدم، فإنه يكون بين النتيجة والمقدمة عدم اتساق منطقي؛ فما دام إثبات الوجود من عدم قد تم، فإن الإعادة تكون أسهل؛ وبالتالي لا يمكن إثبات الحدوث وإنكار الإعادة. أما إذا ثبت حدوث العالم وإعادة المعدوم، فإنه لا يمكن بعد ذلك إنكار البعث والقيامة فيما يتعلق بحياة الإنسان بعد الموت، ابتداءً من حياة القبر حتى الثواب والعقاب في الجنة والنار؛ إذ لا يمكن إثبات الأساس وهو الإعادة، وإنكار الفرع وهو الحشر، ولا يمكن إثبات المبدأ العام، وإنكار إحدى حالاته الخاصة؛ فالغاية من إثبات الإيجاد من عدم هي إثبات حشر الأجساد. أما إثبات صدق العالم وإثبات الإعادة، ثم إنكار البعث والقيامة وإسقاط الشرائع، فإنه أيضًا يأخذ الوسائل دون الغايات؛ فالغاية من إثبات حدوث العالم والإعادة هي إثبات حشر الأجساد، والغاية من إثبات حشر الأجساد هي الثواب والعقاب جزاءً على الأعمال طبقًا لقانون الاستحقاق، والغاية من ذلك كله إقامة الشرائع؛ فالعقائد النظرية وسائل لتحققِ غاياتٍ عملية، والتصورات الدينية إنما هي وسائل لأفعالٍ خلقية.٢٢ وإن إثبات حدوث العالم أو قِدمه إنما موضوعه نظرية الوجود في المقدمات النظرية الأولى، وإنما المكان هنا لإثبات إعادة المعدوم وحشر الأجساد أو إنكارهما.

ويتم إنكار الإعادة ضرورةً أو استدلالًا. فالضرورة تقوم على أن تخلل العدم بين الشيء ونفسه مُحال؛ وبالتالي يكون الوجود بعد العدم غير الوجود الذي قبله، ولا يكون المعاد هو المبدأ بعينه. وأما الاستدلال فإنه يقوم على ثلاث حجج: الأولى أن الشيء بعد عدمه نفيٌ محض، ولا تبقَ هويته أصلًا، فلا يعود، والمحكوم عليه متميِّز عن غيره، والمتميِّز ثابتٌ غير معدوم؛ فالمعدوم لا يمكن إصدار الحكم عليه بإعادته؛ لأنه أساسًا غير موجود، وإصدار الحكم لا يكون إلا على موجودٍ متميِّز، كما أن الحكم بأن المعاد عين الأول يستدعي تميزه حال العدم، وهو مُحال. والثانية أن إعادة المعدوم بتقدير وقوعه لا يتميز عن مثله؛ وبالتالي تبطل الإعادة للشيء الفردي. ولماذا الإعادة بعينها والله قادر على إيجاد مثله مستأنَفًا؟ وفي هذه الحالة، لا يتميز العادي من المستأنَف، وتلزم الاثنينية بلا امتياز، وهو مُحال. والثالثة أنه لو أُعيدَ المعدوم لتمَّت إعادته والأول معه؛ وبالتالي يكون مبتدأً، وهو تناقض؛ لأن الإعادة ثانية، وليست أولًا. وإذا كان المعاد معادًا بجميع عوارضه ومنها الزمان، فلا يكون الوقت الأول معادًا ثانيًا، وإلا كان خُلفًا.

وقد يأتي الإنكار من أن الإعادة كلها من عمل الوهم، وأن الهلاك إنما يعني التقابل لكل ممكن، وأن ذلك يتطلب إعدام الجنة والنار، وأنه يستحيل إعادة المعدوم. ٢٣ ويستمر إنكار الحالة الخاصة، وهي حشر الأجساد، بحججٍ جديدةٍ مستمَدَّة من حجج المبدأ العام، وذلك مثل قِدم العالم؛ وبالتالي يستحيل الحشر، أو إن الجنة والنار إما في هذا العالم أو في عالم آخر، وإذا كانتا في هذا العالم فإما أن تكونا في عالم الأفلاك أو في عالم العناصر، والأول ليس فيه فساد ولا فناء ولا ألم؛ وبالتالي لا إعادة له؛ لأنه باقٍ، والثاني يُوجِب التناسخ. ويستحيل في عالمٍ آخر؛ لأنه لا وجود للشكل الكروي خارج العالم. وقد تكون الحجج أكثر حسية بعيدة عن موضوع العالم، مثل لو أكل إنسان إنسانًا، وأصبح المأكول جزءًا من الآكل، فكيف يعود المأكول؟ وهل إذا عاد الآكل يعود المأكول ضرورة؟ وهل يكون المأكول إذا عاد فردًا مشخَّصًا؟ وإذا كان القصد من الحشر الإيلام أو الإلذاذ، فالإيلام لا يصحُّ من الحكيم، والإلذاذ باطل لورود العقاب.٢٤ والحقيقة أنها في معظمها حججٌ صوريةٌ طبيعيةٌ ميتافيزيقية للإنكار، يُرَد عليها إما بحججٍ مثلها، أو بحججٍ أخرى تعتمد على التجربة الإنسانية. فالإعادة أسهل من الابتداء، والقادر على الأول قادر على الثاني بطريق الأولى. وقد يؤدي إنكار الإعادة وحشر الأجساد إلى القول بوجود أبعاد وامتدادات لا متناهية لضرورة وجود أجسام لا تتناهى؛ وبالتالي القول بقِدم العالم؛ ممَّا ينافي القول بالحدوث، وهو ما يحيل إلى نظرية الوجود من جديد في المقدمات النظرية الأولى. ولكن قد تُئوَّل الإعادة مع حشر الأجساد بأن الغاية منها ليست العقيدة النظرية التي تُطابِق واقعةً مادية يمكن معرفتها بالعلمَين الطبيعي أو الإلهي، بل الغاية منها عمليةٌ صِرفة؛ فالإعادة وحشر الأجساد الغاية منهما الترغيب والترهيب، وحث الناس في حياتهم على العدل، وإبعادهم عن الظلم؛ حتى يصلح حالهم في الدنيا. وتأويل أمور المعاد على هذا النحو مثل تأويل الصفات؛ فالغاية من العقليات والسمعيات واحدة، وهي توجيه النفس في الدنيا، وليس إعدادهم للآخرة. أما حجة الاحتياط فهي رهان على الحشر، حتى إن خسر الإنسان في حالة عدم وقوعه لا يخسر شيئًا، وإن كسب في حالة وقوعه فإنه يكسب كل شيء. وهناك تكون الحياة مقامرة، والعقائد رهانًا، الغاية منها أيضًا المَكسب العملي في الدنيا؛ فحساب الآخرة إنما يتم تحصيله في الدنيا؛ فلا وجود ليقينٍ نظري في أمور المعاد، إنما اليقين عمليٌّ خالص.٢٥ وكأن القرآن من قبل قد جادل المُنكِرين للحشر كما يجادل المتكلِّمون الفلاسفة؛ وبالتالي دخل الموضوع في علم العقائد من مناقشتَين تاريخيتين؛ الأولى في بداية الحضارة في أصل الوحي، والثانية بعد اكتمالها.٢٦

(٣) البعث

ثم تتحدد المسألة أكثر فأكثر، وتتحول من مجرد مسألة ميتافيزيقية، إعادة المعدوم بوجهٍ عام إلى حشر الأجساد بوجهٍ خاص، إلى موضوع البعث الذي يجمع بين العام والخاص؛ ففي إعادة المعدوم الأولوية للفعل وللقدرة الإلهية، في حين أنه في البعث الأولوية للشيء. والبعث والنشور معنًى واحد، وهو الإخراج من القبور. وحشر الأجساد يعني سوقها إلى الموقف المُسمَّى بالحشر بعد بعثهم من القبور المُسمَّى بالنشر. فهي كلها معانٍ متقاربة، والخلاف بينها في التوقيت؛ أي في وقت الحدث. فالبعث والنشر أولًا ثم الحشر ثانيًا. الأول الخروج من القبور، والثاني الوصول إلى الموقف. والمهم هو عموم البعث، وليس بعث فرد بعينه؛ لأنها قضية مبدأ، وليست قضية شخص.٢٧ ويتم البعث عن طريق تجميع الأجزاء الأصلية من أول العمر إلى آخره حتى ولو قدمت، ويتم البعث ابتداءً من العظم بعد أن يتحلل اللحم وتأكله الديدان؛ فالعظام هي التي تحيا يوم القيامة، كما أنها ما يُخلَق قبل أن يكسوه اللحم.٢٨ والحشر على أربعة أنواع: اثنان في الدنيا، واثنان في الآخرة. ففي الدنيا إخراج اليهود من جزيرة العرب إلى الشام، وسوق النار التي تخرج من أرض مدن باليمن للكفار وغيرهم من كل حي قربَ قيام الساعة إلى المحشر، فتُثيب معهم، وتقيل معهم، فتدور الدنيا كلها وتطير، ولها دويٌّ كدوي الرعد القاصف، وحكمتها الامتحان والاختبار. مَن علِم أنها مُرسَلة من عند الله وانساق معها سلِم منها، ومن لم يكن كذلك أحرقته وأكلته. وبعد سوقها لهم إلى المحشر يموتون بالنفخة الأولى بعد مدة. هذان النوعان في الدنيا، وواضح في المكان الأول هو المعنى الحرفي للحشر؛ أي إخراج الناس من مكان إلى مكان، مثل إخراج اليهود من الجزيرة العربية أحد أهداف الإسلام السياسي الأولى، ثم إخراج الكفار بالنار من مدن اليمن خارج الجزيرة إلى يوم القيامة. من تعرَّف عليها سلِم منها، ومن لم يعرفها احترق بها. وهذا النوعان يدلان على أن النوعَين الآخرين إنما هما امتداد لحشر الدنيا في الآخرة قياسًا للغائب على الشاهد. أما نوعا الآخرة، فهما البعث والخروج من الأرض إلى يوم الحشر، راكبًا أو ماشيًا أو منكفئًا على وجهه، وصرف الناس من الموقف إلى الجنة والنار. الأول يبدأ من الأرض خارجًا عنها. وصور الخروج تُطابق نوع الأعمال؛ أفضلها الراكب، وأقلها الماشي، وآخرها المنكفئ على الوجه. الراكب هو التقي، والماشي على رجلَيه هو قليل العمل، والمُنكبُّ على وجهه هو الكافر. الركوب دلالة العظمة، والمشي للرجل العادي، والانكفاء على الوجه علامة الذل والمهانة. والثاني حشر الناس من الموقف قبل الحساب إلى الجنة أو النار بعد الحساب. وقد فصَّل الصوفية أنواع الحشر، واعتمد علم أصول الدين في هذا الموضوع على خيالات التصوف.٢٩ ويكون البعث بالأجساد والأرواح معًا، وليس بالأجساد وحدها؛ لأن الأجساد لا تحيا إلا بعودة الأرواح إليها، وليس بالأرواح وحدها؛ لأن الثواب والعقاب للأجساد والأرواح معًا. والبعث غير التناسخ؛ ففي التناسخ تعود الأرواح إلى أجسادٍ مختلفة في الدنيا؛ الروح الحسنة في قالب حسن، والروح السيئة في قالب سيئ؛ أي انتقال الروح من بدن إلى بدنٍ مُخالف للأول دونما جنة أو نار، في حين أن البعث هو عود الروح إلى الأجزاء الأصلية من أول العمر إلى آخره.٣٠ ويبدأ الحشر بأنواعه الأربعة من مكانٍ معيَّن هو القدس المبدَّلة، التي لم يعصِ اللهَ أحدٌ عليها، وهي غير القدس المدينة الأرضية. هذا من حيث المكان. أما من حيث الزمان، فيبدأ بالنفخة الثانية، وهي نفخة البعث؛ إذ تُجمَع الأرواح في الصور، وفيها ثقوب بعددها، تخرج الأرواح إلى أجسادها، فلا تخطئ روحٌ جسدها. أما النفخة الأولى، نفخ إسرافيل في الصور النفخةَ الأولى، فعندها قد تفنى النفس، وقد لا تفنى. إنما لا خلاف في بقائها بعد النفخة الأولى بعد فناء الجسم، حتى الأنبياء والملائكة الأربعة الرؤساء والحور العين وموسى. النفخة الأولى إذن فناء الأرواح كليةً، ما بقي منها قبل موت أجسادها، أو ما بقي منها بعد موت أجسادها. والنفخة الثانية بعث الأرواح من ثقوب الصور بعددها، وكأن الصور بها آلاف الملايين من الثقوب. ماذا يكون طوله إذن؟ وهل وظيفة الصور إصدار الصوت أم بعث الأرواح؟ هل هو آلةٌ سمعية أم آلةٌ بصرية؟ المهم في النفختَين أن البعث يتم في الزمان، وما بين النفختَين أربعون عامًا! ولكن بحساب مَن؟ بحساب الدنيا أم بحساب الآخرة؟٣١ وكيف يكون مصنوعًا من نور، والنور ليس مادة تكون بها ثقوب، ويُمسِك بها إنسان، وينفخ فيها بفمه؟ وكيف يكون عرضها ما بين السموات والأرض؟ وماذا يكون طول إسرافيل وعرضه وهو الذي يُمسِك بها بيدَيه، ويحرِّك على ثقوبها أصابعه؟ وهل الروح تحتاج إلى مثل هذه الضخامة، أم إن كل تضخيم هو تشخيص لمدى الهول الذي يلاقيه الإنسان بعد الموت، وما ينتظره من حساب؟
ثم يبدأ الخروج من الأرض والحشر إلى الموقف. ولكن من هو أول من تتشقق عنه الأرض؟ بطبيعة الحال هو النبي، كما أنه أول داخل إلى الجنة، وبعده نوح. ولماذا نوح دون موسى أو عيسى؟ ألا تقول كل أمة عن نبيها إنه أول من يخرج إلى الحشر، وأول من يدخل الجنة؟ ولما يرِد بعده الصحابي أبو بكر قبل باقي الأنبياء؟ ولماذا لا يأتي عمر بعد أبي بكر قبل الأنبياء، وفضل عمر ورؤيته يشهد بها الجميع، وما زالت حتى الآن قدوة ونبراسًا على الجرأة على الواقع، والدفاع عن مصالح الناس، ونموذج الحاكم؟ أليست هذه المفاضلة إسقاطًا في الدنيا على الآخرة طبقًا لتصور المجتمع لأفضلية الأنبياء وترتيب الصحابة؟ ويكون الحشر في صورٍ مختلفة حسب الأعمال؛ فإذا كان الإنسان زانيًا فإنه يخرج في صورة قرد؛ ربما لأن الحياة الجنسية للقرود وحياة المشاع، ومؤخرتهم ظاهرة حمراء مكوَّرة، تدل على العري وعدم الحياء، وهو مصدر التهكم الإنساني عندما يُوصَف إنسان بأنه قرد. وإذا كان من آكلي السحق والمكس فإنه يُحشَر في صورة خنزير؛ لما كان الخنزير آكل القذارات والأوساخ. وإذا كان جائرًا في الحكم فإنه يُحشَر أعمى؛ نظرًا لأن الجور عماء، والظلم فقدان للبصيرة والرؤية. وإذا كان مُعجَبًا بعمله فإنه يخرج أصم أبكم؛ حتى لا يستمر في الإعجاب، فلا يتحدث بثناء النفس، ولا يسمع ثناء الآخرين، وكأن نعمته في الدنيا قد حُرم منها في الآخرة. وإذا كان واعظ سوء منافقًا، تُخالف أفعاله أقواله، فإنه يُحشَر ماضغًا لسانه، مدليًا على صدره، يسيل القيح من فمه؛ جزاءً له على لوكه بالكلام دون إتمامه بالأفعال. وإذا كان مؤذيًا لجيرانه فإنه يخرج مقطوع الأيدي والأرجل؛ جزاءً له على سعيه بالسوء، واستعماله الأطراف للأذى. وإذا كان ساعيًا بالناس إلى السلطان فإنه يخرج مصلوبًا على جذوع من نار، يُلاقي من نفس العذاب الذي سبَّبه للآخرين. وإذا كان مُقبِلًا على الشهوات واللذات مانعًا حق الله من أمواله، فإنه يخرج أشد نتنًا من الجيف، وكأنه أكل في بطنه نارًا وسعيرًا. وإذا كان من أهل الكبر والعُجب والخيلاء، فإنه يخرج لابسًا جبةً سابغة من قطران لاصقةً بجلده؛ إذلالًا له وكسرًا لنفسه وقلبًا لدنياه في آخرته.٣٢
ولكن، هل سيبقى المكلَّفون وحدهم العقلاء البالغون، أم سيُبعَث غيرهم من المجانين والصبيان؟ ولمَ يُبعَثون إذا كانوا لا يُحاسَبون؟ وفي أية صورة يخرجون وهم غير مكلَّفين، ولا ينطبق عليهم قانون الاستحقاق؟ هل يُبعَث الملائكة وهم غير مكلَّفين أيضًا وإن كانوا يحيون ويموتون؟ وكيف يموتون ولا أجساد لهم؟ ما رسالاتهم؟ وهل يقصِّرون في أدائها حتى يستحقوا الثواب والعقاب؟ وهل لهم عقل وحرية وإرادة حتى يعقلوا ثم يعترضوا كما فعل إبليس؟ وهل يُحشَر الجن والشياطين؟ من هم أنبياؤهم ورسلهم؟ وما هي رسالاتهم التي أُرسلت إليهم؟ وهل لهم عقل واستطاعة على الفعل حتى يكونوا مُحاسَبين؟ هل تُبعَث البهائم والحشرات والطيور؟ هل تُبعَث الوحوش الكاسرة والحيوانات المفترِسة؟ من هم رسلهم وأنبياؤهم؟ وما جوهر رسالاتهم؟ وهل لديهم عقل ورؤية أو قدرة واستطاعة على الفعل؟ وماذا عن السقط الذي تتم أعضاؤه ولم يرَ النور بعد، ولكن دخلت فيه الروح؟ هل هو مسئولٌ بالغٌ عاقل حتى تُعاد إليه الحياة، ويُبعَث ويقف يوم الحشر انتظارًا للحساب؟ ولكن هل تُقاس الأمور الأخروية على الأمور الدنيوية؟ إذا كان الصبية والأطفال والمجانين والسقط كل ذلك غير مكلَّف في الدنيا، ألا تُرَد إليه الروح في الآخرة لما كانت الآخرة هي دار الحياة والبقاء؟ وإذا كان السقط الذي دخلت فيه الروح قبل أن يرى الدنيا يُرَد في الآخرة في مثل أهل الجنة طولًا وعرضًا، وبهاءً وجمالًا، ألا يكون ذلك استحقاقًا؛ وبالتالي يتساوى مع أهل الاستحقاق على الأعمال؟ والحقيقة أن كل هذه الصور إنسانيةٌ خالصة، تقوم على قياس الغائب على الشاهد، خاصةً في صور الحشر، وطريقة الوصول إلى المحشر، وفي تصور الأطفال في الجنان، والحشرات في دورات المياه.٣٣

فكما أن الموت قد لا يكون مجرد حادثة طبيعية بتوقف وظائف الحياة، بل يكون موتًا شعوريًّا، فكم من الناس أحياء وهم أموات، وكم من الناس أموات وهم أحياء، فكذلك قد لا يكون البعث واقعةً مادية تتحرك فيها الجبال، وتموج فيها البحار، وتخرج لها الأجساد، بل يكون البعث هو بعث الحزب، وبعث الأمة، وبعث الروح. فهو واقعةٌ شعورية تمثِّل لحظة اليقظة في الحياة في مقابل لحظة الموت والسكون؛ ولذلك كانت مشاهد البعث كلها حياة وحركة؛ يعني البعث استمرار الحياة، وأن الموت ما هو إلا حالةٌ عارضة؛ لذلك آثر كثير من الأدباء تسميتهم رواياتهم «البعث»، وكثير من السياسيين تسمية حزبهم «البعث»، وهو الاسم المفضَّل عند جميع رواد النهضة الحضارية لدى كل شعب وعند كل أمة.

(٤) المعاد الروحاني

وفي مقابل رجعة الأموات والمعاد الجسماني والبعث، وكلها تتطلب إعادة الحياة إلى الجسد، ممَّا يسبِّب صعوباتٍ نظرية ومشاكل يصعب حلها، يأتي المعاد الروحاني واضعًا حدًّا لهذه الصعوبات، ومستبعِدًا معظم الإشكاليات، مستغنِيًا عن الجسد كليةً؛ فالمعاد للأرواح وحدها، وهي التي ستنال الثواب أو العقاب، ولكن استبعاد إشكاليات إحياء الجسد أوقع في إشكالياتٍ أخرى بالنسبة للروح. فإذا كانت الإعادة ممكنة بشكلٍ ما، فماذا تعني الروح في المعاد الروحاني؟

(أ) ماذا تعني الروح؟

التصورات تتفاوت بين التصورات المادية والتصورات الروحية؛ فقد تكون الروح جسمًا لطيفًا شفافًا ينتشر في البدن ويتشابك معه، يصعد ويهبط، ويعرج ويُرَد إلى البرزخ، وهو جسمٌ ذو صورة وشكل وهيئة، لا في الظلمة والكثافة والرقة واللطافة؛ فالصورة أقرب إلى طبيعة الروح من المادة، والشكل أنسب لها من الثقل والوزن، والهيئة أكثر ملاءمة لها من الكثافة والظلمة. وإن رفع الروح والعروج به في حواصل طيور خضر إلى الجنة، والهبوط به إلى سحيق النار، يدل على أن الروح جسم، كما أن إقبال بعضها في يوم «ألست بربكم» بوجهها والبعض الآخر بظهرها، دليل آخر على أنه جسم. الروح هنا صورة الجسم أو هيئته، لما كانت الصورة هي مبدأ التفرد للجسم والتعين للمادة. ولكن يظل الإشكال قائمًا: هل الروح جسم؟ وما صلته بالبدن؟ هل هما متَّحِدان ما دامت الروح جسمًا أم متمايزان؟ وما وجه التمايز؟ قد تكون أقرب إلى الاتحاد كما هو الحال عند المتكلِّمين، أو أقرب إلى التمايز كما هو الحال عند الحكماء. ولكن لا يوجد مكان للروح في الجسد، وإلا إذا قُطع عضو في حيوان قُطع عضو في الروح؛ وذلك لأن لطافتها تقتضي سرعة انجذابها من العضو المقطوع قبل انفصالها. وإذا كانت بالجسم، هل تكون بالبطن أو القلب؟ ولماذا لا تكون في الدماغ وهو آخر ما يموت من جسد الإنسان؛ إذ تصعد الروح من القدمَين إلى الرأس؟ قد يكون اتصال بعضها تنجيزيًّا، أي دفعة واحدة، والبعض الآخر تدريجيًّا. الأول بالطفرة والثاني بالتطور. الأول بالخلق والثاني بالطبيعة. وقد تظهر الحياة في الجسد عادةً، وليس بملامسة الروح له؛ وبالتالي تكون الروح علةً مقارنة، وليست علة فاعلة.٣٤ وقد ظهر هذا التصور المادي للروح في إطار التصورات المادية القديمة التي انتشرت في البيئة الحضارية؛ فقد كانت الروح جسمًا ماديًّا يُوصَف بالطول والعرض والعمق. وهو تصورٌ طبيعيٌّ صِرف، لا يُدخِل في الاعتبار صِلتها بالبدن. وقد تكون لها صفة الحد والنهاية؛ وبالتالي لا تُفارِق البدن عند الموت؛ ومِن ثَم لا تميِّز الحيوان في شيء.٣٥
وقد يتحدد الروح بالنفس، ويكون هو مصدر الحياة ومبدأها. ولا يختلف في هذه الحالة أيضًا عن الجسد أو أحد عناصره مثل الدم أو المزاج، وهو اجتماع العناصر الأربعة في معنًى خامس، أو الحرارة الغريزية، أو الأبخرة المتصاعدة إلى الدماغ، والذي يتولد من حركة الدم في الشرايين والأوردة التي بها حياة كل حيوان، ولا تختص بنوع الإنسان وحده، وهو موضوع علم التشريح.٣٦ ولكن تظل الروح جسمًا والحياة عرضًا لها. ومع ذلك تظهر بدايات التمرد على هذا التصور حين اعتبار البدن آفة على الروح وباعثًا على الاختيار، وكأن الروح تتململ من وجودها في البدن، وتتمرد عليه، وتبغي التمايز عنه والاستقلال منه والخروج عليه. ولو خلص الروح من البدن لكانت كل أفعاله على التولد والاضطرار. وقد تصبح النفس معنًى بين الجسم والجوهر؛ حتى يمكن الجمع بين التصورَين المادي والروحي. وقد يحدث التمايز بين النفس والروح، وبين الروح والحياة؛ فالحياة عرض. وفي هذه الحالة، يكون النوم سلوب النفس والروح دون الحياة. ولكن، هل النفس عرَض للجسم، آلة يستعين بها على الفعل؟ هل هناك روحان في كل جسد؛ روح اليقظة تغيب عند النوم، وروح الحياة التي تُفارقه عند الموت؛ فالموتة موتتان؛ موتة عند النوم، وموتة عند الموت؟ وقد ارتبط هذا التصور المادي النسبي، الروح باعتباره نفسًا وحياةً وعرَضًا، بالبيئة الحضارية القديمة بعد عرضها على العقل والسمع وإيجاد بعض المشروعية لها، خاصةً وأنها تجمع بين المطلبَين العلمي والديني، العقلي والسمعي.٣٧ وقد تكون جوهرًا متعلقًا بالبدن غير داخل فيه ولا خارج عنه، ولا تكون جسمًا ولا عرضًا. وهو أيضًا تصورٌ متوسط بين المادي والروحي، لا يبعد عن المادي، ولا يصل إلى الروحي.٣٨ وفي وسط هذه التصورات للروح لا يُنسى الموضوع الأساسي، وهو المعاد والثواب والعقاب والغاية من إعادة الروح إلى الأجساد، ولكنه أيضًا يتم تصوره على نحوٍ ماديٍّ مكاني؛ فهناك أماكن للروح بعد الموت، وتختلف أماكن أرواح السعداء عن أماكن أرواح الأشقياء. قد تكون أرواح السعداء بأفنية القبور، أو في البرزخ عند آدم في السماء الدنيا، ولكنها لا تستقر على حال، تسرح حيث شاءت، وقد تصل إلى الشام، وقد تعود إلى بئر زمزم، وهي متفاوتة في مكانها أعظم التفاوت، كسبق على تفاوت مراتبها في الجنة. أما أرواح الكفار ففي بئر في حضرموت، سجين في الأرض السابعة السفلية. الأرواح السعيدة حرة تسرح كيفما شاءت، والأرواح الشقية سجينة. الأولى في السماء، والثانية في الأرض. الأولى في الارتفاع، والثانية في الانخفاض.٣٩ والحقيقة أن كل هذه التصورات لمكان الروح إنما هي شخصيةٌ خالصة طبقًا لاختيار المكان. فكيف تكون أرواح السعداء فوق أبنية القبور، وهي كما تعلم من حال المقابر مكان المُوبِقات والفارِّين والهاربين واللصوص والأشقياء؟ وإذا كان اختيارها لزمزم ما يبرِّره، فما سبب اختيارها لجابية الشام؟ هل لأن هناك بيت المقدس؛ وبالتالي تكون هناك عدالة في التوزيع والاختيار بين القبلتَين مكة والقدس؟ ولماذا تصعد في البرزخ عند آدم في السماء الدنيا وتترك الأرض؟ وهل السماء مكان؟ وأين يكون التفاوت في الأرض، على أفنية القبور أو في مكة أو في القدس؟ ولماذا تكون أرواح الأشقياء في حضرموت؟ هل لأسبابٍ جغرافيةٍ صِرفة؛ الحر، الجفاف، أم لأسبابٍ سكانية؛ الوحدة والعزلة ووحشة الصحراء، أم لأسبابٍ سياسية؟ ولماذا لا تتفاوت مراتب الأرواح في الأرض طبقًا لسوء الأعمال؟ وإذا كانت الأرض عيبًا تبقى فيها الأرواح الشريرة ولا تصعد إلى السماء، فإنها أيضًا إحدى اختيارات الأرواح الطيبة. وكيف يمكن التمييز بين الأرواح الطيبة والأرواح الخبيثة والحساب لم يتم بعد، والأعمال لم تُعرَض بعد، وكأن الحكم قد صدر قبل الدفاع؟ ونظرًا لهذه الصعوبات كلها في تصور الروح مُسبَقًا يمكن التوقف عن الحكم، وتفويض الأمر، والإمساك عن الخوض فيه.٤٠ وقد يُستدل على عدم الخوض فيها، وبأنها سر ضد الاعتقادات الشائعة، بأنها شيء يخرج من فم الميت، وبأنها كالهواء أو الأثير عند الطبائعيين المتأخرين، أو كالحيوانات الصغيرة جدًّا التي توجد في الحياة، والتي لا تُرى حتى بالمجسمات والمكبرات للمرئي، أو كالعقار الصغير، أو شرارة النار، أو الجزء الصغير من السم، أو المغناطيس غير المرئي وخاصية الجذب ولا يُرى بالعين؛٤١ فالتفويض نفسه يقوم على تصورٍ مادي للسر الذي يُراد الإمساك عنه!
وإذا كان التصور المادي للروح قد غلب على علم أصول الدين، فقد ظهر التصور العقلي للروح في علوم الحكمة بتعريف الروح على أنها هي العقل، وبعد أن طغت علوم الحكمة على علم أصول الدين في المرحلة المتأخِّرة، وقبل مرحلة العقائد والشروح. وفي الوقت نفسه يسهِّل هذا التعريف إثبات خلود النفس والقول بخلود العقل كحلٍّ وسط بين الفناء والبقاء، وكردٍّ على البيئة الحضارية القديمة؛ وبالتالي ينتقل موضوع الروح من مستوى البيولوجيا والفيزيقا إلى مستوى الميتافيزيقا والحكمة، ومن شهادة الحس إلى بداهة العقل، ومن النفس الحية إلى النفس الناطقة؛ فالعقل أحد قوى النفس، وقد توجد النفس دون عقل كما هو الحال في المجنون والصبي والطفل. والعقل نظري أو عملي. الأول قوة على أفعال الفكر والرؤية، أو الحدس والاعتقادات؛ والثاني قوةٌ عملية على الأفعال السلوكية. قد يُطلَق على الأول الجوهر المتعلق بالجسم تعلُّق التدبير والتصرف، وهو المُشار إليه في حديث «أول ما خلق الله العقل»، وحال النفوس بالقياس إليه حال الإبصار بالقياس إلى الشمس. والثاني مستمَدٌّ من المعنى اللفظي للعقل المستمَدِّ من «العقال»؛ أي المنع، في فك العقال؛ أي في حرية السلوك. لذلك ارتبط العقل بالعلم والتكليف؛ فهو أداة العلم وشرط التكليف. وإن تفضيل العقل على العلم أو العلم على العقل لهُو إدخال حكم قيمة في حكمٍ واقع. العقل وسيلة العلم وأداته، وليس أحدهما بأفضل من الآخر. أما أنواع العقل فهي كلها إسقاطاتٌ إنسانية وصورٌ فنية لشيءٍ واحد هو الوعي العاقل والتجربة العاقلة. العقل الغريزي الذي يتهيأ به الإنسان لإدراك العلوم النظرية هو الوعي في بداية تعقله. والعقل الكسبي الذي يكتسبه الإنسان من معاشرة العقلاء هو التجربة العاقلة والقدرة على التعلم. والعقل العطائي الذي يُعطى للإنسان لتوجيهه العلمي هو العقل الحدسي، الذي به يُدرِك الإنسان الحقائق النظرية فجأةً بلا تعمد وروية، والذي به يتوجه نحو الخير بالإرادة الطبيعية. وعقل الزهاد الذي يكون به الزهد هو العقل الفاعل، العقل الإرادي الذي به يأخذ الإنسان موقفًا من العالم. والعقل الشرفي هو العقل الكامل الذي لا يكون لشخص بعينه فحسب، مثل النبي، بل يكون للحكيم الذي يستطيع أن يصل به إلى أعلى درجات الكمال النظري والعملي. وهو في كل الحالات عقلٌ إنسانيٌّ صِرف، وعيٌ خالص، أكثر من العقل البيولوجي المرتبط بقُوى النفس الحية، وأقل من العقل الإلهي الحاصل على النور الرباني. هو أقرب إلى عقل الحكماء منه إلى عقل المتكلِّمين أو الصوفية.٤٢

(ب) هل الروح متميِّزة عن البدن؟

والحقيقة أنه لا يهمُّ معرفة الروح وحدها أو البدن وحده، بل ما يهمُّ هو معرفة هل الروح متميِّزة عن البدن من أجل إثبات المعاد الروحاني. فإذا تميَّزت الروح عن البدن، وكان البدن فانيًا، ثبت بقاء الروح بعد فناء البدن؛ وبالتالي يثبت المعاد الروحاني. يتوجه السؤال الآن ليس إلى الروح وحدها أو إلى البدن وحده، بل إلى الأنا؛ هل هي واحد أم مركَّب من اثنين؟ هل الأنا جسم، أم نفس وجسم، أم نفسٌ خالص؟٤٣ فإذا كانت الأنا جسمًا، فهل يكون البدن هو الأنا؟ هل يكون الأنا هو البدن من أول العمر إلى منتهاه، في كل أجزائه وصوره؟ هل هو البِنية المحسوسة أو العضو الحي؟ وكيف تكون الأجزاء الداخلة فيه والخارجة عن هويته أجزاءً من الأنا؟ وقد يكون الأنا جزءًا لا يتجزأ من القلب، أو أجزاءً لطيفةً سارية في الأعضاء، أو روحًا لطيفةً في الجانب الأيسر من القلب أو الدماغ، وقد يكون هو الأخلاط الأربعة في المزاج أو الدم، وقد يكون عبارة عن الحياة. وهنا تظهر الأنا على أنها الأنا البيولوجي الذي يتحدث عنه الأطباء، ويتعاملون معه في حالة التشخيص والعلاج.٤٤ ولكن، هل الأنا هو مجرد هذا الجسم الحي أو البدن العضوي؟ يبدو أن الأنا ليس هذا البدن المحسوس؛ لأن له ذاتًا يُعبَّر عنه بضمير المتكلم، الشخص الأول بالرغم من الغفلة عن الأعضاء؛ فعندما يقول الإنسان «أنا»، فإنه يعني هويته، ويعبِّر عن ذاته، ولا يشير إلى بدنه أو أعضائه. وقد تُقطَع الأعضاء الظاهرة، وقد تفنى وتنحلُّ إلى عناصر بسيطة، وتظل الأنا أو النفس باقية من أول العمر إلى آخره، بل إن مسار البدن غير مسار النفس؛ فإذا كان البدن كلما تقدَّم العمر ضعُف وذبل، فإن النفس تقوى وتنضج؛ ممَّا يدل على أنهما من طبيعتَين مختلفتين، يوجدان في الزمان في مسارَين مستقِلَّين ومتقابلين. وإذا كان البدن قادرًا من خلال الحواس على إدراك المحسوسات، كل حس يُدرِك محسوسًا، فإن النفس هي القادرة على إدراك المحسوسات الكلية الظاهرة والباطنة؛ أي المعقولات. وإذا اقتصر عمل الحواس على الإدراك، فإن نشاط النفس يمتد إلى إدراك الكليات والحكم بها ابتداءً من الجزئيات. وإذا كانت أفعال البدن غريزية أو انعكاسية، فإن أفعال النفس إراديةٌ اختيارية. وإذا كان نشاط النفس يتمثل في إدراك المُدرَكات الحسية والعقلية، الجزئية والكلية، وكانت هي الفاعل لجميع أنواع الأفعال، فإن البدن لا يُوصَف بمثل هذه النشاطات، كما تدل عديد من الشواهد النقلية على بقاء الحياة بعد الموت متمثِّلةً في حياة الشهداء. هناك إذن جوهرٌ ناطق بعد الموت، مستقِلٌّ عن البدن ومتميِّز عنه، وهو النفس.٤٥ هناك نفس مستقِلَّة عن البدن تحتاج البدن كآلة؛ فالجوهر لا تأثير له إلا من خلال البدن.٤٦ ولكن تظل المشكلة قائمة في حالة التركيب؛ أي الجمع بين الأنا النفسي والأنا الجسمي، وهي كيفية الجمع والتركيب؛ لذلك آثر الحكماء تميُّز النفس عن البدن كمقدمة لإثبات بقائها والاستغناء عن البدن كلية. فإذا كان العلم بالله لا ينقسم، وكان محله هو النفس، تكون النفس كذلك، والحال كذلك أيضًا بالنسبة لكل علم وفعل. كما أن القوة العقلية تقوى على أفعالٍ غير متناهية، في حين تكون قُوى البدن محدودة لا تقوم إلا بأفعالٍ متناهية.٤٧ وتكون العلاقة بين النفس والبدن علاقة الاستنباط بالاستقراء، العقل بالحس، الكل بالجزء، الجدل النازل بالجدل الصاعد.

(ﺟ) هل تفنى الروح بفناء البدن؟

كان الهدف من السؤال السابق عن تميز الروح عن البدن هو طرح هذا السؤال الأخير: هل تفنى الروح بفناء البدن؟ فالقول بعدم التمايز والتوحيد بين الأنا والجسم، يؤدي إلى القول بفناء الروح مع فناء البدن، وأنه ليس عند الله أرواح شهداء تُرزَق.٤٨ وبالتالي يكون للموت الكلمة الأخيرة، وهو ما يُضاد التجربة الإنسانية، والرغبة في تجاوز الموت واستمرار الحياة، والكشف عن الحقائق، واسترداد الحقوق والقصاص من مُغتصبيها. أما القول بالتمايز، فإنه يؤدي بالضرورة إلى القول ببقاء النفس، سواء كان ذلك مع حشر الأجساد أو بدونها كجوهرٍ خالص. فإذا كان المتكلِّمون قد ركَّزوا على إثبات حشر الأجساد، فإن الحكماء قد ركَّزوا على بقاء الأرواح بعد فناء الأجساد. فالنفس الناطقة لا تقبل الفناء عند المتكلِّمين الأشاعرة؛ لأن المواظبة على الفكر تُفيد كمال النفس ونقصان البدن؛ فلو فنيت النفس بفناء البدن لامتنع أن يكون المُوجِب لنقصان البدن سببًا لكمال النفس، وإذا كان عدم النوم يُضعِف البدن فإنه يقوِّي النفس؛ مما يدل على أنهما يسيران في خطَّين متعاكسين. وفي سن الأربعين يزداد كمال النفس، ويبدأ البدن في الضعف والوهن. وعند الرياضات الشديدة تحدث للنفس كمالاتٌ عظيمة، وتلوح لها الأنوار، وتنكشف لها المغيَّبات، في حين يضعف البدن. وهي حججٌ مُشابِهة لحجج الحكماء في إثبات تميُّز النفس عن البدن. هذا بالإضافة إلى أقوال الأنبياء والحكماء ممَّا يُثبِت الجزم بعدم فناء النفس بفناء البدن، وببقائها بعد فنائه.٤٩ أما حجج بقاء النفس عند الحكماء، فإنها تعتمد على أن النفس بسيطة لا تركيب فيها؛ فالنفس الناطقة لا تقبل الفناء لأنها بسيطة. ولو قبِلت الفناء لكان للبسيط فعل وقوة، وهو مُحال. ولو صح عليها العدم لكان إمكان العدم مقدَّمًا لا محالة على العدم، واستدعى ذلك الإمكان محلًّا باقيًا، مع أن الشيء لا يبقى عند عدمه. ولو صح العدم على النفس لكانت مركَّبة من مادة وصورة، وذلك غير صحيح؛ لأنها ليست جسمًا. ولو عُدم جزء لكان قابلًا للعدم، ولافتقر إلى عدمٍ آخر باقٍ، وتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، وهو مُحال. فالإمكان هنا وجود وليس مجرد حكم ثبوتي، والنفس الإنسانية باقية بعد البدن، ولا تفنى بفنائه، ولا لسبب من أسبابه؛ لأنه لا وجود لتعلق بينهما، لا بالتقدم والتأخر، ولا بالمعية والتكافؤ. التقدم إما بالزمان أو المكان أو الشرف أو الطبع. وإن كان التقدم بالذات لكان علةً صورية أو فاعلية أو مادية أو غائية. وإن كان التعلق بالتكافؤ فهما متطابقان. وفي كل الحالات، لا يجوز ذلك في تعلق النفس بالبدن؛ فالنفس حادثة ليس لها مكان، وليست متكافئة مع البدن، أو علةً مادية له. إنما النفس تتقدم عليه بالشرف والطبع، وهي أقرب إلى العلة الصورية أو الفاعلة، لما كانت النفس صورة البدن أو أحد كمالاته.٥٠
والحجة العظمى حجةٌ إشراقيةٌ خالصة، وهي إثبات سعادة النفوس بعد المفارقة نتيجة للعلم. فالنفس إما جاهلة، فتتألم بعد المفارقة لشعورها بالنقص، ولا مطمع لها في زواله؛ أو عالمة لها هيئات رديئة مُكتسَبة من ملامسة البدن، فإذا ما فنى البدن رسخ العلم، وشعرت بسعادتها. سعادة النفوس إذن لا تكون إلا بعد الموت بعد تخلصها من علائق البدن. وإذا كانت اللذة إدراك المُلائم، وكان المُلائم إدراك المجردات، فالمجردات لا تحصل إلا بعد الموت. وعلى عكس ذلك يكون شقاء النفوس الجاهلة بسبب الهيئات البدنية المتعلقة بالنفس.٥١ فسعادتها بحصول كمالها؛ أي أن تكون عالمة بالعقليات، متَّصِلة بالجواهر الروحانية. وبعد المفارقة تكون أقدر على ذلك، وتكون إمَّا قد عقلت شيئًا من كمالها ليس بطبعها، أو أن تكون حصلت عليه بطبعها مشتغلة بالرياضات. وقد يتقدم الحجةَ تقسيمُ قُوى النفس إلى ثلاث: شهوانية، ومحلها الكبد، وهي أدنى المراتب؛ وغضبية، ومحلها القلب، وهي أوسطها؛ وناطقة، ومحلها الدماغ، وهي أشرفها. فإذا فنيت القوتان الأوليان بفناء البدن، فإن القوة الثالثة، وهي النفس الناطقة، تبقى بكمالاتها. كما قد تنقسم قُوى النفس إلى نظرية وعملية، ثم تنقسم النظرية إلى مراتب، أشرفها النفس القدسية الإلهية، ثم يتلوها شرف النفس التي حصلت لها اعتقاداتٌ حقة في الإلهيات والمفارقات دون برهانٍ يقيني، بل اعتقادًا وتقليدًا، ثم تتلوها النفوس الخالية من الاعتقادات الحقة أو الباطلة، البرهانية أو التقليدية. وأخيرًا تأتي أقل النفوس درجة من حيث الشرف، وهي النفوس الموصوفة بالاعتقادات الباطلة.٥٢ والحقيقة أن هذه حجةٌ إشراقيةٌ «أفلاطونيةٌ» خالصة، لما كانت المعرفة الحقة لا تتم إلا بعد الموت. والسؤال الآن: هل كمال المعرفة والسعادة في العلم أم في العلم والعمل؟ وهل العلم هو الرياضي والإلهي؛ وبالتالي هو العلم الديني وليس الدنيوي، الصوري وليس المادي، العقلي وليس الحسي؟ هل المعرفة لذة أم وسيلة للعمل؟ ولماذا لا تكون السعادة في العمل والتحقيق والدخول إلى العالم، بدل الخروج منه والتأمل فيه؟ لماذا لا تكون السعادة في الثورة والغضب والتمرد، وليس في الإشراق والنقاء والصفاء؟ وإذا كانت النفوس تختلف من حيث طباعها وماهياتها، وليس فقط من حيث قدراتها ومجاهدتها، فكيف يكون هناك ثواب وعقاب طبقًا لقانون الاستحقاق؟ إن هذه الحجة تطهريةٌ خالصة تكشف عن الرغبة في قسمة الإنسان والعالم إلى قسمين: الأول دنيءٌ مملوء بالشهوات لا يصدر منها إلا بالجهل والموت، والثاني طاهرٌ متعفِّفٌ زاهد لا تصدر منه إلا الحكمة والخلود. ويخضع ترتيب قُوى النفس وحالاتها وطباعها إلى هذه النظرة التطهرية التي تستنكف من العالم وتهرب منه، باحثةً عن شيءٍ آخر خارج العالم، فتطير منه فارغة من غير مضمون، وتتركه وراءها. ولما كانت النفس أيضًا مشدودة إلى العالم من خلال البدن، فسرعان ما يتكالب الجسد عليه؛ وبالتالي يكون الإنسان متطهرًا من جانب النفس، متكالبًا على العالم من جانب البدن، ويصبح مقسَّمًا بين السماء والأرض، مشدودًا بين الله والعالم، فتضيع وحدته.
لذلك غلبت الإِشراقيات والنظريات الصوفية على علوم الحكمة؛ وبالتالي على علم أصول الدين. ولم يسلم ذلك من دخول بعض جوانب السحر والطلسمات ما دامت الروح المتجردة أو النفس القادرة قد وصلت إلى كمالاتها النظرية والعملية، وتجرَّدت عن علائقها في البدن وعن صلتها بالعالم. وقد ظهر ذلك في العقائد المتأخِّرة بعد أن توقَّف تطور علم التوحيد، وتسرَّبت الفلسفة إليه بعد استبعادها منذ القرن الخامس، وعادت إلى علم التوحيد الذي لا يشك فيه أحد من وراء ستار، بل تحوَّلت مسألة النفوس الناطقة في العقائد المتأخِّرة إلى مسألةٍ مستقِلَّةٍ معتمدة على الاستعارة من التحليلات الفلسفية. وينضم المعاد النفساني إلى المعاد الروحاني، ويظهر خلود النفس مع حشر الأجساد.٥٣ وما أسهل بعد ذلك من تأويل الحجج النقلية التي تتفق مع هذه الحجة الإشراقية. ويتجاوز الأمر من مجرد حجة لإثبات بقاء النفس بعد فناء البدن إلى إثبات للثواب والعقاب في هذه المفارقة ذاتها، فنعم النفوس الطاهرة في معرفتها، وشقاؤها في جهلها، دونما حاجة إلى ثواب أو عقاب حسِّيَّين حيث لا بدن.٥٤ وتنتهي حجج بقاء النفس بعد فناء البدن إلى غايتها القصوى، وهي إثبات المعاد الروحاني، وهذا الذي ركَّزت عليه مراحل الوحي السابقة، في حين ركَّزت المرحلة الأخيرة على المعاد الجسماني. فالمعاد الروحاني وارد، والمعاد الجسماني وارد أيضًا، والجمع بينهما بناءً على العقل والشرع. وكلاهما يدل على رغبة الإنسان في تجاوز الموت واستمرار الحياة.٥٥ الأول ليس موضوعًا للتكليف، ولا يرفضه الشرع رفض الحكماء لحشر الأجساد. يدل عليه العقل والشرع، وتؤيده بداهة الوجدان.

والحقيقة أن المعاد الروحاني يقوم على تصورٍ ثنائي للعالم، الحط من شأن البدن والإعلاء من شأن النفس. وهي نظرة متطهِّرة للعالم، ترى المادة شرًّا والروح خيرًا؛ ممَّا يؤدي في أغلب الأحيان إلى رد فعل عكسي؛ تصبح المادة خيرًا والروح شرًّا، كما هو الحال في المذاهب المادية، أو تتحول إلى نفاق ورياء عندما يعيش الإنسان على مستوى المادة، ويتظاهر بأنه يسلك على مستوى الروح. فطالما هناك ثنائيةٌ متعارضة لا يسلم الإنسان إما الوقوع في الخلط بينهما بدعوى التمييز، فيعيش في مستوى المادة مغطِّيًا نفسه بمظاهر الروح، وهو النفاق؛ أو تتسرب إليه المادة كلما أغرق في الروح، وكأن الصورة لا تعيش إلا بمضمون، حتى ولو على نحوٍ خفي. وكثيرًا ما تنتهي تحليلات الروح إلى وصف للمادة. والتصور الثنائي للعالم تصورٌ طفولي للإنسان قائم على ثنائية الخير والشر والثواب والعقاب، في حين أن الإنسان البالغ العاقل يعمل الخير لِذاته، ويتجنب الشر لذاته، دونما انتظار لثواب أو خوف من عقاب، دونما ترغيب أو تخويف. وهذا لا يمنع من حدوث ردود أفعال للأفعال الحسنة أو القبيحة في الدنيا، في الحال أو في المآل تكون في رأي الناس جزاءً أو عقابًا، وهي أفعال متولِّدة في الطبيعة ومنتجة في التاريخ. والتصور الثنائي للعالم موقفُ صادٍ يقوم على الالتذاذ بعذاب الآخرين؛ وبالتالي فهو موقفٌ يقوم على الكراهية لا المحبة؛ فالآخر غير قادر على الوصول إلى المعاد الروحاني مثل وصول الأنا، وهذا ما يعطي الأنا نوعًا من السرور والرضا عن الذات في مقابل عذاب الآخر وإحباطه؛ لذلك منع الصوفية العذاب للآخرين عندما أحبُّوا كل البشر. ومنهم من رغب فداء البشر كلهم بعذابه وحده، ويصبح الإنسان بطلًا منقذًا، مركز العالم، ومحور التاريخ. وفي الوقت نفسه، يكون التصور الثنائي للعالم موقفًا ماسوشيًّا يقوم على تعذيب البدن في سبيل إعلاء الروح، وكلما عُذِّب البدن درجة صعدت الروح درجة، وكلما اشتد العذاب كمًّا قويت الروح كيفًا، وكلما اشتد العذاب كيفًا تجلَّت الروح وجودًا؛ فالألم البدني لذة في سبيل سعادة أعظم هي رقي الروح. والتصور الثنائي للإنسان تصورٌ تشاؤمي؛ لأنه يقوم على أن البدن شر والروح خير، وأن هذا العالم ميئوس منه، وأن لا أمل فيه، وأن الرجاء كله خارج العالم، في العالم الآخر. يقوم باليأس من إنقاذ العالم، ثم يعوِّض هذا اليأس في إنقاذ الروح؛ لذلك يظهر هذا التصور الثنائي للعالم في لحظات الضعف والهزيمة عندما يتحد الإنسان بالجزء الفاني، ويعشق الجزء الخالد؛ تعويضًا له عن الهزيمة، أو عندما يتحد القاهر بالجزء الخالد، ويفعل في المقهور الذي اتحد مع الجزء الفاني ما يشاء، ثم يودُّ المقهور أن يصبح قاهرًا؛ كي يحوِّل القاهر إلى مقهور بالفعل. يعبِّر إذن هذا التصور الثنائي عن جدل الهزيمة والنصر، ويكشف عن أن الحياة معركة، ولكنه يجعلها مشخَّصةً فردية خارج العالم من أجل إنقاذه! والتصور الثنائي للعالم تصورٌ «رأسمالي» يقوم على المنافسة والمسارعة إلى الكسب، يعوِّض الخسارة إلى مكسب وبأسرع الطُّرق، لا عن طريق النزول إلى الأسواق، بل عن طريق المضاربة والمراهنة واحتوائها من أعلى. ففهم قوانين اللعبة مقدَّمة لاحتوائها، وكأن اللاعب الكبير يترك اللاعبين الصغار يتنافسون على الفتات، وهو يتمتع بالقسط الأكبر، ويمتلك القسط الأعظم. يتعامل الصغار مع «الصرف»، في حين يتعامل الكبير مع «الأوراق البنكية». وإذا كان الصغار فقراء، فالخوف على الأغنياء أن تكون أوراقهم المالية غير مغطَّاة، أو أن تكون شبكاتهم بلا رصيد. وأخيرًا التصور الثنائي للعالم تصورٌ طبقي يقوم على افتراض طبقات في العالم الآخر يتميز الإنسان بأعلاها عن غيره، وتنتقل المنافسة من الأرض إلى السماء، ومن الدنيا إلى الآخرة؛ فالصعود دائمًا إلى أعلى وعلى درجات، دون أن يكون هناك هبوط. ويتربع على القمة الفرد الأقوى والأغنى والأكمل، وكأن التصور الثنائي للعالم ينتهي إلى تصورٍ فردي خالص؛ إنقاذًا للذات على حساب الآخرين.

وكردِّ فعل على هذا التصور الثنائي، سواء في المعاد الجسماني أو المعاد الروحاني، أصبح الخلود للنفس الكلية المتحدة بالنوع، وليس للنفس الفردية. لا يتحقق الخلود بتشخيص الرغبات، بل يتحقق بالفعل من خلال الزمان بالنشاط والجهد؛ وذلك بتحقيق الإنسان وغايته في الحياة، وبتحوله إلى تاريخ وحضارة. ويمكن للإنسان أن يخلِّد نفسه من خلال حياته بنشاطه وفعله وعمله، عندما يُنتِج فكرًا ويترك أثرًا؛ وبالتالي يتحول وجوده الزماني إلى وجودٍ حضاري، كما يفعل الفلاسفة والشعراء والثوار والشهداء. ليس الخلود واقعة يمكن الحصول عليها أو لا يمكن لكل فرد، بل هي عملية تخليد، إمكانيةٌ محضةٌ مشروطة بجهد الإنسان وفعله، وكلٌّ قادر على الخلق والتأثير. فالمعاد ليس جسمانيًّا أو روحانيًّا، بل المعاد إنسانيٌّ خالص تكشف عنه رغبة الإنسان في مقاومة الموت واستمرار الحياة عن طريق أفعاله في الدنيا وآثاره في الناس، فيتحول وجوده الفردي إلى وجودٍ جماعي، ويُخلَّد الفرد في الجماعة، ويبقى في الأمة.٥٦
١  اختلفت الروافض في رجعة الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة، وهم فِرقتان. الأكثر منهم يرجع الأموات إلى الدنيا قبل يوم الحساب، وأنه لم يكن في بني إسرائيل شيء إلا ويكون في هذه الأمة مثله، وأن الله قد أحيا قومًا من بني إسرائيل بعد الموت، فكذلك يُحيِي الأموات في هذه الأمة، ويردُّهم إلى الدنيا يوم القيامة (مقالات، ج١، ص١١٤). وتقول بها إحدى فِرق الزيدية (مقالات، ج١، ص١٣٧). وكذلك المحمدية أصحاب جابر بن يزيد الجعفي (الفِرَق، ص٥٩). والسبئية (مقالات، ج١، ص٨٥). كما دافع ابن الراوندي عن الرجعة بالعقل والنقل، ونقده الخياط بالقرآن والسنة والإجماع دفاعًا عن الجاحظ (الانتصار، ص١٣٠-١٣١، ص٢٠٣). وتزعم العميرية الخطابية أنهم يموتون، ولكن لا يزال منهم خلف في الأرض أئمة أنبياء (مقالات، ج١، ص٧٨). ويقول فريق من السبئية إن عليًّا قد مات، ولكن يُبعَث قبل القيامة، ويُبعَث معه أهل القبول؛ حتى يقاتل الدجال، ويُقِيم العدل والقسط في العباد والبلاد. لا يقولون إن عليًّا هو الله، ولكن يقولون بالرجعة (التنبيه، ص١٨-١٩). في حين تُنكِر اليعقوبية والبترية (الزيدية) الرجعة، ويتبرَّءون ممَّن دان بها (مقالات، ج١، ص١٣٧).
٢  تُنكِر غلاة الرافضة القيامة والآخرة، فإنما هي أرواح تتناسخ في الصور. فمن كان محسنًا جُوزي بأن يُنقَل روحه إلى جسد لا يلحقه فيه ضرر ولا ألم، ومن كان مسيئًا جُوزي بأن يُنقَل روحه إلى أجساد، ويلحق الروح في كونه فيها الضرر والألم، وليس شيء غير ذلك، وأن الدنيا لا تزال أبدًا هكذا (مقالات، ج١، ص١١٤). وعند بعضهم (الكيسانية) ضعف الاعتقاد بالقيامة، وحُمل بعضهم على القول بالتناسخ والحلول والرجعة بعد الموت؛ فمِن مقتصِر على واحدٍ معتقد أنه لا يموت، ولا يجوز أن يموت حتى يرجع؛ ومن حق حقيقة الإمامة إلى غيره، ثم منحسِر عليه متحيِّر فيه (المِلَل، ج٢، ص٧٠). ويعزو ابن حزم عقيدة التناسخ إلى أحمد بن حابط، وأحمد بن نانوس تلميذه، وأبي مسلم الخرساني، ومحمد بن زكريا الرازي الطبيب في كتابه «العلم الإلهي»، وهو أيضًا قول القرامطة؛ فالأرواح تنتقل بعد مفارقتها الأجساد إلى أجسادٍ أخرى، وإن لم تكن من نوع الأجساد التي فارقت. يقول الرازي: «لولا أنه لا سبيل إلى تخليص الأرواح عن الأجساد المتصوِّرة بالصور البهيمية إلى الأجساد المتصوِّرة بصور الإنسان إلا بالقتل والذبح، لما جاز ذبح شيء من الحيوان البتة.» وهي خرافات بلا دليل؛ فقد ذهب هؤلاء إلى أن التناسخ إنما هو على سبيل العقاب والثواب. فالفاسق المسيء الأعمال تنتقل روحه إلى أجساد البهائم الخبيثة المرتطِمة في الأقذار، والمسخَّرة الممتهَنة بالذبح. واختلفوا في الذي كانت أفاعيله كلها شر لا خير فيها؛ فقال بعضهم أرواح هذه لطيفة هي الشياطين. وقال أحمد بن حابط إنها تنتقل إلى جهنم، فتُعذَّب بالنار أبد الأبد. واختلفوا في الذي كانت أفاعيله كلها خيرًا لا شر فيه؛ فقال بعضهم أرواح هذه الطبقة هي الملائكة. واحتج أحمد بن حابط وأحمد بن نانوس بآيات، مثل: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ …، جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ. واحتج من هذه الطائفة من لا يقول بالإسلام بأن قالوا إن النفس لا تتناهى، والعالم لا يتناهى لأمر؛ فالنفس منتقِلة أبدًا، وليس انتقالها إلى نوعها بأولى من انتقالها إلى غير نوعها. ويردُّ ابن حزم على ذلك بإجماع أهل الإسلام على تكفيرهم؛ فالمسلمون مُجمِعون على أن الجزاء لا يقع إلا بعد فراق الأجساد للأرواح بالشكر أو النعم قبل يوم القيامة، ثم بالجنة أو بالنار في موقف الحشر فقط إذا جُمعت أجسادها من أرواحها. والآيتان: الأولى فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ تعني الصورة التي رُتِّب الإنسان عليها من طول أو قِصر أو حسن أو قبح أو بياض أو سواد. والآية الأخرى تعني أن الله امتنَّ علينا بأن خلق لنا من أنفسنا أزواجًا نتولد منها، ثم امتنَّ علينا بأن خلق لنا من الأنعام ثمانية أزواج، ثم أخبر أنه يرزقنا هذه الأزواج؛ يعني التي هي من أنفسنا؛ فالأزواج المخلوقة لنا إنما هي من أنفسنا، ثم فرق بين أنفسنا وبين الأنعام؛ فلا سبيل إلى أن يكون لنا أزواج نتولد فيها من غير أنفسنا. ويكفي من هذا أن قولهم إنما هو دعوى بلا برهان، وإنما رتَّبوه على أصلهم في العدل، فأخرجوا هذا الوجه لما شاهدوه من إيلام الحيوان. وكل قول لم يُوجِبه برهان فهو باطل. ولم يأتِ هذا القولَ قط أحدٌ من الأنبياء، وهؤلاء مُقرُّون بالأنبياء (الفصل، ص٧١–٧٣). إن عملت على مقتضى جوهر النفس الناطقة انتقلت إلى بدن نبي أو ولي، وإن عملت على مقتضى جوهر النفس الحيوانية انتقلت إلى بدن حيوان آخر. وهكذا الإنزال في الانتقال، الارتفاع والانخفاض، وليس ثم حشر ولا معاد ولا جنة ولا نار (الغاية، ص٢٩٢).
٣  والفِرقة الثانية منعت من انتقال الأرواح إلى غير أنواع أجسادها التي فارقت، وليس من هذه الفِرقة أحد يقول بشيء من الشرائع، وهم من الدهرية، وحجتهم هي الحجة الأولى؛ أنه لا تَناهي للعالم، فوجب أن تُرَد النفس في الأجساد أبدًا، ولا يجوز أن تنتقل إلى غير النوع الذي أوجب لها طبعها الإشراف عليها وتعلُّقها به. ويردُّ ابن حزم على هذه الفِرقة بأنه يكفي لإثبات فساد قولها أنها دعوى بلا برهان، لا عقلي ولا حسي، وما كانت هكذا فهو باطل بيقين لا شك فيه. وقد خلق الله الأنواع والأجناس، ورتَّب الأنواع تحت الأجناس، وفصَّل كل نوع عن النوع الآخر بفصله الخاص له، والذي لا يشاركه فيه غيره، وهذه الفصول المذكورة لأنواع الحيوان إنما هي لأنفسها التي هي أرواحها؛ فنفس الإنسان حيةٌ ناطقة، ونفس الحيوان حيةٌ غير ناطقة. هذه هي طبيعة كل نفس وجوهرها الذي لا يمكن استحالتها عنه؛ فلا سبيل إلى أن يصير غير الناطق ناطقًا، ولا الناطق غير ناطق. ولو جاز هذا لبطلت المشاهدات، وما أوجبه الحس وبديهة العقل والضرورة لانقسام الأشياء على حدودها (الفصل، ج١، ص٧٢-٧٣).
٤  والفِرقة الثالثة قالت إن الأرواح تنتقل إلى أجساد من نوعها، فيبطل قولهم بطلانًا ضروريًّا بكل ما كتبناه في إثبات حدوث العالم، ووجوب الابتداء له والنهاية من أوله، وبما كتبناه في إثبات النبوة، وأن جميع النبوات ورد بخلاف قولهم وببرهان ضروري، وهو أنه ليس في العالم كله شيئان يشتبهان بجميع أعراضهما اشتباهًا تامًّا من كل وجه، يعلم هذا من تدبَّر اختلاف الصور واختلاف الهيئات وتباين الأخلاق. وإنما يُقال هذا الشيء يُشبِه هذا على معنى أن ذلك في أكثر أحوالهما لا في كلها. ولو لم يكن ما قلنا ما فرَّق أحد بينهما البتة. وقد علِمنا بالشاهدة أن كل من يتكرر عليه ذلك الشيئان المشتبهان تكررًا كثيرًا متصلًا، أنه لا بد أن يفصل بينهما، وأن يميِّز أحدهما من الثاني، أن يجد في كل واحد منهما أشياء بان بها عن الآخر لا يُشبِهه فيها؛ فصحَّ بهذا أن لا سبيل إلى وجود شخصَين يتفقان في أخلاقهما كلها، حتى لا يكون بينهما فرق في شيء منها. وقد علِمنا بيقينٍ أن الأخلاق محمولة في النفس، فصحَّ بهذا أن نفس كل ذي نفس من الأجساد من أي نوع كانت غيرُ النفس التي في غيره من الأجساد ضرورةً (الفصل، ج١، ص٧٣-٧٤).
٥  وقال أيضًا بعض من ذهب إلى التناسخ من الحاملين ذلك على سبيل الجزاء إن الله عدلٌ حكيم، رحيمٌ كريم؛ فمحال أن يعذِّب من لا ذنب له. فلما وجدناه يقطع أجسام الصبيان الذين لا ذنب لهم بالجدري والقروح، ويأمر بذبح بعض الحيوان الذي لا ذنب له وبطبخه وأكله، ويسلِّط بعضها على بعض فيقطعه ويأكله ولا ذنب له، علِمنا أنه لم يفعل ذلك إلا وقد كانت الأرواح عصاةً مستحِقَّة للعقاب بكسب هذه الأجساد لتُعذَّب فيها. وقد أبطل ابن حزم ذلك في الحديث عن البراهمة، وفي باب الكلام على من أبطل القدر من المعتزلة. فإن طردوا هذا الأصل وقعوا في مثل ما أنكروا ولا فرق، وهو أن الحكيم العدل الرحيم على أصلهم لا يخلق من يعرِّضه للمعصية حتى يحتاج إلى إفساده بالعذاب بعد إصلاحه، وقد كان قادرًا على أن يطهِّر كل نفس خلقها، ولا يعرِّضها للفتنة، ويلطف بها إلطافًا، فيُصلِحها بها؛ حتى تستحق كلها إحسانه، والخلود في النعيم، وما كان ذلك ينقص شيئًا من ملكه. فإن كان عاجزًا عن ذلك فهذه صفة نقص، ويلزم حاملها أن يكون من أجل نقصه مُحدَثًا مخلوقًا. فإن طردوا هذا الأصل خرجوا إلى قول المانوية في أن للأشياء فاعلَين، وقد تقدَّم إبطاله، وإن الذي لا آمر فوقه ولا مرتِّب عليه، فإن كل ما يفعله فهو حق وحكمة. وإذ قد تعلَّقوا بالشريعة فحكم الشريعة أن كل قول لم يأتِ عن نبي تلك الشريعة فهو كذب وفِرية؛ فإذا لم يأتِ عن أحد من الأنبياء تناسخ الأرواح، فقد صار قولهم خرافة وكذبًا وباطلًا (الفصل، ج١، ص٧٤).
٦  القائلون بحدوث النفس اتفقوا على فساد التناسخ لوجوه: (أ) استحالة اجتماع نفسَين على بدنٍ واحد. (ب) لو صح التناسخ لتذكَّرنا الحياة الماضية. (ﺟ) لو صح التناسخ للزم أن يكون عدد الأنفس مثل عدد الأبدان، وإلا لظلت معطَّلة (المحصل، ص١٦٦-١٦٧). إبطال التناسخ بإثبات حدوث النفس، وعلة حدوثها العقل الفعال وهو قديم (المعالم، ص١٢١-١٢٢). وعند أبي علي ابن سينا، النفس حادثة (المعالم، ص١٢٠-١٢١). وعند أرسططاليس وأتباعه، هي حادثة خلافًا لأفلاطون ومن قبله. لو كانت أزلية لكانت إما واحدة، فتتعلق بأبدانٍ كثيرة، وهذا مُحال؛ أو كثيرة، فقد انقسمت، وهذا مُحال (المحصل، ص١٦٥-١٦٦). والحجج المنطقية العقلية على ذلك في: الغاية، ص٢٩٣–٢٩٩.
٧  عند أهل التناسخ تبقى النفوس مجردة، والناقصة تتردد في الأبدان، ويُسمَّى نسخًا. وتتنازل إلى الحيوانية، ويُسمَّى مسخًا، وإلى النباتية ويُسمَّى رسخًا، وإلى الجمادية وتُسمَّى فسخًا؛ والصاعدة تتخلص من الأبدان كليةً، أو تتعلق ببعض الأجرام السماوية لاستكمال حاجتها. ولا يخفى أن ذلك كله رجم بالظن بناءً على قِدم النفوس وتجردها (المواقف، ص٣٧٤).
٨  زعمت البزيغية أنهم لا يموتون، ولكنهم يُرفَعون إلى الملكوت، ويرون المرفوعين منهم غداة وعشية (الفِرَق، ص٢٤٩؛ مقالات، ج١، ص٧٨). مِن أصحابه من هو أفضل من جبريل وميكائيل، وإن الإنسان إذا بلغ الكمال لا يُقال إنه مات، بل رُفع إلى الملكوت (المِلَل، ج٢، ص١٢٦). وهو قول عمر بن نبات العجلي أيضًا (المواقف، ص٤١٩-٤٢٠).
٩  عند الرازي، مسألة المعاد مبنية على أركانٍ أربعة؛ لأن الإنسان هو العالم الصغير، والعالم هو الإنسان الكبير، والبحث في كلٍّ منهما إما تخريبه أو تعميره بعد تخريبه. فهذه مَطالب أربعة: (أ) كيفية تخريب العالم الصغير، وهو بالموت. (ب) كيفية تعميره بعدما خرب، وهو أن يعيده كما كان حيًّا عالمًا عاقلًا قابلًا الثواب والعقاب. (ﺟ) كيفية تخريب هذا العالم الكبير، وذلك بتفريق الأجزاء، أو بالإعدام والإخفاء. (د) كيفية تعميره بعد تخريبه، وهو القول في شرح أحوال القيامة وبيان أحوال الجنة والنار (الإسفراييني، ص١١٤؛ الكلنبوي، ج٢، ص٢٤٧؛ الخلخالي، ج٢، ص٢٤٧).
١٠  في شرح المواقف، الأقوال الممكنة في المعاد لا تزيد على خمسة: (أ) ثبوت المعاد الجسماني فقط، وهو قول أكثر المتكلمين النافين للنفس الناطقة. (ب) ثبوت المعاد الروحاني فقط، وهو قول الفلاسفة الإلهيين. (ﺟ) ثبوتهما معًا، وهو قول كثير من المحقِّقين، كالحليمي والغزالي والراتب الدبوسي، ومعمر من قدماء المعتزلة، وجمهور من متأخري الإمامة، وكثير من الصوفية. الإنسان بالحقيقة هو النفس الناطقة، وهو المكلَّف والمطيع والعاصي والمُثاب والمُعاقَب؛ والبدن آلتها، والنفس باقية بعد فناء البدن. فإن أراد الله حشر الخلائق خلق لكل واحد من الأرواح بدنًا يتعلق به، ويتصرف فيه كما كان في الدنيا. (د) عدم ثبوت شيء منها، وهو قول القدماء من الفلاسفة الطبيعيين. (ﻫ) التوقف، وهو قول جالينوس؛ فلم يتبين له أن النفس هل هي المزاج، فينعدم عنها الموت، فيستحيل إعادتها؛ أو هي جوهرٌ باقٍ بعد فساد البنية، فيمكن المعاد. ويتوقف جالينوس في العالم الروحاني. أما الجسماني فهو يُنكِره؛ لأنه لا يجوز إعادة المعدوم. لا شبهة عنده في انعدام الجسم، وإنما التردد في انعدام النفس (الإسفراييني، ص١١٤). في المعاد، اختلف أهل العالم فيه: (أ) أطبق المسلمون على المعاد البدني، سواء بأن يعدم الله البدن ثم يعيده، أو بأن يفرِّق الأجزاء ثم يجمعها. (ب) أطبق الفلاسفة على المعاد النفساني. (ﺟ) أطبق جمع من المسلمين والنصارى وجمع من الدهرية على نفيها. (د) توقَّف جالينوس في الكل (المحصل، ص١٦٣).
١١  هذا هو السبب في وضع جالينوس ممثِّل الحل الخامس، وهو التوقف، عن الحكم مع الحلول الأربعة الأولى التي يمثِّلها الإسلاميون متكلِّمين وحكماء. وقد تركنا هذا الموضوع كليةً للجزء الثاني عن «علوم الحكمة». انظر مؤقَّتًا: «الفارابي شارحًا أرسطو»، «ابن رشد شارحًا أرسطو»، في كتابنا: «دراسات إسلامية». والتفويض حل لكل شيء، وإلغاء للموضوع الذي لا يستطيع الإنسان أن يصفه؛ لأنه لم يره ولم يعقله؛ «والتفويض في مثل هذه المَواطن أحسن» (البيجوري، ج٢، ص٧٢-٧٣).
١٢  عند الأشاعرة، المعاد حق، تُحشَر فيه الأجساد، وتُعاد فيه الأرواح (العضدية، ج٢، ص٢٤٧-٢٤٨). وهو جائز بالعقل، واجب بالخبر (الأصول، ص٢٣٧). بيان قضاء العقل بما جاء به الشرع بيِّنٌ من الحشر والنشر. الحشر يُبيَّن به إعادة الخلق، ودلَّت عليه القواطع الشرعية، وهو ممكن بدليل الابتداء؛ فإن الإعادة خلقٌ ثانٍ، إعادة للجوهر والعرَض (الاقتصاد، ص١٠٨-١٠٩). وعند القدرية والكرامية المدَّعين للأصلح، واجبةٌ على الله بالعقل التفرقة بين المحسن والمسيء، والثواب والعقاب. إعادة المعدوم عند الأصحاب جائزة، خلافًا للفلاسفة والكرامية وأبي الحسين البصري من المعتزلة (المحصل، ص١٦٩-١٧٠). وخلافًا للتناسخية (المواقف، ص٣٧١-٣٧٢). في جواز إعادة ما يفنى، أجمع المسلمون وأهل الكتاب والبراهمة على إعادة الخلق وجوازها بعد الفناء على العموم، وإن اختلفوا في التفصيل (الأصول، ص٢٣٢-٢٣٣).
١٣  انظر الباب الأول: المقدمات النظرية، الفصل الرابع: نظرية الوجود.
١٤  وقد لاحظ ذلك الآمدي بقوله: «ذلك كله ممكن من جهة العقل، وليس تعيين ذلك واقعًا من ضرورةٍ عقلية ولا نقلية؛ فتعيين شيء من ذلك يكون غباءً» (الغاية، ص٣٠١).
١٥  اختلف الناس فيما يصحُّ إعادته. فعند الأشعري، كل ما وُجد بعد وجوده صحَّت إعادته، سواء كان جسمًا أم عرضًا؛ فللإعادة ابتداءتان؛ فكما أن الابتداء الأول صح على الجسم والعرض من غير قيام معنًى بالعرض، فكذلك الابتداء الثاني. وعند القلانسي، تصحُّ إعادة الأجسام دون الأعراض؛ فالمعاد معاد المعنى يقوم به، ولا يصحُّ قيام المعنى بالعرض. إثبات إعادة الجواهر والأعراض معًا ضد المعتزلة الذين يُنكِرون إعادة الأعراض (الإرشاد، ص٣٧١–٣٧٤). وقد أنكر الكعبي وأتباعه من القدرية إعادة الأعراض، وفي مقابل ذلك ذهب جماعة إلى أن إعادة الأعراض بأعيانها (البيجوري، ج٢، ص٧٢-٧٣). وقد قيل شعرًا:
وفي إعادة العرض قولان
ورُجِّحت إعادة الأعيان
(الجوهرة، ص٧٢-٧٣؛ الغاية، ص٢٩٩–٣٠١)
ويفرِّق البعض الآخر بين أنواع الأعراض. فعند الجبائي والإسكافي، الأعراض نوعان: باقٍ وغير باقٍ. الأول تصح إعادته، والثاني لا تصح. وعند أبي هاشم، إعادة جميع الأعراض جائزة إلا ما يستحيل عليه البقاء، أو كان من مقدور العباد. وتصبح إعادة ما هو من جنس مقدور العباد إذا كان من فعل الله. وعند أبي الهذيل، كل ما يُعرَف كيفيته من الأعراض، كالحركات والسكون، وما يتولد منها كالتأليف والتفريق والأصوات، لا يجوز أن يُعاد؛ وكل ما لا يُعرَف كيفيته فجائزٌ إعادته، مثل الألوان والطعوم والأراييح والقوة والسمع والبصر … إلخ. وعند محمد بن شبيب، تجوز إعادة الحركات. وعند بعض المتقدِّمين، الحركة في الوقت الثاني هي الحركة في الوقت الأول معادة لجواز التقديم والتأخير (الأصول، ص٢٣٣-٢٣٤؛ مقالات، ج٢، ص٥٦-٥٧).
١٦  حجج إثبات الإعادة من لا شيء هي حججٌ نقلية وعقلية معًا. فالحجج النقلية ثلاث: (أ) «هو الأوَّل والآخر.» (ب) «كل شيء هالك إلا وجهه»، والهلاك هو الفناء. (ﺟ) «كما بدأنا أول خلق نعيده.» أو «قال من يحيي العظام وهي رميم؟ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم … إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون» (المحصل، ص١٧١-١٧٢؛ الطوالع، ص٢٠٧؛ المطالع، ص٢١٧-٢١٨). أما الحجج العقلية فثلاث: (أ) عود ذلك إلى البدن نفس، فالأجسام تقبل الوجود والعدم. (ب) الله قادر على كل الممكنات. (ﺟ) الله عالم بجميع الجزئيات (المعالم، ص١٢٩–١٣٢؛ المقاصد، ص٥٨١-٥٨٢؛ الكلنبوي، ج١، ص١٦٧–١٦٩). وهناك حجج لابن سينا لنفي جواز إعادة المعدوم، يغلب عليه الطابع الميتافيزيقي الصِّرف في «التعليقات» دفاعًا عن التناسخ، وهي أدخل في علوم الحكمة (الدواني، ج٢، ص٢٤٨–٢٦٢). وقد أنكرها الفلاسفة بناءً على امتناع إعادة المعدوم بعينه (التفتازاني، ص١١٤-١١٥؛ المواقف، ص٣٧١-٣٧٢). ويعتمد بعض الشارحين المُحدَثين على بعض تجارب الكيمياء لإثبات الإيجاد من عدم والإعدام بعد الإيجاد في الأحماض (المطيعي، ص٩٣-٩٤).
١٧  مذهب الحنفية أن الإعادة جمع ما تفرَّق من الأجزاء وتأليفها، بحيث يحصل منها مثل الهيئة الأولى التي كان الشخص عليها في النشأة الأولى؛ فيكون عود النفس إلى بدن يُعَد بحسب العرف والشرع بدنه الأول، ولا يتوقف على إمكان إعادة المعدوم بعينه (المرجاني، ج٢، ص٢٥٩). وعند الجاحظ والكرامية بالرغم من قولهم بامتناع الأجسام إلا أنهم قالوا بجواز الحشر الجسماني ووقوعه، لكن بالجمع بعد تفرُّق الأجزاء، لا بالإيجاد بعد الإعدام المستحيل. من ذهب إلى عدم الجواز ذهب إلى فناء البعض، وهو الجنة والنار وأجزاء بدن الإنسان، غير واقع. وإن وفع فناء البعض الآخر كالسموات والأرض وأجزاء أبدان الحيوانات، يقع الحشر بجميع تلك الأجزاء الباقية المتفرِّقة، لا بالإيجاد بعد الإعدام. واستدلوا بأنه لو وقع إعدام الكل لوقع إعدام الجنة والنار، ولو وقع إعدام الكل وعودة الكل لاستحال؛ فالمعدوم لا يعود، وإن لم يكن عينه لم يصل الثواب إلى مستحِقِّه (الكلنبوي، ج١، ص١٦٧–١٦٩).
١٨  المِلَل، ج٢، ص١٤٩-١٥٠. وهو أيضًا مذهب الحكماء المُنكِرين لحشر الأجساد في أمر المعاد (المواقف، ص٣٧٤). وقال بعض الفضلاء: الشرع إنما ورد بإثبات الحشر لآدم الأخير وأولاده، ويجوز تخصيص قوم دون قوم ببعض المجازاة من الثواب والعقوبة؛ لتفاوتهم في الكمال والنقص كما للحيوانات العُجم (المرجاني، ج٢، ص٢٤٨).
١٩  في إعادة الزمن قولان: (أ) وهو الأرجح، أن يُعاد جميع أزمنة الأجسام التي مرَّت عليها في الدنيا؛ لتشهد للإنسان وعليه بما وقع فيها من الطاعات والآثام. (ب) امتناع إعادته؛ لاجتماع المتنافيات كالماضي والحال والاستقبال. وأجاب القائلون بالأول بأن الإعادة ليست دفعية، بل على التدريج حسبما كانت عليه في الدنيا، لكن في أسرع وقت (البيجوري، ج٢، ص٧٢-٧٣؛ المطيعي، ص٩٣-٩٤؛ الكلنبوي، ج٢، ص٢٤٨).
٢٠  اختلف القائلون بأن الأجسام تعاد في الآخرة؛ هل الذي ابتُدئ في الدنيا يُعاد في الآخرة أم لا؟ فعند أكثر المسلمين نعم، المبتدأ في الدنيا هو المُعاد في الآخرة، في حين أن عباد بن سليمان لا يقول إن المُعاد هو المبتدأ، ولا يقول هو غيره (مقالات، ج١، ص٥٧-٥٨). لا تلزم أن تكون إعادته بالتلبس به كما كان في الدنيا (البيجوري، ج٢، ص٧٢-٧٣).
٢١  نُقرُّ بأن الله يُحيِي هذه النفوس بعد الموت، يبعثهم الله يومًا ما كان مقداره خمسين ألف سنة للجزاء والثواب وأداء الحقوق (شرح الفقه، ص٩٢).
٢٢  أنكرت الإعادةَ وحشر الأجساد أربعُ فِرق: (أ) الدهرية المُنكِرة لحدوث العالم؛ ممَّا أدَّى إلى إنكار الفلاسفة للحشر الجسماني الذي أجمعت عليه الشرائع. (ب) قوم من الفلاسفة أقروا بحدوث العالم، وأنكروا الإعادة بعد العدم. (ﺟ) فِرقة من عبَدة الأصنام الذين كانوا في عهد النبي أقرُّوا بحدوث العالم، وأنكروا البعث والقيامة والجنة والنار. (د) فِرقة من غلاة الروافض، المنصورية والجناحية، أنكروا القيامة والجنة والنار، وأسقطوا فروض العبادات، وقالوا إن الفرائض والشريعة كناية عن الأئمة الذين أُمِرنا اتباعهم وموالاتهم من أهل البيت، وأباحوا المحرَّمات كلها، وزعموا أن المحرمات المذكورة في القرآن كناية عن قوم أمرنا ببعض من النواصب كأبي بكر وعمر. وهؤلاء أتباع أبي منصور العجلي وأتباع عبيد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر. وقد مضى الكلام على منكري حدوث العالم (الكلنبوي، ص١٦٧–١٦٩).
٢٣  ويأتي الإنكار من الضرورة أو الاستدلال. فالضرورة تقوم على أن تخلل العدم بين الشيء ونفسه مُحال بالضرورة، فيكون الوجود بعد العدم غير الوجود قبله، فلا يكون المعاد هو المبتدأ بعينه. وأما الاستدلال فمثل: (أ) الحكم بأن هذا عين الأول يستدعي تمييزه في حال العدم، وهو مُحال. (ب) لو فرضنا إعادته بعينه والله قادر على إيجاد مثله مستأنَفًا، ولنفرضه موجودًا، حينئذٍ لا يتميز المُعاد من المستأنَف، ويلزم الاثنينية بدون الامتياز، وهو مُحال. (ﺟ) المعاد معاد؛ يعني إذا أُعيدَ بجميع عوارضه ومنها الوقت، والوقت الأول، وهذا مبتدأ، وهو خلق (المواقف، ص٣٧١-٣٧٢). واحتج المخالف بأمور: (أ) الشيء بعد عدمه نفيٌّ محض، ولا تبقى هويته أصلًا، فلا يعود؛ لأن المحكوم عليه متميِّز عن غيره، والمتميِّز ثابت. (ب) بتقدير الوقوع لا يتميز عن مثله، وهو باطل. (ﺟ) لو أُعيدَ لأُعيدَ وقته الأول معه، ويلزم أن يكون مبتدأً، وهو تناقض (المحصل، ص١٦٩-١٧٠؛ المعالم، ص١٢٨-١٢٩؛ الطوالع، ص٢١٤؛ المطالع، ص٢١٤–٢١٦). حجج إنكار الإعادة: (أ) كل ذلك في مجرد الوهم. (ب) أن الهلاك بمعنى القابل لكل ممكن. (ﺟ) إعدام الجنة والنار. (د) استحالة إعادة المعدوم (المطيعي، ص٦٥-٦٦).
٢٤  حجج المُنكِرين لحشر الأجساد: (أ) لو أكل إنسان إنسانًا بحيث يصبح المأكول جزءًا من الأكل. (ب) الحشر إما لا لفرض وهو عبث، أو لفرض يعود إلى الله وهو منزَّه، أو إلى العبد وهو إما الإيلام وهو مُحال لقبحه، وإما الإلذاذ وهو باطل (المواقف، ص٣٧٠–٣٧٢). حجج المُعارِضين: (أ) العالم أبدي؛ فالقول بالحشر مُحال. (ب) الجنة والنار إما في هذ العالم أو في عالم آخر؛ في هذا العالم في عالم الأفلاك أو في عالم العناصر. والأول ليس فيه فساد ولا خرم ولا ألم، والثاني يُوجِب التناسخ. ويستحيل في عالمٍ آخر؛ لأنه لا وجود لشكلٍ كروي خارج العالم. (ﺟ) إذا أكل إنسان إنسانًا … (د) القصد منه الإيلام أو الإلذاذ، والأول لا يصح من الحكيم، والثاني باطل (المحصل، ص١٧٠-١٧١؛ المطالع، ص٢١٥-٢١٦).
٢٥  أما الكلام على من أقرَّ بالحدوث وأنكر الإعادة، فوجب الاستدلال عليه بأن يُقاس الإعادة على الابتداء؛ فإن القادر على إيجاد الشيء عن العدم ابتداءً يكون قادرًا على إعادته أولى إذا لم يلحقه العجز أصلًا (الأصول، ص٢٣–٢٣٣). يُعيد أولَ الخلق في الآخرة مثل الذي بدأناه في أول الخلق في الدنيا كونُهما إيجادًا من العدم؛ ردًّا على الفلاسفة الذين أنكروا حشر الأجساد. إنكار الفلاسفة واستحالة الإعادة تُفضي إلى القول بوجود أبعاد وامتدادات لا تتناهى لضرورة وجود أجسام لا تتناهى. الأصل القول بالقِدم، واستحالة سبق ما تجدَّد من الأبدان بالعدم، «وما ورد به السمع من حشرها وأحكام معادها، فإنما كان ذلك لأجل الترغيب والترهيب بما يفهمونه ويعقلونه؛ لأجل صلاح نظامهم، والإفلات من تأويل على نحو تأويل أخبار الصفات، وما ورد فيها من الآيات جمعًا بين قضيات العقول وما ورد به الشرع المنقول» (الغاية، ص٢٩٢). الاحتياط في الإيمان بالمعاد واجب؛ إذ الإنسان مشترك بين الخنافس والديدان والكلاب! وقد قيل شعرًا:
قال المنجِّم والطبيب كلاهما
لن يُحشَر الأموات قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر
أو صح قولي فالخسار عليكما
الاعتقاد بالمعاد على وجه الاحتياط صحيح في مقام الاعتماد؛ لأن العلم اليقيني لا بد للمجتهد، والحكم الجزئي للمقلِّد، والحكمة في بطلان الباطل؛ فالدنيا دار ابتلاء واختبار، يتلقى فيها المُثبِت جزاءه والمسيء عقابه (شرح الفقه، ص٩٢-٩٣). أما وصول بسكال إلى مثل هذا الرهان، فموضوعه القسم الثاني من «التراث والتجديد»، موقفنا من التراث الغربي، الجزء الرابع، العصور الحديثة (القرنان السابع عشر والثامن عشر).
٢٦  الحصون، ص٩٠-٩١.
٢٧  عند أصحاب الحديث وأهل السنة، البعث بعد الموت حق (مقالات، ج١، ص٣٢٢؛ الإبانة، ص١٠؛ النسفية، ص١١٢). الاعتقاد عليه يقول آمنت … والبعث بعد الموت (الفقه، ص١٢). وأنه سبحانه يُعيد العباد ويُحيِي الأموات (الإنصاف، ص٢٨). إثبات البعث والنشور (الفِرَق، ص٣١٣). إثبات البعث بعد الموت (الفقه، ص١٨٤). الساعة آتية لا ريب فيها، والله يبعث من في القبور (الإبانة، ص٩). يُعيد الله في الآخرة الناس وسائر الحيوانات التي ماتت في الدنيا، خلاف من قال إنما يُعيد الناس دون الإحياء (الفِرَق، ص٣٤٨). الإيمان بالبعث (الحصون، ص٨٦؛ المسائل، ص٣٧٩-٣٨٠). يعني البعث الإعادة بعد فناء هيئة البداية، وليس بعث الأنبياء إلى الخلق. الإيمان بالحشر من ضرورات الدين، وإنكاره كفر باليقين (شرح الفقه، ص١٢-١٣). البعث عودة الحياة إلى الأبدان، والنشور الخروج من القبور (المطيعي، ص٧٥-٧٦). ومن أنكر بعث رجل بعينه لا يكفر؛ لأن الآية في عموم البعث (الدر، ص١٦٦؛ شرح الخريدة، ص٥٣؛ عبد السلام، ص١٣٧-١٣٨). وقد قيل شعرًا:
سؤالنا مثل عذاب القبر
دين واجب كبعث الحشر
(الجوهرة، ج٢، ص٦٧–٧٠)
٢٨  البعث هو أن يبعث الله الموتى من القبور، بأن يجمع أجزاءهم الأصلية ويُعيد إليها الأرواح. بعث الناس للحشر عبارة عن إحياء الموتى وإخراجهم من قبورهم بعد جمع الأجزاء الأصلية، والحشر سوقهم جميعًا إلى الموقف (البيجوري، ج٢، ص٧٠-٧١). وقد قيل شعرًا:
وقل يُعاد الجسم بالتوفيق
عن عدم وقيل عن تفريق
محضَين لكن ذا الخلاف خُصَّا
بالأنبيا ومن عليهم نُصَّا
(الجوهرة، ج٢، ص٧١-٧٢؛ البيجوري، ج٢، ص٧١-٧٢؛ عبد السلام، ص١٣٨-١٣٩؛ المطيعي، ص٦٦؛ الفصل، ج٤، ص٩٩–١٠١).
٢٩  عدَّد ابن عربي عشرات من الحشر طبقًا لتجاربه الصوفية (البيجوري، ج٢، ص٧٠-٧١؛ شرح الخريدة، ص٥٣؛ عبد السلام، ص١٣٧-١٣٨).
٣٠  في بيان ما يُعاد من الأجسام والأرواح: (أ) عند اليهود السامرة، إعادة الأجسام والأرواح، ورد الأجساد إلى الأرواح. (ب) وأنكرت الحلولية وأكثر النصارى إعادة الأجسام والثواب والعقاب للأرواح. (ﺟ) وعند أهل التناسخ، الإعادة بكرور الأرواح في أجسادٍ مختلفة في الدنيا، وأن كل روح أحسنت في قالبها أُعيدَت في قالبٍ حسن، والعكس بالعكس. أرواح الحيات والعقارب كانت قد أساءت في بعض التوالد (الأصول، ص٢٣٥-٢٣٦). والبعث غير التناسخ؛ فالتناسخ انتقال الروح من البدن إلى بدنٍ مُخالف للأول، وهو قائم على إنكار الجنة والنار وسائر أمور المعاد، في حين أن المعاد هو للأجزاء الأصلية من أول العمر إلى آخره (شرح الفقه، ص١٢-١٣؛ التفتازاني، ص١١٤-١١٥؛ الإسفراييني، ص١١٤-١١٥).
٣١  يُنفَخ في الصور النفخة الأولى، فيموت أهل الأرض والسموات. والصور هو شيء كالقرن، كبير جدًّا، ينفخ فيه إسرافيل أحد كبار الملائكة، ثم بعد مُضيِّ زمان طويل والخلائق موتى، ينفخ مرةً أخرى، فيبعث الله الموتى من قبورهم، ويحشرهم إلى الموقف (الحصون، ص٨٥). النفخة الثانية بداية الحساب في الصور، وهو قرن من نور، كل ثقب فيه كعرض السماء والأرض (العقباوي، ص٥٧-٥٨). وقد قيل شعرًا:
وفي فناء النفس لدى النفخ اختُلف
واستظهر السبكي بقاها الذي عُرِف
(الجوهرة، ج٢، ص٦٢-٦٣؛ عبد السلام، ص١٣٢-١٣٣)
٣٢  البيجوري، ج٢، ص٧٠-٧١؛ شرح الخريدة، ص٥٣.
٣٣  الله كما يُحيِي العقلاء يُحيِي المجانين والصبيان والجن والشياطين والبهائم والحشرات والطيور؛ للأخبار الواردة في ذلك. وأما السقط الذي لم تتم أعضاؤه، هل يُحشَر؟ إذا نُفخ فيه الروح يُحشَر عند أبي حنيفة، وإلا فلا، وهو المذهب المختار؛ أي الحشر المركَّب من الروح والجسد. إذا استبان بعد خلقه يُحشَر، وهذا حكمٌ فقهي تترتب عليه بعض الأمور الدنيوية، ولا تُقاس عليه الأحوال الأخروية (شرح الفقه، ص١٢-١٣). لا فرق في ذلك بين من يُجازى من الإنس والجن والملك، وبين من لا يُجازى كالبهائم والوحوش. ذهبت طائفة إلى أنه لا يُحشَر إلا من يُجازى. وأما السقط الذي لم يتم ستة أشهر، فإن أُلقيَ بعد نفخ الروح فيه أُعيدَ بروحه، ويدخل الجنة في الجمال والطول كأهلها، وإن أُلقيَ قبل نفخ الروح كان كسائر الأجسام التي لا روح فيها كالحجر، فيُحشَر ثم يصير ترابًا (البيجوري، ج٢، ص٧٠-٧١؛ شرح الخريدة، ص٥٣؛ عبد السلام، ص١٣٧-١٣٨). في بيان ما يُعاد من الحيوانات: ورد الخبر بإعادة البهائم واقتصاص بعضها من بعض. وهذا جائز في العقل غير واجب. إن أعادها الله جاز أن يُفنيها بعد الإعادة وأن يجعلها ترابًا، فيقول الكافر يا ليتني كنت ترابًا، وهو إبليس. وعند النظَّام، الله يُعيد جميع الحيوانات، ويجعلها كلها في الجنة، بما فيها الكلاب والخنازير والحيات والعقارب والحشرات، مع قتله إياها في الدنيا، وجودها في كنيف داره! وعند أبي كلدة من القدرية، الحيوانات الحسنة التي فيها منافع الدنيا تُعاد إلى الجنة، والمؤذية قبيحة المنظر إلى جهنم (الأصول، ص٢٣٥–٢٣٧). وعند ابن عمران، الحيوانات سوى بني آدم لا حشر لها (الدر، ص١٦٦).
٣٤  مذهب أهل السنة من المتكلِّمين والمحدِّثين والفقهاء والصوفية، أن الروح جسمٌ لطيفٌ شُبك بالأجسام الكثيفة اشتباك الماء بالعود الأخضر (الجويني)؛ فهي تُوصَف بالهبوط والعروج والتردد في البرزخ؛ أي إنها جسم وصورة في الشكل والهيئة، لا في الظلمة والكثافة والرقة واللطافة (عبد السلام، ص١٣٣-١٣٤). الروح جسم، تصور الجسد في الشكل والهيئة، ذو جسم ويدَين ورجلَين وعينَين ورأس. يُرفَع الروح ويُعرَج به في حواصل طيور خضر إلى الجنة، ويُهبَط به إلى سحيق من الكفرة دلالةً على أنها جسمٌ لطيف (الإرشاد، ص٣٧٧؛ البيجوري، ج٢، ص٦٠). وعند جماعة من أهل السنة، الروح جوهرٌ سارية في البدن كسريان ماء الورد في الورد. خلق الروح بالأمر التنجيزي، وللبعض الآخر بالوصف التدريجي (شرح الفقه، ص٩٢-٩٣). وفي مقارنة ذلك ببرجسون (الأمر التنجيزي) ودارون (الوصف التدريجي)، يُنظَر القسم الثاني من «التراث والتجديد»، موقفنا من التراث الغربي الجزء الخامس، «العصور الحديثة». وقد قيل في العقائد المتأخِّرة شعرًا:
ولا تخُض في الروح إذا ما وردا
نص من الشارع لكن وُجدا
لمالك هي صورة للجسد
فحسبك النص بهذا السند
(الجوهرة، ج٢، ص٦٤–٦٦)
لكل إنسان روح جرَت عادة الله أنها إذا كانت في جسده كان حيًّا، وإذا فارقته لحِقه الموت (الحصون، ص٨٦). أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة ما استمرت هي في الجسد، فإذا فارقته توفَّته الموت للحياة. الحياة للروح بمنزلة الشعاع من الشمس؛ فإن الله أجرى العادة بأن يخلق النور والضياء في العالم ما دامت الشمس طالعة، كذلك يخلق الحياة للبدن ما دامت الروح فيه ثابتة. وإلى هذا مال مشايخ الصوفية (شرح الفقه، ص٩٢-٩٣). وعند أرسطو لما كان كل مركَّب جسمًا فالروح جسم (المحصل، ص١٦٥).
٣٥  في الثنوية، النفس معنًى موجودٌ ذات حدود وأركان وطول وعرض وعمق، وأنها غير مفارقة في هذا العالم لغيرها ممَّا يجري عليه حكم الطول والعرض والعمق؛ فكل واحد منهما يجمعهما صفة الحد والنهاية. وعند الديصانية، الروح لها صفة الحد والنهاية، إلا أنها غير مفارقة لغيرها ممَّا لا يجوز أن يكون موصوفًا بصفة الحيوان (مقالات، ج٢، ص٢٩). وكذلك الحال عند أبي بكر الأصم الذي قال: لا أدري ما الروح. ولم يُثبِت شيئًا إلا الجسد (الفصل، ج٤، ص٩٠-٩١).
٣٦  اختلف الناس في الروح والنفس والحياة، هل الروح هي الحياة أو غيرها؟ هل الروح جسم أم لا؟ عند النظَّام، الروح جسم، وهي النفس، حي بنفسه. الحياة والقوة ليست معنًى غير الحي القوي، والروح في هذا البدن على جهة أن البدن آفة عليه، وباعث له على الاختيار. ولو خلص منه لكانت أفعاله على التولد والاضطرار (مقالات، ج٢، ص٢٧). الروح من جنسٍ واحد، وإن سائر الأجسام من الألوان والطعوم والأراييح آفة عليها (رواية ابن الراوندي). ويدافع الخياط بأن الأجسام آفة عليها في الدنيا التي هي دار بلوى واختبار ومِحن؛ حتى يصحَّ فيها الاختيار (الانتصار، ص٣٦-٣٧). وعند الجبائي، الروح جسم، وهي غير الحياة؛ فالحياة عرَض، ويعقل بقول أهل اللغة خرجت روح الإنسان؛ فالروح لا تجوز عليها الأعراض. وعند الأصم، الحياة والروح جسد، النفس هي البدن بعينه، وسُمِّي كذلك على جهة البيان والتأكيد لحقيقة الشيء، لا على أنه معنًى غير البدن. الروح هو الدم الصافي الخالص من الكدر والعفونات، وكذلك القوة. وعند أصحاب الطبائع، الحياة هي الروح، والحياة هي الحرارة الغريزية. الروح اعتدال الطبائع الأربع أو معتدل، ولا يوجد في الدنيا إلا الطبائع الأربعة. الروح معنًى خامس غير الطبائع الأربع؛ أي إن الروح أعمالها طباع عند البعض، واختيار عند البعض الآخر (مقالات، ج٢، ص٢٨). وعند جعفر بن مبشر، النفس جوهر ليس هو هذا الجسم، وليس بجسم، ولكنه معنًى بين الجوهر والجسم. وعند جعفر بن حرب، النفس عرَض في الجسم، أحد الآلات التي يستعين بها الإنسان على الفعل، كالصحة والسلامة وما أشبهها، وأنها غير موصوفة بشيء من صفات الجوهر والأجسام. الروح عرَض. وعند أبي الهذيل، النفس معنًى غير الروح، والروح غير الحياة، والحياة عرَض، والإنسان قد يكون في حال نومه مسلوب النفس والروح دون الحياة؛ اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا (٣٩: ٤٢) (مقالات، ج٢، ص٢٧–٢٩).
٣٧  وذلك مثل تعريف أرسططاليس. فالمعنى مرتفع عن الوقوع تحت التدبير والنشوء والبِلى غير دائرة، وإنها جوهرٌ بسيطٌ مُنبثٌّ في العالم كله من الحيوان على جهة الأعمال له والتدبير؛ لأنه لا تجوز عليه صفة قلة ولا كثرة، وهي على ما وصفت من انبساطها في هذا العالم غير مُنقسِمة الذات والبنية، وإنها في كل حيوان العالم بمعنًى واحد لا غير (مقالات، ج٢، ص٢٨).
٣٨  هذا هو تصور المعتزلة وجماعة من الصوفية. فالروح ليست جسمًا ولا عرضًا، بل جوهرٌ مجردٌ متعلق بالبدن للتدبير، غير داخل ولا خارج عنه (البيجوري، ص٦٠-٦١).
٣٩  أرواح السعداء بأفنية القبور، أو عند آدم في السماء الدنيا، لكن لا دائمًا، تسرح حيث شاءت، أو بالجابية في الشام، أو بئر زمزم. وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابقة السفلى محبوسة، أو ببئر برهوت في حضرموت (البيجوري، ج٢، ص٦٥-٦٦).
٤٠  هذا هو موقف جعفر بن حرب؛ إذ يقول بالتوقف. لا يدري هل الروح جوهر أم عرض؛ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (١٧: ٨٥)، ولم يُخبِر عنها ما هي، لا أنها جوهر ولا أنها عرض. والحياة غير الروح، والحياة عرَض (مقالات، ج٢، ص٢٧–٢٩). وقد قيل شعرًا في العقائد المتأخِّرة:
وفي الروح لا تخُض وقل حسبي
نص قل الروح من أمر ربي
(المطيعي، ص٩٥)
٤١  ويوجد هذا حتى في الحركات الإصلاحية الحديثة عند حسين الجسر (الحصون، ص٨٩-٩٠).
٤٢  العقل يدل على القوة التي هي صفة للنفس مغايرة لها ذاتًا واعتبارًا وعُرفًا ولغةً؛ فهي من صفات المكلَّف وسبب لحصول علمه. هو الجوهر والنفس الناطقة والروح والقلب متَّحِدة بالذات، متغايرة بالاعتبار. أشار إليه حجة الإسلام في «الإحياء»، واختاره الرازي والراغب وكثير من المسلمين، وما عليه كافة الحكماء وأعاظم الصوفية. إن النفس الناطقة جوهرٌ مجردٌ قائم بنفسه، غير متحيِّز ولا قابل للإشارة الحسية. وتقديس الروح مثل تقديس الله في تعرِّي كلٍّ منهما عن المكان (المطيعي، ص٩٥-٩٦). العقل لغةً المنع، مِن عقل البعير إذا منعه بالعقاب لمنع صاحبه من العدول عن سواء السبيل. وقد قيل شعرًا في العقائد المتأخِّرة:
والعقل كالروح ولكن قرَّروا
فيه خلافًا فانظرن ما فسَّروا
(الجوهرة، ج١، ص٦٦-٦٧)
العقل على خمسة أنواع: (أ) غريزي يتهيأ به إدراك العلوم النظرية. (ب) كسبي، وهو ما يكتسبه الإنسان من معاشرة العقلاء. (ﺟ) عطائي، وهو ما يعطيه الله للمؤمنين ليهتدوا به إلى الإيمان. (د) عقل الزهاد، وهو الذي يكون به الزهد. (ﻫ) عقل شرفي، وهو عقل نبينا، هو عقل العلوم الضرورية، أو غريزة في النفس تُعرَف بها العلوم الضرورية، أو نورٌ روحاني تُدرَك به العلوم الضرورية والنظرية، أو لطيفةٌ ربانية لا يعلمها إلا الله. عقل من حيث الفكر، وروح من حيث الجسد، ونفس من حيث الشهوة. والثلاثة معتمدة بالذات، مختلفة بالاعتبار. وعند المعتزلة والخوارج والحكماء، هو جوهر تُدرَك به الغائيات بالوسائط، والمحسوسات بالمشاهدة. وعند الغزالي، جوهرٌ مجرد. هل محل نوره متَّصِل بالدماغ (الشافعي، مالك، المتكلِّمون)، أم إن محله الدماغ لفساده بفساد الدماغ (الحكماء، بعض الفقهاء)؟ (البيجوري، ج٢، ص٦٦-٦٧؛ عبد السلام، ص١٣٤-١٣٥).
٤٣  الذي يشير إليه كل إنسان بقوله أنا إما أن يكون جسمًا، أو جسمانيًّا، أو لا جسمًا ولا جسمانيًّا، أو مركَّبًا من هذه الأقسام تركيبًا ثنائيًّا وثلاثيًّا (المحصل، ص١٦٣-١٦٤).
٤٤  زعم المتكلِّمون أنه جسم، وعند الجمهور منهم هذه البِنية المحسوسة، هل هي الأجزاء الأصلية الداخلة فيه الخارجة عن هويته؟ وعند ابن الراوندي، هو الجزء الذي لا يتجزأ من القلب. وعند النظَّام، هي أجزاءٌ لطيفة في الأعضاء. وعند الأطباء، هي الروح اللطيفة في الجانب الأيسر من القلب أو الدماغ، أو الأخلاط الأربعة، أو الدم (المحصل، ص١٦٣-١٦٤). الذين قالوا إنه جسماني، منهم من جعله عبارة عن المزاج واعتدال الأخلاط، ومنهم من جعله عبارة عن شكل البدن وتخطيطه وتأليفات أجزائه، ومنهم من جعله عبارة عن الحياة (المحصل، ص١٦٤).
٤٥  الإنسان ليس هذه الجثة المحسوسة لوجوه: (أ) أن له ذاتًا يُعبَّر عنها بضمير، بالرغم من الغفلة عن الأعضاء. (ب) ذوبان جميع الأعضاء الظاهرة والباطنة، وانحلالها إلى العناصر البسيطة، والنفس باقية من أول العمر إلى آخره (وهو برهان ابن سينا: الجسم في ذبول وضعف، والنفس في نضج وازدهار). (ﺟ) إذا رأى الإنسان لون شيء أو طعمه أدرك طعمه بضرورة العقل؛ فهناك شيءٌ واحدٌ مُدرِك لجميع المحسوسات الظاهرة، وكذلك في المتخيَّل وتركيب الصور والحكم بالكليات، ابتداءً من الجزئيات والفعل الاختياري بالإضافة إلى الميل والقدرة. فإذا كان في الإنسان شيءٌ واحد هو المُدرِك لكل المُدرَكات بجميع أنواع الإدراكات، وهو الفاعل لجميع أنواع الأفعال، فإن مجموع البدن ليس موصوفًا بهذه الصفة، ولا كل عضو فيه. (د) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ؛ أي إن الإنسان بعد قتله حي بدون بدن. (ﻫ) ما رُوي: «إذا حُمل الميت على نفسه رفرف روحه فوق النعش، ويقول: يا أهلي ويا ولدي، لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي.» فهناك جوهرٌ ناطق بعد الموت وفناء الجسد (المعالم، ص١١٣–١١٧). حجة الثقات أن المُدرِكات للجزئيات هي البدن، فالمُدرِك للكليات هو النفس. بيان الأول أننا نُحسُّ الحرارة بالضرورة بأصابعنا. وبيان الثاني: (أ) يمكن الانتقال من الإحساس بالحرارة الجزئية إلى الإحساس بالحرارة الكلية. (ب) أن الماهية التي عرضت لها أنها كلية هي جزء من الجزئي؛ لأن الإنسان جزء من الإنسان، ومن أدرك المركَّب أدرك الفرد (المحصل، ص١٦٤-١٦٥). النفس الناطقة مُدرِكة للجزئيات عندنا، خلافًا لأرسططاليس وأبي علي، ما دامت النفس مُدرِكة للكلي فهي مدركة للجزئي. حجةٌ مضادَّة: هل يمكن إدراك دائرة مربَّعة أم إن ذلك بالخيال؛ أي في الذهن؛ أي لا وجود له في الخارج للإدراك الحسي؟ (المحصل، ص١٦٧-١٦٨).
٤٦  هذا هو موقف الأشاعرة كوسط بين موقف المعتزلة وموقف الفلاسفة؛ بين إثبات الأنا جسم وإثبات الأنا نفسًا؛ فعند الأشاعرة أن الأنا نفس جسم، ضد الموقفَين السابقين معًا؛ نظرًا لحاجة النفس إلى آلة، وهو البدن؛ فالجوهر المجرد لا تأثير له إلا من خلال البدن (المعالم، ص١١٧–١١٩).
٤٧  هذا هو موقف الفلاسفة الذين قالوا إن الأنا غير جسم. ومن المعتزلة معمر، ومن الأشاعرة الغزالي. والحجة من وجهَين: (أ) أن العلم بالله غير مُنقسِم؛ وبالتالي وجب ألا يكون محله مُنقسِمًا؛ فمحل العلم بالله غير متحيِّز، ولا حال فيه. (ب) محلُّ العلم والقدرة وسائر الأعراض النفسانية ليس البدن لاستحالة القسمة (المحصل، ص١٦٤). وحجج الرئيس أبي علي لإثبات كونها مجردة هي: (أ) ذات الله لا تنقسم لعلم بها يمتنع أن يكون منقسمًا. ولو حل العلم في الجسم لكان منقسمًا. (ب) العلوم الكلية صورٌ مجردة، والأجسام غير مجردة، فلا تحلُّ العلوم فيها. (ﺟ) القوة العقلية تقوى على أفعالٍ غير متناهية، على عكس القوة الجسمانية (المعالم، ١١٩-١٢٠).
٤٨  عند الجهمية، تموت الروح كما يموت البدن، وأن ليس عند الله أرواح تُرزَق، لشهداء أو لغيرهم (التنبيه، ص٩٩).
٤٩  يقدِّم الأشاعرة عِدة حجج لإثبات بقاء النفس مستمَدَّة معظمها من حجج الحكماء لإثبات تميُّز النفس عن البدن، وهي: (أ) المواظبة على الفكر يفيد كمال النفس ونقصان البدن. فلو ماتت النفس بموت البدن لامتنع أن يكون المُوجِب لنقصان البدن ولبطلانه سببًا لكمال النفس. (ب) عدم النوم يُضعِف البدن ويقوِّي النفس. (ﺟ) عند الأربعين يزداد كمال النفس ويقوى نقصان البدن. (د) عند الرياضات الشديدة تحصل للنفس كمالاتٌ عظيمة، وتلوح لها الأنوار، وتنكشف لها المغيَّبات، مع أنه يُضعِف البدن جدًّا. فهذه الاعتبارات إذا انضمَّت لأقوال الأنبياء والحكماء أفادت الجزم ببقاء النفس (المعالم، ص١٢٣-١٢٤).
٥٠  مذهب الحكماء المُنكِرين لحشر الأجساد في أمر المعاد: النفس الناطقة لا تقبل الفناء لأنها بسيطة. ولو قبِلت الفناء لكان للبسيط فعل وقوة، وهو مُحال (المواقف، ص٣٧٤). النفس بسيطة لا تركيب فيها (الغاية، ص٢٨٥-٢٨٦). اتفقت الفلاسفة على عدم امتناع عدم الأرواح؛ لأنه لو صح العدم عليها لكان إمكان العدم مقدَّمًا لا محالة على العدم، وذلك الإمكان يستدعي محلًّا، ويجب أن يكون باقيًا، والشيء لا يبقى عند عدمه. ولو صح العدم على النفس لكانت مركَّبة من المادة والصورة؛ وذلك باطل لأنها ليست بجسم. ولو عُدم جزء لكان قابلًا للعدم، ولافتقر إلى عدمٍ آخر باقٍ، وهو مُحال (المحصل، ص١٦٧؛ المعالم، ص١٢٢-١٢٣). رأي الفلاسفة الإلهيين: الأنفس الإنسانية باقية بعد الأبدان، ولا يلزم فواتها من فواتها، ولا سبب خارجي. فلا وجود لتعلق بينها لا بالتقدم ولا بالتأخر، ولا بالمعية والتكافؤ. فالتقدم بالزمان أو المكان أو الشرف أو الطبع، أو يكون التقدم بالذات، فيكون علةً صورية أو فاعليةً مادية أو غائية. وإن كان التعلق بالمكافأة فهما متطابقان (الغاية، ص٢٨٥-٢٨٦).
٥١  النفس إما جاهلة قد تتألم بعد المفارقة لشعورها بالنقص، ولا مطمع لها في زواله؛ أو عالمة لها هيئات رديئة مُكتسَبة من ملامسة البدن. فإن كانت راسخة زالت، وإن لم تكن بقيت (المواقف، ص٣٧٤). اتفقت الفلاسفة على سعادة النفوس العالمة النقية عن الهيئات البدنية بعد الموت؛ فاللذة إدراك المُلائم، والمُلائم إدراك المجردات، والإدراك حاصل بعد الموت (المحصل، ص١٦٨). كما اتفقت على شقاء النفوس الجاهلة، وهي شقاوةٌ مخلَّدة بسبب الهيئات البدنية متقطعة (المحصل، ص١٦٩).
٥٢  سعادة كل شيء بحصول حاله من الكمالات المختلفة؛ فسعادة النفس الناطقة بحصولها كمالها؛ أي مصيرها عالمًا عقليًّا متَّصِلة بالجواهر الروحانية، مطَّلِعة على المعقولات، وشقاوتها عكس ذلك؛ فبعد المفارقة تكون أقدر. فحالتها بعد المفارقة حالتان: (أ) إما أن تكون قد عقلت شيئًا من كمالها ليس بطبعها. (ب) وإما أن تكون قد حصلت كمالها ذكيةً طاهرة بطبعها مشتغلة بالرياضات (الغاية، ص٢٩٠–٢٩٢). وعند جالينوس، النفوس ثلاث: (أ) الشهوانية، ومحلها الكبد، وهي أدنى المراتب. (ب) الغضبية، ومحلها القلب، وهي أوسطها. (ﺟ) الناطقة، ومحلها الدماغ، وهي أشرفها (المعالم، ص١٢٤-١٢٥). والنفوس بحسب أحوالها وقوتها النظرية على أربعة أقسام: (أ) أشرفها النفس القدسية الإلهية. (ب) النفس التي حصلت لها اعتقاداتٌ حقة في الإلهيات والمفارقات لا بسبب البرهان اليقيني، بل بالإقناعيات أو بالتقليد. (ﺟ) النفوس الخالية من الاعتقادات الحقة والباطلة. (د) النفوس الموصوفة بالاعتقادات الباطلة. والنفس بحسب أحوال قوتها العملية ثلاثة: (أ) النفوس الموصوفة بالأخلاق الفاضلة. (ب) النفوس الخالية من الأخلاق الفاضلة والرويَّة. (ﺟ) النفوس الموصوفة بالأخلاق الردية. وهي حسب الجسمانيات والنفوس مختلفة بحسب ماهياتها: (أ) نفوسٌ نورانيةٌ عُلوية. (ب) نفوسٌ كثيفةٌ كدِرة. وتحت كل نوع تتفاوت المراتب للأفراد، وأعلاها ما كان يسمِّيه أصحاب الطلسمات الطباع التام، وهو الملك الذي يتولى إصلاح النفوس تارة بالمناجاة، وتارة بالإلهامات، وتارة بطريق النفث في الروع. «ولنقتصر من مباحث النفوس الناطقة على هذا القدر، والله أعلم بالصواب» (المعالم، ص١٢٦–١٢٨).
٥٣  تبدو سيادة التصوف من عبارات، مثل: «محبة الله لِذاته أكمل أنواع المحبة» (المعالم، ص٢٥–١٢٦). كما توجد محاولات لتأويل النقل الوارد بلسان الشرائع من اللذات والآلام الجسمانية على أنه تقريب للأفهام، وكلام من الناس على قدر عقلهم، والظواهر لا تكون حجة للخواص (المرجاني، ج٢، ص٢٦٣).
٥٤  المحصل، ص١٦٣–١٧١؛ المعالم، ص١١٣–١١٨؛ الغاية، ص٣٨٥–٣٩٩.
٥٥  أما المعاد الروحاني، أعني التذاذ النفس بعد المفارقة وتألمها باللذات والآلام العقلية، فلا يتعلق التكليف باعتقاده، ولا يكفر مُنكِره، ولا منع شرعيًّا ولا عقليًّا من إثباته (الدواني، ج٢، ص٢٦٢). أما الروحاني المحض، الذي معناه على ما يرى الفلاسفة رجوع الأرواح إلى ما كانت عليه من التجرد عن علاقة البدن واستعمال الآلات، والتبري عما ابتُليت به من الظلمات الهيولانية، ففي الآيات والأحاديث إشارة إليه، ولكنه ليس منصوصًا عليه، فلا يكفر مُنكِره. وهو مبني على تجرد النفس الناطقة، ولكن جمهور المتكلمين أنكروه، وقالوا ليست هي إلا الهيكل المحسوس. وقال حجة الإسلام إن المعاد الروحاني دلَّت عليه الدلائل العقلية، والشرعية لم تنفِه، فقلت بهما جمعًا بين العقل والنقل. وقيل إن الكتب السماوية السابقة ناطقة بالروحاني، كما أن القرآن ناطق بالجسماني، فوجب الإيمان بهما كيفًا. وإذا رجعنا إلى الوجدان نجد أن هناك شعورًا عامًّا بحياة بعد هذه الحياة، وذلك الشعور متحقِّق عند كل إنسان، لا فرق بين عالم وجاهل، بين وحشي ومستأنس، وبادٍ وحاضر، وقديم وحادث، فلا بد أن هذا الشعور من الإلهامات التي اختص بها نوع الإنسان. كما أن العقول قد أُلهمت والنفوس قد أُشعرت أن هذه الحياة القصيرة الفانية ليست تُنهي ما للإنسان في الوجود، بل قادرة على أن تطبع في الغرائز أن الإنسان ينزع هذا الجسد كما يُنزَع الثوب عن البدن، ثم يكون حيًّا باقيًا في طورٍ آخر، وإن لم يُدرِك كنهه. وليس هذا إلا الحشر الروحاني المحض الذي هو للروح وحدها. وأما حشر الأجساد فهو بالضرورة لا يكون إلا مع الأرواح (المطيعي، ص٦٦-٦٧). القائلون بالمعاد الروحاني والجسماني أرادوا الجمع بين الحكمة والشريعة؛ فقد دل العقل على أن سعادة الأرواح بمعرفة الله ومحبته، وأن سعادة الأجسام في إدراك المحسوسات، والجمع بينهما في هذه الحياة غير ممكن؛ لأن الإنسان مع استغراقه في عالم القدس لا يمكنه الالتفات إلى اللذات الجسمانية، والعكس بالعكس. فإذا ما فارقت الأرواح قويت، وإذا أُعيدت إلى الأبدان استطاعت الجمع بين الأمرَين (الدواني، ج٢، ص٢٦٢–٢٦٤).
٥٦  مذهب أرسططاليس وأتباعه أن النفوس البشرية متَّحِدة بالنوع (المحصل، ص١٦٥). وقد تركنا هذا الموضوع لمكانه في «فلسفة الحضارة عن علوم الحكمة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤