أُنجزت المهمة بنجاح

مقدمة

يشغل تشارلز داروين موضعًا خاصًّا في تاريخ العلم والمجتمع. فمع أن اسم داروين مألوف، فإن أفكاره — خلا فكرة وحيدة — ليست بالأفكار المألوفة. فهو شخصية محورية، ورمز، لكن هذا لا يعني القول إن شخصيته مفهومة جيدًا وعلى نطاق واسع. ولو كان المجتمع العلمي هو الذي يصدر النقود لكان من المسلم به أن توضع صورة وجه داروين على الدولار. إنه وجه طيب، وجه جامد لكن على نحو محبب، مثل وجه جورج واشنطن المأخوذ من رسم جلبرت ستيوارت، إلا أن صورة وجه داروين، مثل صورة وجه واشنطن، تخفي خطوطًا عميقة من التعقيد والتوتر. يعرف كل شخص منا شيئًا عن داروين، وما فعله، وما قاله، والشيء الذي يعتقد معظم الناس أنهم يعرفونه عنه هو أنه: حاك «نظرية التطور» ببراعة. ليس هذا بالاعتقاد الخاطئ تمامًا، فقط يشوبه الخلط وعدم الدقة، وفيه إغفال لأكثر النقاط أصالة وخطورة وإثارة في عمل داروين.

سواء نُظر إلى داروين كبطل أو كفزاعة، فإن النظرة المأخوذة عن داروين يُسَلَّم بصحتها على نحو لم يحدث مع أي من كوبرنيكوس، وكبلر، ونيوتن، ولينيوس، وتشارلز ليل، وجريجور مندل، وألبرت أينشتاين، وماري كوري، ونيلز بوهر، وفيرنر هايزنبرج، وألفريد فِجنر، وفريدريك هابل، وجيمس واطسون، وفرانسيس كريك. أحد أوجه هذه الألفة المزعومة هو الاستخدام المستهتر لمصطلحي «الداروينية» و«دارويني» في الأحاديث العادية، وهو ما يختزل في مسمى بسيط كيانًا متشعبًا من العمل يتعذر اختزاله بسهولة. انسَ «الداروينية»، فلا وجود لها، إلا إذا عرّفتها وفق شروط تعسفية — بحيث تتضمن بعض المفاهيم، ولا تتضمن أخرى — وذلك بطريقة لم يفعلها داروين بنفسه قط. ماذا إذن عن الصفة «دارويني»؟ حسن، الافتتان بتربية حمام الغيّة أمر دارويني؛ بمعنى أن داروين كان، في فترة ما، مفتونًا بأقفاص تربية الطيور المليئة بحمام النفاخ الهزاز، والحمام الطاووسي والحمام القزم. أيضًا يعد الشغف بالجولات الطويلة الذي يقوم بها بمفرده، وليس بعيدًا عن البيت، أمرًا «داروينيًّا». وكما سنرى، يمكن لنوبات القيء غير المفسرة أن توصف بالسلوك «الدارويني» المعتاد. المغزى هنا أن تشارلز داروين لم يؤسس حركة أو عقيدة. ولم يحدث قط أن وضع عقيدة من المسلمات العلمية ونقشها على لوح حجري يعلوه اسمه. بل كان داروين يدرس علم الأحياء في عزلة، ويؤلف كتبه في ذلك العلم. وكان يرتكب الأخطاء أحيانًا، ويغير رأيه أحيانًا، وكان يبحث أحيانًا في موضوعات صغيرة وأحيانًا أخرى في موضوعات كبيرة. لا ريب أن معظم كتاباته المنشورة تتقاسم موضوعًا واحدًا في أساسها؛ وحدة الحياة، وتعكس عمليات التطور. لكنه فصَّل هذه الفكرة الرئيسية إلى مفاهيم شتى، بعضها يتوافق على نحو أنيق مع علم البيولوجيا ولا تزال قيمته باقية في هذا العلم، والأخرى ليست كذلك. ومن الأفضل دراسة أفكار داروين كل فكرة على حدة بدلًا من محاولة جمعها كلها تحت مسمى واحد.

من بين العلماء العظماء المذكورين سابقًا، يبرز كوبرنيكوس بوصفه العالم الذي خلف تأثيرًا مشابهًا إلى حدٍّ بعيد لتأثير داروين؛ بمعنى أن داروين واصل الثورة التي بدأها كوبرنيكوس حين نبه البشر لحقيقة أننا لا نشغل وضعًا محوريًّا في الكون. وسّع داروين هذا الإدراك ليمتد من علم الفلك إلى البيولوجيا. وقد كتب متمتمًا لنفسه في أحد دفاتر ملاحظاته الأولى: «كثيرًا ما يتحدث الناس عن الحدث الرائع لظهور الإنسان الذكي.» لم ينبهر داروين كثيرًا ببزوغ «الإنسان الذكي»، ويضيف مخالفًا هذا الرأي أن «ظهور حشرات بحواس أخرى لهو أمر أكثر إدهاشًا». يبين هذا التعليق المخالف للسائد أن داروين منذ بداية تأملاته حول أصل الأنواع كان ينكر المكانة نصف الإلهية التي خصها البشر لأنفسهم، وكان يضع البشر في معترك الصراع والتغير. لم يكن داروين من أتباع الحركة الإنسانية (وإن كان يتحلى بالإنسانية دومًا). لم يكن مخ «الإنسان العاقل» يثير إعجابه بقدر ما تثيره غرائز التوجيه والمعمار لدى نحل العسل.

ما أقوله هنا هو أن داروين «واصل» ثورة كوبرنيكوس ضد فكرة مركزية الإنسان كمحور للكون، ولم «يكملها». سبب هذا هو أن المعركة لا تزال قائمة. فكثيرون حتى بين من يقولون إنهم يوافقون على نظرية داروين عن التطور (أيًّا ما يكون فهمهم لها) يرفضون استيعاب التداعيات الكاملة لما كتبه. فأكبر أفكار داروين، الأكبر من مجرد التطور، كانت أكبر وأشد وأخطر مما يحتمل. هذه الفكرة هي ما أطلق عليها «الانتخاب الطبيعي» وعدّها الآلية الرئيسية للتغير التطوري. حسب وجهة نظر داروين (التي تأكدت منذ ذلك الوقت بالأدلة البيولوجية على مدار قرن ونصف القرن)، فإن الانتخاب الطبيعي عملية لا غرض لها، لكنها فعالة. إنها عملية غير شخصية، عمياء عن رؤية المستقبل، ليس لها أهداف، بل لها نتائج فقط. ومعيارا التقييم الوحيدان لها هما: النجاح في البقاء، والنجاح في التكاثر. ومن خلال التغيرات العشوائية الواسعة، التي تُغَرْبَل وتتراكم، تُنْتِج أشكالًا عملية من النظام. إن العوامل الدافعة للانتخاب الطبيعي هي الخصوبة الفائقة والتنافس المميت، أما منتجاته المباشرة والجانبية فهي: التكيف، والتعقيد، والتنوع. إنه يجسد عشوائية عميقة تتناقض مع فكرة أن كائنات الأرض الحية وقدراتها (بما فيها قدرات الإنسان)، وتاريخها، وتوطنها في مواقع معينة، وما بينها من علاقات، كلها تعكس خطة مقدسة مسبقة من نوع ما. ومن ثم من الطبيعي أن ينظر مناصرو التكوينية الساعون لتنفيذ جداول الأعمال السياسية المسيحية إلى الانتخاب الطبيعي نظرة ازدراء وخوف.

ليس مناصرو التكوينية وحدهم هم من يعارضون التفكير التطوري. وخلال السنوات الأخيرة كان من المنطقي أن يشعروا بالتشجيع نتيجة ارتفاع مستوى المقاومة المتواصلة — على الأقل في الولايات المتحدة — لما أوضحه داروين في عام ١٨٥٩. ظلت التحديات السياسية التي يقومون بها (من خلال مختلف الهيئات التشريعية للولايات ومجالس المدارس المحلية) مستمرة، لكنها غالبًا كانت غير ناجحة. فقد حُكم في دعاوى قضائية مهمة ضدهم (مثل قضية إدواردز ضد أجيلارد في عام ١٩٨٧ التي أقرت فيها المحكمة العليا بالولايات المتحدة أن قانون تدريس التكوينية في مدارس ولاية لوزيانا غير دستوري، وقضية كيتزميلر ضد دوفر في ٢٠٠٥). لكنهم مصيبون في شأن واحد: أن الرأي العام محمل بمستوى مذهل من التناقض إزاء هذا الموضوع. فأمريكا ما بعد الحداثة تعد مأوى دافئًا لآراء ما قبل التطورية.

ربما سمعت بتأكيدات فضفاضة عن أن ثلث الأمريكان — أم تُراها نسبة أربعين في المائة أو أكثر؟ — لا يقبلون حقيقة التطور. هاكم بعض الأرقام المثبتة: ٤٥ و٤٧ و٤٤ بالمائة. في نوفمبر من عام ٢٠٠٤ أجرت منظمة جالوب ما يزيد عن ألف لقاء تليفوني، وجدت بعدها أن ٤٥ في المائة من المجيبين يتفقون مع العبارة التي تقول: «إن الرب خلق البشر على شكلهم الحالي إلى حدٍّ بعيد، وذلك في وقت واحد خلال العشرة آلاف عام الماضية أو نحو ذلك.» باختصار: التكوينية. وهناك عبارة أخرى، طُرِحَت بديلًا، تقول إن البشر «تطوروا عبر ملايين السنين من أشكال للحياة أقل رقيًّا، لكن الرب كان المرشد لهذه العملية». باختصار: التطور الإلهي. أرضى هذا الخيار ٣٨ في المائة من الأفراد الذين استُطلع رأيهم. لم يوافق إلا ١٣ في المائة فقط على العبارة القائلة إن البشر تطوروا من أشكال أخرى من الحياة «دون» إرشاد من الرب. باختصار: التطور المادي. (وباقي الأفراد ليس لهم رأي يمكن تصنيفه. باختصار: هؤلاء أتباع مذهب «دعنا وشأننا، فنحن نشاهد التلفاز».)

ليس أكثر الأمور إثارة للانتباه في نتائج هذه الاستطلاعات أن مقاومة نظرية التطور سجلت مثل هذا الرقم المرتفع في استطلاع أو آخر، بل الأمر الأكثر إثارة للانتباه أن الأرقام ظلت فعليًّا بلا تغير في ست عمليات متوازية من أخذ العينات عبر جيل واحد. ففي عام ١٩٨٢ طرحت منظمة جالوب الاختيارات نفسها بالضبط ووجدت أن ٤٤ في المائة من المجيبين يوافقون على أن الرب، وليس التطور، قد خلق البشر. في عام ١٩٩٩ ارتفعت النسبة إلى ٤٧ في المائة، ولم تهبط أبدًا لأقل من ٤٤ في المائة. إذا كان من الممكن الوثوق بهذه الاستطلاعات، فإن ما يقرب من نصف سكان أمريكا يختارون أن يفهموا أصل نوعنا وكأن تشارلز داروين لم يعش قط. ثمة زيادة رئيسية أخرى، تراوحت عبر السنين بين ٣٧ و٤٠ في المائة، تفضل خيار «بإرشاد من الرب»، أي التطور الإلهي، الذي لا يزال مخالفًا بالكامل لما طرحه داروين. تلخيصًا لهذا الحساب نقول إن بين ٨١ إلى ٨٧ في المائة من الأمريكيين يرفضون رأي داروين عن التطور البشري.

ليست منظمة جالوب المعنية وحدها بقياس هذه الظاهرة. ففي استطلاع أحدث للرأي أجراه في يوليو عام ٢٠٠٥ «مركز أبحاث بيو للناس والصحافة» ومعه منظمة أخرى شريكة له، وجد أن ٤٢ في المائة (من بين ٢٠٠٠ أمريكي تم اللقاء بهم) يؤكدون أن «الكائنات الحية ظلت موجودة على شكلها الحالي منذ بدء الزمان». وأقرت نسبة أخرى قدرها ١٨ في المائة بالتطور الإلهي، على الأقل فيما يتعلق بالبشر، وقالوا تحديدًا إن العملية لا بد أنها جرت «بإرشاد من كيان أعلى». وهكذا فإن نتائج استطلاع بيو أقل سلبية في مجملها من نتائج استطلاع جالوب؛ إذ يرفض ستون بالمائة فقط ما جاء به تشارلز داروين بدلًا من نيف وثمانين في المائة.

ربما تكون استطلاعات الرأي باطلة. لعل الأرقام تختلف كثيرًا في إنجلترا أو السويد أو الهند. لعل ذلك المزيج الأمريكي الفريد من الميل للشك والميل للتبشير الديني، الذي أدى إلى محاكمة سكوبس في ١٩٢٥، لا يزال مستمرًّا في تحريك مواطنين كثيرين، فيفضلون ببساطة أن يأخذوا معلوماتهم عن البيولوجيا من الكتاب المقدس بدلًا من العلم. لعل قضية التطور البشري مضللة وتثير الحساسية على نحو مفرط، لعل جالوب وبيو كان ينبغي أن يسألا عما إذا كان الرب قد خلق حيوانات «كنغر الأشجار» مثلًا على شكلها الحالي. أو لعل … من يدرى؟ لا أزعم أن لدي أي تفسير قاطع لمثل هذا المستوى المتطرف من التشكك والكره المتعمد تجاه اكتشاف علمي راسخ رسوخًا جيدًا. الأمر بصراحة يستعصي على فهمي. لكن من المؤكد أن نتائج جالوب هذه — إلى جانب الهجوم السياسي المتواصل ضد تدريس البيولوجيا التطورية في المدارس العامة — تشهد بأن تشارلز داروين ليس مجرد شخصية ذات أهمية دائمة، بل إنه مرتبط على نحو حتمي بالتعليم وطريقة الحكم.

دعني أتحدث عن نفسي لحظة: لقد انخرطت في هذا الموضوع بطريق غير مباشر. فأنا لست متخصصًا في البيولوجيا، ولست مؤرخًا. بل إني لم أدرُس العلم أكاديميًّا. ومع ذلك، خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية كسبت عيشي أساسًا من عملي صحفيًّا علميًّا، وتعلمت كل ما أعرفه عن البيولوجيا وعلوم البيئة التطورية بالتعليم الذاتي (أي بالقراءة، خاصة قراءة الدوريات العلمية) وبالأسئلة المزعجة الموجهة للخبراء. أثناء تلك السنوات سنحت لي فرصة مميزة؛ فرصة قضاء وقت ميداني كبير مع البيولوجيين الميدانيين. أثناء تكليفي بمهام لمجلات مختلفة، وأثناء قيامي بأبحاث من أجل الكتب، رُحبَّ بي وسمح لي بأن أتجول بين الغابات المدارية، وأن أبحر في الأنهار من منغوليا حتى الأمازون، وأن أجوب سهول السافانا الاستوائية، وأن أطوف بجزر قصية، وأن أقضي الوقت بالبرية رفقة بعض من ألمع علماء التاريخ الطبيعي وأشدهم احتمالًا في العالم. إلى جانب تقدمي (ببطء) في فهم نظم بيئية وأنواع معينة، وبعض المفاهيم الأساسية لعلم البيئة والبيولوجيا التطورية، فقد بينت لي هذه الخبرات أن البيولوجيين الميدانيين يُعدون، إجمالًا، طائفة من الأشخاص الاستثنائيين؛ فهم أذكياء، ومتقدو العاطفة، وصبورون، وودودون، وأقوياء جسمانيًّا وعقليًّا معًا. بعض الناس يعجبون بالجنود، أو الجراحين، أو رجال الإطفاء، أو علماء الفيزياء الفلكية، أو أعضاء بعثات التبشير الطبية، أو رعاة البقر. أما أنا فأعجب بالبيولوجيين الميدانيين.

هذا يوصلني، في جزء منه، إلى داروين؛ فقد كان داروين نفسه من البيولوجيين الميدانيين، وذلك بالطبع أثناء فترة حاسمة من حياته: عندما أمضى أربع سنوات وتسعة أشهر وخمسة أيام عالم تاريخ طبيعي على متن السفينة «بيجل»، وهي سفينة تابعة للأسطول البريطاني أرسلت لرسم خرائط امتدادات معينة لخط ساحل أمريكا الجنوبية. امتدت الرحلة من عام ١٨٣١ حتى ١٨٣٦. كان داروين في أواسط العشرينيات من عمره، السن المناسبة لبذل أقصى درجات الجهد في ظروف شاقة، وأكثر سن تسمح بالتشرب بما هو جديد من الحقائق والانطباعات. وبينما كان قبطان وبحارة السفينة «بيجل» يؤدون عملهم، كان السيد داروين الشاب يجمع عينات بحرية بشبكة عوالق تُجر وراء المركب، ويقوم بنزهة طويلة على الشاطئ لمزيد من أعمال الجمع والملاحظة. كان داروين في أول الأمر بلا خبرة، لكنه أصبح تدريجيًّا عالمًا منهجيًّا ثاقب الفطنة. زار داروين البرازيل، وأوروجواي، والأرجنتين، وشيلي، وبيرو، ونيوزيلندا، وأستراليا، وجنوب أفريقيا، وعددًا من جزر المحيط الصغيرة على غرار الرأس الأخضر، والأزور، وتاهيتي، وموريشيوس، وسانت هيلينا، والجالاباجوس. حط داروين في فالموث بجنوب غرب إنجلترا في الثاني من أكتوبر من عام ١٨٣٦، ومنذئذٍ لم يغادر بريطانيا العظمى قط. انتهت هكذا أيام تجواله في البيولوجيا الميدانية. لقد أنجز المهمة بنجاح، وظل سعيدًا بنجاحه هذا، على الأقل فترة من الزمن. قد يقضي بيولوجيون آخرون في عصره (مثل ألفريد راسل والاس، وهنري والتر بيتس؛ اللذين سنعرف عنهما المزيد) عقدًا من الزمان في عمل ميداني قاسٍ، في الأمازون أو بورنيو أو أي مكان، لكن بالنسبة لداروين فإن خمس سنوات كان فيها الكفاية. وسيتطلب معظم جهده العلمي في بقية حياته قراءات بحثية ومراسلات وإجراء تجارب وعمليات تشريح وملاحظة المروج والغابات التي لا تبعد عن المنزل، ثم التفكير. أصبح داروين يفضل البقاء بين الجدران إلى حدٍّ بعيد، وسبب ذلك في جزء منه هو المشاكل الصحية، وفي جزء آخر مزاجه العقلي.

هكذا طور داروين أفكاره بين الجدران. ومن ثم، على الرغم من تحيزي للبيولوجيين الميدانيين، وعلى الرغم من أهمية تلك الخبرات المبكرة الحيوية في إشعال جذوة أفكار داروين اللاحقة، فإنني اتخذت خيارًا مجافيًا للمنطق: أن أحذف الرحلة من هذا السرد (إلا كخلفية) وأبدأ القصة بعدها مباشرة. لماذا تجاهلت أشهر فترة في حياة داروين؟ هناك ثلاثة أسباب لذلك؛ الأول: هو أنها الفترة الأشهر، فبغض النظر عما تعرفه عن داروين فمن المرجح أنك تعرف أنه أبحر ذات مرة على سفينة تسمى «بيجل»، وزار جزر الجالاباجوس، ورأى هناك بعض الزواحف والطيور المثيرة للاهتمام. السبب الثاني لديّ يتعلق بالاقتصاد والنطاق. حتى أكون أكثر صراحة: الاختصار. فقصة حياة داروين رُويت مرات كثيرة، وقصها بعض كتاب السير الممتازين (خاصة جانيت براون في كتابها الجليل ذي الجزأين «تشارلز داروين»، إلى جانب العمل الجماعي لكل من أدريان ديزموند وجيمس مور في كتابهما المميز ذي الثمانمائة صفحة «داروين: حياة تطوري معذب») إضافة إلى آخرين أقل امتيازًا، إلا أن معظم الناس لم يقرءوا تلك القصة حتى ولو مرة واحدة. بالطبع سنجد القصة مختلفة اختلافًا طفيفًا عند كل راوٍ؛ اعتمادًا على الاختيار والحذف والتحيزات وأهداف الراوي. كان غرضي هو وضع معالجة مختصرة، جزء منها سردي وجزء مقالي، تتسم بالدقة والإمتاع أيضًا في قراءتها، تتناول مثل هذا الموضوع الضخم المعقد بعمق. أردت أن أرسم مخططًا، في صفحات ليست بكثيرة، عن نمو وتطور رجل مبدع للأفكار، مع تركيز خاص على واحدة فقط من هذه الأفكار. السبب الثالث لحذفي سنوات السفينة «بيجل»: أن مغامرات داروين الفكرية اللاحقة، من وجهة نظري، أكثر إثارة من النشاط الصاخب الذي بذله في أرجاء باتاجونيا والجالاباجوس.

من أهم تلك المغامرات الفكرية اكتشاف الانتخاب الطبيعي. عندما تؤخذ هذه الفكرة وهي يانعة — بكل ما لها من تبعات — نجد أنها فكرة رائعة وصادمة ومروعة. بل تصير الفكرة أروع حين نتدبر منشأها: فهي فكرة ثاقبة ثورية للغاية صدرت عن رجل حذِر عميق الحذَر. فرجل العائلة الخجول برأسه الأصلع ولحيته الكاملة، مربي الحمام وزهور الربيع، ذلك الإنجليزي المتحفظ للغاية الذي دُفن في النهاية بكنيسة وستمنستر، هذا الرجل صاحب الوجه الطيب الذي يصلح لأن يوضع على أوراق النقد، يطرح لنا صورة مهلهلة جدًّا. لكن لم يكن كل شيء يتعلق بتشارلز داروين مريحًا بهذا الشكل؛ ففي قلب أبحاثه تقبع نزعة مادية عسيرة مروعة. هذه إحدى الأفكار الرئيسية التي حاولت استكشافها في هذا الكتاب. وهناك فكرة أخرى، وهي أن الأمر كان عسيرًا ومروعًا حتى له هو نفسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤