عاشرًا: الجنة والنار

بعد الصراط، يدخل المؤمنون الجنة والكفار النار؛ فالجنة دار للمتقين، والنار دار للفاسقين.١ ليست الجنة تفضُّلًا، وليست النار انتقامًا، بل الجنة ثواب والنار عقاب طبقًا لقانون الاستحقاق.٢ وهما مخلوقتان؛ لأنهما جزء من العالم، بل إن نعيم الجنة وعذاب النار مخلوقان كذلك؛ فقد خلق الله النعيم في الجنة والعذاب في النار، وكأن القدرة الإلهية وراء الإنسان بالمرصاد، تخلق نعيمه في الجنة وعذابه في النار، وتمنعه حتى من أن يذوق نعيم الجنان بنفسه، وأن ينال عذاب النار عن استحقاق كقانونٍ طبيعي، الجزاء من جنس الأعمال. والله لا يقدر أن يزيد أو يُنقِص نعيم أهل الجنة أو أهل النار، وإن قدر الإنسان على الظلم، فالله ليس بقادر عليه طبقًا لقانون الاستحقاق.٣

(١) أوصاف الجنة والنار

يبدو أحيانًا أن القدماء قد أفاضوا في وصف الجنة أكثر من وصف النار على عكس عذاب القبر؛ إذ تم وصفه أكثر من نعيمه. تُوصَف الجنة على أنها في مكان، مكانٍ مُتناهٍ محدودٍ ما دامت جسمًا، وتُوصَف أحيانًا بأنها الجنة التي كان فيها آدم وزوجه، وهي جنة على الأرض، وليست جنة في السماء. والدليل على ذلك أمر آدم بالهبوط. وقد يتحدد مكانها جغرافيًّا بين فارس وكرمان، أو بأرض عدن، أو بفلسطين كورة بالشام طبقًا لقدسية المكان. وقد تكون جنة آدم مخالفة لجنة الخلد؛ ومِن ثَم تكون الجنة في الآخرة فوق السموات السبع وتحت العرش، وهو ما يُعادل أيضًا عظمتها وقدسيتها.٤ ولو كانت جنة الخلد لما أكلا من الشجرة رجاء أن يكونا من الخالدين. وجنة الخلد لا كذب فيها، وقد كذب إبليس. وقد اكتشف فيها آدم عريه والجنة ليس بها عري. وشعر آدم بالحر والبر والجنة ليس بها قيظ ولا زمهرير. والقضية الآن: هل هذا موضوع، جنة آدم في السماء أم في الأرض؟ أليست الجنة تعويضًا عن بؤس خلفائه في الأرض؟ وتزداد التفصيلات في وصفه الجنة؛ فأبوابها متفاوتة تصويرًا لتنوع الشعائر؛ فهناك باب للصلاة وباب للصوم تركيزًا على خصوصية الأفعال. أبوابها ثمانية عشر، وأكبرها باب الصلاة، يدخل منها من يُكثِر النفل، والبعض منها لا يدخله إلا الصائمون. ويدخل الناس الجنة بيضًا مكحولين؛ فالبياض لون الصفاء والكحل الأسود في العين جمالٌ عربي. وماذا عن لون الشعر؟ ليس لهم لحية إلا آدم؛ رمزًا لمهابة آدم أو لفطريته وبدائيته؛ فهو أبو البشر، الإنسان الأول، ولكن أليست اللحية سنة عن الرسول في الدنيا، فلماذا لا تكون كذلك في الآخرة؟ وهل تُحلَق لِحى أهل الجنة بما في ذلك الأنبياء؟ ويكونون في طول آدم ستين ذراعًا، وعرضه حوالَي سبعة أمتار؟ وماذا عن حجم الأبواب التي تسمح بمرور هذه الأجسام في مثل هذه الضخامة؟ وماذا عن حجم الأطفال الصغار أو القصار؟ هل يضيعون بين أرجل هؤلاء العمالقة؟ قد يتساوى الصغير مع الكبير، ويصبح الجميع في حجمٍ واحد، ذو قامة واحدة. وفي هذه الحالة، ألا يؤدي ذلك إلى الملل في الرؤية بسبب غياب التمايز والفردية؟ والجنة بها درجات طبقًا للأعمال، وكلها متصلة بمقام الوسيلة، حيث مشاهدة الرسول. نُشرت الشمس على أهل الجنة كلهم. أكبر نعيم فيها رؤية وجه الله ومشاهدة الرسول على ما يقول الصوفية. للجنة سبع درجات متجاورة، أوسطها أفضلها. والعدد سبعة عددٌ رمزي في الديانات القديمة يدل على طهارة الروح وكمال النفس. والأقرب أن تكون متعالية وليست متجاورة، وبطبيعة الحال يكون العرش أعلاها. وذلك يدل على رغبة الإنسان في السعي إلى الدرجات العليا أسوةً بما كان يفعل في الدنيا من الصعود الاجتماعي والارتقاء الطبقي. ومن أعلى درجة وهو الفردوس تتفجر أنهار الجنة، ثم تنتقل إلى الدرجات الأخرى؛ وذلك تعبيرًا على البيئة الصحراوية وحاجتها إلى الماء. الفردوس أعلاها، ثم جنة المأوى، جنة الخلد، جنة النعيم، جنة عدن، دار السلام، دار الجلال. ويُطلَق على الجميع جنة عدن تعبيرًا عن السلام والطمأنينة وغياب أي خوف وذعر. حارسها رضوان سيد خزنة الجنة، يفتحها أولًا لسيد الخلائق.٥ تتم لهم فيها مجامعة الحور العين، وهن مطهَّرات حِسان، عُربٌ أتراب، يجامعن بحماس وعفية، ويشاركن أهل الجنة لذة الجماع. وقد خُلقن ليلتذ بهن المؤمنون. ولا تموت الحور العين أبدًا لدرجة السؤال عن أفضليتهن على الأنبياء والملائكة! الواحدة منهن تلبس سبعين حلة للزينة والتجمل والتغير جذبًا لانتباه أهل الجنة، نور ساقها يُضيء منها كما فعلت ملكة سبأ مع سليمان، فرصيد النبوة يصبُّ في المعاد، يزيِّنَّ آذانهن بالقرط. وقد سُمِّين الحور لشدة بياض العين مع سواد الحدقة. ووصفهن بالعِين لاتساع عيونهن. وفي كل مرة تُفضُّ الأبكار تعود البكارة دون دماء البكارة وآلام الفض. وأين متعة شهر العسل بعد فض البكارة دونما حاجة إلى بكارةٍ جديدة؟ ينكحهن الجن والإنس؛ فالجن مثل الإنس تكليفًا وحسابًا، ثوابًا وعقابًا. قد تكون البِكر صورة للطهارة والجدة والبراءة، ولكن يظل السؤال: لماذا هو فعلٌ قبيح في الدنيا وفعلٌ حسن في الآخرة؟ هل ما يُحرَم الناس منه في الدنيا يُباح لهم في الآخرة؛ وبالتالي يكون إشباع الآخرة تعويضًا عن حرمان الدنيا؟ وكيف يتم لهؤلاء العملاقة مجامعة الحور العين، ومن صفات جمالهن الصغر وتناسق الأجسام؟ وماذا عن طول ذَكرهم وصِغر فروجهن؟ وهل تقوى الحور العين على مجامعة هؤلاء العمالقة؟ وماذا عن عددهن؟ يبدو أن كل ساكن من أهل الجنة له ما يشاء من الحور العين دون عدد معيَّن، فهن مِلك يمينه دون حد أقصى بأربعة كما هو الحال في الدنيا في الزواج الشرعي. وبالإضافة إلى الحور العين هناك الولدان المخلَّدون مثل غلمان الدنيا جمالًا وبهاءً، مزيَّنون بالجواهر لشرح الصدر والقرط في آذانهم. وهم أولاد الكفار الذين يموتون قبل البلوغ متعةً للمؤمنين! ويبدو أن المجتمع العربي بما فيه من شذوذ جنسي وحب للغلمان قد أسقط متعته على الآخرة، فتصورها على غرار الدنيا! والنعيم لا يُحصى، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كما يقول الصوفية.٦
ومن الطبيعي في مقابل هذا التجسيم والتشبيه للجنة كحوادث ووقائع أو أشخاص، فتصبح الجنة رجلًا والنار رجلًا، كما شخصت عواطف التأليه والشرائع من قبل أن يأتي الإنكار.٧ وتئوَّل النصوص بحيث تدل على معاني النعيم الروحي كما يفعل الحكماء، والتأويل أولى من التفويض؛ فالتأويل اجتهاد وعلم، والتفويض اعتراف بالجهل، وكلاهما يمنع من الوقوع في التفسير الحرفي للنصوص.٨ ولا مفرَّ من أخذ المُعارض العقلي في الاعتبار؛ إذ كيف تُوصَف الجنة ماديًّا طولًا وعرضًا؟ هل العالم كله جنة؟ وهل عالم الأفلاك كله جنة؟ وأين العالم الذي ليس بجنة؟ هل تبلغ الجنة كل شيء، أم إن ذلك مجاز الاتساع ضد ضيق المكان والحشر في الحجرات، وهو ما تأنفه النفس في زحمة المكان؟ وأين مكان النار لو ابتلعت الجنة المكان كله؟ ولو كانت الجنة موجودة بعرض السموات والأرض لأدى ذلك إلى التناسخ، حيث تنتقل النفس إلى عالم العناصر وتعود منه. وما الفائدة من وجود الجنة والنار الآن فارغتَين، احتلال مكان واستهلاك مياه، وتعيين خدام، إناثًا وذكورًا دون عمل؟ فالأولى عدم وجودهما الآن ووجودهما آخر الزمان عندما تنشأ الحاجة لها. فالوظيفة تُنشئ الشيء وتوجِده. وإن إنكار الدرجات في الجنة تأكيد لمبدأ المساواة المُطلَقة؛ فالتفاوت الطبقي من آثار الدنيا، وليس من سمات الآخرة. وينفي حشرَ السباع والطيور والحشرات في الجنة أن البلوغ والعقل شرطا التكليف، وأن الجنة دار استحقاق. فإذا دخل كل ذي روح الجنة، فإن ذلك يكون لأن الحياة في نفسها قيمة يحافظ عليها. فإذا تساوى الموت والحياة، فالحياة أقرب إلى الطبيعة، كما أنه إذا تساوى الشر والخير، فالخير أقرب إلى الطبيعة.
أما النار فمكانها في الأرضين السبع، كما أن الجنة في السموات السبع، سفل في مقابل عُلو، وهبوط في مقابل صعود. ومنها نار الدنيا بعد أن وُضعت في البحر مرتَين حتى تقل حرارتها، ويسهل استعمالها، ويُنتفع بها. أُوقد عليها ألف سنة حتى ابيضَّت، ثم ألف سنة حتى احمرَّت، ثم ألف سنة حتى اسودَّت، فخرجت سوداء مُظلِمة، وجمرها أحمر مُحرِق. وهي جسمٌ لطيفٌ مُحرِق يميل إلى جهة العلو. لها أيضًا سبعة أبواب أو سبع طبقات طبقًا للعدد الرمزي سبعة. وكما أن رضوان حارس الجنة، فإن «مالك» وكيل النيران. له أصابع بعدد أهل النار، ولو وضع أصبعًا على السماء لأذابها!٩ وهي كلها صورٌ فنية من أجل المبالغة والتأثير في النفس لا تمنع من بروز المُعارض العقلي. فكيف تكون في الأرض وفي الوقت نفسه دار عقاب بعد فناء الأرض ومن عليها؟ وكيف تبرد في ماء البحر مرتَين والنار والماء نقيضان لا يجتمعان؟ وبأي نيران يُحمى عليها ألف سنة؟ وهي نيران في حاجة إلى نيرانٍ أخرى؛ كي يُحمى عليها، وتبرز ألوانها البيضاء في الألف سنة الأولى، والحمراء في الألف الثانية، والسوداء في الألف الثالثة، وكل نيران في حاجة إلى نيران إلى ما لا نهاية حتى الوصول إلى نيرانٍ أولى ليست في حاجة إلى نيرانٍ أخرى لتحميتها. والألوان نوع من الزركشة في الخيال الشعبي حتى تكون أكثر إيقاعًا في النفوس. وكيف يكون لخازنها أصابع بعدد أهل النار؟ كيف يكون حال اليد إذن وحال الذراع والجسد كله؟ وما وظيفة كل أصبع؟ وكيف يُذيب الأصبع السماء كلها، والخازن في السماء والعرش في السماء؟ وزيادة في العذاب يكون داخل النار الزمهرير والحيات والعقارب حتى يُثير التضارب بين الحار والبارد الخيال، وتجتمع لسعة اللهيب مع لسعة العقرب ولدغة الحية، وكله إحساس بالجلد وبسطح البدن. وكما في الجنة درجات كذلك في النار درجات طبقًا لدرجات العذاب أو لمجموعات المعذَّبين. وتقوم الدرجات إما على أجزاء البدن ومساحة الأعضاء المعرَّضة للعذاب، أو على شدة النيران وخفتها، أو على طول المدة وقِصرها. ويظهر هذا التفاضل في صيغةٍ حسية؛ فكما أن للجنة درجاتٍ سبعًا فكذلك للنار درجاتٍ سبعًا؛ أعلاها جهنم، وتحتها لظًى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. وباب كل واحدة من داخل الأخرى على الاستواء، مثل الحمام العمومي وحجراته المتداخلة طبقًا لشدة البخار. وبين أعلى جهنم وأسفلها خمس وسبعون سنة، أحرُّها هواءٌ مُحرِق، لا حجر لها سوى بني آدم وأحجار الأوثان، وهي أحجارٌ قابلة للاشتعال من عظمة جِرمها، وكأن الأحجار كائناتٌ حية مثل بني آدم، استقبلت محرقاته وقرابينه. كل درجة لها طائفة؛ فاللظى لليهود، والحطمة للنصارى، والسعير للصابئين، وسقر للمجوس، والجحيم لعبدة الأصنام، والهاوية للمشركين، وجهنم لمن يُعذَّب على قدر ذنبه من المؤمنين، ثم تصير خرابًا بخروجهم منها، وكأن النار تعرف الطائفية الدينية والتفرقة بين الأديان! يتفاضل أهلها في العذاب؛ أقلهم عذابًا توضَع حجرتان من نار في أخمصَيه، ولا يكون الأشد إلا إلى جذب الأذون! يُعذَّب المؤمن العاصي على الصراط وهو على متن جهنم، يُصيبه لفح النار ولهبها، فيتألم بمقدار عصيانه، ثم يدخل الجنة. وقد يصل عذاب آخر مثل الجثة المقلاة على نارٍ متأجِّجة! وأخفها إحساس بالعذاب لحظة ثم يصير الإنسان بعدها كالنائم لا يُحسُّ بها فعل لحظة من عذابها.١٠ قد يتحول عوام الدهرية والنصارى والزنادقة ويصيرون في الآخرة ترابًا، وكذلك الأطفال والبهائم،١١ وكذلك السقط الذي أُلقيَ فيه الروح، تُعاد إليه ويدخل الجنة كأهلها في الجمال والطول، وإن لم يبلغ ذلك يصير ترابًا. والحقيقة أن كل ذي روح تعود له روحه حفاظًا على الحياة كأحد مقاصد الوحي الضرورية. إنها كلها صورٌ فنية تعبِّر عن القبح؛ فجهنم من الجهامة، وهي كراهة المنظر. تنشأ النار من الحسد؛ أي إنها تعبيرٌ حسي عن انفعالٍ إنساني، وتصويرٌ فني لأحد المواقف الإنسانية. فإذا كان الإنكار رد فعل على الإثبات، وكلاهما يتحدث في واقعةٍ حسية، فإن التأويل رد فعل عليهما معًا عندما يبحث عن أسسها النفسية وصورها الفنية. والتأويل أولى من التفويض؛ لأن التفويض اعتراف بالجهل وتخلٍّ عن تأصيل العلم، في حين أن التأويل اجتهاد علم ولو بغلبة ظن.١٢ ورغبةً في تنزيه الله عن الشر، قد يتنعم أهل النار في النار كما يتنعم أهل الجنة في الجنة؛ وبالتالي لا عذاب ولا ألم.١٣ وفي مقابل اعتبار النار في الحقيقة والعذاب في الحقيقة؛ وبالتالي يثبت فعل الله للشر والضرر تكون النار مجازًا ويكون العذاب مجازًا؛ فبالتأويل يمكن تنزيه الله عن الشر، واعتبار الشر مجازًا في العالم؛ وبالتالي يتحقق هدفان في العدل وفي المعاد.١٤

(٢) هل تفنى الجنة والنار؟

ويرتبط هذا السؤال بدوام الاستحقاق والتخليد؛ فالجنة والنار هما مكان الثواب والعقاب وتنفيذ قانون الاستحقاق. فإذا كان الاستحقاق دائمًا، فهل الجنة والنار كذلك؟ إذا بقيتا شاركتا الله في الخلود، ولم يتفرد الله بصفة البقاء، وإذا فنيتا لم يدُم الاستحقاق ولم يُخلَّد. القول بدوام الجنة والنار وأبديتهما إنما يخضع للتفسير الحرفي للنصوص «خالدين فيها أبدًا»، ولا يتحول الإنسان من الجنة إلى النار أومن النار إلى الجنة إلا بقانون الموازنة أو بالتوبة. وقد يكشف القول بدوام الجنة والنار عن صادية، حيث ينعم المؤمنون إلى الأبد ويتعذب الكفار إلى الأبد دونما تغيير أو أمل. ومع أن الله قادر على إفنائهما إلا أنهما باقيان لا يفنيان. وقد يبدو ذلك متناقضًا؛ فإذا كانت الجنة والنار مخلوقتَين، فإنهما بالضرورة فانيتان. الخلق يتبعه الفناء، والقِدم يتبعه البقاء، ولا يوجد مخلوق يبقى أو قديم يفنى.١٥ لذلك كان الأقرب للتنزيه حفاظًا على صفة البقاء لله وحده أن تفنى الجنة والنار، وذلك أيضًا ظاهر في النص الذي يقول بفناء كل شيء إلا الله، وبقياس عرض الجنة والنار بالسموات والأرض وهما فانيتان. قد يغتمُّ أهل الجنة، ولكن يفرح أهل النار! ويمكن رفض التخليد بناءً على حججٍ طبيعية، وليس فقط على حججٍ إلهية. فما دامت القوة الجسمانية مُتناهية، فلا بد من فنائها، كما أن دوام الإحراق مع بقاء الحياة مستحيل عقلًا؛ فالإحراق يُحيل إلى رماد وينتهي الشيء المحروق، والنار تفنى بالرطوبة؛ وبالتالي تنتهي إلى عدم، وتقل حرارتها كلما طال الزمان، وتفقد الطاقة جزءًا منها؛ وبالتالي فمصيرها إلى النهاية والفناء.١٦ وانقطاع حركات أهل الجنة والنار حلٌّ وسط بين البقاء والفناء؛ فالسكون الدائم يجمع بينهما. وإذا ما أتى وقت الفناء، وكان المؤمن قد تناول بإحدى يدَيه كأسًا وبالأخرى «مزة»، وأتى وقت السكون، فإنه يبقى دائمًا على هيئة المصلوب! والحقيقة أن ذلك يرتبط بالتوحيد قدر ارتباطه بالمعاد. فلأن مقدورات الله لها كلٌّ وغاية، وحدٌّ ونهاية، تنتهي قدرته على الخالقية؛ وبالتالي يسكن أهل الجنة فيها، وهو ما يضر التوحيد وإطلاقية الصفات، كما أنه لا يحل مشكلة مشاركة الجنة والنار في صفة البقاء؛ لأنهما يظلان باقيَين وإن كانا ساكنَين. فهذا الحل الوسط لا يُرضي متطلبات التوحيد في الصفات وفي المعاد.١٧

(٣) الخلود في الأرض

ظهرت دعاوي التجسيم والتشبيه والتنزيه ليس فقط في العقليات، بل في السمعيات، وليس فقط في التوحيد، بل في أمور المعاد. فالتجسيم في التوحيد تجسيم في المعاد، والتشبيه في التوحيد تشبيه في المعاد، والتنزيه في التوحيد تنزيه أيضًا في المعاد.١٨ والحقيقة أن أمور المعاد كلها خطأ في تفسير النصوص وتحويل للصور الفنية إلى وقائع حادثة؛ فأمور المعاد لا تشير إلى وقائع مادية وحوادث فعلية، وعوالم موجودة بالفعل في مكانٍ ما يعيشها الإنسان في زمانٍ ما، بل هي بواعث سلوكية ودوافع للفعل للتأثير على السلوك، والحث على الطاعة ترغيبًا تارة، وترهيبًا تارةً أخرى. وليس المقصود بالدوافع الثواب على الحسنة والعقاب على السيئة؛ فالأفعال الصالحة لا تحتاج إلى ثواب وعقاب. ويمكن ممارسة الحياة الخلقية بلا جزاء، ثوابًا كان أم عقابًا. أليس حسن الأفعال في ذاته مدعاة للإتيان بها، وقبح الأفعال لذاته مدعاة لتجنبها؟ وهل ينتج أسلوب الترغيب والترهيب فتحسن الأفعال في الدنيا، أم إنه قد ينتج عند البعض ولا ينتج عند البعض الآخر؟ هل المعاد باعثٌ نفسي على صلاح العالم تخويفًا للظالمين، أم إنه يقود برد فعل وهو تعويض المظلومين؟ قد ينجح الترغيب عند الفقراء تعويضًا عمَّا هم عليه من فقر، ولكن قد لا ينجح الترهيب عند الأغنياء؛ فالحاضر لديهم أولى من المستقبل. قد لا ينجح مع الظالمين والطغاة والمستغلين إلا الثورة عليهم بالفعل، واسترداد حقوق الفقراء منهم، وحصول الناس على حرياتهم المسلوبة، حتى لو تصدَّق الأغنياء، فهل الدار الأخرى مكافأة لهم أم لعقابهم على فائض أموالهم؟ وهل أعمال الخير هي الصدقة وإطعام المساكين وبناء المساجد والزوايا والتكايا، أم إعادة توزيع الثروة؟١٩
إن أمور المعاد في نهاية الأمر ما هي إلا تعبير عن عالم بالتمني عندما يعجز الإنسان عن عيشه بالفعل في عالم يحكمه القانون ويسوده العدل؛ لذلك تظهر باستمرار في فترات الاضطهاد، وفي لحظات العجز، وحين يسود الظلم ويعم القهر، كتعويض عن عالمٍ مثالي يأخذ فيه الإنسان حقه، ويُرفَع الظلم عنه. أمور المعاد في أحسن الأحوال تصويرٌ فني يقوم به الخيال تعويضًا عن حرمان في الخبز أو الحرية، في القوت أو الكرامة، في الرزق أو الحق، في عالم يحكمه القانون ويتحقق فيه العدل. وهي تعادل في علم أصول الدين المدن الفاضلة في علوم الحكمة. تنشأ أمور المعاد إذن نشأةً سياسيةً اجتماعيةً اقتصادية.٢٠
وبطبيعة الحال أن ينشأ رد فعل على التصور الثنائي، وأن ينشأ تصورٌ بديل هو التصور الواحدي للعالم؛ فهناك دنيا واحدة وآخرةٌ واحدة هي نفسها الدنيا. فالجنة والنار هما النعيم والعذاب في هذه الدنيا، وليس في عالمٍ آخر يُحشَر فيه الإنسان بعد الموت. الدنيا هي الأرض، والعالم الآخر هو الأرض. الجنة ما يصيب الإنسان من خير في الدنيا، والنار ما يصيب الإنسان من شر فيها. وهو ما قاله الفلاسفة أيضًا عن النعيم الروحي والعذاب الروحي في هذا العالم، وإنكار النعيم البدني والعذاب البدني في عالمٍ آخر. ولا يهم ماذا تعني الدنيا، هل هي الهواء والجو، أم هي كل ما خلقه الله من الجواهر والأعراض، بل يكفي أنها دار عمل وحياة وبقاء. إن واقع النعيم والعذاب في الدنيا لا يمكن إنكاره، سواء كان ذلك امتحانًا للإنسان وابتلاءً له ليزداد إيمانه وشكره، أو كان ثوابًا وعقابًا على أفعاله دون انتظار؛ إذ إن نتائج الفعل قد تظهر في الحال أو في المآل، في حياة الإنسان أو بعد مماته، كما هو الحال في السنن والآثار.٢١ ويؤكِّد ذلك عددٌ كبير من الأغاني الشعبية والأمثال العامية عن أن الجنة هي حضور الحبيب والأنس به، والنار غياب الحبيب وعذاب الفراق.٢٢ وقد يجعل هذا التصور الناس أكثر حرصًا على العمل في الدنيا والتمسك بها، بدلًا من الرضا وانتظار تعويضها في زمنٍ آخر وفي مكانٍ آخر. وقد يظهر تصور الخلود في الدنيا في عقيدة التناسخ، وانتقال الروح المنعَّمة إلى جسدٍ منعَّم، والروح المعذَّبة إلى جسدٍ معذَّب بالأمراض والأسقام والشيخوخة، أو إلى جسم حيوان.٢٣ وقد تتشخص الجنة والنار في رجلَين؛ الأول تجب موالاته والثاني تجب معاداته؛ ممَّا يدل على ارتباط أمور المعاد بالظروف النفسية والاجتماعية والسياسية لمجتمع الاضطهاد.٢٤ وفي هذه الحالة لا تفنى الدنيا كما قد تفنى الآخرة، وكأنه عندما تضيع الدنيا تخلد وتفنى الآخرة كما هو الحال في التجسيم، وعندما تُنال الدنيا تفنى وتبقى الآخرة كما هو الحال في التنزيه، أو كأن خلود الدنيا وفناء الآخرة تعريض ينشأ عن حال الفقد والعجز في الدنيا بإثبات خلودها وفناء الآخرة.٢٥
وقد تتعدد الديار، دنيا وآخرة، لتجمع بين التصورَين الثنائي والواحدي لعلاقة الدنيا بالآخرة؛ فقد تكون الديار خمسًا؛ داران للثواب، والثالثة للعقاب، والرابعة للابتداء، والخامسة للابتلاء. وقد كُلِّف الخلق في دار الابتلاء بعد اختبارهم في الدار الأولى، ولا يزال التكوين والتكرير، الاختبار والتكليف، في الدنيا حتى يمتلئ مكيال الخير ومكيال الشر. فإذا امتلأ الأول أصبح العمل كله طاعةً والمطيع خيرًا خالصًا، فيُنقَل إلى الجنة وكأنه لم يلبث طرفة عين. ومطل الغني في الحياة وحبه لها ظلم له. وإذا امتلأ مكيال الشر صار العمل كله معصية والعاصي شرًّا محضًا، فينتقل إلى النار وكأنه لم يلبث طرفة عين.٢٦ وقد يُعبَّر عن رسالة الإنسان في الحياة فنيًّا بالصورة، فتنشأ أمور المعاد، فتكون الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، وتتحول رسالة الإنسان في الحياة ليحقِّقها. فمن حقَّق رسالته ارتفع إلى أعلى عليين، في مكانةٍ أفضل من الذين استمروا في النعيم الدائم؛ لأنهم حصلوا على جزائهم بجهدهم لا بخلقهم. وإذا لم يحقِّقوا الرسالة هبطوا أسفل سافلين، تُسلَب منهم الرسالة، ويتحولون إلى أقل مرتبة من الوجود، وهي مرتبة غياب الوعي وحياة الشعور، ثم تُعطى لهم فرصةٌ ثانية للاختبار والتكليف. وهكذا تستمر الحياة، تكليف برسالة، ونجاح أو فشل في التحقيق، لا نهاية ولا يأس، بل عمليةٌ مستمرة لمزيد من الارتفاع للبعض، ومزيد من الانخفاض للبعض الآخر؛ حتى يظهر التقابل بين الملاك والحيوان، بين النعيم المُطلَق والعذاب المُطلَق، بين حياة الوعي وحياة اللاوعي، بين اليقظة والموت.٢٧
صحيحٌ أن المعاد يكشف عن همِّ المستقبل لدى كل إنسان ولدى الإنسانية جمعاء، خوفًا منه أو ثقةً فيه، ويخطِّط كل كائن حي للمستقبل، بما في ذلك الطير والحشرات من أجل تخزين الطعام وفقس البيض، وأن عبادة الأسلاف وأرواح الموتى والتطلع إلى المستقبل من أجل التعرف عليه والإعداد له، قد يجعل من المعاد أساس الحضارة، وأنه لولاه لانهارت الأمم، وقصر نظر الإنسان. أمور المعاد هي الدراسات المستقبلية بلغة العصر، والكشف عن نتائج المستقبل ابتداءً من حسابات الحاضر؛٢٨ ولذلك احتوى كثير من النصوص على صورٍ فنية لتصوير المعاد، ليس الغرض منها إصدار أحكام واقع، بل أحكام قيمة. ليس المطلوب منها إيجاد تطابق معانيها مع وقائع مادية، بل كشف هذه المعاني عن جوهر التجربة الإنسانية في المستقبل. لا يُحيل النص إذن إلى وقائع مادية، بل يكشف عن وقائع شعورية تعبِّر عن بنية الوجود الإنساني. إن قسمة الحياة إلى دنيا وآخرة، إلى ديني ودنيوي، لتعبِّر عن تصورٍ ثنائي للحياة يكشف عن تخلف وكبت وحرمان وتعويض وعجز واستكانة وخور. ولا تعني الآثار المترتبة على الفعل التصوير الفني لهذه الآثار من جنة أو نار؛ فالجنة هي الفائدة المترتبة على النظر، والنار هي الضرر الناتج عن غياب النظر كما هو الحال في تأويل الفلاسفة. الجنة هي آثار الفعل الحميد في الدنيا، والنار هي آثار الفعل القبيح فيها. أمور المعاد إذن هي أولًا خطأ في التفسير وتحويل الصور الفنية إلى وقائع مادية، وهي ثانيًا خطأ في الاتجاه وتحويل هذا العالم إلى عالمٍ آخر؛ ممَّا يكشف عن موقف مغترِب منحرِف، معوجٍّ منعرِج في الحياة، وهي ثالثًا خطأ في القصد؛ فليس المقصود منها الحساب الكمي في النهاية، بل توجيه السلوك والتأثير فيه منذ البداية. وكلما عمقت ثقافة الإنسان وقوي وعيه وقلَّت غربته عن العالم، فإنه لا يكون في حاجة إلى خلق مثل هذه العوالم الوهمية، وأصبح قادرًا على التفرقة بين عالم التمني وعالم الواقع. وفي المواقف الثورية تغيِّر المجتمعات حالها بالفعل، وتفرِّق بين النية والعمل، بين القصد والفعل، بين البداية والنهاية.

إن الخلود رغبةٌ إنسانيةٌ خالصة، وتعبير عن طموح الإنسان لتجاوز فنائه وحدوثه؛ فهي رغبة على الدوام لتجاوز الزمان، وطموح في البقاء لتجاوز الفناء. ليس في الخلود فترة انتظار من لحظة الموت إلى لحظة قرار الخلود، بل الخلود متَّصِل لا انتظار فيه عندما يؤثِّر الإنسان في حياته، ويستمر أثره بعد مماته. الخلود واقع وليس تمنيًا، حاضر وليس مستقبلًا، يُكتسَب ولا يُوهَب. وبالخلود يستمر فعل الإنسان، ويظل الإنسان فاعلًا مؤثِّرًا من خلال جهده وأثره طالما هو دائمًا فعَّال. يتم الخلود في هذا العالم من خلال الأثر الذي يتركه الإنسان في شعور الآخرين وفي واقعهم. لا يحدث الخلود في عالمٍ آخر، بل في هذا العالم، وفي حياة الناس عندما يتحول سلوك الإنسان إلى قدوة، وحياته إلى نموذج. ليس الخلود ميزةً فردية يستأثر بها إنسان دون آخر بصادية يفرح صاحبها بنعيمه المقيم وبعذاب الآخرين، بل هي فردية بمعنى أنها مشروطة بجهد الفرد في البداية، ثم تُحيل الإنسان كجزء من الحضارة والتاريخ في النهاية. ومع ذلك فالخلود فردي قد يحدث لفرد دون فرد؛ لأنه كسب؛ وبالتالي ليس كل البشر خالدين. الخلود فقط لمن حوَّل حياته الزمانية إلى حياةٍ أبدية. ليست درجات الخلود خارج هذا العالم في مراتب اجتماعية، ومكاسب مادية، ومنازل ودور من أدوار وقصور، أو زمان يقصر أو يطول، بل درجات الخلود في هذا العالم طبقًا للأثر الذي يُحدِثه فعل الإنسان في حياته على الآخرين. قد تحدث أخطاء في عملية التخليد نتيجةً للاجتهاد، خطأً أم صوابًا، ونتيجة لضعف الباعث أو شدته، أو شوب القصد وطهارته، أو غموض الهدف ووضوحه. تلك هي بنية الجهد الإنساني الحر كدليل على حرية الإنسان واختياره الحر. وقد تحدث مظاهر نكوص في عملية التخليد عندما تضعف الروح، أو يتفتت الأثر، أو عندما يحدث أثرٌ مُضاد، ولكن هذه هي حياة الخلود، حياة تسري عليها قوانين الحياة؛ النشوء والنماء، الانكماش والضمور. الخلود في النهاية للحضارة وللتاريخ، وللشعب صاحب الحضارة وصانع التاريخ. الخلود عملية يُساهِم فيها كل الأفراد، كلٌّ يكمِّل الآخر حتى يخلد الذهن البشري الخالق المُبدِع، وهو ما سمَّاه الحكماء خلود العقل الفعَّال، ولكنه هذه المرة عقل الأمة أفرادًا وجماعات، حال في التاريخ وليس مفارقًا للعالم. وإن الخلود الفردي ليجد كماله في خلود الجماعة في الحضارة والتاريخ.

١  عند أهل السنة، الجنة والنار حق (الإبانة ٩، ص١١). أصل التوحيد وما يصح الاعتقاد عليه أن يقول آمنت … وبالجنة والنار (الفقه، ص١٣). الجنة والنار حق (النسفية، ص١١٦). فضل الإيمان بالجنة والنار (الكتاب، ص٦). قرب الجنة والنار (الكتاب، ص١٠). لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة (الكتاب، ص١٥٤-١٥٥؛ الحصون، ص٨٨). وقد قيل في العقائد المتأخِّرة شعرًا:
والنار حق أُوجدت كالجنة
فلا تحل لجاحد ذي جِنة
دار خلود للسعيد والشقي
معذَّب منعَّم مهما بقي
(الجوهرة، ج٢، ص٨٣-٨٤)
٢  اختلفت المعتزلة في نعيم الجنة؛ هل هو تفضل أو ثواب؟ على مقالتَين: (أ) أنه ثواب. (ب) أنه تفضل (مقالات، ج١، ص٢٩٥). وعند الجبائي، يجوز أن يكون في الجنة ثواب لا يكون جزاءً، وفي النار عقاب لا يكون عقابًا (الفِرَق، ص١٨٩). اختلفت المعتزلة، هل كان يجوز أن يبتدئ الله الخلق في الجنة ويتفضل عليهم باللذات دون الأذوات ولا يكلِّفهم شيئًا؟ على مقالَين: (أ) قال أكثر المعتزلة لا يجوز ذلك؛ لأن الله لا يجوز عليه في حكمته أن يعرض عباده إلا لأعلى المنازل وأعلى المنازل منزلة الثواب، ولا يجوز ألا يكلِّفهم الله المعرفة، ويستحيل أن يكونوا إليها مضطرين، فلو لم يكونوا بها مأمورين لكان اللهالله قد أباح لهم الجهل به، وذلك خروج من الحكمة. (ب) قال قائلون: كان جائزًا أن يبتدئ الخلق في الجنة، ويبتدئهم بالأفضل، ولا يعرِّضهم لمنزلة الثواب، ولا يكلِّفهم شيئًا من المعرفة، ويضطرهم إلى معرفته. وهذا قول الجبائي وغيره (مقالات، ج١، ص٢٨٩).
٣  الجنة والنار مخلوقتان (الإنصاف، ص٢٨؛ الإبانة، ص١١؛ مقالات، ج١، ص٣٢٤). هل الجنة والنار مخلوقتان؟ عند أهل السنة نعم، وعند أهل البدع لا! (الفصل، ج٤، ص١٠١-١٠٢؛ الغاية، ص٣٠٢؛ النسفية، ص١١٦؛ العضدية، ج٢، ص٢٦٥؛ الدواني، ج٢، ص٢٦٥). وعند القاضي منذر بن سعيد، الجنة والنار مخلوقتان (الفصل، ج٤، ص١٠٢-١٠٣، ص١٠٦؛ المعالم، ص١٣٢-١٣٣). مخلوقتان (الفِرَق، ص٣٤٨؛ الفقه، ص٨٧؛ الدواني، ج٢، ص١٦٥–١٦٨؛ الخلخالي، ج٢، ص٢٦٨). وعند أبي علي الجبائي وأبي الحسين البصري وبشر بن المعتمر، مخلوقتان (المواقف، ص٣٧٤–٣٧٦). وعند هشام بن عمرو الفوطي، الجنة والنار ليستا مخلوقتَين؛ لأن لا فائدة من وجودهما خاليتَين (المِلَل، ج١، ص١٠٩). الجنة والنار لم يُخلقا بعد، فما الفائدة منهما؟ (المواقف، ص٤١٧). وعند الضرارية والجهمية وطائفة من القدرية، هما غير مخلوقتَين. ويجوِّز ذلك الكعبي (الأصول، ص٢٣٧-٢٣٨؛ الإرشاد، ص٣٧٧-٣٧٨). وكذلك الأمر عند عباد الصيرمي وضرار بن عمرو وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار (المواقف، ص٣٧١–٣٧٦). هل الله خالق نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار؟ أجمعت الأمة، إلا معمرًا والجاحظ، أن الله يخلق لذَّات أهل الجنة وآلام أهل النار. وعند معمر، الله لا يخلق الأعراض، وإنما الأعراض مِن فعل الأجسام، إما طباعًا أو اختيارًا. لا يخلق الله ألمًا ولا لذة ولا صحة. وقال الجاحظ إن الله لا يعذِّب أحدًا بالنار، ولا يُدخِل أحدًا النار، بل النار تجذب أهلها إلى نفسها طباعًا، وتحكم بالتأبيد بطبعها (الأصول، ص٢٣٨-٢٣٩). الله لا يُدخِل أحدًا النار، وإنما تجذب أهلها بطبعها، ثم تُمسِكهم في نفسها على الخلود، وكذلك الجنة (الفِرَق، ص١٧٦؛ الانتصار، ص٩١-٩٢، ص١٦٨). وعند النظَّام، لا يقدر الله على أن يزيد أو يُنقِص من نعيم أهل الجنة أو عذاب أهل النار. ولو أن طفلًا وقف على شفير جهنم لم يكن الله قادرًا على إلقائه فيها والإنسان قادر؛ وبالتالي الإنسان أقدر من الله (الأصول، ص٢٣٩). وهو غير قادر على إخراج أحد من النار أو أن يُدخِله الجنة (الفِرَق، ص١٣٣-١٣٤). والملائكة يقدرون على ذلك (الفصل، ج٥، ص٣٤). ووافق النظَّام المجبرة والرافضة كهشام بن الحكم (الانتصار، ص٢٦-٢٧). والحقيقة أن الجبر في الآخرة تحقيق للعدل وقانون الاستحقاق، وليس جبرًا للأفعال في الدنيا.
٤  الجنة والنار وصفان ومكانان، كل موضوع ومكان مساحة متناهية وبحدود نظرًا لتناهي الأجسام، وكل ما له عدد (الفصل، ج٤، ص١٠١). آدم كان رجلًا في الجنة، بستان على ربوة، فعصى ربه، فأنزله لبطن الوادي (البيجوري، ج٢، ص٨٣–٨٥). وعند المعتزلة والأصبهاني، هي جنةٌ أخرى خلقها الله امتحانًا لآدم. كانت بستانًا في الأرض بين فارس وكرمان. وقيل بأرض عدن. وقيل بستان بأرض فلسطين كورة الشام، أو تربة بالعراق، أو بأرض الهند. والهبوط والانتقال من مكانٍ عُلوي. خلق الله آدم في الأرض ليكون خليفته (الإسفراييني، ص١١٦-١١٧؛ المطيعي، ص٦٢-٦٣). ويرى ابن حزم أن القول بأن الجنة كانت بستانًا من بساتين الدنيا مُخالف لإجماع المسلمين. وقد يتوهم بأن ذلك مردود بقوله: اهْبِطُوا مِنْهَا إذ الهبوط انتقال من المكان العالي إلى المكان السافل، ويُرَد عليه أنه يحتمل أن يكون البستان في موضعٍ مرتفع كقمة الجبل (الخيالي، ص١١٦-١١٧). عند القاضي ابن سعيد، هما غير التي كان فيهما آدم وحواء لعِدة أسباب: (أ) لو كانت جنة الخلد لما أكلا من الشجرة رجاء أن يكونا من الخالدين. (ب) جنة الخلد لا كذب فيها، وقد كذب إبليس. (ﺟ) عري آدم والجنة ليس فيها عري. (د) لا يرون فيها شمسًا ولا زمهريرًا (الفصل، ج٤، ص١٠٢-١٠٣؛ المعالم، ص١٣٢-١٣٣).
٥  لها أبوابٌ ثمانية عشر، أكبرها باب الصلاة، يدخل منها من يُكثِر النفل، البعض خاص بالصائمين، يدخلون الجنة جردًا بيضًا مكحولين في طول آدم، ستون ذراعًا من عرض سبع أذرع. ليس لأحد لحية إلى آدم. بعد الحشر يساوي الصغير الكبير (العقباوي، ص٦٥–٦٨). أنواع النعيم، أعلاها رؤية وجه الله (البيجوري، ج٢، ص٨٣–٨٥). بعد الموقف يدخل المؤمنون الجنة جردًا مردًا أبناء ٣٣ سنة، طول كل واحد منهم ستون ذراعًا، وعرضه سبعون ذراعًا، ثم لا يزيدون ولا ينقصون. كل درجات الجنة متصلة بمقام الوسيلة، حيث مشاهدة الرسول. تُشرِق الشمس على كل أهل الجنة (البيجوري، ج٢، ص٨٣–٨٥). رضوان سيد خزنة الجنة، تُفتَح لسيد الخلائق (الإبانة، ص١٧؛ الجامع، ص١٨-١٩؛ العقباوي، ص٥٣). وللجنة سبع درجات متجاورة، أوسطها وأفضلها الفردوس، وهي أعلاها، وفوقها عرش الرحمن، ومنها تتفجر أنهار الجنة، وجنة المأوى، وجنة الخلد، وجنة النعمة، وجنة عدن، ودار السلام، ودار الجلال. ويُطلَق على الجميع جنة عدن؛ لأنها مأوى أدوار الخلد أو السلام؛ لأنهما للخلد والسلام من كل خوف وذعر (المطيعي، ص٦١؛ الدردير، ص٦٦–٦٨؛ شرح الخريدة، ص٥٦).
٦  الحور العين مطهَّرات حِسان، عُربٌ أتراب، يجامعن ويشاركن أزواجهن في اللذات كلها، خُلقن ليلتذ بهن المؤمنون. هل هن أفضل من الناس والملائكة والأنبياء؟ (الفصل، ج٤، ص١٤٤). ولا تموت الحور العين أبدًا. نساء خلقهن الله في الجنة، الواحدة تلبس سبعين حلة، نور ساقها يُضيء منها. الجان ينكحون من الحور العين كالإنس تمامًا (العقباوي، ص٧١-٧٢). الحور العين من شدة بياض العين مع شدة سوادها. نساء الجنة وُصفت بالعين لاتساع عيونهن (شرح الخريدة، ص٥٧-٥٨). أنكر الفوطي فض الأبكار في الجنة، ويدعو عليه أهل السنة بأن من أنكر ذلك يُحرَم منه، وكأن الأمر ليس عقليًّا، بل نفعٌ ذاتي (الفِرَق، ص١٦٤). ويجب الإيمان بالولدان. خلقهم الله على صورة غلمان الدنيا، جمالهم شديد، في رؤيتهم فرح وسرور لا يخطر على قلب أحد، فيهم فاحشة؛ إذ هي مبغوضة لله لا تخطر بقلب أهل الجنة (الدردير، ص٧١-٧٢). الولدان لا يموتون ولا يهرمون، إذا زُيِّنوا بالجواهر انشرح الصدر، ومجمَّلون بالقرط في آذانهم (العقباوي، ص٧١-٧٢). الولدان على صورة غلمان الدنيا، فرحة أهل الجنة، أولاد الكفار الذين يموتون قبل البلوغ متعة أهل الجنة (شرح الخريدة، ص٥٧-٥٨).
٧  لم يرِد نصٌّ صريح بالمكان، والأكثر أنها الجنة فوق السموات السبع وتحت العرش، وأن النار تحت الأرضين السبع. والحق تفويض ذلك (البيجوري، ج٢، ص٨٣–٨٥). وتمسَّك المنكرون بأن الجنة موصوفة بأن عرضها كعرض السموات والأرض. وهذا في عالم العناصر مُحال، وفي عالم الأفلاك إدخال عالم في عالمٍ آخر خارج عنه، مستلزم لجواز الفرق والالتئام، وهو باطل (التفتازاني، ص١١٦). الفِرق الإسلامية يُنكِرونها مُطلَقًا. والمشهور في نفي كونهما في عالم العناصر لبعض المعتزلة أنهما لو كانا في عالم العناصر لزم التناسخ، وهو مفارقة النفس عن الأبدان في عالم العناصر وتعلقهما بها فيها (الإسفراييني، ص١١٦). وقالت النفاة: إما أن يكونا في هذا العالم، فيكونا في عالم الأفلاك، وهو باطل لأنها لا تنخرق ولا تخالط الفسادات، وإما في عالم العناصر، فيكون الحشر تناسخًا، أو في عالمٍ آخر، وهو باطل لأن هذا العالم كري. وهي حجةٌ طبيعيةٌ رياضية (الطوالع، ص٢١٨). وينكر المعتزلة وجودها الآن، وقد توجد ساعة الجزاء (عبد السلام، ص١٤٤-١٤٥). ويُنكِر الفلاسفة وجودها بالمرة، ويُنكِر أبو هاشم والقاضي عبد الجبار وجودها الآن (عبد السلام، ص١٤٤-١٤٥؛ البيجوري، ج٢، ص٨٣–٨٥).
٨  الجنة عند النظَّام ليست دار مِحن واختبار، بل لدار نعيم وثواب. ولا بد للأرواح إذا أراد الله أن يأتيها ثوابها أن يُدخِلها هذه الأجسام من الألوان والطعوم والأراييح؛ لأن الأكل والشرب والنكاح وأنواع النعيم لا تجوز على الأرواح إلا بإدخال هذه الأجسام عليها (الانتصار، ص٣٦-٣٧). وعند النظَّام أيضًا أن العقارب والحياة والخنافس والذباب والغربان والحملان والكلاب والخنازير وسائر السباع والحشرات، تُحشَر في الجنة، وأن كل من تفضَّل الله عليه بالجنة لا يكون لبعضهم لبعضٍ درجات في التفضيل، وأنه ليس لإبراهيم ابن الرسول في الجنة تفضيلُ درجة على درجات أطفال المؤمنين، ولا لأطفال المؤمنين فيها تفضيل بدرجة أو نعمة أو مرتبة على الحيان والعقارب والخنافس؛ لأنه لا عمل لهم كما لا عمل لها. ولا يُتفضَّل على الأنبياء إلا بمثل ما يُتفضَّل على البهائم؛ لأن باب الفضل عنده لا يختلف فيه العالمون وغيرهم، وإنما يختلفون في الثواب والجزاء لاختلاف مراتبهم في الأعمال، ويدعو عليه البغدادي: «حشرك الله مع الكلاب» (الفِرَق، ص١٤٥).
٩  النار تحت الأرضين السبع (البيجوري، ج٢، ص٨٣–٨٥). النيران جسمٌ لطيفٌ مُحرِق، يميل إلى جهة العلو، والمراد بها دار العقاب (شرح الخريدة، ص٥٦). لها سبعة أبواب أو سبع طبقات (المطيعي، ص٦١). منها نار الدنيا بعد أن وُضعت في البحر مرتَين حتى يُنتفع بها. أُوقدَ عليها ألف سنة حتى ابيضَّت، ثم ألف سنة حتى احمرَّت، ثم ألف سنة حتى اسودَّت! فهي سوداء مُظلِمة، وجمرها أحمر مُحرِق، داخل النار معذَّب بالزمهرير والحيات والعقارب (البيجوري، ج٢، ص٨٣–٨٥). مالك موكَّل بالنيران (الجامع، ص١٨-١٩). خلق الله له أصابع بعدد أهل النار، ولو وضع أصبعًا على السماء لأذابها! (العقباوي، ص٥٣). عند ابن العربي، هذه النار التي في الدنيا ما أخرجها الله إلى الإنسان من جهنم حتى غُسلت في البحر مرتَين، ولولا ذلك لم يُنتفع من حرها. وعند المعتزلة، لا توجد الآن، ولكنها توجد يوم الجزاء (المطيعي، ص٦١؛ الدردير، ص٦٦–٦٨؛ البيجوري، ج٢، ص٨٣–٨٥؛ الجامع، ص١٨-١٩).
١٠  اللظى لليهود، والحطمة للنصارى، والسعير للصابئين (اليهود)، وسقر للمجوس، والجحيم لعبدة الأصنام، والهاوية للمشركين، وجهنم لمن يُعذَّب على قدر ذنب من المؤمنين، ثم تصير خرابًا بخروجهم منها (البيجوري، ج٢، ص٨٣–٨٥؛ الجامع، ص١٨-١٩). وأهل النار متفاضِلون في عذاب النار؛ أقلُّهم عذابًا أبو طالب، فإنه توضَع حجرتان من نار في أخمصَيه إلى أن يبلغ الأمر … ولا يكون الأشد إلا إلى جذب الأذون (الفصل ج٤، ص٧٧). الصحيح من النقل عنه، طبقًا لمقاتل بن سليمان، أن المؤمن العاصي يُعذَّب يوم القيامة على الصراط المستقيم وهو على متن جهنم، يُصيبه لفح النار ولهبها، فيتألم بذلك على مقدار المعصية، ثم يدخل الجنة، ومثل ذلك بالجثة المقلاة المؤجَّجة بالنار (المِلَل، ج٢، ص٦٣-٦٤).
١١  عند ثمامة، عوام الدهرية والنصارى والزنادقة يصيرون في الآخرة ترابًا، وكذلك الأطفال (الفِرَق، ص١٧٢). وعند معمر وثمامة، المقلِّدون من اليهود والنصارى والمجوس وعباد الأوثان لا يدخلون النار يوم القيامة، ولكن يصيرون ترابًا، وكذلك إبراهيم وجميع أولاد المسلمين الذين يموتون قبل الحلم (الفصل، ج٥، ص٣٧). وكذلك البهائم والأطفال (المواقف، ص٤١٧؛ الانتصار، ص٨٦-٨٧، ص١٧١-١٧٢).
١٢  والحق التفويض في ذلك (البيجوري، ج٢، ص٨٣–٨٥). من أنكر الجنة أو النار أو تأولهما فقد كفر (الدر، ص١٦٧). جهنم من الجهامة، وهي كراهة المنظر. النار تنشأ من الحسد، وهو من الكبائر (العقباوي، ص٦٥–٦٨). السقط الذي لم تتم له ستة أشهر إن أُلقيَ بعد النفخ أُعيدَ بروحه، ويدخل الجنة كأهلها في الجمال والطول، وإن لم يبلغ ذلك يُحشَر ثم يصير ترابًا (البيجوري، ج٢، ص٧٠-٧١).
١٣  عند البطيخية، يُنعَّم أهل الجنة فيها كما يُنعَّم أهل النار، مثل دود الخل يتلذذ بالخل، ودود العسل يتلذذ بالعسل (مقالات، ج٢، ص١٤٨–٢٤٩). وعند الإباضية أيضًا، أهل النار في لذة ونعيم، وأهل الجنة كذلك (الفصل، ج٥، ص٣٠).
١٤  عند أهل الإثبات، عذاب جهنم ضرر وبلاء وشر في الحقيقة، وأن ذلك ليس بخير ولا صلاح ولا منفعة ولا رحمة ولا نظر (مقالات، ج٢، ص١٩٥). وقال أهل الإثبات إن الله ينفع المؤمنين ويضر الكافرين في الحقيقة في دنياهم وفي الآخرة في إتيانهم، وإن كل ما فعله بهم فهو ضرر عليهم في الدين؛ لأنه إنما فعله بهم ليكفروا، وهم في ذلك فريقان: (أ) عند البعض، أن لله نقمًا على الكافرين في دنياهم كنحو المال وصحة البدن. (ب) وأبى ذلك البعض الآخر؛ لأن كل ما فعله بالكفار إنما فعله بهم ليكفروا (مقالات، ج٢، ص١٩٥-١٩٦). وعند الإسكافي، عذاب جهنم خير في الحقيقة ومنفعة وصلاح ورحمة، بمعنى أنه نظر لعباده؛ إذ كانوا بعذاب جهنم قد رجعوا من ارتكاب الكفر (مقالات، ج٢، ص١٩٥). وهذا أيضًا هو موقف ابن حزم. فبالضرورة نعلم أنه لا فرق بين خلق الشر وبين خلق القوة التي لا يكون الشر إلا بها، ولا بين ذلك وبين خلق من علِم الله أنه لا يفعل إلا الشر، وبين خلق إبليس وإنظاره إلى يوم القيامة، وتسليطه على إغواء العباد وإضلالهم، وتقويته على ذلك، وتركه يُضلُّهم إلا مَن عصم الله منهم. فإن قالوا إن خلق الله إبليس وقوى الشر وفاعل الشر خير وعدل وحسن، صدقوا وتركوا أصلهم الفاسد، ولزمهم الرجوع إلى الحق في أن خلقه للشر والخير ولجميع أفعال عباده وتعذيبه من شاء منهم ممَّن لم يهدِه، وإضلاله من أضل وهداه من هدى، كل ذلك حق وعدل وحسن، وأن أحكامنا غير جارية عليه، لكن أحكامه جارية علينا. وهذا هو الحق الذي لا يخفى إلا على من أضله الله (الفصل، ج٣، ص٧٣-٧٤). أما عند الجبائي، فالأعراض ليست بشرٍّ في الحقيقة، بل في المجاز، وكذلك جهنم (مقالات، ج٢، ص١٩٥). عند الجبائي، الله خيِّر بما فعل من الخير؛ لأن من كثر منه الشر قيل له شرير، وقال إن الأمراض والأسقام ليست بشرٍّ في الحقيقة، وإنما هي شر في المجاز. وكذلك كان قوله في جهنم. وكان يقول إن عذاب جهنم ليس بخير ولا شر في الحقيقة؛ لأن الخير هو النعمة، وما للإنسان فيه من منفعة، والشر هو العبث والفساد، وعذاب جهنم فليس بصلاح ولا فساد، وليس برحمة ولا منفعة، ولكنه عدل وحكمة. وعند عباد بن سليمان، أن الله لم يفعل شرًّا بوجه من الوجوه، ولم يقُل إن عذاب جهنم شر في الحقيقة ولا في المجاز، وكذلك قوله في الأعراض والأسقام. وعند الجبائي، الله لا يضر أحدًا في باب الدين، ولكنه يضر أبدان الكفار بالعذاب في جهنم وبالآلام التي يعاقبهم عليها. وأنكر ذلك المعتزلة؛ إذ لا يجوز أن يضر الله أحدًا في الحقيقة، كما لا يجوز أن يغرَّ أحدًا في الحقيقة (مقالات، ج٢، ص١٩٥-١٩٦).
١٥  أجمع أهل الإسلام إلا جهمًا أن نعيم أهل الجنة دائمٌ لا انقطاع له، وكذلك عذاب الكفار في النار (مقالات، ج٢، ص١٤٨-١٤٩؛ مقالات، ج١، ص٢١٠؛ الفِرَق، ص٣٤٨). لا فناء لأهل الجنة والنار بعد دخولهم فيها (الكلنبوي، ج٢، ص٢٤٨). الكفار لا يخرجون منها أبدًا، والعصاة المؤمنون ما لهم الخروج بعد انقضاء المدة أو بالشفاعة، ثم يدوم أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار (الحصون، ص٨٨؛ عبد السلام، ص١٤٤-١٤٥). القول بالدوام ردًّا على الجهمية القائلين بفنائها وفناء أهلها، الدخول مؤبَّد لا يخرج منها أحد مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، كناية عن المدة (العقباوي، ص٦٥–٦٨). القول في دوام نعيم أهل الجنة ودوام عذاب أهل النار. الجنة والنار مخلوقتان اليوم ولا تفنيان أبدًا، ذواتهما وما فيهما من أهلها (الفقه، ص٨٨؛ الإنصاف، ص٥١). ولا تموت الحور العين أبدًا، ولا يفنى أهلهما (النسفية، ص١١٧). أُكُلها دائم (الخيالي، ص١١٧؛ الإسفراييني، ص١١٧). إثبات الجنة والنار ودوام النعيم والعذاب (الفِرَق، ص١٧٦، ص٣١٤، ص٣٤٨؛ الفقه، ص١٨٤؛ الأصول، ص٢٣٨، ص٣٣٥؛ مقالات، ج١، ص٢٢٤). وعند أهل السنة، الله قادر على إفناء الجنة والنار، ولكن الجنة والنار دائمان عن طريق الخبر (الفِرَق، ص١٧٦). ليس للجنة والنار آخر، ولا تزالان باقيتَين، وكذلك أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، وليس لذلك آخر، ولا لمعلوماته ومقدراته غاية ولا نهاية (مقالات، ج١، ص٢٢٤).
١٦  يحتجُّ جهم بقول الله: وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا، وأيضًا: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ (الفصل، ج٤، ص١٠٤-١٠٥). وهناك حجتان نصيتان أخريان هما: أُكُلُهَا دَائِمٌ، كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (المواقف، ص٤١٧). عند جهم، الجنة والنار تفنيان وتبيدان، ويفنى من فيهما حتى لا يبقى إلا الله وحده، كما كان وحده ولا شيء معه (مقالات، ج٢، ص١٤٨-١٤٩). لا يجوز أن يخلِّد الله أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار (مقالات، ج١، ص٢١٠؛ الفِرَق، ص٣٤٨؛ الفصل، ج٤، ص١٠٣-١٠٤). وعنده أيضًا أن الجنة والنار لم يخلقهما الله بعد، وأنهما يفنيان بعد خلقهما، فيدخل أهل الطاعة من الجنة بعد دخولهما إلى الحزن بعد الفرح، والغم بعد السرور، والشقاء بعد الرخاء (التنبيه، ص٩٨، ص١٣٧؛ الأصول، ص٩٨، ص٣٣٣؛ الفِرَق، ص١٢٢؛ المِلَل، ج١، ص١٢٩-١٣٠؛ الفصل، ج٥، ص٤٦). وعند جهم، لمقدورات الله ومعلوماته غاية ونهاية، والجنة والنار تفنيان ويفنى أهلهما، حتى يكون الله ولا شيء معه (مقالات، ج١، ص٢٢٤). وتقول الإباضية إن العالم يفنى كله إذا أفنى الله أهل التكليف، ولا يجوز إلا ذلك؛ لأنه إنما خلقه لهم، فإذا أفناهم لم يكن لبقائه لهم معنًى (مقالات، ج١، ص١٨٣). كما تقول الجناحية بفناء الجنة والنار (الفِرَق، ص٢٤٦؛ الفصل، ج٥، ص٢٣). ويقول أيضًا بفنائهما أبو هاشم والقاضي عبد الجبار (الطوالع، ص٢١٩؛ المطيعي، ص٦١-٦٢؛ المواقف، ص٣٧٨-٣٧٩).
١٧  قال أبو الهذيل بانقطاع حركات أهل الجنة والنار، وأنهم يسكنون سكونًا دائمًا (مقالات، ج٢، ص١٤٨-١٤٩؛ مقالات، ج١، ص١٢٤، ص٢١٠؛ الفِرَق، ص٣٤٨؛ الفصل، ج٤، ص١٠٣-١٠٤؛ الأصول، ص٢٣٥، ص٢٣٨). وقد شنَّعوا عليه بأنه يلزم إذا كان ولي الله في الجنة قد تناول بإحدى يدَيه الكأس وبالأخرى بعض التحف، ثم حضر وقت السكون الدائم، أن يبقى ولي الله أبدًا على هيئة المصلوب (الفِرَق، ص١٢٢–١٢٤؛ الفصل، ج٥، ص٣٤؛ المِلَل، ج١، ص٧٦-٧٧؛ المعالم، ص١٣٤-١٣٥؛ الانتصار، ص١١–١٤، ص١٩–٢٤، ص٧٠–٧٢، ص١٦٨؛ المواقف، ص٤١٥). وعند أبي الهذيل أن لمعلومات الله كلًّا وجميعًا، ولما يقدر عليه كلًّا وجميعًا، وأن أهل الجنة تنقطع حركاتهم ويسكنون سكونًا دائمًا، وقال بفناء مقدورات الله حتى لا يكون بعدها قادرًا (مقالات، ج٢، ص١٥٨). عند أبي الهذيل، عِلم الله له غاية ونهاية لا يتجاوزها؛ إذ إن الكل يُوجِب الحصر والنهاية (الانتصار، ص١٢٣–١٢٥). خالقية الله قد انتهت إلى حدٍّ لا يقدر أن يخلق شيئًا آخر (اعتقادات، ص٤١). قدرته تنتهي إلى حال تُفضي بمقدورات فيها، ولا يقدر بعدها على شيء، ولا يملك حينئذٍ لأحد على ضر ولا نفع، أهل الجنة في تلك الحال يبقون في سكونٍ دائم (الفِرَق، ص٣٣٤-٣٣٥). فناء مقدوراته، ولا يكون بعدها قادرًا على شيء. نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار يفنيان، ويبقى أهل الجنة وأهل النار خالدين، لا يقدرون على شيء، لا يقدر على إحياء ميت ولا على إماتة حي، ولا على تحريك ساكن ولا على تسكين متحرك، ولا على إحداث شيء ولا على إفناء شيء (الفِرَق، ص١٢٢؛ الأصول، ص٩٤).
١٨  الأشعري يُشبه الأخرويات، والمعتزلة يأخذونها على عمومها (الإبانة، ص٧).
١٩  وقد لاحظ الشيخ حسين الجسر هذا التعويض بقوله: «ثم إن السلطان العادل الحكيم الرحيم إذا كان له جمع من الرعية، وكان بعضهم أقوياء وبعضهم ضعفاء، كان من حكمته وعدله ورحمته أن ينتصر للمظلوم الضعيف من الظالم القوي. والله سلطانٌ حكيمٌ عادل في حكمته وعدله ورحمته أن ينتصف لعبيده المظلومين من عبيده الظالمين، وهذا الانتصاف لم يحصل في هذه الدار؛ لأننا نرى المظلوم قد يبقى فيها مهانًا في غاية الذل والقهر، مسلوب المال مفضوح العرض، والظالم يبقى في غاية العزة والقدرة، فلا بد من دارٍ أخرى يظهر منها هذا العدل وهذا الإنصاف» (الحصون، ص٩٧). وأيضًا: من حكمة السلطان الحكيم الرحيم أن يبعث نفوس رعيته للعطف على الفقراء؛ ليُعينوهم بشيء من الأموال على مصالح معاشهم. واللائق بالأغنياء أن تكون تلك الإعانة منهم على وجه الرغبة وانشراح الصدر، وبذلك يصلح حال الفقراء، ويندفع عنهم الشقاء، ويفارقهم الفساد في الجملة. وحيث إن النفوس مفطورة على حب المال، ولا تسمح بصرف شيء منه إلا إذا وجدت عوضًا هو خير منه، فكان من حكمة الله أن يُحيل دارًا غير هذه الدار، يُكافئ فيها بالخير المتصدقين على الفقراء والمساكين، ويجازي ما نفى الصدقات والزكوات بما يستحقون. فإذا علِم الأغنياء بوجود دار أخرى، وأنهم يكافَئون فيها على الصدقة بعشرة أمثالها، فحينئذٍ يُنفقون على الفقراء والمساكين برغبة وانشراح صدر لما يرجونه من نوال الأجور، بل يرغبون أيضًا في الصدقات الجارية التي لا تنقطع، فيرصدون الأوقات الجسيمة، ويشيدون للصلوات والأذكار وإطعام المساجد والزوايا والتكايا العظيمة، فينتج عن ذلك من الخيرات ما لا يدخل تحت الحصر، وكل ذلك عن الرغبة في نعيم الدار الآخرة، والنجاة من عذابها، ولولا ذلك لما كان من تلك المآثر الخيرية إلا القليل (الحصون، ص٩٦-٩٧).
٢٠  وقد لاحظ أيضًا الشيخ حسين الجسر هذه النشأة السياسية لأمور المعاد بقوله: «إن الأهواء والشهوات وحب اللذات لا يُقاومها مجرد القوانين التي يُقِيمها العلم السياسي، فلا بد من وازعٍ آخر يزع النفوس من المضار، ومرجِّح يرجِّح اتِّباع فريق الخير وهجران سبيل الشر، وهو الإيمان بالمعاد، والمكافأة على الأعمال إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، وإلا فليتأمل العاقل في الإنسان إذا كان يعتقد أنه مثل نبات الأرض، ينبت ثم يزول لا إلى رجعة، وليس له حظ من وجوده إلا لذَّاته الحيوانية التي ينالها مدة حياتها، فمهما سنَّ له العلم السياسي من الضوابط لمعرفة حاله وما عليه، فإذا قدر على قتل سواه، وأخذ ماله الذي يبلغ الملايين بدون أن يطَّلع عليه أحد من الناس، وهتك أشرف عرض، وبلوغ لذة بدون اطلاع أحد، فهل يظن أن تلك القوانين التي سنَّها له العلم السياسي تردُّه عن ارتكاب ذلك؟ لا يقول بذلك إلا مكابر. ومن المعلوم أن الإنسان مفطور على حب ذاته، فمن يدري به حق الدراية لا يأمن له في شيء إلا إذا وجده مرتبطًا بالدين. وإنا نرى أن بعض الأمم تعتقد المعاد، ويظهر فيها من بعض أفرادها ما يظهر من الفساد، فكيف يكون حالها لو نُسِخ هذا الاعتقاد منها؟ فبلا شك أن فسادها يصير عظيمًا. على أننا نرى الأمم التي انتشر فيها العلم الدنيوي، لا سيَّما السياسي في هذا الزمان، لا تزال آخذة في سبيل الشرور، بل كلما ازداد ذلك العلم بينها ازدادت شرورها، وفشا بينها الزنا الذي يُضيع الأنساب، ويحلُّ عقد التناحر وقتل النفوس والانتحار، وإزالة العقل بالمُسكِرات، والاحتيال بفنونها وصنائعها على سلب الأموال والغش والخديعة، وكثير من الأخلاق المُخِلة بنظام الهيئة الاجتماعية؛ وما ذلك إلا لأن علومها التي برعت فيها ليست في اعتقاد المعاد نصيب» (الحصون، ص٩٨). ويقول أيضًا: «… لا بد من دارٍ أخرى يحصل فيها ارتباط الخير والثواب والشر بالعقاب …» (الحصون، ص٩٥-٩٦).
٢١  اختلفت المعتزلة في الثواب في الدنيا على مقالتَين: (أ) عند النظَّام، لا يكون الثواب إلا في الآخرة، وأن ما يفعله الله بالمؤمنين في الدنيا من المحبة والولاية ليس بثواب؛ لأنه إنما يفعله بهم ليزدادوا إيمانًا، وليمتحنهم بالشكر عليه. (ب) وعند سائر المعتزلة، الثواب قد يكون في الدنيا، وأن ما يفعله الإله من الولاية والرضا على المؤمنين فهو ثواب (مقالات، ج١، ص٣٠٢-٣٠٣). واختلفوا في الدنيا ما هي: (أ) فعند زهير الأثري، هي الهواء والجو. (ب) وعند آخرين، هي واقع على كل ما خلقه الله من الجواهر والأعراض قبل مجيء الآخرة (مقالات، ج١، ص١١٧).
٢٢  عند المعمرية (الخطابية)، الجنة ما يصيب الناس من الخير والنعمة والعافية، والنار ما يصيب الناس خلاف ذلك (مقالات، ج١، ص٧٧). الجنة ما يصيب الناس من خير وعافية، والشر ما يصيبهم من شر وفسق وبلية (الفِرَق، ص٢٤٨؛ المِلَل، ج٢، ص١٢٥). وكل ما ذكر الله في كتابه من جنة ونار وحساب وميزان وعذاب ونعيم، فإنما هو في الحياة الدنيا فقط، من الأبدان الصحيحة والألوان الحسنة والطعوم اللذيذة والروائح الطيبة والأشياء المُبهِجة التي تنعم بها النفوس، والعذاب هو الأمراض والآلام والأنصاب وما تتأذى به النفوس، وهذا هو الثواب والعقاب على الأعمال. كما كفر أبو منصور العجلي بالجنة والنار (مقالات، ج١، ص٧٤). وتأوَّل أصحابه الجنة على أنها نعيم الدنيا، والنار على أنها مساوئ الدنيا، واستحلوا خنق مخالفيهم. الجنة نعيم الدنيا والنار آلامها (المواقف، ص٤٣٠). وكفرت الجناحية بالقيامة والجنة والنار (مقالات، ج١، ص٦٧؛ الفِرَق، ص٢٤٦، ص٢٥٥). كما أبطلت الباطنية القول بالمعاد والعقاب؛ فالجنة نعيم الدنيا، والعذاب هو اشتغال أصحاب الشرائع بالصلاة والصيام والحجج والجهاد (الفِرَق، ص٣٩٣). وأبطلت المعاد والنشور (الفِرَق، ص٢٩٦).
٢٣  قالت المعمرية أيضًا بالتناسخ، وأنهم لا يموتون، ولكنهم يُرفَعون بأبدانهم إلى الملكوت، وتُوضَع للناس أجسادٌ شبيهة بأجسادهم (مقالات، ج١، ص٧٧). وقالت القرامطة والديلم (الرافضة) بالتناسخ كذلك، وحلول الناسوت في اللاهوت (التنبيه، ص٢١). وعندهم، لا جنة ولا بعث ولا نشوء. من مات بلي جسده، ولحق روحه بالنور الذي تولَّد منه، حتى يرجع كما كان (التنبيه، ص٢٠-٢١). كما قالت الجارودية أيضًا بالتناسخ، وانتقال الروح من جسد إنسان رديء إلى جسد إنسان مؤلم ممرض، فتُعذَّب فيه مدة ممَّا عمل من الشرور والفساد، ثم تنتقل إلى جسد إنسان متنعم فيه طوال ما بقيت في الجسد الأوَّل. وهذا هو الكون، فيكون معذَّبًا أو مقيَّدًا أو جسد هرم أو ممرض أو مسقم، أو يكون منعمًا في جسد شاب حسن متلذذ (التنبيه، ص٢٣).
٢٤  عند أبي منصور العجلي، الجنة رجلٌ أُمرنا بموالاته، وهو إمام الوقت؛ والنار رجلٌ أُمرنا بمعاداته، وهو خصم الإمام (المِلَل، ج٢، ص١٢٥).
٢٥  عند عبد الله بن معاوية ذي الجناحَين، وعند المعمرية الخطابية، الدنيا لا تفنى (مقالات، ج١، ص٦٧، ص٧؛ الفِرَق، ص٢٤٨؛ المِلَل، ج٢، ص١٢٥).
٢٦  عند أحمد بن حابط، الديار خمس: داران للثواب، والثالثة للعقاب، والرابعة للابتداء، والخامسة للابتلاء. دار الابتداء هي التي كُلِّف الخلق فيها بعد أن اختُبروا في الأولى. وهذا التكوين والتكرير لا يزال في الدنيا حتى يمتلئ المكيالان؛ مكيال الخير ومكيال الشر. فإذا امتلأ مكيال الخير صار العمل كله طاعة والمطيع خيرًا خالصًا، فينتقل إلى الجنة، ولم يلبث طرفة عين، فإن مطل الغني ظلم. وإذا امتلأ مكيال الشر صار العمل كله معصية والعاصي شريرًا محضًا، فينتقل إلى النار، ولم يلبث طرفة عين (المِلَل، ج١، ص٩٤).
٢٧  عند أحمد بن بانوش، خلق الله الخلق دفعةً واحدة، خلق أولًا الأجزاء المقدرة التي كل واحد منها لا يتجزأ، وتلك الأجزاء أحياءٌ عاقلة سوَّى الله بينهم في جميع أمورهم؛ إذ لم يستحق الواحد منهم تفضيلًا على غيره، ولا كان من أحد منهم جناية يُؤخَّر لأجلها عن غيره، ثم إنه خيَّرهم بين أن يمتحنهم بعد إسباغ النعمة عليهم بالطاعات، ليستحقوا بها الثواب عليها، لأن منزلة الاستحقاق أشرف من منزلة التفضيل؛ أو بين أن يتركهم في تلك الدار تفضلًا عليهم بها، فاختار بعضهم المحنة وأباها بعضهم. فمن أباها تركه في الدار الأولى على حاله فيها، ومن اختار الامتحان امتحنه في الدنيا. ولما امتُحن الذين اختاروا الامتحان عصاه بعضهم وأطاعه بعضهم، فمن عصاه حطَّه إلى رتبةٍ هي دون المنزلة التي خُلقوا فيها، ومن أطاعه رفعه إلى رتبةٍ أعلى من المنزلة التي خُلق عليها، ثم كرَّرهم في الأشخاص والثواب إلى أن صار منهم أناس وآخرون بهائم أو سباع بذنوبهم. ومن صار منهم إلى البهيمية ارتفع عنه التكليف، ولا تزال البهائم تُردَّد في الصور القبيحة، وتلقى المكاره من الذبح والتسخير إلى أن تستوفي ما تستحق من العقاب بذنوبها، ثم تعاد إلى الحالة الأولى، ثم يخيِّرهم الله تخييرًا ثانيًا في الامتحان، فإن اختاروه أعاد تكليفهم، وإن امتنعوا منه تُركوا على حالهم غير مكلَّفين. ومن المكلَّفين من يعمل من الطاعات حتى يستحق أن يكون نبيًّا ثم ملكًا، فيفعل الله ذلك به (الفِرَق، ص٢٧٥-٢٧٦). وعند القحطي، لم يعرض الله عليهم في أول الأمر التكليف، بل هم سألوه الرفع عن درجاتهم والتفاضل بينهم، فأخبرهم بأنهم لا يتصفون بذلك إلا بعد التكليف والامتحان، وأنهم إن كُلِّفوا فعصوا استحقوا العقاب، فأبوا الامتحان (الفِرَق، ص٢٧٦).
٢٨  لو لم يحصل للإنسان معاد لكان أحسن من جميع الحيوانات في المنزلة والشرف؛ فمضارُّ الإنسان في الدنيا أكثر من مضارِّ جميع الحيوانات. فإن سائر الحيوانات قبل وقوعها في الآلام تكون فارغة البال؛ لأن ليس لديها فكر. أما الإنسان فله أنواع من الخوف … الإنسان خُلِق للآخرة لا للدنيا (الحصون، ص٧–٩). وبالظن أن تلك الأمم لولا بقية اعتقاد والمعاد قائمة بينها، لوجدناها قد هوت للدمار، تنمحي من لوح الوجود (الحصون، ص٩٨-٩٩). انظر بحثنا «علم المستقبليات: عالم الغد بين الأمس واليوم» في دراسات فلسفية، ص٥٥١–٥٩٩، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٨م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤