بطة للسيد داروين

١٨٤٨–١٨٥٧

١٩

في أبريل من عام ١٨٤٨، بينما كان داروين مشغولًا ببرنقيلاته، غادر شاب يدعى ألفريد راسل والاس ليفربول فوق سفينة متجهة إلى البرازيل. لم تكن هناك معرفة شخصية بين الاثنين في ذلك الوقت، وكان والاس (مثل باقي العالم) يجهل بحث داروين السري عن التحول. لكنه لم يكن غافلًا عن موضوع التحول. يعرف والاس من التاريخ الطبيعي ما يكفي لأن يكون غير راضٍ بالتفسيرات القديمة عن تنوع الأنواع، وتوزيعها وأصولها. كان يريد شيئًا أكثر من التاريخ الطبيعي اللاهوتي. وها هو الآن يتجه إلى المناطق المدارية سعيًا وراء المغامرات، والطيور النادرة، والفراشات، والخنافس العملاقة، وسعيًا وراء فرصة للإسهام بحقائق جديدة — ربما تكون أفكارًا ثاقبة — فيما سماه «نظرية التطور التدريجي للحيوانات والنباتات».

كان مصدر والاس الرئيسي للمعلومات حول هذه النظرية هو الكتاب الذي ألهب حماسه «الآثار الباقية للتاريخ الطبيعي للخلق» الذي كان وقتذاك قد وصل لطبعته السابعة. وجد والاس أن هذا الكتاب يُعد نقطة بداية مثيرة، وذلك بخلاف أولئك القراء الناقدين الذين رفضوا الكتاب باعتباره لغوًا تافهًا. رأى والاس في لب الكتاب فرضية مبدعة، واستنتج أن هذا الأمر يدعو إلى مزيد من الأبحاث. وتطلب هذا منه القفز فوق سفينة متجهة للأمازون. كان والاس في الخامسة والعشرين من عمره؛ ذكيًّا وطموحًّا، مندفعًّا وسريع التأثر، وغير مدرب علميًّا. سوف تبين الأحداث أنه مثابر، وقوي الملاحظة، وصلب العود أيضًا.

إلى جانب أن ألفريد والاس كان أصغر من تشارلز داروين بأربعة عشر عامًا، فقد كان يختلف عنه أيضًا في مناحٍ عدة: لم يكن لديه ثروة عائلية، ولا تعليم جامعي، ولا مشرفين من علماء التاريخ الطبيعي الأنجليكان، ولا صلات اجتماعية بالأسطول البريطاني، ولا فرصة للسفر حول العالم كضيف مدلل نسبيًّا على ظهر إحدى سفن صاحبة الجلالة. كان والاس الطفل الثامن من تسعة أطفال لوالدين من الطبقة المتوسطة يعوزهما دخل الطبقة المتوسطة. درس أبوه المحاماة، وكان يميل للتورط في الاستثمارات السيئة، ولا يميل لممارسة القانون، لذا كان حال الأسرة يتدهور. ترك ألفريد المدرسة في سن الرابعة عشرة عندما نفد المال المخصص لطفولته، وعمل كصبي مسّاح. قضى الكثير من العقد الثاني من عمره وهو يمسح طرق السكك الحديدية وحدود الملكيات في ربوع إنجلترا وويلز، وكان يعيش في الحانات وبيوت النزلاء، وأحيانًا في كوخ مستأجر، بينما يتصيد أثناء ذلك أي تعليم يستطيعه في معاهد الميكانيكا (منشآت للعمال من أجل تحسين الذات) وفي المكتبات العامة. كان يحب القراءة دومًا. فتحت المعاهد والمكتبات آفاقًا رحبة لهذا المسّاح الشاب الذي يملك من حب الاستطلاع والحماس ما يدفعه للانصراف عن الحانات في المساء. قرأ والاس سرد ألكسندر فون همبولدت العظيم لسفريات أمريكا الجنوبية (ألهم العمل نفسه داروين أيضًا). وقرأ كتاب ويليام بريسكوت «تاريخ فتح بيرو»، وكتاب ليل «مبادئ الجيولوجيا»، وكتاب ويليام سوينسون «أطروحة عن الجغرافيا وتصنيف الحيوانات» (الذي قدم لتصنيفات ماكلاي الخماسية)، وقرأ «عناصر النبات» لجون لندلي. وقرأ أيضًا «يوميات» داروين مرتين ووجدها بالغة الإثارة، ولا يسبقها كسرد ذي نكهة علمية للأسفار إلا سرد همبولدت. قرأ كذلك الكتاب الجديد المرح الذي ألفه دبليو إتش إدواردز بعنوان «رحلة على نهر الأمازون». وقرأ أيضًا لمالتوس.

في ذلك الوقت تنامى لديه شغف بالحياة في الخلاء، فسافر عبر جبال ويلز، وبدأ يصنع من نفسه متخصصًا في التاريخ الطبيعي. تركزت جهوده المبكرة على علم النبات، وما لبث أن أدار صديق جديد رأسه تجاه الخنافس. هذا الصديق هو هنري والتر بيتس، وكان يتدرب على أشغال الملابس الداخلية لكنه كان يتحرق للفرار عنها بعيدًا، وكان متحمسًا للتاريخ الطبيعي، مثل والاس. تقابل الاثنان في ليستر أثناء سنة أمضاها والاس هناك، خلال فترة هروب مؤقت من أعمال المسح عمل فيها مدرسًا. عندما رأى والاس مجموعة الخنافس التي جمعها بيتس — التي تلمع كالجواهر، وتتنوع تنوعًا مذهلًا، وكلها تقريبًا عُثر عليها قرب ليستر — ما لبث أن وقع أسيرًا لها. اقتنى لنفسه زجاجة لجمع العينات، وبعض الدبابيس، وصندوقًا للخنافس، وأنفق شلناته الثمينة على شراء «كتيب إرشادي عن مغمدات الأجنحة البريطانية». ساعده بيتس على أن يتعلم أين توجد الخنافس وكيف يعين هويتها. عندما انتهى عمل والاس بالتدريس وعاد إلى ويلز، وظل هو وبيتس على اتصال؛ يتشاركان الأفكار حول الكتب العلمية، ويتبادلان عينات الخنافس البريطانية النادرة. سأل والاس بيتس في أحد خطاباته، هل قرأت كتاب «الآثار الباقية»؟ هل قرأت «محاضرات» لورانس عن التشريح المقارن؟ كان ويليام لورانس أحد الماديين الثوريين الذين يدرّسون التشريح في لندن، وكان له تأثير هدام حتى قبل وصول روبرت جرانت. وجد والاس أن كتابه «فلسفي جدًّا» بمعنى أنه قوي في منطقه ومنهجه العلمي. قال والاس لبيتس إن مناقشة الكتاب للأجناس المتغايرة ضمن الأنواع البشرية تشير مباشرة إلى ما يثير اهتمام والاس لأبلغ حد: نظرية التطور التدريجي. كان والاس يتشكك بالفعل — كما يتكشف من خطابه لبيتس — في أن التمايز بين الأنواع والتغايرات أمر واضح ومطلق كما يفترض معظم الناس.

في ذلك الوقت تقريبًا، ربما أثناء وجود بيتس في زيارة لجمع الخنافس في ويلز، توصلا إلى تصور لفكرة رحلة أكثر جرأة. سيذهبان إلى الأمازون معًا، ويدفعان نفقاتهما بأن يرسلا بالبحر عينات التاريخ الطبيعي لبيعها لهواة جمع العينات في إنجلترا. لم يكن الأمر غير عملي كما قد يبدو؛ ففي ذلك العهد كان بعض الهواة من السادة يحتفظون بحجيرات تُعرض فيها مقتنياتهم البيولوجية الصغيرة النفيسة، تمامًا مثلما قد يعرض آخرون لوحاتهم الفرنسية، أو خزفهم الصيني، أو ما لديهم من أعمال فنية محلية. رتب والاس وبيتس أمورهما مع وكيل مبيعات في لندن، يدعى صمويل ستيفنز، له معرفة بأمور تجارة التجزئة للخنافس والفراشات. جهزا نفسيهما ببنادق وشباك، وغير ذلك من المعدات الميدانية، ودبرا أمر الحصول على خطابات توصية. تحصن والاس بالتطعيمات. وكان بيتس معه عندما رست المركب في بارا، الميناء البرازيلي القريب من مصب الأمازون، وذلك في ٢٨ مايو من عام ١٨٤٨.

لم يكن باستطاعة أي منهما أن يقول بالضبط إلى أين سيتجه هذا اللهو العلمي، ولا إلى أي وقت سوف يستمر. وفي مرحلة ما قال والاس لصمويل ستيفنز إنه يأمل أن يعود إلى إنجلترا مع بداية عام ١٨٥٠. لكنه بدلًا من ذلك ظل يجول في حوض الأمازون مدة أربعة أعوام. أما بيتس فقد بقي هناك إحدى عشرة سنة.

بعد أن ظلا يجمعان العينات جنبًا إلى جنب لبضعة شهور، غالبًا قرب مصب الأمازون، ما لبثا أن انفصلا ليتبعا أهواءهما المختلفة وليقللا من تنافسهما إلى أدنى حد. اتجه والاس لأعلى النهر. واجتهد في تعلم البرتغالية ولغة الاتجار مع الهنود. واصطاد الطيور، وسلخها، وحافظ على جلدها ضد عفن الغابة والنمل النهم. وجمع فراشات مبهرجة وخنافس متألقة. واصطاد الأسماك وحفظها في محاليل كحولية. ورص هذه العينات المختلفة في حرص في أقفاص لشحنها إلى إنجلترا، وقد أضاف إليها أشياءً أخرى (تمساحًا أمريكيًّا صغيرًا محنطًا، وثمرتين من اليقطين الهندي) لإكمال ملء الأقفاص. وأخذ يدون الملاحظات ويرسم أشكالًا تخطيطية لما جمعه من عينات وللمشاهد الخلوية من حوله. رسم والاس أيضًا الخرائط. كان محبًّا لاستطلاع كل شيء؛ الثقافات البشرية، ونباتات المناطق الحارة، وأيضًا ما يمكن جمعه من الحيوانات. سجل والاس بعض الملاحظات الأنثروبولوجية وأجرى دراسة صغيرة عن تنوع أشجار النخيل واستخداماتها العملية. صعد في النهاية إلى ريو نجرو، وهو رافد واسع للأمازون الرئيسي مياهه سوداء، واستكشف امتداداته العلوية بقارب من نوع «كانوي» لما يقارب العامين.

انطلق من أحد فروع رافد نجرو الأعلى في رحلة على الأرض إلى «سيرا دو كوباتي»، وهو مرتفع حجري ضخم يبرز من الغابة، واستهدف والاس من هذه الرحلة البحث عن كائن يعرف باسم «جالو-دا-سيرا»، أو ديك الصخرة. كان هذا الطائر — الذي يمتاز بلون قرمزي ملتهب يغطي ريشه، ما عدا ريش أجنحته وذيله، وعُرْفٍ على شكل قرص يحجب مقدمة وجهه — من الأعاجيب الرائعة التي تستحق تمامًا رحلة الأميال العشرة الشاقة. حاليًّا تم التعرف على نوعين منه. النوع الذي رآه والاس، ديك الصخرة الغيني أو «روبيكولا روبيكولا»، يعيش فقط حول البروزات الجبلية المتآكلة في غابات شرق كولومبيا وفنزويلا وشمال البرازيل، حيث تبني الإناث أعشاشًا طينية في الشقوق وسط الصخور الشديدة الانحدار. يتغذى كلا الجنسين على الفاكهة. يتنافس الذكور على الإناث بأن يتجمعوا في مناطق للاستعراض تعرف باسم «ليك»، ليستعرض الواحد تلو الآخر روعته الجسدية. حدد والاس موضع أحد الديوك في دغل معتم، «وكان يلمع كلهيب شعلة متألقة». رفع والاس بندقيته، فأجفل الطير وطار مبتعدًا، إلا أن والاس تتبعه وسنحت له فرصة ثانية، فقتله. تمكن في النهاية بمساعدة فريقه من الصيادين الهنود من أن يحصل على اثني عشر ديكًا من ديوك الصخرة. ربما يفسر السلوك الاستعراضي، الذي يجعل هذه الديوك تتجمع معًا في تجمعات غير حصينة، تمكُّن والاس من اصطياد هذا العدد الوافر منها.

رُصت الطيور الاثنا عشر في صندوق صغير لشحنها بحرًا للوطن، وهذا يجسد جانبًا أساسيًّا في سلوك والاس المهني لجمع العينات، سواء في الأمازون أو في الأوقات اللاحقة: فهو يجمع العينات بما يزيد عن الحاجة، بمعنى أنه يتحرى الكم وليس التنوع وحده. وبما أنه يدفع نفقات رحلته على أساس العمل بالقطعة، وبما أن الروبيكولا روبيكولا من طيور الزينة الرائعة على نحو خارق للمعتاد، قتل والاس من هذا النوع أكثر ما يستطيع. أما داروين، ابن الرجل الثري الذي يجمع العينات لنفسه فقط، فربما كان سيأخذ طيرًا واحدًا فقط أو اثنين. كان والاس يأمل في الحصول على خمسين طيرًا من ديوك الصخرة، إلا أنه كان سعيدًا باصطياد اثني عشر ديكًا.

هل لاحظ والاس عندما وضعها كلها جنبًا إلى جنب وجود تغاير من داخل النوع الواحد؟ هل لاحظ أن بعض أفراد الطير لم تكن تلتمع بلون أحمر وضاء كغيرها؟ هل رأى أن بعضها يميل أكثر إلى اللون البرتقالي؟ هل اكتشف وجود اختلاف في قُطر العُرف الوجهي، أو في مدى اتساع الشريط الأصفر الرفيع الذي يمر عبر الذيل؟ هل أدرك من هذه الفروق أن الحصول على عينات عديدة من نوع واحد «ليس» في حقيقة الأمر أزيد من اللازم، إنما هو يزود بمعلومات حول التنوع؟ لا نعرف إجابة أي من تلك الأسئلة. وهو لم يذكر شيئًا عن ذلك. لكن في وسعنا أن نتساءل. إن وجود وفرة في التغاير الطبيعي داخل النوع الواحد كان مفتاحًا حاسمًا للغز «التحول»، ولم يلحظه معظم علماء التاريخ الطبيعي وقتها. احتاج داروين إلى العمل ثمانية أعوام على البرنقيلات، أعقبت خمس سنوات من السفر وعشر سنوات من الدراسة، حتى يتنبه للتغاير في البرية. رأى والاس هذا التغاير في وقت أسرع لأنه إلى جانب كونه ملاحظًا يقظًا كان أيضًا جامعًا، جائعًا مفلسًا، للعينات بغرض التجارة.

لم يكن من السهل أن يتوصل والاس لهذه الفكرة الثاقبة عن التغاير، أو أن يتوصل إلى كل معطياته. دفع والاس تكلفة بشرية عالية لكل ما جمعه من الأمازون. فبالإضافة إلى ما بذل من مجهود عنيف، كانت هناك مشقات؛ الوحدة، خطر الموت غرقًا أو أن يُقتل أو أن يلدغه ثعبان، البعوض الناقل للأمراض، وذباب الرمل، والتأخيرات والإحباطات الناجمة عن استئجار المعاونين أو العثور على مؤن الإمداد، والافتقار للنقود عندما لا تصل إليه من ستيفنز خطابات الاعتماد، وأيام المعيشة على دقيق المنهوت والقهوة، والكفاح المتواصل للإبقاء على نظام مجموعاته وأفكاره، كل هذا داخل الفوضى المزعجة القاسية للغابة الاستوائية. قضى أسبوعين وذراعه معلق برباط، وهو غير قادر على العمل، بسبب جرح ملوث في يده. ظهر هربرت، أخوه الصغير، في المشهد إلى جانب ألفريد ليتعلم مهنة جمع العينات، لكنه تراجع إلى بارا عندما وجد أنها لا تناسبه، ثم مات هناك من الحمى الصفراء. أصيب والاس نفسه أكثر من مرة بحميات مجهولة. توغل والاس مسافات بعيدة نحو منابع نهر ريو أواوبيس، في المنطقة المسماة الآن بشرق كولومبيا، على أمل أن يمسك بنوع أبيض يزعم وجوده من طائر أسود رائع، هو طائر العرف المظلي، لكنه أُجبر على الاستنتاج أن هذه النسخة البيضاء ربما لا وجود لها. في أوائل عام ١٨٥٢، نتيجة للرضا أو الإنهاك، بدأ رحلته أسفل منابع ريو نجرو مستخدمًا قارب كانوي محملًا بحمل زائد.

جلب معه ستة أقفاص من عيناته التي لم يشحنها بحرًا بعد، مضافًا إليها كل يومياته وملاحظاته ورسوماته، مضافًا إليها مجموعة حيوانات غريبة كان يأمل أن يرعاها ليعود بها حية إلى إنجلترا، وتتكون من: خمسة قرود، واثنين من ببغاء المقو، وعشرين ببغاء وبركيت، وبعض الطيور الأخرى. وصل والاس إلى بارا قرب نهاية يونيو، مكملًا حلقة بدأها منذ أربعة أعوام، وهناك زار قبر هربرت. وفي ١٢ يوليو ركب سفينة شراعية اسمها «هيلين» متجهة إلى إنجلترا.

كانت «هيلين» مركبًا قديمًا منحوسًا. بعد الإبحار ثلاثة أسابيع، اشتعلت فيها النار فجأة وهي لا تزال وسط الأطلسي. كانت تحمل موادّ خطرة قابلة للاشتعال؛ براميل تحوي زيت البلسم، اشتعلت فيها النيران على نحو تلقائي فاجأ الربان. تعثر والاس في مقصورته المليئة بالدخان وأمسك بما يستطيع، وألقى أوراقه في علبة من الصفيح. لم ينقذ من كل كنوزه الأمازونية إلا حزمة صغيرة فحسب من الرسومات وبعض الملاحظات. كان مجبرًا على التخلي عن أقفاص عيناته التي تحوي مجموعته الخاصة من الحشرات والطيور، وأيضًا معظم سجلاته المكتوبة. تسلق والاس قارب نجاة يسرب المياه ومعه آخرون يلتمسون الوصول لشاطئ النجاة، وأخذ يراقب السفينة «هيلين» وهي تحترق، ثم تغوص إلى القاع ومعها مذكراته المتفحمة وببغاواته المشوية. هكذا كان الغرق مآل حصيلة أربعة أعوام من الجهد.

ظل والاس ورفاقه عشرة أيام في قارب النجاة المفتوح، يرقعون أماكن التسرب بقطع الفلين ويعيشون على قطع البسكويت ولحم الخنزير النيئ والجزر، إلى أن أنقذتهم سفينة إنجليزية أخرى، تبين في النهاية أنها تكاد تكون تالفة مثل «هيلين». أوشكت هذه السفينة العتيقة البطيئة «جوردسون» على الغرق مرتين في أعالي البحار قبل أن تصل إلى الوطن. ومع وجود طاقمي بحارة على ظهرها، لم يكن الطعام كافيًا. كان بالعنبر حمولة زائدة من الخشب الكوبي الصلب. وعلى مسافة غير بعيدة من إنجلترا عصفت بهم زوبعة أدت إلى شق أحد القلوع وعطلت إحدى مضخات النزح بشكل شبه كامل. نزل والاس مترنحًا إلى شاطئ ديل، جنوب شرقي إنجلترا، بعد مرور ثلاثة أشهر تقريبًا على مغادرته للبرازيل. كان كاحلاه متورمين، وساقاه واهنتين. احتفل مع رباني «هيلين» و«جوردسون» بتناول غداء من شريحة لحم بقري وكعك البرقوق. كانوا سعداء بأنهم أحياء، ثم سعداء، على الأغلب، بمضي كل منهم إلى حال سبيله.

ذهب والاس إلى لندن. أي رجل آخر أقل جرأة، أو أقل عنادًا، كان سيمحو هذا كله من ذاكرته باعتباره حدثًا سيئًا عصف بحياته ولا يريد المزيد منه. لكن والاس لم يكن ذلك الرجل. بعد ذلك بأربعة أيام أقر لصديق بأنه على الرغم من أنه أقسم ألا يبحر أبدًا في رحلة أخرى بالمحيط، فإن «القرارات الجيدة سرعان ما تذوي». وهكذا شرع بالفعل في وضع خطة رحلته التالية. فهو لم يجد حلًّا للغز الكبير؛ لغز التطور التدريجي للحيوانات والنباتات. وقد أصبح مقتنعًا أكثر من أي وقت مضى بأن هذا التطور التدريجي يحدث، وأنه قابل للتفسير من واقع عملية طبيعية أو قانون طبيعي ما. لقد أراد الوصول إلى حلبة جديدة لجمع العينات والملاحظة. ربما سيذهب إلى جبال الأنديز، أو سيذهب إلى الفلبين. لقد رأى نهرًا هائلًا. وربما عليه الآن أن ينظر أمر الجبال أو الجزر.

٢٠

على الرغم من حظ والاس السيئ، واقترابه من الموت، وخسائره التي تثبط الهمة، فإن رحلته التي امتدت أربعة أعوام في الأمازون نتج عنها بعض الفوائد المهمة. كانت هذه هي ثاني مرة يتدرب فيها على حرفة ما، لكن بدلًا من تعلم حرفة المسح، أتاح له هذا التدريب تنمية مهاراته وعوامل قوته كمستكشف للمناطق الحارة، وكخبير في جمع وحفظ العينات، وكملاحظ دقيق لتنوع الحيوان وغيرها من الأنماط البيولوجية. لقد بدأت هذه المرحلة عملية تنبيهه لأهمية التغايرات داخل النوع الواحد. وقد أثارت تفكيره حول التطور التدريجي. وجعلت منه متخصصًا في الجغرافيا البيولوجية.

الجغرافيا البيولوجية، كما ذكرت، هي دراسة توزيع الحيوان والنبات في أرجاء كوكبنا. وهي تتناول سؤالين بسيطين: أي نوع من الكائنات يعيش هنا؟ ولماذا يعيش هنا وليس في مكان آخر؟ أهمية الجغرافيا البيولوجية لأي نظرية عن الأصول البيولوجية — سواء نظرية تطورية أو نظرية تابعة للتكوينية — هي أن الجغرافيا البيولوجية تمثل كيانًا معقدًا من الحقائق التجريبية التي يجب أن تفسرها النظرية. لماذا تأوي جزر جالاباجوس ثلاثة أنواع متوطنة من الطير المحاكي، كلها على صلة قرابة وثيقة، لكن لا يتوطن أي نوعين منها في جزيرة واحدة؟ لماذا تعيش الدببة القطبية في منطقة القطب الشمالي، ويعيش طائر البطريق في القارة القطبية الجنوبية، وليس العكس؟ لماذا يقطن كنغر الأشجار (الحيوانات الجرابية الشجرية من جنس «دندرولاجوس») الغابات الحارة في شمال شرق أستراليا وأيضًا في غينيا الجديدة المجاورة، بينما لا يقطن الغابات الحارة في أمريكا الجنوبية أو أفريقيا؟ لماذا يوجد الطير الطنان وطير الطوقان في جانب واحد فقط من المحيط الأطلسي (جانب الأمريكتين) بينما طيور النمير وأبو قرن توجد فقط في الجانب الآخر من ذلك المحيط (في أفريقيا وما هو أبعد شرقًا)؟ إحدى الإجابات الممكنة هي أن الرب خلق كل نوع خلقًا خاصًّا، ووضعه في منظومة بيئية أو أخرى وفق رغبته. هذا التفسير ليس مُرضيًا تمامًا للمثقفين، وإن كان يبدو وافيًا لبعض من لديهم إيمان. هناك إجابة أخرى أن كل الكائنات تطورت من أسلاف مشتركة، وأنها تباعدت ببطء في سلالات وأنواع متمايزة، موزعة على مواطن بيئية جديدة حسب ما تتيحه الفرص، وإن كان تفرقها يقيده دائمًا وجود حواجز مادية كالجبال أو البحار، وأن التوزيع الجغرافي الحالي للأنواع يعكس تاريخ هذا التباعد، وهذه الحدود، وهذا التوزيع. هذه هي الإجابة التي مال إليها داروين بعد أن رأى جزر جالاباجوس وسهول أمريكا الجنوبية. توصل والاس إلى هذه الإجابة عن طريق الأمازون.

من رماد محنة والاس فوق السفينة «هيلين» نهضت العنقاء تحمل نبأ طيبًا: كان صمويل ستيفنز، وكيله الموثوق به، قد أمَّن على العينات التي جمعها بمبلغ مائتي جنيه استرليني. ربما كان لستيفنز بصيرة بالغيب، أو أنه عمل من قبل كبحار، أو شاهد مسرحية «تاجر البندقية» مؤخرًا. على أي حال، تفسر هذه النقود كيف تمكن ألفريد والاس من أن يعيش حياة مدينة لندن المترفة أكثر من سنة، حيث اتخذ دوره في المجتمعات العلمية بالمدينة، وكتب أبحاثًا علمية وكتبًا، بدلًا من أن يضطر للعودة إلى مسح خطوط السكك الحديدية عبر ريف ويلز.

حضر والاس اجتماعات «جمعية علم الحشرات»، بما في ذلك اجتماع أعقب مباشرة بلوغه اليابسة، عندما كان يستطيع المشي بالكاد. حضر ذلك الاجتماع ليس بصفته عضوًا (كان لا يزال هناك تحامل طبقي ضد جامعي العينات التجاريين)، وإنما حضره كزائر تحت رعاية ستيفنز الذي كان مديرًا لأحد نوادي هواة الحشرات. كان ستيفنز قد جعله مشهورًا بالفعل لدى هذه المجموعة بأن أقتبس مقطتفات من خطاباته للنشر، وعرض ما شحنه بحرًا من عينات، مثلما فعل جون هنسلو مع داروين قبلها بخمس عشرة سنة. داروين نفسه كان عضوًا في «جمعية علم الحشرات»، لكن مع احتجابه بعيدًا في داون، كان نادرًا ما يحضر اجتماعاتها. أما من حضروا هذه الاجتماعات فقد رأوا فراشة والاس ذات الذيل الخطافي الأسود والأصفر، واسمها العلمي «بابليو كولومبوس»، وربما قرءوا تقريره عن طائر العرف المظلي، الذي نُشر في «حوليات ومجلة التاريخ الطبيعي». مكنه ستيفنز أيضًا من دخول «جمعية علم الحيوان»، وهناك ألقى في ١٤ ديسمبر من عام ١٨٥٢ ورقة بحثية عنوانها «عن قرود الأمازون».

احتوت هذه الورقة على أول إفادة حقيقية لوالاس عن الجغرافيا البيولوجية. فعندما شاهد واحدًا وعشرين نوعًا مختلفًا من القرود بطول الأمازون ونهر ريو نجرو، لاحظ شيئًا يلفت الانتباه. الأنواع الموجودة على أحد جانبي كل فرع رئيسي من النهر تختلف عن الأنواع الموجودة على الجانب الآخر. أما تلك التي سماها بالأنواع «المرتبطة معًا ارتباطًا وثيقًا»، مثل نوعين من القرد القزم ينتميان إلى الجنس نفسه، فكانت في بعض الحالات تتمركز على الضفتين المتقابلتين. بدا أن الأنهار نفسها — نهر الأمازون الرئيسي وأكبر فرعين له؛ نجرو وماديرا، والممتدة على مساحة شاسعة على شكل يشبه قدم الدجاجة — تمثل حدودًا للتوزيع يستحيل تقريبًا عبورها. تعد منطقة شمال الأمازون وشرق نجرو منطقة بيوجرافية واحدة، سماها والاس جيانا. وفي غرب نجرو توجد منطقة الإكوادور. يحدد نهر ريو ماديرا في جنوب الأمازون منطقتين أخريين سماهما والاس بيرو والبرازيل. من منظور القرود، شكلت هذه المناطق الأربع الرئيسية لحوض الأمازون، التي تفصلها بعضها عن بعض أنهار واسعة من المياه الجارية، ما يشبه الجزر.

٢١

جزر: ربما تستطيع أن تخبره بالمزيد. جغرافيا بيولوجية: ربما عليه أن يبذل اهتمامًا أكثر تركيزًا. أنواع ترتبط معًا ارتباطًا وثيقًا: ما الذي طرحه نمط توزيعها الجغرافي؟ خطَّط والاس لرحلته الميدانية التالية وفي ذهنه هذه الاعتبارات. استخدم علاقاته في الجمعيات العلمية المختلفة، بما في ذلك «الجمعية الجغرافية الملكية»، للحصول على المزيد من خطابات التوصية والركوب المجاني فوق مركب مسافر للخارج. بعد مضي سنة ونصف السنة على عودته إلى إنجلترا، وهي الفترة التي نشر خلالها كتابين لم يثيرا الإعجاب (كتاب صغير عن شجر النخيل وكتاب عنوانه «سرد لأسفار في الأمازون وريو نجرو» عانى نقص التفاصيل المتماسكة بسبب ضياع اليوميات)، تهيأ للرحيل. سيسافر هذه المرة شرقًا. في أوائل عام ١٨٥٤ سافر فوق باخرة لشركة «بنينسولار آند أورينتال»، ثم رتب انتقالاته بحيث وصل إلى سنغافورة في أواخر أبريل.

سنغافورة ميناء دولي صاخب لا توجد جواره إلا رقعة صغيرة من الغابات، لذا لم تناسبه إلا لفترة وجيزة. تقع سنغافورة فوق جزيرة، وربما كان هذا أمرًا طيبًا، إلا أن هذه الجزيرة لم تكن ملجأ بعيدًا غير مستكشَف يقطنه عدد وافر من الأنواع الرائعة غير المعروفة، بل هي منطقة تقاطع لطرق السفر. أيضًا كان قاطعو الأشجار الصينيون يقطعون ما بقي من الغابات، حاصدين الأشجار ليزرعوا حدائق الخضراوات في الأرض البكر. سيرًا على طريق قاطعي الأخشاب، وجد والاس كثرة من الحشرات الرائعة، خاصة الخنافس، لكنه لم يجد إلا قلة من الطيور أو الثدييات. حاول الاستقرار في ملقا، وهي بلدة أبعد إلى الشمال في شبه جزيرة الملايو، لكن بعد انقضاء شهرين وبعد نوبة أخرى من الحمى أراد أن يعاود الانتقال. نظر في أمر الذهاب شمالًا إلى كمبوديا مع مبشر قابله؛ رجل فرنسي ودود من الجيزويت يتكلم بأربع لغات. عندما تأخر الجيزويتي تحول والاس بدلًا من ذلك إلى الكوكبة الكبرى المغرية من الجزر الصغيرة والكبيرة التي تمتد شرقًا لقرابة الألفي ميل بين سنغافورة وغينيا الجديدة. هذه المنطقة، التي تطابق تقريبًا ما يعرف الآن بإندونيسيا، كانت تعرف وقتها باسم «أرخبيل الملايو».

أكبر هذه الجزر هي بورنيو وتقع في الشرق مباشرة، بينما جزيرة جاوة في جنوبها مباشرة، تقع وراء هاتين الجزيرتين جزر بالي، ولمبوك، وسيليبس، وأمبون، وفلورز، وتيمور، وكومودو، وسيرام، وآلاف من الجزر الأخرى، بما في ذلك مجموعة صغيرة في أقصى الشرق هي جزر آرو المشهورة بعشائرها من طائر الفردوس. أخذ والاس يتعلم لغة الملايو، وهو ما سهل عليه السفر في أرجاء الأرخبيل. كان منتبهًا، بفضل «يوميات» داروين ومصادر أخرى، إلى أن الجزر يمكن أن تكون غنية على نحو استثنائي بالأنواع المستوطنة. وإذا كانت الجزر غنية بالأنواع، وكل منها محاط من كل مكان بحواجز من الماء المالح تفرق بينها، فإنها ستُظهر أيضًا أنماطًا بيوجرافية مذهلة؛ بمعنى أنها ستحمل ثراءً من المعلومات ذات المغزى. لحق والاس بسفينة متجهة إلى بورنيو، حيث يتوقع أن يُرحب به — بفضل لقاء تم مصادفة — على أعلى مستوى رسمي.

تمتد بطول الساحل الشمالي لبورنيو مملكة خاصة غريبة تعرف باسم ساراواك، يحكمها مغامر إنجليزي اسمه جيمس بروك، يطلق عليه «الراجا الأبيض». كان بروك قد قابل والاس صدفة منذ زمن مضى في إنجلترا، ومن الواضح أنه أعجب به، وعرض عليه استضافته لو وصل بأي حال إلى ساراواك. وصل والاس إلى هناك، وبمباركة بروك رتب لنفسه أن يستقر في منزل صغير قرب مصب نهر ساراواك. كان مقر بروك نفسه يقع أعلى النهر، وهكذا أصبح والاس وحيدًا مرة أخرى، فيما عدا طاهٍ من المالاي معه. كان الوقت آنذاك في أوائل عام ١٨٥٥، في قلب موسم المطر، ومع هطول الأمطار يوميًّا صار جمع العينات أمرًا صعبًا أو مستحيلًا. عندما تنهمر الأمطار «الموسمية» لتغسل غابة استوائية، تربض الفراشات والطيور مختفية عن الأنظار، وتزحف الخنافس إلى مكان لتستكين فيه، ولا يستطيع المرء الرؤية إلا بالكاد، ناهيك عن أن يمشي مقتفيًا أي أثر، أو أن يلوح بشبكة، أو أن يضع كائنًا ضعيفًا في جرة جافة. جلس والاس في بيته وهو عاجز عن أداء أي بحث ميداني، وانتهز هذه الفرصة ليكتب ورقة بحثية أخرى. كانت هذه الورقة أكثر طموحًا عن وصفه لقرود الأمازون، ناهيك عن أي من التقارير الوصفية القصيرة التي نشرها عن الحشرات والسمك. كان عنوان ورقته هو «عن القانون الذي نظَّم إدخال أنواع جديدة».

كان يتلمس الطريق نحو نظرية عن التحول. لكنه هو نفسه لم يكن متيقنًا من المدى الذي أوصله إليه تفكيره. هناك أدلة على أنه بدأ بالفعل في تسجيل ملاحظات لتأليف كتاب عن الموضوع، خطط لأن يسميه «عن القانون العضوي للتغير». كان مشروع الكتاب سابقًا لأوانه، ويبدو أن والاس أدرك ذلك جيدًا، أو على الأقل أخبره حدسه بذلك، وهكذا اكتفى وقتها بإنتاج هذه الورقة الموجزة، التي أشار إليها لاحقًا بأنها «إعلان عن النظرية وحسب». الحقيقة أنها لم تكن حتى إعلانًا؛ لأنه لم يكن لديه نظرية ليعلنها بعد. والأدق أن ورقة ساراواك كان فيها إشارة عن وجود ظاهرة؛ هي التحول، يلزم لها نظرية تفسيرية. النظرية نفسها ما زالت تراوغه. كان والاس، بخلاف داروين، متلهفًا لوضع أفكاره المثيرة في شكل مطبوع، حتى وإن كانت لم تتبلور بعد.

ما ضاعف من البلبلة هو اختيار والاس لمصطلحات مبهمة جعلت قراء معينين (منهم داروين) يخطئون فهم ما يعنيه. بادئ ذي بدء، كانت إشارته في عنوان الورقة إلى «إدخال» أنواع جديدة إشارة غير محددة المعنى ومبهمة على نحو خادع. فقد بدا أنها تتضمن فعل إدخال غيبي. كتب أيضًا عن «تكوين» أنواع جديدة كتعديلات لأنماط سابقة. واستخدام مصطلح «النمط المضاد، antitype» ليصف به هذه الأنماط السابقة، وهو ما يوحي بوجود تباين أو تضاد (بفضل استخدام السابقة anti)، مع أنه ربما يعني مجرد نمط سالف (ante)؛ أي نمط سابق. «القانون» الذي صاغه كان في الحقيقة مجرد إفادة توصيفية معممة. ولم يحدد أي آلية بين السبب والنتيجة.

ومع ذلك فقد عزا والاس أهمية كبيرة لهذا القانون؛ إذ تباهى بأن الأنماط المحيرة للجغرافيا البيولوجية، وأيضًا سِجلَّ الأنواع المنقرضة في الطبقات الجيولوجية، «كلها يفسرها ويوضحها هذا القانون». وذكر أن إلقاء الضوء على الجغرافيا البيولوجية كان فيه خدمة قيمة؛ لأن العديد من الحقائق الغريبة تراكمت منذ زمن لينيوس، ولم يفسرها أحد تفسيرًا منطقيًّا. على سبيل المثال فإن «الظواهر التي تعرضها جزر جالاباجوس، التي تحوي مجموعات صغيرة من النباتات والحيوانات مميزة بذاتها، لكنها ترتبط أقرب الارتباط بتلك التي في أمريكا الجنوبية، هي ظواهر لم تلقَ حتى وقتذاك أي تفسير، ولا حتى على أساس من الحدس». كانت هذه وكزة خفيفة لداروين، أشهر الرحالة لجالاباجوس، الذي قدم في كتابه «اليوميات» ملاحظات، لكن بلا نظرية. لم يدرك والاس وقتها أنه مس نقطة حساسة عند داروين؛ إذ لم يكن واعيًا بأن داروين أبقى شيئًا لنفسه، كما كان غافلًا عن أن هناك تفسيرًا لدى داروين تجري بلورته، وإن كان قد تأخر طويلًا عن موعد البوح به.

يحل قانون والاس — كما يرى والاس نفسه — أيضًا مشكلة التصنيف المنهجي، من خلال توفير أساس طبيعي لتجميع الأنواع في طبقات. فهو يدمج رؤية تشارلز ليل للتغيرات الجيولوجية التدريجية في فهم للنزعات الظاهرة في سجل الحفريات. ويفسر بقايا آثار الأعضاء الضامرة. هكذا أخذ هذا الشاب يعلن عن نفسه عاليًا، بعبارات مهذبة معلنًا عن مولد متخصص محدَث في التاريخ الطبيعي في الطرف البعيد من العالم يزعم أنه يقدم كشفًا رئيسيًّا عن تاريخ الحياة لزملائه الأكبر منه سنًّا والأفضل تعليمًا، وذوي الصلات الأفضل. ذكر والاس قانونه مرتين، مرة قرب بداية الورقة، والأخرى قرب النهاية، وكتبه في المرتين بأحرف مائلة بحيث لا يمكن إغفاله: «كل نوع يأتي إلى الوجود متوافقًا في المكان والزمان مع نوع آخر موجود من قبل وثيق الارتباط به.»

ما الذي يعنيه بالضبط بقوله «يأتي إلى الوجود»؟ ما الذي تعنيه كلمة «متوافقًا» المتحفظة هذه؟ هل ينبغي أن يُفهم من «نوع وثيق الارتباط به» أنه نوع يرتبط بسلسلة نسب؟ لم يقل والاس شيئًا عن ذلك. عندما تأتي الأنواع فعلًا إلى الوجود، هل يكون ذلك بتحول مادي أم بخلق إلهي؟ إجابة هذا السؤال، مع وضوحها في رأس والاس، كانت أقل وضوحًا في تلك الصفحة. إذا كان يعني التحول فعلًا، فما هي آليته؟ لم يعرف والاس ذلك بعد.

لا بأس. كانت مجرد بداية. أرسل المخطوط الجديد بالبريد إلى صمويل ستيفنز، الذي مرره إلى محرر في «حوليات ومجلة التاريخ الطبيعي»، المجلة نفسها التي رحبت بتقاريره الميدانية عن الأمازون. ثم عاد والاس إلى أعماله الأخرى. في يوم طيب يستطيع والاس أن يجمع العينات، وفي المساء ستكون هناك خنافس وفراشات يثبتها بالدبابيس. أما إذا كان اليوم سيئًا فكان يقرأ ويفكر. وما زال المطر في شمال بورنيو ينهمر.

٢٢

حتى ذلك الوقت كان والاس يعرف السيد داروين عن بعد فقط. إذ لم يلتقيا إلا في لقاء عابر في المتحف البريطاني في الشهور التي سبقت إبحار والاس إلى سنغافورة، وهو لقاء لم يبدُ لأي منهما أن له أهميته. من وجهة نظر داروين كان والاس مجرد رحالة شاب غرِّير آخر، وجامع عينات تجاري، وكتابه «سرد الأسفار» يفتقر للحقائق المفصلة إلى حد أنه لا يثير إعجاب أي متخصص جاد في التاريخ الطبيعي من الموجودين في محيط داروين. ومن وجهة نظر والاس كان داروين مجرد مؤلف لتلك اليوميات الرائعة عن السفينة «بيجل»، وهو كتاب قوي في التاريخ الطبيعي والاستكشاف، لكنه تقليدي. لم يكن لديه من الأسباب ما يجعله يشك في أن داروين مثله أحد أتباع مذهب التحول، إلى جانب أن والاس لم يكن مهتمًّا بتوصيف البرنقيل. كان والاس قد سافر في رحلته الخاصة لأربع سنوات في مناطق نائية من البرية الاستوائية، تحت ظروف أقسى من أي شيء تحمَّله داروين، لذا ربما فقد والاس إحساسه بالإجلال تجاه ذلك الرجل الذي وضعه ذات مرة في مرتبة واحدة مع ألكسندر فون همبولدت. لم يترتب أي شيء على لقائهما … لفترة من الوقت.

أخيرا أنهى داروين بحثه الذي بدا وكأنه لن ينتهي على البرنقيلات، وذلك في أوائل خريف عام ١٨٥٤، في حدود الوقت نفسه الذي قرر فيه والاس أن يغادر سنغافورة إلى بورنيو. دوَّن داروين في مفكرته، بشعور من الإحباط، أن مشروع البرنقيل كلفه ما يقرب من ثمانية أعوام. لن ينشر آخر كتبه الأربعة عن هدبيات الأرجل إلا بعد أسابيع لاحقة، لكنه في ٩ سبتمبر أنهى حزم عيناته. كان قد نال الكفاية من عمليات التشريح التي تسبب حولًا للعين، ومن المخططات المجهدة، وقضبان الذكور الميكروسكوبية، والأرجل المرتعشة. كان متلهفًا لمواصلة عمله. وفي ذلك اليوم نفسه، حسبما ورد في ملحوظة أخرى بالمفكرة، «أخذ يفرز الملاحظات من أجل نظرية الأنواع».

عادت النظرية مجددًا إلى مركز اهتمامه. لقد أمضى ستة عشر عامًا يتفكر في تحول الأنواع، ويصقل فكرته عن الانتخاب الطبيعي، وينقب في الأدبيات البيولوجية عن الحقائق ذات الصلة بالموضوع، ويفكر مليًّا في بياناته هو نفسه عن التغاير والتكيف في البرية، ويصقل الحجج التي أوجزها في عام ١٨٤٢ وخطها في عام ١٨٤٤. وأثناء ذلك رعى تسعة أطفال كأب، دفن اثنين منهم، وأرسل ابنه الأكبر إلى مدرسة داخلية. أيضًا فقد نشر ثمانية كتب (دون أن نحسب فيها الكتب المحررة عن علم حيوان السفينة «بيجل»)، سبعة منها فنية متخصصة وواحد سرد شعبي للرحلة. جعل داروين أيضًا من نفسه خبيرًا في تصنيف مجموعة صعبة من الحيوانات، وحظي بالتصديق على خبرته بتلقي جائزة كبرى. قال داروين ذات مرة في قلق إنه ليس من حق أحد «أن يبحث مسألة الأنواع ما دام لم يصف الكثير منها بدقة»، والآن فقد كسب هذا الحق. هل حان الوقت إذن لنشر نظريته؟ كلا، ليس بعد. لم يكن مستعدًّا بعد.

بدلًا من ذلك انطلق في برنامج آخر من البحث التجريبي ليملأ بعض الثغرات في مجموعة أدلته النفيسة. أصبح داروين واحدًا من التجريبيين، وكدس في بيته وأرضه مشاريع علمية بسيطة وذكية، كثيرًا ما كان يصدر عنها رائحة سيئة، لكنها وفرت بيانات مفيدة. استغل داروين شبكة اتصالاته الممتدة للإجابة عن أسئلة عويصة. بدأ داروين يربي الحمام. وشغل نفسه إلى حد بعيد في السنتين التاليتين بتشريح ونمو الحيوانات الداجنة، وتهجين النبات، وتسميد النبات، وأنماط تنوع الأنواع النباتية المنعكسة في تصنيف النبات، وقدرة النباتات على الانتقال عبر المحيطات.

تساءل داروين عن طول الفترة الزمنية الذي يمكن أن تُنقع فيها بذرة كرنب في ماء مالح ولا تزال بعدها قادرة على الإنبات؟ ما الفترة الزمنية لبذرة الفجل؟ وبذرة الجزر؟ والفاصوليا ذات الشكل الكلوي؟ والبازلاء؟ كان يشعر بالفضول بشأن ما سماه «الوسائل العرضية» لانتشار أنواع النبات، الذي قد يتطلب طفو بذرة أو قرنة أو ساق حاملة للبذور عبر مسافات شاسعة من البحر. وهكذا اختبر قابلية مقاومة الملح لقائمة كاملة من الخضراوات والنباتات الأخرى: الراوند، والهليون، والكرفس، وحب الرشاد، والفلفل، والرَّتم، والشعير، وغيرها. أعد داروين محلولًا مالحًا يشبه ماء البحر، وصبه في زجاجات، وأسقط فيها البذور وكأنها سقطت في مياه المحيط، وتركها تطفو على الماء المالح، أو تغوص وتُنقَع، لعدد من الأيام تم قياسه. تعلم داروين من هذه المجموعة من التجارب أشياء عديدة. تعلم أن الهليون يمكن أن يطفو ثلاثة وعشرين يومًا إذا كان أخضر ريانًا، أو مدة خمسة وثمانين يومًا إذا جفف أولًا، وتظل بذوره قابلة للإنبات. أيضًا تعلم داروين أن بذور الكرنب والفجل تصبح عفنة ونتنة «إلى حدٍّ خارق للمعتاد»، لكن بذور الفجل تظل قادرة على الإنبات بعد اثنين وأربعين يومًا من النقع، أما بذور الكرنب فتعجز عن ذلك. وجد داروين أن بذور حب الرشاد تخرج «قدرًا عجيبًا من المادة الرغوية»، لكنها أيضًا تُنبت بعد اثنين وأربعين يومًا من غمرها. رأى داروين — مع الوضع في الاعتبار متوسط سرعة تيارات المحيط — أن فترة اثنين وأربعين يومًا تُعد فترة كافية لأن تنتقل البذرة أو القرنة الطافية لمسافة ١٣٠٠ ميل. معظم الأنواع الأخرى التي اختبرها تمكنت من أن تنبت بشكل ما بعد ثمانية وعشرين يومًا. الاستنتاج الذي توصل إليه داروين من هذه التجارب تضمن جانبًا بيوجرافيًّا: النباتات قادرة بكل تأكيد على عبور المحيطات. ليس هناك حاجة لجسر أرضي قديم غائص تحت البحر (كما تخيل بعض زملائه)، أو فعل رباني كي نفسر ظهور نبات ما فوق جزيرة بركانية جديدة.

لم تكن البذور الطافية هي الوسيلة الوحيدة لوصول النبات إلى مكان جديد عبر الماء. فهناك بذور مجنحة، وبذور بالغة الصغر مجهزة بمظلة كالباراشوت، كما يوجد في الهندباء البرية، تستطيع الانتقال بالرياح. إحدى الإمكانيات الأخرى هي الانتقال بواسطة أحد الطيور؛ طير حي، أو حتى طير ميت. فقد تلتصق البذور بالأرجل الموحلة لطير مالك الحزين أو طير بلشون أبيض وتقع في موضع جديد. طرح ابنه الصغير فرانسيس، الذي كان وقتذاك في الثامنة من عمره، اقتراحًا دمويًّا مناسبًا لصبي في سنه، يدور حول الطيور الميتة — مثل تلك التي تقع ضحية لصقر، أو للبرق، أو ربما ضحية للإصابة بسكتة دماغية — وانقض داروين على الفكرة. جعل داروين حمامة ميتة تطفو في الماء المالح ثلاثين يومًا. ووجد أن البذور التي أُخذت من حويصلة الحمامة أنبتت على نحو طيب.

أجرى داروين تجربة أخرى تتعلق بالطيور حاول فيها معرفة هل الحيوانات الصغيرة، كالقواقع، تنتقل متطفلة على الغير من مكان لآخر. قطع داروين قدمي بطة وعلقهما في حوض مائي مليء بقواقع الماء العذب. لو نامت بطة فوق سطح الماء، وقد تدلى قدماها وهي غافلة، ما عدد القواقع التي قد تتسلق قدميها؟ هل ستظل متشبثة بإحكام عندما تطير البطة بعيدًا؟ لوح داروين بقدمي بطته في الهواء. كم المدة التي ستظل القواقع فيها حية خارج الماء؟ ترك داروين القواقع تعاني طول الليل. تشير نتائجه إلى أن قواقع الماء العذب تستطيع التعلق بقدمي طائر وتظل حية لمسافة ستمائة ميل.

تساءل أيضًا عن بيض السحالي: هل سيطفو فوق ماء البحر؟ ولأي مدة من الزمن؟ ولو أنه طفا شهرًا أو ما يقرب، فهل سيظل قادرًا على الفقس؟ عرض داروين على تلاميذ المدارس شلنًا مقابل كل ست بيضات سحالي يمكنهم العثور عليها، ورحب أيضًا ببيض الثعابين. سيجعل هذا البيض يطفو في قبوه. هذا كله له علاقة وثيقة بالموضوع، تمامًا مثل تجارب إنبات البذور، وذلك لأن التحول يتضمن ضرورة الانتشار على نحو طبيعي. فما دام لا يوجد خلق خاص، فلا يوجد توزيع خاص للأنواع. إن الجغرافيا البيولوجية، من منظور أتباع مذهب التحول، تعكس حقيقة أن الأنواع ينشأ بعضها من بعض ويتكيف وينتقل. كان داروين في حاجة لأن يثبت، ضمن أشياء أخرى، إلى أي مدى يمكن للنباتات والحيوانات أن تنتقل من مكان لآخر.

أراد داروين أيضًا قياس التغايرات المختلفة في الحيوانات الداجنة، خاصة في الأجنة والحيوانات اليافعة، وذلك حتى يرى كيف أن تمايزها في الشكل أثناء نموها وتطورها قد يعكس تشعبها التطوري عن أسلاف مشتركة. طلب من أصدقاء له أن يضعوا في اعتبارهم اهتماماته الكئيبة، وذلك عندما يموت أي من حيواناتهم الأليفة أو ماشيتهم. وفي أحد خطاباته إلى دبليو دي فوكس، طلب منه أن يرسل فراريج عمرها أسبوع وأفراخ حمام، كي يأخذ منها هياكل عظمية. وذكر لفوكس على نحو عابر أنه بدأ بالفعل مقارنة بين البط البري والبط المدجن. عندما يحصل داروين على الطيور الحية فإنه يقتلها بالكلوروفورم أو الإثير، ويغلي جثثها ليلينها، ثم ينزع عنها اللحم، وهذه العملية تصدر عنها روائح كثيرًا ما كانت تجعله يتقيأ؛ ليس هو فحسب بمعدته المرهفة، وإنما أيضًا بارسلو، رئيس الخدم الذي يعينه في كل شيء. هكذا استعان داروين بالمصادر الخارجية في هذه المرحلة من بحثه. أما عن الثدييات فقد كتب في حبور: «لديَّ جراء مملحة لكلاب من نوع البولدوج والسلوقي.» وفوض داروين أحد الأشخاص كي يأخذ مقاسات دقيقة لمهر خيل السباق وخيل جر العربات. كان يريد أن يحصل على بيانات معيارية عن أشكال الحيوانات اليافعة كلما أمكن، حتى تكون للمقارنات مصداقيتها. وبالنسبة للطيور، كان يحاول أن يحصل عليها بعد سبعة أيام من فقسها. إلا أن صغار السن في بعض الأنواع وبعض السلالات لم يكن يسهل دائمًا العثور عليها. وتساءل داروين هل هناك من يعرف طريقة للإمساك ببطة برية عمرها سبعة أيام؟

حل داروين مشكلة الحصول على الحمام بأن ربى الحمام بنفسه في فناء المنزل الخلفي. اهتم داروين بالسلالات الممتازة، حمام النفاخ الهزاز والحمام الطاووسي والحمام البهلواني والحمام الزاجل الإنجليزي وأنواع أخرى، التي عكس شكلها وسلوكها النابض بالحياة مئات السنين من الاستيلاد الانتخابي على يد مربي الحمام الفخورين الولعين بمهنتهم. لم يكن «الولع» بالحمام، كما كان يسمى، هواية مكلفة، وكان بعض هؤلاء الولعين به من طبقة العمال الذين يدللون طيورهم ويربونها في الأخمام أعلى أسطح بيوت لندن ويتحدثون في حاناتهم المحلية عن دقة الألوان، وشكل المنقار، والزوائد اللحمية للأعين وزخارف الريش. بدأ داروين عمله على الحمام بنفس فتور العالم التجريبي، لكن ما لبث أن وجد نفسه مفتونًا بالحمام ومستمتعًا بهذه الثقافة الفرعية المحيطة به. درس داروين الكتيبات الإرشادية للمربين، وراسل الخبراء وقرأ مجلة «وقائع الدواجن»، وقام بجولات تبضع للحمام في لندن، بل إنه حتى انضم لناديين من نوادي هواة الحمام في المدينة. وفي ذروة افتتانه بهذا الأمر وصل ما يملكه إلى ست عشرة سلالة مختلفة. قال لابنه ويليام الذي التحق بالمدرسة الداخلية: «إنني أمضي في طريقي مع حمامي على نحو رائع.» كان للتو قد أضاف بعض حمام من نوع عازف البوق والحمامة الراهبة وحمام التوربيد، إضافة إلى زوج صغير من حمام النفاخ الألماني أعطاه له صديق يصنع الجعة في لندن. أسرَّ داروين لويلي أنه يتطلع إلى إطلاق حمام البهلوان في الصيف. وداعًا لقلب العلم القاسي وسكينه الحاد.

كتب داروين في أواخر عام ١٨٥٥ مسودة لخطاب، أشبه بطلب معمم نوى إرساله إلى معارفه وأصدقائه عبر البحار. صيغ الخطاب على شكل إعلان مكتوب أعلاه كلمة «مطلوب». بدأ الخطاب بطلب «جُلود، لأي سلالة أو جنس مدجن من الدواجن، والحمام، والأرانب، والقطط، بل حتى الكلاب، ما دامت ليست أكبر مما ينبغي، وأن تكون هذه الحيوانات قد رُبيت لأجيال كثيرة في أي منطقة قليلة الزوار، وسيكون لذلك قيمة كبيرة». كان يطلب أداء معروف ضخم: فضلًا، رجاء إرسال العينات لي بحرًا. كان يريد بالإضافة للجلد، والريش أو الفراء، عظمة للساعد وللفخذ وأكبر قدر ممكن من الجمجمة، والأفضل أن تكون كلها لا تزال متصلة بالأوتار. الجزء الذي يدور حول «أجيال كثيرة» في «منطقة قليلة الزوار» جزء مهم لدراساته عن كيفية تغاير الأفراد داخل العشيرة أو المجموعة الواحدة من السكان. كان داروين يدرك وقتذاك أن هذه الظاهرة الحاسمة، ظاهرة التغاير، تحدث باستمرار في الأنواع البرية مثلما تحدث في الحيوانات الداجنة، لكن ما الذي «يسببها»؟ هذا سؤال هائل. لا يعرف داروين الإجابة عنه. إحدى الإجابات الممكنة، فيما يعتقد، هو الاختلاف في الظروف الخارجية. ومن ثم، فقد كان يأمل أن يرى كيف قد تتغاير السلالات الداجنة عندما تُربى في مواقع غريبة مثل بلاد فارس أو جاميكا أو تونس، وهو مستعد بكل سرور لأن يدفع نفقات سلخ الجلود وإرسال العينات بحرًا.

كتب داروين قائمة بالرجال الذين أرسل لهم هذا الطلب. تضمنت القائمة شخصيات مثل الراجا جيمس بروك (في ساراواك)، وسير جون سي بورنج (حاكم هونج كونج)، وسير روبرت شومبرج (أحد مستكشفي جيانا، والذي كان يشغل حينها منصب القنصل البريطاني في سانتو دومنجو)، وعالم النبات جي إتش كيه ثوايتس (في سيلان)، وإي إل لايارد (أمين متحف في كيبتاون)، وإدوارد بليث (أمين متحف آخر في كلكتا). أصبح بليث فيما بعد أحد أكثر المستجيبين لرسائله من حيث الإسهاب والفائدة. يظهر في منتصف القائمة اسم غير جلي؛ «آر والاس» ليس مصحوبًا بأي موقع جغرافي. من الواضح أن داروين كان لديه عنوان بريدي من نوع ما لألفريد راسل والاس — ربما عنوانه في ساراواك، قاعدة والاس المؤقتة — لكنه في ذلك الوقت ما كان يستطيع أن يخمن بالضبط أين يمكن أن يكون السيد والاس بالفعل بين أرجاء أرخبيل المالاي الفسيح. إلى جانب أن أحدهما لا يعرف الآخر تقريبًا. كان داروين يجرب حظه فحسب.

٢٣

في سبتمبر ١٨٥٥ نُشرت الورقة البحثية التي أرسلها والاس من ساراواك عن «القانون» الذي ينظم «إدخال» أنواع جديدة. لم تُحدِث الورقة أي ضجة، لكنها أثارت بالفعل بعض الاهتمام. ذكر له وكيله صمويل ستيفنز أن العديد من علماء التاريخ الطبيعي في لندن قالوا متذمرين إنه ينبغي أن يتوقف عن التنظير ويكتفي بجمع الحقائق. من ناحية أخرى وجد تشارلز ليل أن الورقة فيها ما يثير الاهتمام. حصل إدوارد بليث في كلكتا على نسخته من «حوليات ومجلة التاريخ الطبيعي» وكان رد فعله مماثلًا. كتب بليث في أحد خطاباته الطويلة لداروين قرب نهاية السنة يسأله: «ما رأيك في ورقة والاس المنشورة في مجلة الحوليات؟» وكان رأي بليث نفسه أنها «جيدة! بوجه عام!» أما رأي داروين فكان مختلفًا. قرأ داروين الورقة في ذلك الوقت وكتب بعض الملاحظات لذاكرته الخاصة، كما يفعل روتينيًّا مع قراءاته في الأبحاث المنتقاة. كانت هذه طريقة داروين؛ طريقة منهجية محكمة؛ كان يفكر مليًّا ويمضغ كميات هائلة من المواد، ويبتلع الأجزاء الجيدة، ويلفظ القشور وما هو فاسد. كان لورقة والاس طعم القشور.

سجل داروين أنها تناقش التوزيع الجغرافي، لكنها لا تقدم «شيئًا جديدًا جدًّا». وقد استخدمت تشبيه الشجرة المتفرعة («تشبيهي أنا» من وجهة نظر داروين الغيور) لتمثيل ما يوجد في الطبيعة من تشابهات وما فيها من تنوع. وهي تذكر وجود أعضاء ناقصة التطور، لكن لأي سبب؟ ثم هناك التعليق على جالاباجوس — عن كيف أن تلك الكائنات الغريبة والأنماط العجيبة لم تلقَ أبدًا أي تفسير «ولا حتى تفسير قائم على الحدس» — وهو تعليق لم يمر مرور الكرام. بل ربما يكون داروين قد شعر بالحرج؛ لأنه يعرف أنه حقيقي. لم يحدث أن جازف داروين بتقديم أي تفسير في «اليوميات»، لكن … لنمهل المرء الوقت الكافي. حسن، لا بأس، لقد أتيح له الوقت بالفعل. لكنه لا يزال غير كافٍ. ثم ما الذي يعرفه السيد والاس عن الاعتبارات المعقدة؟ بدلًا من أن يناقش داروين هذه النقطة في عقله، أو يعتبر هذا الاستفزاز الصغير تحديًا، فإنه أنكر مجهود والاس إجمالًا. لم يرَ أي قيمة تفسيرية حقيقية في «القانون» الذي ينظم الأشياء، ولم يسمع في هذه اللغة الغامضة شيئًا سوى تكرار لنغمة التاريخ الطبيعي اللاهوتي العتيق. ثم قال داروين في نفسه، لو أن والاس شطب كلمة «الخلق» وتحدث بدلها عن «تولّد» أنواع جديدة، لأمكنه أن يوافق على ورقة والاس البحثية. هذا إذن ما وصل إليه الأمر. إن والاس لم يستخدم أي كلمة من هذا النوع. ومن ثم كان حكم داروين أن «الموضوع كله يبدو كعملية خلق من وجهة نظره»، ثم عاد ثانية إلى حمامه.

أرسل داروين خطاباته إلى ثوايتس، ولايارد، والآخرين في قائمته، بمن في ذلك آر والاس، وقال لهم إنه سيكون ممتنًّا كل الامتنان إذا أرسلوا له أي جلود لدجاجات، أو حمام، أو أرانب، أو بط.

٢٤

بعد أن أمضى ألفريد والاس عامًا في ساراواك واصل طريقه في أرخبيل الملايو ليعثر على أرض جديدة للصيد، وراء النطاق الذي وصل إليه من سبقه من الرحالة البريطانيين وجامعي العينات. لحق بسفينة شراعية صينية توقفت مدة وجيزة عند بالي ثم أنزلته في جزيرة لومبوك، وهي جزيرة صغيرة تبعد ثلاثين ميلًا فقط إلى الشرق. مكث والاس في لومبوك مدة شهرين، وهو يصطاد الطيور ويلاحظ الثقافة المحلية أثناء انتظاره لسفينة أخرى تأخذه إلى ماكاسار، وهي ميناء يقع على جزيرة سيليبس الكبيرة. كانت لمبوك هي المكان الذي رأى فيه ببغاء الكوكاتو بعرفه الكبريتي اللون للمرة الأولى، وهو طير رائع الجمال وإن كان يثير ضجة، ولا يوجد في بالي أو أي جزيرة أخرى في اتجاه الغرب. لاحظ أيضًا الوروار آكل النحل ذا ألوان قوس قزح، وهو نوع آخر من الطيور الجميلة التي تشيع في أستراليا. أدرك والاس في النهاية، من هذه الإشارات وغيرها، أنه بمجرد أن انتقل من بالي إلى لومبوك، عبر مضيق ضيق عميق، فإنه انتقل من منطقة بيوجرافية إلى أخرى. إنه الآن في عالم الحيوانات الأسترالية. بدا هذا غريبًا. لماذا هذا الفصل الواضح بين المناطق؟

أرسل من لومبوك قفص عينات إلى ستيفنز في لندن عن طريق سنغافورة، يحوي أكثر من ثلاثمائة جلد من جلود الطيور. أغلب هذه الطيور قصد بها أن تباع، بما في ذلك طيور الكوكاتو العديدة التي تمكن من صيدها. حوى القفص أيضًا شيئًا عاديًّا للغاية، لا بد أن إرساله من طرف جامع تجاري للعينات البيولوجية النادرة بدا أمرًا بالغ الغرابة؛ إذ أرسل والاس بطة محلية من نوع شبيه ببط أفنية مخازن الحبوب. كتب والاس ملحوظة لوكيله تفسر الأمر: «هذه بطة داجنة مرسلة إلى السيد داروين.» رجاء توصيلها له.

من الصعب أن نعرف إن كانت هذه البطة قد وصلت بأي حال من الأحوال إلى داروين. إذا كانت قد وصلت له فعلى الأرجح أنه شعر بالامتنان لهذا، لكن دون أن يشعر بالدهشة. كان يتوقع قدرًا كبيرًا من التعاون الكريم من الأشخاص الذين طلب منهم مساعدته في بحثه (خاصة من هم أقل منه في المكانة الاجتماعية). في حدود الوقت نفسه كتب له والاس مباشرة. أرسل الخطاب من سيليبس، عبر طرق البريد البطيئة وقتذاك، وهكذا استغرق الخطاب ستة شهور ليصل إلى دار داون. لم يُحفظ هذا الخطاب في الأرشيف الضخم لمراسلات داروين، مثله مثل أول خطاب قصير من داروين لوالاس، لكن أمكن استنتاج وجوده ومحتوياته فقط من الرد عليه. كتب داروين إلى والاس في أول مايو من عام ١٨٥٧ يقول: «يمكنني بوضوح أن أرى من واقع خطابك، بل أكثر من ذلك حتى من واقع ورقة بحثك في مجلة «الحوليات» أننا نفكر تفكيرًا متشابهًا.» ثم أضاف وهو يتخير عباراته بشيء من الرقة أنهما توصلا «نوعًا ما» إلى «استنتاجات متشابهة». وأضاف داروين أنه يصادق على «كل كلمة تقريبًا» في ورقة والاس البحثية، ويعتبر أنه من النادر أن يتفق منظران اثنان على هذا النحو الوثيق. بالنظر إلى الطريقة الباردة التي استنكر بها داروين ما ورد في ورقة «القانون» قبل ذلك؛ إذ ذكر في ملاحظاته عن قراءاته أنها لا تقدم «شيئًا جديدًا جدًّا»، فإن هذا الخطاب الأخير لداروين يحمل شيئًا من المبالغة.

لكن شيئًا ما تغير. ربما حوى خطاب والاس المفقود تصريحًا بآرائه عن التحول، وربما كان يحوي شيئًا من المباهاة بأن ورقته البحثية ما هي إلا خطوة أولى وحسب تجاه نظرية تفسيرية. أي أنباء من هذا النوع كانت ستجعل داروين متيقظًا للخطر. على أي حال أدرك داروين أن والاس يحوم حول تخوم مذهب التحول، سواء كان يعي ذلك أم لا. إلى أي مدى هو واعٍ، ولأي مدى أثمرت جهوده؟ كان هذان سؤالين منفصلين لا يبدو أن داروين سألهما. وحين رأى داروين في هذا الشاب متخصصًا مجتهدًا، وإن كان غير محنك، في التاريخ الطبيعي الميداني، وأنه من غير المرجح أن يكون منافسًا له، كان سعيدًا بأن يتشارك معه في الحقائق وفي التأملات المبهمة، وأن يحرص على أن يحصل منه على أكثر مما يعطيه. في الوقت نفسه أثرت عوامل عديدة أخرى على تفكير داروين.

أولًا: زاد تحرق داروين للإعلان عن سره الكبير. وقد أقر لصديقه الحميم القديم فوكس، الذي لا يشتغل بالعلم، أن بحثه الحالي يتناول السؤال عما إذا كانت الأنواع قابلة للتحول أو أنها ليست كذلك. (كان داروين يعرف إجابته عن ذلك لكنه كان يزعم أنه غير متأكد.) كان يأمل، كما أخبر فوكس، أن يؤلف كتابًا عن الموضوع خلال سنوات قليلة. مضى داروين لأبعد من ذلك مع زملاء علميين عديدين؛ إذ أقر باقتناعه بأن الأنواع تتحول بالفعل، ورسم الخطوط العريضة لنظريته. كان جوزيف هوكر ممن يعرفون الأمر بالفعل، وقد قرأ وقتذاك مقال داروين المكتوب عام ١٨٤٤ لكن لم ينشر، على أن داروين في أوائل ١٨٥٦ كشف عن تفكيره لتشارلز ليل واثنين أو ثلاثة آخرين، بما في ذلك تي إتش هكسلي، عالم التشريح المتألق والمحاضر المحبوب الذي يدرس التاريخ الطبيعي في لندن. في أبريل ذهب هكسلي وهوكر وزوجتاهما، ومعهم عالم آخر، في زيارة لداروين في عطلة نهاية الأسبوع في دار داون، وأثناء هذه الزيارة كشف صاحب الدار عن أفكاره بشأن الانتخاب الطبيعي. رحب هكسلي، المتشكك في العقائد والمولع بالجدل بطبيعته، بفكرة داروين الجامحة بتحمس جامح، لكنه تمكن من الاحتفاظ بالسر عندما عاد إلى لندن. زار ليل وزوجته أيضًا آل داروين لأيام قليلة في ذلك الشهر، ودار في صباح ١٦ أبريل حديث هادئ بين الرجلين. عرض داروين نظريته المبدعة المهرطقة. لا بد أنه استجمع شجاعته أولًا، نظرًا لهجوم ليل السابق على التحول اللاماركي في كتابه «مبادئ الجيولوجيا». كان رد فعل ليل قويًّا ومعقدًا في الوقت عينه، وهو ما يعكس شجاعته الفكرية والتزامه بأساسيات مهنة العلم. لم يوافق ليل على فكرة داروين، ليس بعد. لكنه أدرك قوتها وأهميتها. وفي دفتر يوميات خاص بليل مخصص لمسألة الأنواع، لخص ليل بأمانة مناقشتهما في ذلك اليوم. وحين تذكر ليل ما سماه والاس ﺑ «قانون» الأنواع المترابطة التي تظهر متجاورة في المكان والزمان، أقر ليل بأن نظرية داروين عن الانتخاب الطبيعي يبدو أنها تفسر ذلك الأمر. لقد شعر ليل أن هذين العالمَين أشبه بكلبي صيد يطاردان الفريسة عينها.

العامل الثاني المسبب لارتباك داروين ذهنيًّا: هو أن ليل أعطاه نصيحة محددة: انشر نظريتك. كفاك تأجيلًا، كفاك حذرًا، كفاك طلبًا للكمال. اذهب إلى المطبعة. كتب سير تشارلز ليل لداروين بعد الزيارة بوقت قصير: «أود منك أن تنشر جزءًا صغيرًا من بياناتك، عن «الحمام» من فضلك، هيا اخرج بنظريتك، دعها تُذكر تاريخيًّا، ويُستشهد بها، وتُفهم.» كان ليل لا يزال معتنقًا للتكوينية، لكنه أيضًا صديق مخلص. كان يحس بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن داروين بأن هناك حاجة ملحة للإعلان عن هذا الاكتشاف العظيم — أو تلك الفكرة الدرامية — وأن يُنسب لداروين الفضل فيه.

وعد داروين بالنظر في أمر اقتراح ليل. لكنه كان مترددًا، كما اعترف بأنه كان متحيرًا. إن «الخروج بالنظرية» أمر يسهل قوله عن فعله. كيف سيتمكن في أي موجز متعجل من أن يفي هذه المجموعة المستفزة المعقدة من الحقائق والاستنتاجات والمفاهيم حقها؟ كيف يستطيع أن يجعل النظرية مقنعة دون أن يطرح كل أدلته؟ كيف يستطيع أن يجيب مسبقًا عن كل الاعتراضات المتوقعة؟ ولماذا العجلة؟ أحس بأنه يتمزق بين المُثل العلمية والطموح العلمي. وقال لليل: «أكره فكرة الكتابة من أجل الأسبقية، ومع ذلك فمن المؤكد أنني سأغتاظ إذا نشر أحدهم أفكاري قبلي.» هذه الجملة تلخص الأمر: فهو يكره فكرة الكتابة من أجل الأسبقية، لكنه يقر بأنه يريد أن تكون له الأسبقية فعلًا.

كتب بعد ذلك بأسبوع خطابًا لهوكر، أقرب صديق له، الذي يستطيع أن يكون معه أكثر صراحة. قال داروين: «تحدثت جيدًا مع ليل عن بحثي الخاص، وقد حضني بقوة على أن أنشر شيئًا»، مقالًا في صحيفة يغطي جزءًا من الموضوع على سبيل المثال، أو ربما أؤلف كتابًا بالغ الصغر، إلا أنه سيكون من «المجافي للمنطق على نحو بشع» أن ينشر المرء شيئًا كهذا دون دعم مفصل من الحقائق والمراجع. كان يريد لعمله ألا يبدو مرتجلًا ومتسرعًا مثل «الآثار الباقية للتاريخ الطبيعي للخلق». قال داروين لهوكر: «لكن يبدو أن ليل يعتقد أن عليَّ أن أفعل ذلك، بناء على اقتراح الأصدقاء، وعلى أساس أنني يمكنني أن أقول إنني ظللت أواصل البحث ثمانية عشر عامًا، ومع ذلك لا أستطيع أن أنشره إلا بعد سنوات.» ها قد بدأ دفاعه الخاص.

وبالفعل «لم يستطع نشره» لعدة سنوات. لماذا؟ لأنه حذِر ومنهجي، ولم يهيئ نفسه بعد للكتابة. لأنه اختار أن يباشر العمل في بطء. كان متحيرًا الآن بين فكرتين: كان يريد أن يكون له عمل منشور، من أجل الأسبقية، وأيضًا كان يريد أن يؤخر النشر، من أجل تجهيز قضيته على نحو أفضل. كان يريد فعل ذلك حتى يصل إلى حالة السلام العقلي، لكنه فضل أن يقول إن أصدقاءه هم من حثوه على ذلك. ظل تشارلز داروين طيلة حياته رجلًا يتصف بنزاهة عالية، وطيبة عظيمة، وكرم عميق، وشجاعة كبيرة، لكن هذه المرحلة تجعل عوامل قوته تختفي من خلال إظهاره في بعض من أضعف لحظاته وأقلها صراحة.

كان رد هوكر، الذي لم يعد موجودًا أيضًا، معارضًا لاقتراح ليل بكتابة مقال في مجلة، وإن لم يعارض بالضرورة كتابة «أطروحة تمهيدية» في شكل كتاب منفصل. كانت كتابة مقال في مجلة تعني، في ذلك الوقت، قدرًا من التدقيق المؤسسي. بينما الكتاب الصغير المنشور نشرًا خاصًّا على نفقة المؤلف لن يورط أحدًا بأفكاره الجامحة سوى مؤلفه. ولن يتطلب مراجعة هيئة تحرير أو الاستشهاد الكامل بمصادر الأدلة. ومن ناحية أخرى حذر هوكر من أن إصدار كتاب صغير الآن ربما يقوض تأثير الكتاب الكبير الذي ينوي داروين إصداره في النهاية.

هكذا قدم له مستشاراه الموثوق بهما نصيحتين متعارضتين، وغدا داروين نفسه متحيرًا. بدأ بالفعل كتابة مسودة لنسخة قصيرة — سمها أطروحة أخرى، أو مقالًا، أو أيًّا ما يكون — لكنه سرعان ما أصبح محبطًا من مجهود الاختيار والاختصار بهذه الدرجة البالغة. وفي أواخر صيف ١٨٥٦ كان داروين قد صرف النظر عن نصيحة ليل وغير من طريقة تناوله للأمر، وأخذ يكتب فصلًا بعد فصل من كتابه الذي سيصل في نهاية المطاف إلى عدد من المجلدات الضخمة الشاملة المساوية لكتاب ليل الخاص ذي الأجزاء الثلاثة «مبادئ الجيولوجيا». أخفق داروين في أن يدرك (أو قرر على نحو غير واعٍ أن يتجاهل الإشارات التحذيرية) أن والاس الشاب يتبع الطريق الفكري نفسه بسرعة لا يكبحها أي حذر.

كتب داروين إلى ليل ثانية قرب نهاية العام: «أعمل الآن بكل مثابرة في كتابي الكبير؛ لقد وجدت أن من المستحيل تمامًا أن أنشر أي أطروحة أو مخطط تمهيدي، وسأؤدي عملي كاملًا بقدر ما يتاح لي حاليًّا من مواد، دون انتظار الوصول إلى الكمال. وأنا مدين لك بحضي على الكتابة بهذا القدر من السرعة.» إلا أنها لم تكن بالسرعة الكافية.

٢٥

أصبح داروين ووالاس الآن على اتصال ضعيف، لكنهما كانا يتواصلان بلا طائل بالبريد الدولي. هل وصلت البطة التي أرسلها والاس من لومبوك بأي حال من الأحوال إلى نضد التشريح عند داروين؟ أعتقد أن هذا لم يحدث؛ لأنه لا يرد ذكر لذلك الطائر بعد خطاب والاس القصير بهذا الشأن. ربما ضلت شحنة العينات المرسلة بحرًا طريقها. ولعل البطة وصلت إلى صمويل ستيفنز وقد تعفنت إلى درجة لا يمكن معها تقديمها لداروين. على أي حال لا يظهر أي شكر في خطاب داروين، المجامل دومًا، والمرسل في ١ مايو ١٨٥٧، الذي فيه قدم تهنئته على ورقة والاس البحثية بعنوان «القانون».

ثمة تعليق غريب آخر في ذلك الخطاب، يظهر حساسية داروين بشأن تأخره الكبير. فبعد الحديث عن تشابه آرائهما، ومدى ندرة مثل هذا التوافق بين اثنين من المنظرين في التاريخ الطبيعي، خط شرطة فاصلة بعرض الصفحة، كما لو كان يتنحنح، ثم كتب بعدها: «هذا الصيف سيمر عشرون عامًا (!) منذ أن فتحت أول دفاتر ملاحظاتي لأكتب عن مسألة كيف تختلف الأنواع والمتغايرات بعضها عن بعض، وبأي طريقة يحدث هذا.» أخيرًا، يصرح داروين بأنه عثر على الإجابة. لقد عثر على إجابة ما على أي حال؛ فكرة واضحة ملموسة. وسيحكم الآخرون على ما إذا كانت صحيحة أم خاطئة. ثم أخبر والاس أنه ليس من الممكن أن يشرح هذه الفكرة في خطاب؛ إذ إنها أكثر تعقيدًا من ذلك. وقال: «أنا الآن أجهز بحثي للنشر، لكني أجد أن الموضوع كبير جدًّا، حتى إنني على الرغم من كتابتي لفصول كثيرة فأعتقد أنني لن أذهب للمطبعة إلا بعد سنتين.» كان داروين يتزلف ليكسب الوقت والاهتمام.

على الرغم من أنه لم يكن يأخذ والاس بمأخذ الجد بعد — ليس بما يكفي — فإنه أحس ببعض الحذر. كان تعليق داروين، بما فيه من علامة تعجب متكلفة، يؤكد على مصالحه الخاصة، وأسبقيته، ودعاواه. كان هذا تلميحًا من جانب داروين، لكن والاس لم يستطع أن يفهم مضمون الرسالة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤