كتابه الكريه

١٨٥٨-١٨٥٩

٢٦

في الثامن عشر من يونيو لعام ١٨٥٨، أو في حدود ذلك اليوم، وصل إلى باب داروين الأمامي خطاب آخر بالبريد من ألفريد والاس. أتى الخطاب، كسواه، من مكان ما في أرخبيل الملايو. ظل الخطاب يتنقل أربعة شهور فوق سلسلة من المراكب. كان المظروف أضخم من المعتاد، ويحوي مخطوطة إلى جانب رسالة. فتح داروين المظروف، وبعد أن قرأ الرسالة والمخطوطة المرفقة شعر بانفعالات أثارت غثيانه؛ بدأت بالإحساس بالمفاجأة وسريعًا ما تضخمت إلى حالة من اليأس. كان كتابه الكبير وقتذاك ما زال قيد العمل، وقد انتهى من كتابة ثلثيه، ويزداد صعوبة وضخامة في كل يوم. في الوقت ذاته كان والاس، صديق المراسلة الشاب، قد تفهم على نحو مستقل فكرة التطور بالانتخاب الطبيعي.

كان عنوان مخطوطة والاس هو «عن نزعة المتغايرات إلى الابتعاد إلى ما لا نهاية عن النمط الأصلي». تكونت المخطوطة من نحو عشرين صفحة، مكتوبة بيد المؤلف بلغة نثرية واضحة سلسة. النقطة الرئيسية في المخطوطة — كما أشار لها العنوان — هي أن الفارق بين النوع (كصنف) والنوع المغاير (كصنف) هو مجرد فرق في الدرجة. بمعنى أن مقدار التغاير الذي نراه بين المتغايرات داخل أي نوع ليس محدودًا بطبيعته؛ بل يمكن لهذه الإضافات القليلة أن تتراكم على نحو غير محدود إلى أن ينشق أحد المتغايرات ليصبح نوعًا متميزًا بذاته. تفترض المخطوطة وجود «مبدأ عام في الطبيعة» يدفع المتغايرات الكثيرة لعمل ذلك. وكما يؤكد والاس فإنها لا تكتفي بأن «تنشق» فقط عن النوع الأب، بل إنها أيضًا تتنافس ضده، وأحيانًا تظل حية بعد موته، وفي النهاية ينشأ عنها هي نفسها متغايرات أخرى تختلف أكثر وأكثر عن النمط الأصلي. على عكس داروين، لم يبتكر والاس اسمًا لهذا «المبدأ العام». إلا أن مخطوطته فسرت هذا المبدأ بمنطق يماثل تمامًا منطق داروين.

قرأ داروين في المخطوطة أن «حياة الحيوانات البرية هي صراع من أجل الوجود» يحدث فيه أن «الأضعف والأقل كمالًا في تنظيمه لا بد دائمًا أن يموت». يحدث هذا الصراع بسبب الضغط الناتج عن المعدلات الطبيعية لزيادة السكان، التي وفقها يزيد عدد المواليد الجدد كثيرًا عن العدد الذي يمكنه العيش على الطعام وفي الموطن البيئي المتاح. تعطي المخطوطة تلخيصًا بارعًا لحساب مالتوس، دون ذكر اسمه. ومذكور بها أن «التغايرات عن الشكل النمطي لأحد الأنواع» يشيع وقوعها بين الحيوانات البرية (الأمر الذي كثيرًا ما رآه والاس، جامع العينات بغرض التجارة)، وأن معظم هذه التغايرات «ستؤثر إما بالإيجاب أو بالسلب، على قوى الوجود الممتد». على سبيل المثال: «الظبي ذو السيقان الأقصر أو الأضعف لا بد أن يعاني بالضرورة هجمات أكثر من السنوريات اللاحمة.» وستأكل الأسود الظباء البطيئة. الحمامة المهاجرة التي لها أجنحة أقل قوة ستعاني المتاعب وهي تسافر في مدى واسع لتجد الطعام. يؤدي الجوع والتنافس إلى زوال الطيور الضعيفة. من الناحية الإيجابية فالزرافة ذات العنق الطويل ستتمكن من الوصول إلى أوراق الشجر العالية التي لا تستطيع الزرافات الأخرى الوصول لها. وخلال المجاعات قد تتمكن الزرافة طويلة العنق من الحفاظ على نفسها بفضل هذا المصدر الإضافي، في حين أن الزرافات قصيرة العنق ستموت. تلك الكائنات «الأفضل تكيفًا» بفضل هذه الاختلافات الصغيرة ستأكل أفضل وتدافع عن نفسها أفضل، وتعيش أفضل وتتكاثر بعدد أوفر، وتؤسس عشائر كبيرة، في حين أن الكائنات الأقل حظًّا ستخسر الصراع وتختفي. ستكون نتيجة ذلك أن يحدث «تباعد مستمر» على مر فترات طويلة من الزمن، بحيث «تبتعد تغايرات متتالية أكثر وأكثر عن النمط الأصلي». تنتهي مخطوطة والاس بعبارة منمقة يقترح من خلالها أن «كل الظواهر التي تظهرها الكائنات المنظمة؛ انقراضها وتوارثها في العصور السابقة، وكل ما تظهره من تعديلات خارقة للمعتاد في الشكل، والغريزة، والعادات» هي أمور يرجع تفسيرها إلى ذلك «المبدأ العام في الطبيعة»؛ ذلك المبدأ عديم الاسم.

يا له من زعم كبير! كان خطاب التغطية أكثر تواضعًا. فهنا يقول والاس إنني توصلت إلى افتراض يفسر أصل الأنواع. وكان يأمل أن يبدو الأمر جديدًا للسيد داروين مثلما بدا لوالاس عندما طرأت له الفكرة لأول مرة.

لكنه لم يبدُ كذلك لداروين.

٢٧

كانت المخطوطة مؤرخة كما يأتي: تيرنيت، فبراير ١٨٥٨. أرسل والاس المخطوطة بالبريد من جزيرة بركانية ضئيلة الحجم في شمال مولوكاس. وكما يقال فإن الإلهام جاءه خلال إصابته بحمى الملاريا، حين كان مجبرًا على ملازمة الفراش، وهو يعاني نوبات متبادلة من البرودة والحرارة ويعجز عن فعل أي شيء سوى التفكير. أحد الأمور التي فكر فيها، كما ظل يفعل لسنوات، هو الطريقة التي تأتي الأنواع بها إلى الوجود. أصبح والاس يزداد اقتناعًا بحقيقة التحول بعد أن شاهد هذا الطيف من التغاير في البرية، وبعد أن رسم خريطة للتوزيع المثير للشك للأنواع وثيقة الارتباط. لكن ما الآلية المسببة لذلك؟ حدث أثناء نوبات الحمى أن تذكر مالتوس، الذي قرأ له منذ ما يزيد عن اثنتي عشرة سنة. تذكر المتواليات الهندسية لتزايد السكان، والزيادات الأبطأ في الطعام المتاح، وما يترتب على ذلك من «قيود» على نمو عدد السكان من البشر. فجأة خطر لوالاس، كما سبق أن خطر لداروين بالضبط، أن هذه القيود تنظم أيضًا عشائر الحيوان في البرية. عندما تأمل والاس كل هذه الصعوبات والوفيات، سأل نفسه لماذا يظل بعض الأفراد على قيد الحياة ويموت آخرون كثيرون. «كانت الإجابة» كما يتذكر بعد زمن طويل هي أنه «إجمالًا، يعيش الأصلح». فالتغاير العارض وضرورات الصراع ينتج عنها البقاء التمييزي، ويؤدي البقاء التمييزي إلى التكيف، والتكيف المتباعد على امتداد فترات كبيرة من الزمن يؤدي إلى ظباء سريعة الهرب، وحمام قوي الأجنحة، وزرافات طويلة. ها قد أصبت الهدف. «كلما فكرت في الأمر زاد اقتناعي بأنني عثرت أخيرًا على قانون الطبيعة الذي طال البحث عنه، الذي يحل مشكلة أصل الأنواع.»

عندما تنقطع الحمى، كان ينهض من رقاده ويكتب بعض الملاحظات. وخلال أيام قليلة كان قد كتب مخطوطته وأرسلها لداروين بباخرة البريد التي تتوقف في تيرنيت.

لماذا اختار والاس، من بين كل الناس، تشارلز داروين ليتلقى هذا الدفق من الأفكار التي راودته أثناء مرضه بالحمى؟ لم يكن السبب هو معرفة والاس بأن داروين مؤمن مثله بمذهب التحول. كان الرجل الأكبر سنًّا في كتاباته المنشورة وفي الخطابات القليلة التي تبادلاها أكثر تحفظًا من أن يصرح بهذا. وعلى قدر معرفة والاس، كان السيد داروين مجرد عالم تاريخ طبيعي حي الضمير ومن النوع التقليدي، له اهتمامات بالجغرافيا البيولوجية، والبرنقيلات، والتغاير في الدواجن. كان على والاس، الذي يشعر بالإثارة لما اكتشفه، والمتلهف للإعلان عنه، أن يرسل المخطوطة إلى «شخص ما»، ولم يكن لديه سوى خيارات محدودة. كان قد سمع من قبل عن طريق صمويل ستيفنز عن الهمهمات التي ترددت في لندن وتنتقص من مغامراته في التنظير. فكبار العلماء في الوطن يرون أنه ينبغي أن يكتفي بجمع الخنافس الصالحة للبيع. ربما كان بإمكانه أن يتجاهل تمامًا تلك التلميحات الكئيبة ويرسل ورقته البحثية بالبريد إلى ستيفنز وحسب، كي يقدمها إلى «الحوليات»، كما فعل بكتاباته الأسبق. إلا أن هذا لم يبدُ بالتصرف الحكيم، ليس في هذه المرة؛ فالمخاطر كبيرة للغاية، والمفهوم المقدم بالغ الاستفزاز. أو لعله ببساطة كان يأمل فيما هو أرقى. من الذي يعرفه غير هؤلاء؟ كان والاس معزولًا بين الجزر البعيدة، ولم يكن ما تسبب بعزلته الأميال والمياه وحسب. كان يفتقر للمؤهلات العلمية والصقل التعليمي والمكانة الاجتماعية، وهذا جعله يشعر بالتهميش. ثم إنه صار محبطًا حين مرت ورقته البحثية عن «القانون» مرور الكرام، دون أن تجذب أي انتباه تقريبًا. بل إنه اشتكى بهذا الشأن في خطاب لداروين، ورد داروين في تعاطف فردي بأن الأمر ليس هكذا بالضبط، وأن ليل، صديق داروين، كان واحدًا ممن وجدوا أن ورقة «القانون» فيها ما يثير الاهتمام.

هل قال ليل ذلك؟ سير تشارلز ليل، أبرز علماء الجيولوجيا في بريطانيا؟ كان في هذا نوع من الإطراء لشخصية والاس المتواضعة. والآن بعد مضي نصف العام كان والاس يأمل في الوصول إلى ليل. ومن ثم طلب من داروين، إذا وجد أن المخطوطة المرفقة عن الأنواع تبدو مهمة بما يكفي، فهل يتفضل بإيصالها إلى سير تشارلز؟

٢٨

شعر داروين أنه شخص محطم. ليس هناك من يلومه إلا نفسه. هذا ما أدى إليه تلكؤه، ونزعته إلى الكمال، وعدم قدرته على كتم الأسرار. لقد وقع في الفخ على نحو مفاجئ، وأصبح محصورًا بين واجبات الشرف ومطالب الاهتمام بالذات. كتب إلى ليل وهو يتفجر بالألم: «لقد تحققت كلماتك، مصحوبة بانتقام، وهو أنني ينبغي أن أشهد على سبق غيرى علي.» ثم قال له داروين إنه مرفق بالرسالة مخطوطة سألني والاس أن «أرسلها لك». وهي تستحق القراءة تمامًا. ثم أضاف في تجهم إنها أيضًا أقرب شيء لأن «تكون ملخصًا لنظريتي الخاصة» (نتيجة ما أصاب داروين من هلع، فإنه غفل عن أن يلحظ اختلافًا مهمًّا: ركز والاس على المنافسة بين المتغايرات، وليس بين الأفراد؛ بمعنى انتخاب مجموعة إزاء الأخرى، وليس انتخابًا للأفراد داخل إحدى المجموعات). قال داروين متحسرًا: «لم أرَ مثل هذه المصادفة المذهلة قط.» بل إن بعض العبارات التي استخدمها والاس مثل «الصراع من أجل البقاء» كانت تكرارًا لما كتبه داروين فعلًا في مسودة كتابه الكبير. لاحظ داروين أن والاس لم يطلب منه أن يساعده في نشر المخطوطة، وإنما طلب فقط أن يطلع ليل عليها، إلا أن داروين كان سيكتب لوالاس في التو ليعرض عليه أن يرسل المخطوطة لأي مجلة علمية. وقال في أنين: «وهكذا سيتبدد كل ما لدي من أصالة، مهما كان مقداره.»

كان ليل رزين الفكر دومًا، لذا فقد نصح داروين بأن يهدئ من روعه. ربما يكون هناك حل بديل، أقل تطرفًا من فكرة الأسبقية الكاملة أو لا أسبقية على الإطلاق. دخل جوزيف هوكر، الصديق العاقل والمخلص معًا، إلى حلبة النقاش. على أنه بمرور الأيام وتبادل الخطابات أصبح انتباه داروين مشتتًا بين مفاجأة والاس وبعض المشاغل العائلية التي لا تبعث على الهدوء.

ضربت موجة من المرض كلًّا من القرية وبيت الأسرة. عانت إتي، كبرى بناته الأحياء من التهاب في الحلق ثبت في النهاية أنه مرض الدفتريا، وكان في تلك الأيام مرضًا مخيفًا مجهولًا نسبيًّا، وكان ينتشر كالوباء في أرجاء بريطانيا. بحلول الوقت الذي تحسنت فيه إتي، كان هناك مرض آخر يثير الخوف: الحمى القرمزية، التي تفشت في القرية. مات ثلاثة أطفال في القرية، وكان هناك أطفال آخرون معرضون لخطر الوفاة، وفي ٢٣ يونيو أصاب المرض تشارلز الرضيع، أصغر أطفال داروين.

هذا الطفل المسمى باسم أبيه يُعد شخصية غامضة، يندر أن يوجد أي أدلة عليها، ويختلف حولها الباحثون. ولد هذا الطفل وإيما في الثامنة والأربعين من عمرها، وعُمّد باسم تشارلز وارنج داروين، وعندما وصل إلى عمر تسعة عشر شهرًا لم يكن قد خطا مثل غيره من الأطفال. كان صغير الحجم بالمقارنة بسنه، ولا يمشي أو يتكلم. كان له مزاج حلو هادئ، لكنه قلما كان يضحك، وقلما كان يبكي، وكان وجهه يتخذ أشكالًا عجيبة عندما يستثار. من الواضح أنه كان يعاني نوعًا ما من الضعف الجسدي والعقلي، وإن كان يصعب تحديد نوعه. وفقًا لشهادة لاحقة لإتي، فإن أخاها الأصغر ولد «دون أن ينال حظه الكامل من الذكاء». أفضل كتابين وضعا عن سيرة داروين هما السيرة التي كتبتها جانيت بروان، والسيرة التي كتبها ديزموند ومور، يصف الكتاب الثاني تشارلز الرضيع بأنه كان «مصابًا بالتخلف إلى حدٍّ شديد»، بينما يقول الأول إنه «ربما كان متخلفًا إلى حدٍّ بسيط»؛ ربما بسبب تسمم الزئبق نتيجة الأدوية الفيكتورية التي لا يدرك كنهها الكثيرون. أما راندال كينز، حفيد حفيد داروين، فإنه يحاج على نحو مقنع بأن تشارلز وارنج كان يعاني متلازمة «داون»، وهي إعاقة جسدية تنتج عن وجود نسخة زائدة من الكروموسوم الحادي والعشرين. كانت هذه المتلازمة محيرة آنذاك، ولم يتم استيضاحها ولو جزئيًّا حتى توصل د. جون لانجدون داون (الذي لا يرتبط بأي علاقة بقرية داون ولا بدار داون) إلى تحديده بعد ثماني سنوات. أيًّا كانت مشكلة تشارلز الرضيع فإنه كان محبوبًا لداروين وإيما مع إحساس من الشفقة الذي تضمن ربما قدرًا من الإحساس بالعبء والأسف، وهو ما جعل مشاعرهما أكثر تعقيدًا عندما مات من إصابته بالحمى في ٢٨ يونيو.

كانت النهاية بشعة وقاسية، كما كان الأمر مع آني. لكن خلاف ذلك كانت حالة الوفاة هذه تختلف تمامًا عن سابقتها. أخبر داروين هوكر بأنه «شعر بأقصى درجات الراحة المباركة عندما رأى وجهه الصغير البريء المسكين وقد استعاد تعبير السكينة في هجعة الموت». وصفت إتي لاحقًا رد فعل والديها على نحو أوضح حيث تذكر أنهما «بعد حزنهما في بادئ الأمر، لم يكن في استطاعتهما إلا أن يشعرا بأنهما مفعمان بالحمد». كتب داروين سيرة خاصة قصيرة عن تشارلز وارنج، حاول فيها بأقصى جهده أن يؤكد على ما هو إيجابي، متحدثًا عما كان يفعله الطفل أحيانًا من «ضجيج لطيف فيه القليل من البقبقة»، وكيف كان يبدو «رشيقًا» وهو يزحف عاريًا على الأرض، وما له من مزاج «هادئ وبهيج».

في الوقت نفسه كان داروين قد تلقى ردًّا من ليل فيه بعض الأفكار حول الطريقة التي يمكن بها معالجة الورطة مع والاس. تساءل ليل عما يكون لدى داروين من أوراق فيها ما يمكن أن يشهد بأسبقيته في الاكتشاف. حسن، هناك مخطوطة أطروحة كتبها عام ١٨٤٤، وقرأها هوكر، هناك أيضًا ملخص من ٦ فقرات للنظرية، كان قد أرسله في العام الماضي لعالم النبات أسا جراي صديق مراسلته الموثوق به في هارفارد. هذه الكتابات غير منشورة، لكنها كانت أدلة مكتوبة تشهد بأنه قد تصور ذهنيًّا الفكرة كلها منذ زمن طويل، وحده، ولم يسرق شيئًا من والاس. وأخبر ليل قائلًا: «سأكون في «غاية» السعادة «الآن» عندما أنشر مخططًا لآرائي العامة فيما يقرب من اثنتي عشرة صفحة أو ما شابه، لكني لا أستطيع أن أقنع نفسي بأني أستطيع أن أفعل ذلك على نحو مشرف.» كان يحس بالانزعاج من أن تلقيه مخطوطة والاس — التي لم يطلبها — جعله مقيدًا. وقال داروين إنه يفضل أن يحرق كتابه الخاص الذي لا يزال يكتبه بدلًا من أن يُنظر إليه على أنه يسلك سلوكًا دنيئًا. لكن هل فات وقت نشر ملخص لآرائه، وأن يقول إنه يفعل ذلك بناءً على نصيحة ليل (التي تلقاها منذ عامين)؟ كرر قوله: «لو كان يمكنني أن أنشر على نحو مشرف …» لا، إنه لا يستطيع إقناع نفسه بأن هذا الأمر مقبول، لكنه كان يتوسل ضمنًا إلى ليل وهوكر أن يقنعاه بعمل ذلك.

إجمالًا، كان داروين مشوشًا تمامًا بكربه الشديد. كره نفسه لتفكيره في أمور كهذه بينما أطفاله يناضلون من أجل حياتهم. قال في النهاية: «هذا خطاب تافه متأثر بمشاعر تافهة.» لكن هذه المشاعر لم تتركه لحاله.

أدرك ليل وهوكر تلميحه لهما. وفي خلال أيام، خدماه بإخلاص كصديقين، وخدما العلم بأفكارهما، وخدما العدالة على نحو أكثر التباسًا، وذلك بأن لفقا ترتيبًا للأمر فيه إنقاذ للموقف، أو على الأقل فيه إنقاذ لمصالح داروين. بالتأكيد لم يستطيعا تجاهل ورقة والاس بالكامل، ولا أن يتواطآ لينال داروين الفضل وحده؛ إذ إن هذا سيكون سلوكًا غير شريف، وغير مهني، ومخزيًا عندما تظهر الحقيقة. بدلًا من ذلك فإنهما عملا على تدبير ورعاية عرض مشترك لكل من مخطوطة والاس وبحث داروين غير المنشور. من المقرر أن يقدم هذا العرض الثنائي الغريب في اجتماع «الجمعية اللينانية» التالي، وهي إحدى أفضل الجمعيات العلمية في لندن، ويشغل فيها هوكر وليل وداروين جميعًا عضويات مرموقة. وافق داروين على هذا الترتيب وأرسل لهوكر أطروحة عام ١٨٤٤ والملخص ذا الفقرات الست الذي كان قد كتبه لجراي، وأرسل مع ذلك كله استنكارًا آخر يقول فيه: «أجرؤ على القول إن هذا كله قد تأخر تأخرًا بالغًا. لا أكاد أهتم بالأمر.» لا عجب: فالرضيع كان حيًّا في تلك اللحظة، لكنه كان يشرف على الوفاة بسبب الحمى. من الناحية الأخرى، لم يكن والاس قد وافق بعد على التلاوة المشتركة للبحثين (على الأقل لم يوافق مقدمًا)، لم يستطع والاس ذلك؛ لأن أحدًا لم يستشره. كان يجري أبحاثًا ميدانية في الجزر الشرقية، ولا يمكن الوصول إليه في هذا الوقت القصير؛ فهو بعيد تمامًا عن أي حلقة اتصال. يبدو أن أحدًا لم يسأل ليل وهوكر: «أيها السيدان النبيلان، لمَ كل هذا التعجل المتقد حماسًا؟» لم يقترح أحد على داروين، الذي انتظر بالفعل عشرين عامًا قبل النشر، أن ينتظر موافقة والاس بعد ستة شهور أخرى. تمت الصفقة قبل أن يفكر أي شخص في الاعتراض. أعتقد أن سبب هذا التعجل هو أن ليل وهوكر وداروين كلهم شعروا بشيء من الحرج حيال إضفاء الفضل على نحو مشترك بهذه الطريقة المتعالية، وكانوا يعرفون أن التأخير قد يجلب التعقيدات.

هكذا لم يكن هناك أي تأخير. تحرك العالمان ذوا المكانة بسرعة ورشاقة. تم الاتفاق على التفاصيل في سلسلة من الخطابات طوال الليلة السابقة بين لندن وداروين. اختار هوكر مقتطفًا من أطروحة داروين لعام ١٨٤٤ وأدرجها رفقة ملخص جراي ومخطوطة والاس، في جدول الأعمال الممتلئ بالفعل لاجتماع الجمعية اللينانية. رتبت الإفادات الثلاث حسب الترتيب الهجائي لمؤلفيها؛ إفادتي داروين الاثنتين، تبعتهما إفادة والاس. في مساء الأول من يوليو لعام ١٨٥٨ قُرأت مواد داروين-والاس ومعها خمس أوراق بحث أخرى على جمهور يقارب عدده الثلاثين فردًا. حضر الاجتماع هوكر وليل. حضره أيضًا مصادفة صمويل ستيفنز، الذي ربما تساءل متعجبًا عن طريقة وصول ورقة بحث والاس إلى لندن دون أن تمر عن طريقه.

هكذا كان المؤلفان غائبين. بالنظر للأمر من منظور مستقبلي بوسعنا أن ندرك أنهما كانا «غائبين حاضرين»، مع أن غياب والاس لم يكن ملحوظًا وقتها. فهو لا ينتمي للجمعية. وقد قُبل صوته وكأنه صياح ببغاء دخيل، مثير للاهتمام لكنه فظ. قضى والاس يوم الأول من يوليو في مكان يدعى دوري، وهي قرية للتجارة تقع على الساحل الشمالي الغربي لغينيا الجديدة، على بعد خمسمائة ميل شرق تيرنيت. حل موسم المطر مرة أخرى، وأصبحت الطيور التي يمكن جمعها نادرة حول دوري، أما مع الحشرات فكان الصيد ممتازًا. كان الصيد ناجحًا بوجه خاص مع الخنافس. لم يكن والاس يدري بالحدث الذي يجري في لندن.

أما داروين فكان على دراية كاملة بالأمر، لكنه أيضًا تغيب عن اجتماع الجمعية. كان في بيته في داون، مع طفل ميت وحالة سيئة من التردد.

٢٩

أكثر ما يلفت النظر في ليلة داروين-والاس في الجمعية اللينانية هو قلة نتائجها الفورية. لم تعقب قراءة أوراق البحث أي مناقشة عامة. لم يقف أحدهم استجابة لما طرحه داروين ووالاس ليقول: «هذا رائع!» أو «هذا شائن!» من المحتمل أن الشاي قدم للحضور. جرت بعض الأحاديث الخفيفة. ثم ذهب أعضاء الجمعية إلى بيوتهم. لقد اهتزت أسس العلم تحت أقدامهم لكنهم لم يلحظوا ذلك.

لماذا لم يلحظوا ذلك؟ من الصعب معرفة السبب. ربما السبب هو أن المقتطفات من بحث داروين وورقة والاس كانت تركز على ظروف الآلية وتفاصيلها؛ أي الانتخاب الطبيعي، لا على أهميته على النطاق الأكبر. لم يذكر أي من المؤلفين كلمة «التحول»، ناهيك عن كلمة «التطور» (وإن كان داروين قد ألمح بالفعل إلى «أصل الأنواع»). قد يبدو في آذان جمهور غير مبالٍ، في ليلة حارة من ليالي يوليو، أثناء اجتماع مفرط في طوله، أن أوراق داروين ووالاس، بما فيها من منطق ملتف قد بدت وكأنها تتناول المتغايرات والتغير فقط. ومن الأسباب المحتملة الأخرى التي أدت إلى تغافل الجمهور عن النقطة المهمة هي أن زملاء الجمعية اللينانية لم يطرحوا السؤال الذي كان داروين ووالاس يجيبان عنه — كيف تتغير الأنواع، من نوع لآخر؟ — على أنفسهم من قبل.

بعد ذلك بشهرين نشرت «مجلة الوقائع» الخاصة بالجمعية الشذرات المقتطفة من بحث داروين وأيضًا مخطوطة والاس، وضمتهما معًا وكأنهما ورقة بحث واحدة لمؤلفَين مشتركين. حدث أثناء عملية التحرير أن وضع أحدهم عنوانًا مركبًا فيه قدر من التشوش، وهو «عن نزعة الأنواع لتشكيل المتغايرات، وعن استمرار المتغايرات والأنواع بواسطة وسائل طبيعية للانتخاب». مع الطبع، صار للقطع العلمية الثلاث تأثير أكبر مما كان لها عند تقديمها شفهيًّا. أدرك عدد قليل من العلماء أن هذه المادة العلمية لها وزنها، بصرف النظر عن تبعاتها، واستخف بها البعض الآخر. أعلن رئيس «الجمعية الجيولوجية بدبلن» للجمهور في وقت مبكر من السنة التالية أن ورقة بحث داروين ووالاس «لم تكن لتستحق الملاحظة» لو لم يرعها ليل وهوكر. ورأى هذا الرجل أنه «إذا كانت الورقة تعني ما تقوله، فإنها بديهية، وإذا كانت تعني أكثر من ذلك، فهي منافية للحقيقة». سمع داروين بهذا النقد ورأى فيه «لمحة من المستقبل الذي ينتظره». كان داروين مصيبًا في ذلك.

وقع قراء آخرون مصادفة على ورقة داروين-والاس المدمجة وتأثروا بها تأثيرًا عميقًا. كتب لاحقًا أحد علماء التاريخ الطبيعي الذي كان شابًّا آنذاك يقول: «لن أنسى أبدًا الانطباع الذي أحدثتْهُ فيَّ.» أشار هوكر إلى «الاستدلالات المبدعة الأصيلة» لداروين ووالاس في عمله اللاحق عن نباتات تسمانيا، ووصف أسا جراي نظرية داروين-والاس أمام نادٍ علمي للنخبة في هارفارد، وتسبب وصفه في طنين كريه في رأس لويس أجاسيز، أستاذ التاريخ الطبيعي البارز. هكذا انتشرت ردود فعل قوية، لكن لم يحدث أي انفجار من الترحاب أو التحذير للخطر. إما أن الفكرة المحورية المشتركة لداروين ووالاس كانت صادمة للغاية بما يمنع استيعابها في التو، وإما أن بعض الظروف الأخرى أعاقت، بطريقة ما، استيعابها في التو. ربما لم يتم التعبير عن الفكرة بوضوح كافٍ، أو لم تُدعم بما يكفي من الأدلة الواقعية، أو ربما لم يكن الناس منتبهين فحسب. على أي حال، مرت الفكرة مرور الكرام. وحين ألقى توماس بيل رئيس الجمعية اللينانية (الذي تصادف أنه كان يحدد هوية الزواحف من أجل داروين في أيام ما بعد رحلة السفينة «بيجل») خطابه السنوي في مايو التالي، ألقى نظرة على العام السابق. وقال بيل إن ذلك العام لم يشهد «أيًّا من تلك الاكتشافات المذهلة التي تحدث ثورة فورية» في أحد فروع العلم. يشتهر تعليق بيل الآن بما فيه من بلادة. لكنه، بمعنى محدود، كان مصيبًا. فإعلان داروين-والاس المشترك لم يؤدِّ «فورًا» إلى إحداث ثورة في علم البيولوجيا. فقد كان موجزًا وجافًّا أكثر مما ينبغي. كانت هناك حاجة لشيء إضافي.

أما داروين، فسرعان ما نهض من عثرات المأساة واليأس. وفي ثلاثاء ذلك الأسبوع المشئوم، الذي شهد وفاة تشارلز الصغير وتعرض أفراد الأسرة الآخرين للخطر، قال لهوكر: «إنني الآن منهك تمامًا ولا أستطيع فعل أي شيء» فيما عدا إرسال المقتطفات. بحلول يوم الاثنين التالي قام هو وإيما بترحيل أطفالهما الأصحاء ليقيموا مع شقيقتها في ساسكس، ليبعدهم عن المنزل، في حين استأنف داروين مراسلاته العلمية. كان العمل يشد من أزره حين كان (عند الإفراط فيه) لا يمرضه. لم يتغير ذلك.

كان العمل هو دواؤه المخدر، وكان العلم هو عقيدته. كتب إلى أسا جراي ليخبره عن النحل الطنان. كتب أيضًا إلى أحد معارفه المهتمين بتربية الحمام، يطلب منه حمام توربيد صغير السن يستطيع حفظه كيميائيًّا وقياسه. كانت أفكاره تدور غالبًا حول الانتخاب الطبيعي: كيف ينقذ اكتشافه؟ وماذا سيفعل بعد ذلك؟ أدى وصول ورقة والاس إلى وضعه في إطار ذهني جديد. لا يمكن أن يكون هناك مزيد من التسويف. لا مزيد من التثاقل طلبًا للكمال وتجميع الحقائق على نحو موسوعي. لا مزيد من الخوف أو الجبن. وبتشجيع من هوكر، عمل على فكرة كتابة «خلاصة» مصقولة لنظريته، تكون قصيرة بما يكفي لنشرها في مجلة. ليس مجرد قطعة مبتورة من المنطق والبيانات كما اقترح ليل منذ عامين سابقين («عن الحمام من فضلك»)؛ لا، ستكون هذه الخلاصة نسخة صغيرة من الصرح الكامل للفكرة التي تصورها ذهنيًّا. سيكون هو المؤلف الوحيد بالطبع، غير متورط في مشاركة مع والاس. نعم، هكذا يكون الأمر، سوف يكتب الخلاصة. يمكن أن يرسلها لمجلة الجمعية اللينانية، التي يلعب فيها هوكر دورًا إرشاديًّا. هكذا نحى داروين كتابه الكبير جانبًا وبدأ في كتابة الخلاصة من الصفر.

أعطته الخطة الجديدة، وذعره من والاس، طاقة جديدة. أثناء عطلة استجمام ذهب فيها في شهر يوليو إلى جزيرة وايت، زاد من صعوبتها نقل سبعة أطفال إلى جانب الخدم، أقام داروين في فيلا على شاطئ البحر، حيث واصل الكتابة ساعات عديدة يوميًّا. كان أسلوبه في هذه الصفحات سريعًا وشخصيًّا أكثر مما في كتابه الضخم نصف المكتوب. أجبر نفسه على التركيز على الضروريات. كان يختار النقاط الأساسية ويوضحها تمامًا، ثم ينتقل إلى غيرها. كان يتناول فقط أقوى حقائقه التوضيحية وأكثرها حيوية. حاول داروين أن يبني حجة ممتعة تجتذب القراء، بدلًا من تشييد جبل من البيانات يسحق القراء ويدفعهم للاستسلام. كتب داروين بأسلوب يأنس له القارئ، مستخدمًا ضمير المتكلم المفرد وأحيانًا ضمير الجمع: «عندما ننظر إلى الأفراد من التغاير نفسه أو من تغاير فرعي لنباتاتنا وحيواناتنا الأقدم التي ربيناها …» بل إنه حتى وجد نفسه يستمتع بهذا العمل، وهذا أمر غير معتاد لداروين ككاتب. كان يحكي حكاية رائعة، مثلما حكى حكاية رائعة في كتابه عن رحلة السفينة «بيجل»، ولم يكن يحكيها من واقع تفاصيل أبحاثه، بل من قريحة تفكيره.

جعله هذا يشعر بالتحرر، على الأقل في بادئ الأمر. وبمجرد أن قرر داروين أن يصب نظريته في خلاصة، أقسم ألا يفعل أي شيء آخر حتى ينهي تلك الخلاصة. ذكر ذلك في خطاب لصديقه فوكس. وأضاف في مرح إنه سيرسل له نسخة عندما تصدر المجلة.

حاول أن يكون موجزًا بشدة. لم يكن هذا سهلًا. منذ شهر سابق لا غير، حين كان مذعورًا من والاس، كان يتحرق شوقًا إلى فرصة لنشر ملخص آرائه في اثنتي عشرة صفحة. ها هو الآن يجد نفسه عاجزًا عن إعطاء الموضوع حقه في اثنتي عشرة صفحة، أو حتى في ثلاثين أو أربعين صفحة. هناك زوايا كثيرة للموضوع، أكثر مما ينبغي. وهو يعرف أكثر مما ينبغي. إنه يحتاج إلى الكثير من الكلمات ليغطي التغاير في الأنواع الداجنة فحسب، موضوع واحد لا غير من بين مواضيع كثيرة يريد تضمينها في الخلاصة.

حذر داروين هوكر في نهاية الشهر من أن الخلاصة آخذة في التنامي. ستكون أطول من المتوقع. عاد داروين إلى داون في منتصف أغسطس، حيث واصل الكتابة. اعتمد على أرشيف بياناته ودفاتر ملاحظاته ومراجعه من الكتب ومراسلاته وحقائب أوراقه المحشوة بقصاصات من ورق سائب، التي تجمعت لديه على مدار عشرين عامًا، لكنه الآن يعتمد عليها بأسلوب انتقائي، ويوازن بين الأدلة الواقعية والخطاب المقنع. أغفل الهوامش والاستشهادات الكاملة بمصادره. اكتفى بذكر الباحثين الآخرين ومصادر المعلومات ذكرًا عابرًا فقط. تنامت القطعة الصغيرة عن التغاير بين الدجاج، والكلاب والبط والحمام لتغدو فصلًا كاملًا. أنهى فصلًا عن الصراع من أجل البقاء وفصلًا آخر يقدم فكرته المحورية؛ الانتخاب الطبيعي. قضى أسبوعًا للراحة في الخريف في منتجع للعلاج بالمياه، ليس منتجع مالفرن، بما فيه من ذكريات عن آني، وإنما في مكان أقرب اسمه مور بارك في سَرَّي، مع طبيب آخر غريب الأطوار يحاول علاج مرضه المبهم. ثم عاد إلى العمل. كتب فصولًا عن قوانين التغاير (وحاول تمييزها قدر ما يستطيع، وإن لم يسِرْ ذلك على نحو جيد جدًّا)، والتهجين، والغريزة، وكتب عن بعض الاعتراضات التي قد تثار ضد نظريته، وعن موضوعات أخرى. بحلول نهاية العام، وبعد تركيز عنيف وحصاد متواصل للصفحة تلو الأخرى، ومراعاة دقيقة للخط الفاصل بين ما هو أكثر مما ينبغي وما هو أقل مما ينبغي، كان قد انتهى من قرابة نصف الكتاب الذي سيتكون من خمسمائة صفحة. كان حتى وقتها يطلق على ما يكتبه اسم «الخلاصة»، لكنها سريعًا ما عرفت باسم كتاب «أصل الأنواع».

مر بانتكاسة صحية سيئة في فبراير من عام ١٨٥٩؛ إذ عانى «القيء القديم الشديد»، مضافًا إليه إحساس بالدوار في رأسه. وقال مستنتجًا: «سبب ذلك هو خلاصتي.» كان الأمر كذلك على الأرجح. نال بعض الراحة خلال زيارة أخرى لمنتجع مور بارك، حيث يستطيع أن ينسى الأنواع تقريبًا ويسلي نفسه بقراءة الروايات ولعب البلياردو والحديث المرح مع السيدات الشابات على الغداء. كان يفضل الروايات الرومانسية البسيطة بما فيها من بطلات جميلات ونهايات سعيدة، لكنه استمتع أيضًا برواية «آدم بِيد». أحب لعبة البلياردو حبًّا بالغًا حتى إنه اشترى لنفسه في النهاية طاولة لها. عاد إلى مقره الأصلي في منزله بداون وقد تبقى أمامه فصلان ليكتبهما فقط، يليهما المراجعة، ثم يصبح بعدها «رجلًا حرًّا نسبيًّا»، كما أخبر فوكس.

حر من ماذا؟ حر من عبء السرية؟ حر من الخوف على أسبقيته؟ حر من واجب النشر؟ لا بأس، هذا تعليق عارض من رجل متعَب. على أي حال سيكون حرًّا من هذا الكتاب اللعين. لكنه كان من الحكمة بحيث وصف نفسه بأنه سيكون حرًّا «نسبيًّا». فهو لن يهرب أبدًا من المسئوليات والضغوط التي استتبعتها فكرته الكبيرة.

٣٠

وصلت إلى والاس أخبار ما تم ترتيبه، وذلك في خطاب تلقاه عندما عاد إلى قاعدته في تيرنيت. لم يكن خطابًا واحدًا بل خطابين؛ أحدهما من داروين والآخر من هوكر. حوى خطاب داروين خطاب هوكر كمرفق، تاركًا لهوكر مهمة شرح الأمر. كان داروين في حال من الخجل، وهو أمر مفهوم، وحاول أن يصور نفسه كطرف سلبي جرفته الأحداث. (وقد أكد لوالاس لاحقًا أنه «لم يكن لي يد مطلقًا وبأي حال من الأحوال في توجيه ليل وهوكر إلى فعل ما اعتقدا أنه التصرف المنصف»، وهو زعم يعد في أحسن ظن زعمًا مراوغًا، ويمكن الدفع بعدم صحته، مع الوضع في الاعتبار قوة تلميحاته ونحيبه لكلا الرجلين. وقد حرّف في تاريخ مقتطفاته المذكورة في ورقة داروين-والاس؛ إذ أخبر والاس أنها «كتبت في عام ١٨٣٩، أي منذ عشرين سنة بالضبط!» بينما في الحقيقة كتبت في عامي ١٨٤٤ و١٨٥٧.) فُقد كلا الخطابين المرسلين لوالاس، إلا أن داروين ذكر في موضع آخر أنه يعتبر أن هوكر كان «غاية في الكمال، وواضحًا أشد الوضوح، ومجاملًا لأقصى حد» وهو يطرح الأمر الواقع.

كيف كان رد فعل والاس؟ تصور رجلًا وحيدًا عانى الكثير، وعلّم نفسه بنفسه ويعيش في جزيرة استوائية. ثم ها هو يفتح بريده، ليدرك فجأة أن أفكاره التي واتته أثناء نوبة حمى الملاريا منذ شهور أثمرت عن نظرية يرى بعض من أبرز علماء بريطانيا أنها نظرية مهمة، بل إنها بالغة الأهمية لدرجة أنها تستحق الشجار بشأنها. ثم ها هو يجد أن الشجار حُسم بدونه، وأن نصيبه هو النصيب الأقل من الملكية الفكرية والمجد. لقد اشتهر اسمه الآن، على الأقل بين جمهور الجمعية اللينانية، وتم الاعتراف به كشريك (شريك أصغر) للسيد داروين؛ العالم البارز الذي لا يرقى إليه شك. ها قد انطلقت فكرته، ليس فقط بفضل قوة حججه الخاصة، بل بفضل سلطة شريك الاكتشاف غير المتوقع هذا أيضًا. حسن. بحق السماء. لا بد أنه احتاج بضع لحظات ليستوعبه جيدًا.

لعله تحدث بصوت مرتفع إلى خنافسه المجففة. لا يوجد في «دوري» أي شخص يمكنه أن يشركه في هذه الأخبار. لا بد أنه أعاد قراءة الخطابين مرة، ومرتين، وهو يتذوق الكلمات. من المحتمل أنه شعر بوخزة من الامتعاض. هكذا الأمر إذن: فكرتي «أنا» العبقرية صارت الآن فكرتنا «نحن». ثم قرر ألفريد والاس، بقدر من الحكمة والدهاء، أنه مسرور بذلك.

إذا كان قد خسر الاعتبار بأنه صاحب الفضل وحده فإن هناك اعتبارًا آخر فاقه وزنًا؛ التشريف، ناهيك عن المزايا العملية، المتمثلة في الترحيب به كزميل وسط هؤلاء العلماء المطلعين على بواطن الأمور. استجاب والاس لهذا التشريف بامتنان كبير وبتواضع فيه ترفع بالغ، لدرجة أنه يبدو بالنظر للأمر من منظور مستقبلي وكأنه تملق زائف. كتب والاس في ٦ أكتوبر، ربما فور استلامه للخطابين، خطاب شكر لهوكر، يصدق فيه على ترتيبات الجمعية ويعلن فيه أنه كان سيحس بالألم لو أن «الكرم الزائد» للسيد داروين نتج عنه نشر ورقة والاس وحدها. كان مسرورًا بمعرفة أن داروين درس الموضوع نفسه دراسة طويلة وعميقة. وكلما زاد النقاش حول هذه المسائل والحقائق، كان ذلك أفضل. وقال والاس إنه كثيرًا ما ينال أول مكتشف الفضل كله، مع إقصاء مكتشف آخر يكون قد توصل إلى النتائج نفسها على نحو مستقل. (كان والاس محقًّا في ذلك. فالعلماء يتنافسون أكثر من فئات كثيرة من الناس، وعادة ما يسابق بعضهم بعضًا في إنجاز الاكتشافات وإعلانها، وكانت سياسات الأسبقية محتدمة بالفعل في أيام داروين، حتى دون وجود وكالات تهب المنح وجوائز نوبل. وقد سار حكم التعادل الذي أصدره هوكر وليل ضد الممارسات العلمية القياسية.) زعم والاس أنه يعتقد، بصرف النظر عما في تصرفهما من غرابة غير معتادة، أن هذا التصرف «منصف تمامًا لكلا الطرفين»، وأنه في واقع الأمر يرى أن هذا الترتيب ملائم له للغاية. كتب والاس لداروين أيضًا ليخبره بالأمر نفسه تقريبًا.

على أي حال، كان هذا رد فعل والاس العلني. أما رد فعله الخاص فيكشف الأمور أكثر. ففي يوم ٦ أكتوبر الذي كتب فيه خطابه لهوكر، كتب خطابًا لوالدته ماري والاس، التي تقطن أيضًا في بريطانيا. كان يموج بالانفعال. وكان يريد أن تشاركه شعور الحماس الذي ينتابه لتلقيه في التو مراسلات شخصية من اثنين من أكثر علماء التاريخ الطبيعي احترامًا في إنجلترا. أخبرها ببعض الظروف (ليس بالكثير)؛ فأخبرها عن مقال أرسله للسيد داروين، رآه وأعجب به د. هوكر وسير تشارلز ليل، «وقد رأيا أن له أهمية رفيعة حتى إنهما قرآه في التو أمام الجمعية اللينانية.» الواقع «أنهما» لم يقرآه، بل كانا السبب في قراءته وحسب؛ ضاع هذا التفصيل ضمن ما أخبر به السيدة والاس. على أي حال، من ذا الذي يهتم بهذا التفصيل. لقد قُرئ المقال بالفعل. ثم تخيل: هناك داروين وهوكر وليل. وتحسبًا لأن تعجز والدته عن فهم تبعات هذا أضاف ألفريد: «يضمن لي هذا التعرف على هؤلاء الرجال البارزين عند عودتي للوطن والحصول على مساعدتهم.» كان يقول في زهو: انظري يا أمي، لدي الآن معارف لها قدرها. ليس هذا وحسب، بل لدي دور محجوز في اللعبة.

سيروي والاس هذا الجزء من القصة على نحو مختلف قليلًا في سيرته الذاتية التي كتبها بعد ذلك بخمسين سنة تقريبًا، بعد رحيل داروين وليل بزمن طويل. فقد حذف في تعقل ما أبداه في شبابه من انتهازية عنيدة. واستشهد (على نحو غير دقيق) بخطابه لأمه، وسمح لنفسه أن يقول: «هذا يضمن لي التعرف على هؤلاء الرجال البارزين عند عودتي للوطن.» وقتذاك كان قد وجد موضعه ووافق عليه، الموقع الثاني في صرح المنظرين البريطانيين عن التطور. لم تكن حياته سهلة — لا أموال من العائلة ولا أمان ماليًّا ولا مركز مؤسسيًّا — لكنه كان فخورًا باستقلاله التام. ومن الواضح أنه لم يرتَحْ لتذكر أنه ذات مرة تمنى الحصول على «مساعدة» هؤلاء السادة ذوي السلطة العلمية وليس فقط «التعرف» عليهم.

٣١

أنهى داروين مسودة كتابه في أوائل مايو من عام ١٨٥٩، بعد عشرة شهور لا غير من العمل المحموم، تقطعه زيارات قصيرة لمنتجع العلاج بالمياه في مور بارك. كتبه داروين فصلًا بعد فصل، ليذهب إلى ناسخه الخاص ليجعله مقروءًا بوضوح، ثم إلى الطابعين في لندن. وافق جون موراي على طبع الكتاب، وكانت دار نشره قد طبعت كتب ليل والطبعة الثانية الناجحة لكتاب داروين «يوميات الأبحاث». بدأ داروين في تلقي صفحات نسخة الطباعة النهائية بنهاية الشهر حتى يصححها، وهاله سوء نثره الذي كتبه متعجلًا. كان الأسلوب «سيئًا على نحو لا يصدق، ويصعب جدًّا أن يُجعل واضحًا وسلسًا». لم يزعم داروين قط أنه كاتب جيد.

راجع النسخة النهائية مراجعة شاقة، وهي خطوة باهظة الثمن بسبب التكاليف الإضافية لإعداد نص الطباعة، التي عرض أن يدفع تكلفتها من جيبه الخاص. اقترح عنوانًا غاية في الملل: «خلاصة لأطروحة عن أصل الأنواع والتغايرات عن طريق الانتخاب الطبيعي». عكس هذا شعوره بالحرج بسبب غياب استشهادات العلماء الباحثين والاختيار المختصر للأدلة؛ شعر داروين أنه دون التصديق الكامل على مصادره ودون تغطية كاملة من المعطيات الداعمة، فإن عمله ينبغي ألا يعتبر — أو يعنون — بشيء «إلا» بأنه مجرد خلاصة. لحسن الحظ، أقنعه موراي وليل بخلاف ذلك. وعلى أي حال كان موراي يركز على الربح، ولم يكن يؤدي خدمة عامة يخسر فيها نقودًا، وعنوان مثل «خلاصة لأطروحة» عن أي ما يكون، سواء أصل أنواع أو بيوت البغاء الصينية، لم يكن بالعنوان الجذاب من الناحية التجارية. وفي أواخر سبتمبر، بينما كان داروين وفوكس يتبادلان خطابات مليئة بالتشكّي كحال الرجال في أواسط العمر، ذكر داروين أن صحته ساءت مرة أخرى، لكن الكتاب على الأقل قد انتهى تقريبًا. لم يبقَ إلا إضافة الفهرس ثم أداء بعض المراجعات. وكتب يقول: «ها قد انتهى كتابي الكريه الذي كلفني قدرًا بالغًا من الجهد حتى أكاد أكرهه.»

في الأول من أكتوبر لعام ١٨٥٩ أنهى داروين تصحيح نسخ الطباعة النهائية. وفقًا لحساباته فإن الكتاب الكريه استغرق ثلاثة عشر شهرًا وعشرة أيام من جهد الكتابة المنظم، دون حساب لأوقات الراحة والسفر ولعب البلياردو والقيء. وفي منتصف أكتوبر حذر هوكر مما يتوقع حدوثه؛ فقد تمادى في نظريته، مفترضًا حدوث تحول الأنواع عبر جميع الكائنات الحية؛ لأنه لم يستطع أن يرى «أي طريقة ممكنة لرسم حد فاصل والقول إنه يجب التوقف هنا». كان في هذا تلميح لرأيه عن أصل البشر. فعلى الرغم من أن تطور البشر من حيوانات أخرى لم يتم التأكيد عليه بوضوح في الكتاب نفسه، فإنه تم اقتراحه على نحو يثير المشاعر. قرأ ليل النسخ النهائية بالفعل، وبدا مذهولًا من التبعات، كما قال داروين، لكنه كان مفيدًا في توجيه الانتقادات وكان بوجه عام داعمًا لداروين. كان ليل شخصًا موثوقًا به. وكان داروين يأمل أن ينال من هوكر رأيًا صريحًا على النحو نفسه.

وقتذاك أخذ داروين ينال شيئًا من الراحة والعلاج بالمياه في منتجع آخر للعلاج المائي؛ منتجع إيلكلي ويلز، عند طرف أحد المستنقعات في أعالي يوركشاير. يقدم هذا المكان طاولات بلياردو مثل مور بارك، وبه قلة من اللاعبين المهرة إلى حد ملحوظ، بهروا داروين بمهارتهم في اللعبة الأمريكية. قال داروين متحمسًا لابنه ويليام إن بعضهم ينجح في ضرب ثلاثين أو أربعين كرة. اللعبة الأمريكية هي واحدة من التنويعات العديدة للعبة البلياردو التقليدية. عند هذه النقطة أقترح وقفة للتخيل لإدراك ما كان عليه المشهد وقتها: ها هو تشارلز داروين وقد أكمل في التو أهم أعمال حياته، وهو يلتمس فترة راحة في بلدة بالريف الشمالي وفي يده عصا بلياردو. كان يعرف عنه أنه يدخن أحيانًا إحدى السجائر للاسترخاء، بدلًا من النشوق، وربما يكون مسموحًا في إيلكلي ويلز بممارسة هذه العادة المقيتة في غرف البلياردو. يسحب داروين نفسًا بطيئًا ويحتفظ به مستغرقًا في التأمل، ثم ينفثه. يحدق بعينين نصف مغمضتين خلال الدخان. ثم يضع سيجارته المشتعلة في أناقة على منفضة السجائر (بالتأكيد لا يضعها على حرف الطاولة) ثم ينحني. ولا يلبث أن يعقف سبابته، ويثبت دعامة عصا البلياردو ويقول ست كرات يا سادة، في جيب الزاوية، ثم يضرب بعصاته. يقول لهوكر: «ليس في وسعك أن تتخيل كم هو منعش أن أتكاسل طيلة يوم بأكمله، ولا أفكر أقل تفكير في كتابي اللعين، الذي كاد يقتلني.»

هذا الكتاب اللعين أصبح الآن يسمى «عن أصل الأنواع بواسطة الانتخاب الطبيعي، أو بقاء الأعراق المفضلة في الصراع من أجل الحياة». لم يكن عنوانًا أنيقًا، إلا أن جون موراي أقنعه على الأقل بأن يحذف كلمة «خلاصة». أمر موراي بطبع ١٢٥٠ نسخة كطبعة أولى. وصلت فاتورة الطابع عن كل المراجعات النهائية إلى ٧٢ جنيهًا استرلينيًّا، وهو مبلغ له قدره، لكن موراي تخلى عن حقه في خصم هذا المبلغ من مستحقات داروين؛ إذ تنبأ مصيبًا بأن علاقاته الحميمة بمؤلفه ستساوي على المدى الطويل ما يزيد عن ذلك. مع أن عملية الكتابة عذبت داروين — وكانت أشبه بنوبة عمل هستيرية بعد تأخر سنين كثيرة — فسرعان ما حلت بركات النسيان وكأنها البلسم. كان في يوركشاير عندما وصلته أولى نسخ الكتاب.

أمسك داروين بالكتاب في يده، فشعر بدفقة من رضا لا يقاوم؛ إنها مكافأته الخاصة التي ينالها بين عذاب تأليفه والعذاب الذي سيأتيه مع استقبال الكتاب. كتب في التو إلى موراي: «سيدي العزيز، تلقيت خطابك الكريم هو والنسخة. إنني لسعيد وفخور «بلا حدود» بخروج طفلي للنور.» فالكتاب، كريه أم غير كريه، كان فلذة كبده، وفخر الأبوة يغطي الكثير من الهواجس. على أن داروين كان يملك أسبابًا لرضاه؛ فقد ألف، دون أن يعرف يقينًا بعد، ودون أن يزعم هذا أو يستمتع به، كتابًا رائعًا جبارًا من شأنه أن يغير العالم.

في ٢٢ نوفمبر، قبل أيام من النشر الرسمي، قدم موراي الكتاب لباعة الكتب. اختطف هؤلاء الكتاب على أساس القليل مما سمعوه عن محتوياته، وعلى أساس سمعة داروين، وطلبوا ١٥٠٠ نسخة من إجمالي ١١١١ نسخة كانت متاحة (نسخ الطبعة الأولى منقوصًا منها هدايا الترويج). هذا هو الواقع الدقيق وراء الإفادات الفضفاضة التي تُذكر أحيانًا؛ بأن الطبعة الأولى بيعت بالكامل في أول يوم. نعم، لقد بيعت بالكامل ويزيد، لكن على مستوى البيع بالجملة. أما انسيابها إلى أيدي القراء من الأفراد فقد استغرق وقتًا أطول. ومع ذلك فإن البيع التجاري كان بداية قوية جدًّا. أرسلت إيما الأنباء في خطاب قصير إلى ويليام في كامبردج وأضافت: «يقول أبوك إنه لن يقلل مرة أخرى من منزلته، وأنه يعتقد حقًّا أن مؤلَّفه مكتوب على نحو ممتاز جدًّا.» طلب موراي فورًا من داروين أن يبدأ العمل على طبعة أخرى، حتى يمكنهم إعادة الطبع مع إضافة قدر من القيمة. انشغل داروين بالعمل، فأجرى تصحيحات ومراجعات قليلة على النسخة الوحيدة التي كانت بين يديه.

كان يوم ٢٢ نوفمبر ١٨٥٩ يوم ثلاثاء. هذا يوم مثير للاهتمام، ويمثل نقطة ارتباط بين الاضطراب الداخلي العظيم الذي صاحب إنتاج كتاب داروين والاضطراب العظيم العام الذي نتج عنه. فيما يختص بهذا التاريخ، فبناء على ما طُلب من موراي من نسخ، بات كتاب «عن أصل الأنواع» كتابًا ناجحًا من الناحية التجارية، وإن كان قد قرأه فقط عدد قليل من الناس. كانت ردود الفعل مختلطة بين مَن قرءوه. ظهر عرض للكتاب قبل نشره في إحدى المجلات البارزة، «المجمع الأثيني»، وكان العرض سلبيًّا على نحو لاذع بطريقة ربما ساعدت على إزكاء الاهتمام به: «إذا أصبح القرد إنسانًا؛ ما الذي لا يمكن أن يصبح عليه الإنسان؟» هذا بصرف النظر عن أن داروين لم يقل بالفعل في أي مكان من مؤلَّفه أن القرود قد تغيرت إلى بشر. لقد ألمح بالكاد لموضوع أصول البشر. وهكذا بدأ التبسيط المفرط وأحاديث النميمة حتى قبل أن يصل الكتاب إلى متاجر البيع.

٣٢

يمكن أن يقال بثقة إن كتاب «أصل الأنواع» (كما أصبح يُعرف بعد أن حذف داروين نفسه كلمة «عن» من طبعة لاحقة) هو أحد أكثر الكتب تأثيرًا على الإطلاق. أيُّ الكتب المطبوعة تفوقه في الانتشار والتأثير؟ ربما الإنجيل والقرآن والمهابهارتا (كتاب الهندوس المقدس)، والقليل غير ذلك من الكتب المقدسة الأخرى التي ألهمت ملايين الأفراد بالتقوى وسفك الدماء. ماذا يوجد أيضًا في الفئة نفسها؟ ربما كتاب كوبرنيكوس «عن دوران الأجرام السماوية»، وكتاب نيوتن «المبادئ»، وإذا وضعنا في الاعتبار مقالات المجلات العلمية ربما نضم ورقتي البحث المنشورتين في عامي ١٩٠٥ و١٩١٦ اللتين وصف فيهما أينشتاين النسبية الخاصة والعامة. لكن بخلاف هذه الأعمال العلمية العظيمة، فإن كتاب «أصل الأنواع» كُتب بلغة الحياة اليومية البسيطة وقصد به مؤلفه أن يخاطب أي قارئ يقظ. صيغت بعض تراكيبه النحوية بالأسلوب الفيكتوري المعقد قليلًا، لكن الكثير مما كتب فيه كان واضحًا وجازمًا. لم يكن داروين صاحب أسلوب أدبي متسق، فكان يكتب أحيانًا على نحو سيئ، وأحيانًا أخرى على نحو جيد، لكن حتى وهو سيئ لم يكن ممن لا يفهمهم سوى القلة. أحيانًا كان يحاول أن يضع في جملة واحدة ما هو أكثر من اللازم، فيصيغ تركيبة مطولة بها مقدمات منطقية قياسية وأوصاف وحقائق وشروط واستنتاجات كلها مربوطة معًا بفواصل منقوطة وشُرط وفاصلة، وكأن الجملة جزيء بروتين عملاق ينطوي على نفسه. ومن حين لآخر يكتب شيئًا جميلًا بارعًا. إجمالًا، كان شارحًا وساردًا ودودًا يقدم واحدة من أكثر الحكايات إدهاشًا على الإطلاق.

مع أن كتاب «أصل الأنواع» هو النص المؤسس للبيولوجيا التطورية، فإن بإمكانك الحصول على الدكتوراه في هذا المجال في كثير من الجامعات الأمريكية، وربما البريطانية أيضًا، دون قراءته. هذا الإهمال لتلك الوثيقة الجوهرية يتسم بقصر النظر على نحو عجيب، باعتبار أن البيولوجيا التطورية نفسها علم تاريخي، يختص بدراسة الماضي والحاضر وتفهمهما. تنطلق دراسة التطور من الحقائق المرصودة والبيانات التي يُعثر عليها أكثر مما تنطلق من التجارب المحكومة. وهي لا تزال تعتمد على الأفكار الداروينية والمصطلحات الداروينية — وأبرزها فكرة ومصطلح «الانتخاب الطبيعي» — إلا أن مناهج دراستها المهنية لا تتطلب عمومًا أن يقرأ الطلبة داروين. هذا أمر سيئ للغاية؛ لأن قراءة ما كتبه داروين يمكن أن تكون أمرًا ممتعًا، بل مشوقًا، إلى جانب كونها تعليمية.

لم يكن هذا حال داروين دائمًا. ففي سياق حياته العملية كعالم تاريخ طبيعي (عالم تاريخ طبيعي «هاوٍ»؛ بمعنى أنه لم يعمل قط في وظيفة من أي نوع، ناهيك عن تقلد أي منصب علمي) وككاتب حر (يحب جمع المال من كتبه، وإن كان لا يحتاج لهذا)، كتب داروين بعض الأعمال عديمة القيمة التي تبعث على النعاس. ويبدو أنه كلما بذل المزيد من المشقة واستغرق المزيد من الوقت، زاد احتمال إنتاجه لكتاب ضخم مضجر، يمتلئ بحقائق جمعت في حرص وأسئلة صيغت بحصافة واستنتاجات مبهمة، كلها مقدمة دون اقتصاد أو سلاسة. نشر داروين في عام ١٨٦٨ كتاب «تغاير الحيوانات والنباتات بتأثير تدجينها»، وهو كتاب ليس بشائق. كما أنني لا أستطيع أن أوصي كثيرًا بقراءة كتاب «الأشكال المختلفة للزهور على نباتات من النوع نفسه»، الصادر في عام ١٨٧٧. بعض كتبه الأقصر (ليست قصيرة جدًّا) مثل «النباتات آكلة الحشرات» و«الوسائل المختلفة التي تخصب بها الحشرات زهور الأوركيد»، تحوي عينات لطيفة لأحد أساليب داروين الأدبية الأكثر جاذبية؛ دراسته الدقيقة الرقيقة لكائنات عجيبة تجسد موضوعات بيولوجية كبيرة. لكن هل هذه الكتب مهمة وتفرض نفسها؟ هل هي إجمالًا مؤلفات مفعمة بالحيوية وممتعة في قراءتها؟ آخر ما كتبه داروين «تكون عفن النبات بفعل الديدان، مع ملاحظة عاداتها»، كان بمنزلة مفاجأة صغيرة سارة، وهو ما يرجع إلى حدٍّ بعيد إلى أنه غاية في البساطة والغرابة. لا يمكن أن تؤخذ كتبه عن البرنقيلات ضده؛ لأنه كان يُقصد بها دائمًا أن تكون مرجعًا للمتخصصين. أما «يوميات الأبحاث» (أو في عنوانه الحديث «رحلة السفينة بيجل») فهو أكثر كتبه سهولة للفهم على القارئ؛ بما يحمل من تدفق نابض بالحيوية من السرد والوصف بصوت شاب متواضع محب للاستطلاع، لكنه لا يحمل عوامل قوته كعالم ناضج قادر على صياغة مفاهيمه. كتب داروين سيرته الذاتية كمذكرات خاصة، من أجل العائلة، ولم ينشرها في حياته قط. كتاب «انحدار سلالة الإنسان» هو في الحقيقة كتابان دُمجا معًا في كتاب واحد كما يصرح بذلك عنوانه بالكامل: «انحدار سلالة الإنسان والانتخاب بالنسبة للجنس». هذا الدمج القسري تم بطريقة أبعد ما تكون عن السلاسة؛ إذ يشهد الكتاب قفزة مفاجئة بعد أول سبعة فصول، حين ينتهي الجزء الخاص ﺑ «الانحدار» ليبدأ جزء «الجنس». انحدار البشرية من خط سلالة حيواني هو أحد أجرأ أفكار داروين، هذا حقيقي، لكن لم يكن كتابه عن هذا الموضوع بأفضل جهوده. نُشر هذا الكتاب في عام ١٨٧١، وقُصد به أن يكون مكملًا لكتاب «أصل الأنواع»، لكنه افتقد بؤرة التركيز الواضحة والقوة الدافعة العنيدة والسلطة الجازمة، حقق الكتاب رواجًا كبيرًا آنذاك، بفضل شهرة أفكاره، لكنه الآن لا ينال من الانتباه ما يناله كتاب «أصل الأنواع».

يبدو أن التعجل والقلق كانا مفيدين لداروين، على الأقل ككاتب، وعلى الأقل في تلك الحالة الحاسمة الوحيدة. فعندما صدمه ألفريد والاس بتهديده بأن يسبقه في الأولوية، مجبرًا إياه على الكتابة، أسداه بهذا معروفًا كبيرًا عن غير قصد. ثبت أن «الخلاصة» السريعة المختصرة صالحة للقراءة، وأنها محبوبة ومقنعة وفعالة بطريقة لم يكن ذلك الكتاب الكبير عن الانتخاب الطبيعي ليحققها. لم يكمل داروين ذلك الكتاب الكبير، ولم ينشره في حياته، وسبب ذلك في جزء منه أنه فقد الاهتمام بفكرة طريقة العرض الموسوعية، وفي جزء آخر جعله كتاب «أصل الأنواع» غير ضروري. أنقذ داروين بالفعل أول فصلين، فحولهما إلى كتابه عن التغاير الداجن. أما باقي المخطوطة الطويلة، التي تشمل ثمانية فصول ونصف الفصل، فلم يرَ النور حتى عام ١٩٧٣، عندما حرره باحث يدعى آر سي ستاوفر لينشره تحت عنوان «الانتخاب الطبيعي عند تشارلز داروين». ومع أن طبعة ستاوفر أفادت كخلفية تحليلية، فإن قيمتها الرئيسية تكمن في أنها جعلت كتاب «أصل الأنواع» يبدو جيدًا بالمقارنة. وهذا يؤكد كيف كان داروين محظوظًا — هو والقراء أيضًا — عندما أقحم ألفريد والاس نفسه كما فعل.

ذلك الكتاب الصغير، أو كتاب داروين الكريه، له تاريخ أكثر تعقيدًا في التحرير. لنفترض أنك قررت أن تقرأ أو تعيد قراءة كتاب «أصل الأنواع»، ستواجه في التو بقرار آخر: أي كتاب تحديدًا ستقرأ؟ ظهرت ست طبعات مختلفة للكتاب في إنجلترا أثناء حياة داروين، وكل واحدة من الطبعات الخمس الأخيرة تحوي مراجعات للمؤلف. الكثير من هذا المراجعات كانت جوهرية. أضيفت جمل وحذفت أخرى، وأعيدت كتابة فقرات بغرض التوضيح، وحلت أفكار ثانية محل الأولى، ثم حلت أفكار ثالثة مكان سابقتها، وأدرجت توصيفات، وأضيفت عوامل ضابطة، وأضيفت حجج جديدة عديدة للرد على اعتراضات النقاد البارعين. جمع باحث آخر في الأدبيات، يدعى مورس بيكام، كل التغييرات التي أضيفت إلى كل الطبعات المتتالية في كتاب سماه «النص المحقق» لكتاب «أصل الأنواع»، نُشر في عام ١٩٥٩ بمناسبة العيد المئوي لكتاب «أصل الأنواع». على سبيل المثال، نعرف من بيكام أنه في الطبعة الثانية المتعجلة التي طلبها جون موراي بعد نفاد نسخ الطبعة الأولى كلها، حُذفت تسع جمل، وأضيفت ٣٠ جملة، وعُدلت ٤٨٣ جملة. أرفق داروين بالطبعة الثالثة الصادرة عام ١٨٦١ ما أطلق عليه «مخطط تاريخي للتقدم الحديث في الآراء عن أصل الأنواع» — وهو بمنزلة مسح لآراء سابقيه من المثقفين — وذلك استجابة لاتهامه بأنه ينسب لنفسه الفضل في أفكار نشرها آخرون قبله. أقر هذا المخطط، الذي وضع كتمهيد للكتاب، بالتفكير السابق له لكل من لامارك وجيفري وروبرت جرانت المشرف السابق عليه في إدنبره، ثم مؤلف «الآثار الباقية» الذي لا يزال مجهول الاسم وريتشارد أوين عالم التشريح، وكاتب مغمور عن خشب بناء السفن يدعى باتريك ماثيو (الذي أبدى استياءه في غيرة من فكرة الانتخاب الطبيعي لداروين، مؤكدًا أنه ذكر الفكرة نفسها في عام ١٨٣١)، إلى جانب جده إرازموس داروين، وآخرين.

أضاف داروين إلى الطبعة الرابعة عام ١٨٦٦ صفحتين إلى المخطط التاريخي للإقرار بالمزيد من الأفضال، وزاد النص الأساسي بنسبة ١٠ في المائة، بما في ذلك قسم مكبر عن علم الأجنة والنمو. كانت الطبعة الخامسة أولى الطبعات التي تبنى فيها داروين العبارة الشهيرة لهربرت سبنسر «البقاء للأصلح» كمرادف تقريبي للانتخاب الطبيعي. تضمنت كل هذه الطبعات اللاحقة المزيد من الحقائق والأمثلة الداعمة، بعضها أُخذ عن أبحاث حديثة لعلماء ألهمهم كتاب «أصل الأنواع» نفسه عندما أخذت نظرية التطور وأبحاثها في الشيوع. هكذا كان نص داروين يتطور ويتكيف، استجابة لما يجري من مناقشات قدح زنادها هذا النص. بالنسبة للطبعة السادسة، أدرج فيها داروين فصلًا جديدًا كاملًا عنوانه «اعتراضات شتى» يرد فيه على انتقادات أحد أكثر النقاد عدوانية نقطة تلو الأخرى. كانت هذه أيضًا هي الطبعة التي شطب فيها داروين كلمة «عن» من العنوان، بحيث أمكن اختصار العنوان «عن أصل الأنواع بواسطة الانتخاب الطبيعي» من وقتها فصاعدًا ليغدو «أصل الأنواع».

الطبعة السادسة، التي نشرها موراي في عام ١٨٧٢، كانت آخر طبعة عمل عليها داروين نفسه، ولهذا السبب يُنظر إليها دومًا بوصفها النص المرجعي؛ النص الذي ينبغي أن يقرأه الناس ليعرفوا ما كان يعنيه داروين «على نحو فعلي ونهائي». في رأيي غير الخبير هذا أمر مضلل. فالنسخة الأخيرة لم تكن بالضرورة النسخة الأفضل، أو الأكثر إثارة للاهتمام، أو الأهم. بل إنها حتى ليست النسخة الأكثر «داروينية»، إذا استخدمنا تلك الكلمة ذات الإشكالية. فلم تكن كل التغييرات التي أجراها داروين في «أصل الأنواع» بين عامي ١٨٥٩ و١٨٧٢ تحسينات، أيضًا لم تكن كل تحسيناته مترابطة منطقيًّا ومهمة بنفس قدر ما قاله بكل جرأة في الكتاب كما نشر لأول مرة. بعد مرور ثلاث عشرة سنة من صخب عالمي استثنائي أصبحت الأفكار الرئيسية للكتاب معروفة على نطاق واسع، بواسطة الأحاديث غير المباشرة والثرثرة الأدبية، وأيضًا بواسطة النص نفسه. باتت هذه الأفكار محور حديث كل المجتمعات العلمية في بريطانيا، وقارة أوروبا، وأمريكا، وتدور أيضًا (على نحو أكثر إبهامًا) في وعي الجماهير، وذلك على نحو مستقل عن أي مراجعات حاذقة أضافها السيد داروين لآخر طبعة للكتاب. بحلول عام ١٨٧٢ أصبح التطور بالانتخاب الطبيعي ظاهرة فكرية أكبر من «أصل الأنواع»، بينما في نوفمبر من عام ١٨٥٩ كان الكتاب (مع كل الاحترام المستحق لوالاس) هو التجسيد الحاسم للنظرية. وبصرف النظر عن أي تنقيحات ودفوع وتعديلات وضعها داروين بغرض التأكيد، فإنه لم يكن ليزيد من كمال صنيعه أو ينقصه؛ ذلك الصنيع الذي أذهل العالم بطريقة جديدة لرؤية الحياة على الأرض.

نصيحتي إذن هي أن تتجاهل الأفكار اللاحقة. تجاهل نسخ الطبعة السادسة ذات الغلاف الورقي. لا تثق بأحد قبل أن تشتري نسختك، وقبل أن تقرأها، وتفحص ما كتب بحروف صغيرة في الأمام تحت عنوان «ملاحظة عن النص»، أو ذلك السطر الظاهر بالكاد الذي يذكر التاريخ إزاء صفحة العنوان. وسواء رجعت إلى «أصل الأنواع» كمؤلَّف علمي أو كوثيقة تاريخية وأدبية، فلتسدِ لنفسك ولتشارلز داروين معروفًا: واعثر على طبعة معادة من الطبعة الأولى (من الأفضل أن تكون طبعة طبق الأصل لها حجم الحروف الأصلية نفسه وترتيب الصفحات الأصلي). هذا هو الكتاب، بكل ما فيه من أصالة شجاعة، وكل ما فيه من أخطاء، هذا هو الكتاب الذي أثار أكثر التغييرات جموحًا في تفكير الإنسان خلال الأربعمائة سنة الأخيرة.

٣٣

يُفتتح الكتاب بلمحة متواضعة هادئة من ذكريات الماضي:

عندما كنتُ على ظهر سفينة صاحبة الجلالة؛ السفينة «بيجل»، كمتخصص في التاريخ الطبيعي، أدهشتني كثيرًا حقائق معينة في توزيع الكائنات التي تقطن أمريكا الجنوبية، وفي العلاقات الجيولوجية بين الكائنات القاطنة لهذه القارة في الحاضر وفي الماضي. بدا لي أن هذه الحقائق تلقي بعض الضوء على أصل الأنواع؛ لغز الألغاز هذا، كما سماه أحد أعظم فلاسفتنا.

يسهل قراءة الفقرة، لكنها تلمّح لأشياء كثيرة: الجغرافيا البيولوجية وعلم الحفريات وأنواع وثيقة الارتباط وجدت على فترات زمنية متتالية. أما عن تعبير «لغز الألغاز» المأخوذ عن جون هيرشل، فقد أخذه داروين من دفتر ملاحظاته «ﻫ» عن التحول، حيث دوَّن هذا التعبير كشاب صغير متحمس في ديسمبر من عام ١٨٣٨. الجزء الخاص بإلقاء «بعض الضوء» تصريح مقتضب للغاية، وسيكرره عند نهاية الكتاب لزيادة التأثير، وإن كان على نحو مقتضب أكثر. إضافة إلى هذه النقاط كان داروين ذكيًّا حين اختار البدء بصورة الإبحار — في أول انطباع لنا عنه — على متن السفينة «بيجل». يجعله هذا يبدو جذابًا وراسخًا في خبرته، وكان في هذا تذكرة للقراء أيضًا، في عام ١٨٥٩، بأن هذا المنظِّر الكهل هو الرجل نفسه الذي أخرج منذ عشرين سنة كتاب سرد الرحلات الرائج «يوميات الأبحاث».

بدأت مقدمة داروين بصفحاتها الست بهذه العبارة، وهي افتتاحية يعرض فيها موضوعاته الرئيسية، وهي أن هناك «أنواعًا لا حصر لها تقطن هذا العالم جرى تعديلها» الأمر الذي أعطاها «كمالًا أمثل في البنية والتكيف المشترك»، وأن الآلية التي يسميها «الانتخاب الطبيعي» يمكن أن تفسر هذه التعديلات. لم يستخدم داروين كلمة «التطور» (لا يظهر هذا المصطلح في الطبعة الأولى، وإن كان داروين يختم بالفعل آخر جملة في الكتاب بقوله إن الكثير من الأنواع الرائعة «جرى ويجري تطورها»). حذفت هنا أيضًا الكلمة القديمة المألوفة والمستفزة؛ كلمة «التحول». بدلًا من ذلك يتحدث داروين في هذه الصفحات الافتتاحية عن «التعديل والتكيف المشترك» (ثم يتحدث في جزء لاحق من الكتاب عن «انحدار السلالة مع التعديل» أو عن «نظريته في انحدار السلالة»). الموضوع المهم الآخر الذي أعلنه في مقدمته هو «الصراع من أجل البقاء»، وهي العبارة نفسها المعبرة عن الفكرة نفسها التي خطرت لألفريد والاس على نحو مستقل. وبالطبع يذكر داروين مالتوس.

ثم كتب:

نتيجة مولد أفراد من كل نوع أكثر مما يمكن أن يبقى حيًّا، ونتيجة تكرار الصراع من أجل البقاء، يستتبع ذلك أن أي كائن حي إذا تغاير ولو لأقل درجة في أي جانب مفيد له، في ظل ظروف الحياة المعقدة المتغايرة أحيانًا، سيكون لديه فرصة أفضل للبقاء حيًّا، ومن ثم أن يتم «انتخابه طبيعيًّا». وبفضل المبدأ الوراثي القوي، فإن أي متغاير منتخَب سينحو إلى التكاثر في شكله الجديد المعدل.

أضف إلى ذلك فكرتين أخريين لا غير: أن الانتخاب المتواصل يؤدي إلى درجات هائلة من التكيف، ويؤدي في النهاية أيضًا إلى تباعد خطوط السلالة. وسيكون بين يديك خلاصة وافية للخلاصة.

ينقسم النص الرئيسي إلى أربعة عشر فصلًا. يعكس الترتيب الغريب لهذه الفصول قرارًا يبدو غير منطقي اتخذه داروين: أن يناقش الآلية المسببة للتطور قبل أن يجذب الانتباه إلى الظواهر التي تترتب عليه. أي أن يعمل أولًا على إقناع القراء بشأن الانتخاب الطبيعي، وأنه «يمكن» أن يحدث، بل «لا بد» أن يحدث، في ظل وجود التغاير والصراع من أجل البقاء. وبعد ذلك فقط يطرح الأدلة التي توضح أن التطور نفسه حدث «فعلًا»، بصرف النظر عن آليته. قد يبدو هذا الترتيب معكوسًا في نظرنا، لكنه في عام ١٨٥٩ كان علامة على الفطنة الشديدة، خاصة وأن تحول الأنواع كان فكرة مألوفة سبق أن طُرحت ورُفضت، في حين أن الانتخاب الطبيعي كان المفهوم الثوري الجديد الذي يمكن أن يجعل التحول مقبولًا، بل حتى لا يقاوم، في نظر المتشككين.

يكرس داروين أول فصل بالكتاب للتغاير في الحيوانات والنباتات الداجنة، وذكر أن الكثير منه يحدث روتينيًّا، وكيف أن المربين يستخدمون الاختلافات الصغيرة ليحولوا خطوط سلالة الماشية والحيوانات الأليفة المدللة والمحاصيل الزراعية. فالكلاب والبقر والخنازير والماعز والفراولة والبطاطس والأضاليا والزنبق والأرانب والغنم والخيل والبط؛ كل نوع مدجن يمر بالتغاير. إذا كنت تعرف طيورك فستجد أن كل دجاجة واحدة مختلفة عن سواها. الخنزير الجيد يختلف عن الخنزير متواضع الجودة. الأمر كذلك بالطبع مع الحمام؛ خاصة حمام الغيّة الممتاز، النوع الأثير لديه. بناء على الخبرة التي تجمعت لديه من تربيته للحمام الخاص به، ومن قراءاته التخصصية، ونوادي لندن لهواة الحمام التي كان يرتادها من آن لآخر، حاجّ داروين بأن كل سلالات الحمام — البهلوان ومروحي الذيل والنفاخ، والكثير غيرها — تنحدر من نوع واحد من الحمام البري اسمه كولومبا ليفيا. ما الذي يفسر التمايز المتطرف لأشكالها؟ الإجابة هي الانتخاب الذي يمارسه البشر. ما الذي يفسر وجود خيل السباق في مقابل خيل جر العربات، وكلب السباق في مقابل كلب الصيد الدمّوم؟ إنه الانتخاب بواسطة المربين مجددًا. توفر الطبيعة بطريقة ما التغايرات الصغيرة. ينتخب البشر التغايرات المفضلة بالمزاوجة بين حيواناتهم أو تلقيح نباتاتهم. تتواصل هذه التغايرات — وتكبر حجمًا عن طريق التراكم — عبر أجيال من الاستيلاد الداجن. ينتج عن ذلك أشكال متخصصة تختلف عن أسلافها بطرق يجدها الناس مفيدة أو مسلية. هذا هو الانتخاب «الاصطناعي»: أول أسس القياس التمثيلي عند داروين.

ثم يتحول داروين إلى التغاير في البرية، فيقول: «لا يفترض أحد أن كل الأفراد في النوع نفسه تصب تمامًا في القالب نفسه.» فأي شخص يدقق النظر سيقر بأن الحيوانات البرية داخل أي نوع، مثل الحيوانات الداجنة، تختلف اختلافًا هينًا بعضها عن بعض. رأى والاس هذا في صناديق الخنافس والطيور والفراشات التي جمعها للبيع. رأى داروين ذلك في برنقيلاته الجهنمية. التغاير تحديدًا هو ما جعل التوصيف صعبًا صعوبة بالغة. إلا أن معظم الناس في عام ١٨٥٩ كانوا يفترضون أن هذه الاختلافات بين الكائنات البرية محدودة وسريعة الزوال. لاحظ علماء تاريخ طبيعي آخرون غير داروين ووالاس هذه الاختلافات، لكنهم اعتبروها غير مهمة. فما دامت الأنواع ثابتة لا تتغير، حسب هذا الرأي، فإن المتغايرات ما هي إلا تنويعات ثانوية على جوهر النموذج الأوَّلي لكل نوع، الذي يعود إليه في النهاية كل تفاوت. والمتغايرات داخل أحد الأنواع هي تجمعات لهذه التفاوتات؛ مجرد أوجه شذوذ عديمة الأهمية وغير دائمة ومقيدة بحدود هوية النوع على نحو يستحيل تجاوزه.

أما داروين فيقول لا، الأمر ليس كذلك. لا يمكن غض الطرف عن المتغايرات بهذه السهولة. وفي الحقيقة حتى تعريف الكلمتين؛ «النوع» و«المتغاير»، مهمة صعبة. ومكمن الصعوبة هو تمييز أحد هذه الصنوف من الآخر، وأصعب شيء في تصنيف العينات داخل أحد الصنوف هو أنه أحيانًا يستحيل حل الالتباس. فالخطوط الفاصلة تصبح ضبابية. ويختلف علماء التوصيف. ينظر أحد علماء النبات إلى مجموعة كبيرة من النباتات ويرى فيها ٢٥١ نوعًا، وينظر خبير آخر إلى المجموعة نفسها ويرى ١١٢ نوعًا فقط، مضافًا إليها ١٣٩ من التمايزات الزائفة أو التافهة. يتذكر داروين من خبرته في جالاباجوس وما عاناه بعدها في تصنيف الطيور أنه «ذهل كثيرًا لمقدار الغموض والعشوائية التي قد يتسم بها التمييز بين الأنواع والمتغايرات». واستنتج أن التمييز الحقيقي هو: اختلاف في الدرجة. فالأنواع داخل الجنس الواحد تختلف بعضها عن بعض أكثر من اختلاف المتغايرات داخل أحد الأنواع، وإن كان الاختلاف على النحو نفسه. والاختلافات الضئيلة بين المتغايرات يمكن أن تتراكم، حتى تصبح اختلافات كبيرة تفصل نوعًا عن آخر. إنها النقطة نفسها التي عنونت ورقة بحث والاس في ١٨٥٨، «عن نزعة المتغايرات للابتعاد إلى ما لا نهاية عن النمط الأصلي». لم يكن داروين في حاجة لأن يرى تلك الورقة (وبالتأكيد لم يكن يريد ذلك) لأنه وصل إلى هذه الفكرة بنفسه.

يمثل هذان الفصلان الافتتاحيان هجوم داروين المباشر على طريقة التفكير القديمة، التي ترى أن الأنواع مخلوقة وثابتة، وكأنها أفكار خزنت في خزينة ملفات سماوية. يضع الفصلان الأساس لمناقشته للانتخاب الطبيعي، لكنهما يفعلان أيضًا ما هو أكثر. إذ إنهما يقدمان أحد أعمق إسهاماته في الفكر العلمي. وكما كتب مؤخرًا عالم الوراثة السكانية ريتشارد ليونتين: «أحدث داروين ثورة في دراستنا للطبيعة بأن اعتبر التغاير الفعلي بين الأشياء الفعلية أساسًا للوجود، وليس مجرد أمر مزعج غير ذي صلة يُرغب في غض الطرف عنه.» لقد أتاح لنا داروين أن نرى العالم الحي كعالم متغاير إلى ما لا نهاية. وساعدنا على أن نفهم الكون المادي كله كعالم من الاحتمالات الملموسة، لا عالم من المثل العليا المجسدة على نحو منقوص.

تناول في الفصل الثالث موضوع الصراع من أجل البقاء؛ إذ استخدم عمليات مالتوس الحسابية وبياناته التجريبية ليبدد فكرة أن الطبيعة في حال من الهدوء الرباني المنظم. فنظام الطبيعة الواقعي «ليس» سلميًّا، بل هو تدافع عنيف، حتى لو كان العنف صامتًا ومبهمًا. يشير داروين إلى عبارة شهيرة لعالم النبات السويسري إيه بي دي كاندول، اقترح فيها أن «الطبيعة كلها في حالة حرب؛ بين كل كائن حي وآخر، أو حرب مع الطبيعة الخارجية». فهناك افتراس ومنافسة وحياة تطفلية وازدحام. تواصل الأنواع تكاثرها، رغم عدم وجود طعام كافٍ أو حيز كافٍ لذريتها. فمعدلات التكاثر تسير بمتوالية هندسية، والمواطن البيئية محدودة. لحسن الحظ توجد أخطار كثيرة تحيق بها. ولو لم يؤدِّ الصراع والموت إلى إفناء أغلب الأفراد في معظم الأنواع، لامتلأت الأرض والبحار والسماوات على نحو مستحيل. البشر بطيئون نسبيًّا في تناسلهم، لكن العملية الحسابية عينها تنطبق عليهم. ولو أننا كلنا تناسلنا وبقينا أحياء، وضاعفنا عدد سكاننا في كل جيل، ففي خلال ألوف قليلة من السنين لن نجد حيزًا لموطئ قدم فوق كوكبنا. وحتى الأفيال تتناسل بمعدل أبطأ، إلا أنها تتكاثر بمتوالية هندسية هي الأخرى. تنجب أنثى الفيل نسلًا من ستة أفراد فقط في حياتها، وإذا تكاثر كل واحد من ذريتها على النحو ذاته، فسنجد بعد خمسة قرون (وفقًا لحسابات داروين التقريبية) أن عدد الفيلة صار ١٥ مليونًا. هذا عدد كثير من الفيلة، أكثر مما ينبغي. لكن هذا لا يحدث. لماذا لا يحدث؟ لأن كل فيل لا بد أن يصارع — من أجل البقاء، ومن أجل التكاثر — والكثير منها يفشل.

وبعد أن أخذ داروين هذه الصورة من أحد دفاتر ملاحظاته القديمة الأخرى كتب: «يمكن مقارنة وجه الطبيعة بسطح طيّع، ينغرس فيه عشرة آلاف وتد حاد عن قرب، وتُدفع الأوتاد للداخل بواسطة ضربات لا تنقطع، ويُضرب أحيانًا أحد الأوتاد، ثم يضرب آخر بقوة أكبر.» هذا هو الصراع من أجل البقاء. لا بد أن ينهار شيء ما. وكما أنه لا يمكن لكل وتد أن يجد مكانه الملائم، فلا يمكن لكل كائن أن يجد لنفسه مكانًا، وأن يفي باحتياجاته، وينجح في البقاء والتكاثر. ثم يقول داروين في بداية الفصل الرابع في «أصل الأنواع» لننظر الآن كيف يتفاعل هذا الصراع مع حقيقة التغاير.

الفصل الرابع هو لب الكتاب، الذي يوضح فيه داروين قياسه التمثيلي الكبير بين المتغايرات الداجنة والأنواع البرية. إذا كان بمقدور الاستيلاد الانتخابي بواسطة البشر أن يخلّق تعديلات خاصة هكذا فإن داروين يسأل: «ما الذي تعجز الطبيعة عن إنتاجه من خلال الانتخاب الطبيعي؟»

لنتخيل مثلًا جزيرة ممتلئة بكائنات محلية. لنتخيل أن الجزيرة تقاسي من اختلاف في المناخ. يمثل المناخ الجديد مصاعب جديدة للكائنات المحلية. وما يزيد الأمور سوءًا هو غزو كائنات مهاجرة للجزيرة عبر المياه. «في هذه الحالة، فإن كل تعديل ضئيل يصدف أن ينشأ على مر العصور، ويكون بأي حال مواتيًا لأفراد أي نوع من الأنواع؛ بأن يجعلهم يتكيفون على نحو أفضل مع ظروفهم المتغيرة، سيكون هناك ميل للإبقاء عليه، وبهذا سيكون للانتخاب الطبيعي مجال حر للتحسين.» هذا «التحسين» يمكن أن يتخذ أشكالًا غريبة. واعتمادًا على الظروف، قد ينتج عنه سلاحف عملاقة أو أيائل قزمة أو طيور ضخمة لا تطير أو حيوانات كنغر شجرية أو سحالي إجوانا ضخمة تغوص في البحر طلبًا لأعشابه أو صراصير ضخمة أو طيور حسون تكسر البذور بمناقيرها الضخمة.

بالإضافة إلى ذلك، يحاجّ داروين بأن الانتخاب الطبيعي يؤدي إلى ما هو أكثر من مجرد تغيرات صغيرة وتكيفات ممتازة. فهو يؤدي أيضًا إلى توسيع التباعد بين مجموعات الكائنات الحية — بين المتغايرات، وبين الأنواع، وبين الأجناس والصنوف الأعلى — ومن ثم فإنه يؤدي إلى تنوع الحياة الهائل فوق كوكب الأرض. هذا التنوع هو ما يتيح لهذه الوفرة من الكائنات الحية المفردة، و«الصنوف» المختلفة من هذه الكائنات، أن تتعايش معًا داخل رقعة صغيرة من الغابة، أو فوق جزيرة، أو في بركة صغيرة. ذكر داروين كمثال رقعة وحيدة من العشب، مساحتها ثلاثة أقدام مضروبة في أربعة أقدام فقط، فحصها هو بنفسه. ظلت هذه الرقعة مكشوفة وبلا تدخل سنوات كثيرة. عندما أحصى داروين النباتات إحصاءً كاملًا وجد منها عشرين نوعًا، تمثل ثمانية عشر جنسًا مختلفًا تقع داخل ثماني رتب. كيف أمكن لها كلها أن تبقى حية فوق مستطيل صغير هكذا من الأرض؟ لقد بقيت حية لأنها تختلف اختلافًا كافيًا بعضها عن بعض — في طرق بحثها عن الضوء والمياه والمعدنيات المغذية والتكاثر الناجح — وهذه الاختلافات تقلل لأدنى حد من المنافسة. التباعد هو الظاهرة التي تتيح استخلاص قدر أكبر من النجاح البيولوجي من قدر محدود من الموارد الطبيعية.

يقول داروين، واضعًا في اعتباره التزاحم المالتوسي على هذه الموارد:

كلما زاد تنوع السلالات المنحدرة من النوع الواحد في البنية والتكوين والعادات كان لها قدرة أفضل على شغل أماكن كثيرة وأكثر تنوعًا في نظام الطبيعة، وهو ما يمكنها من زيادة أعدادها.

بهذه الجملة، خاصة العبارة التي تتحدث عن «أماكن في نظام الطبيعة» التي كتبها حتى قبل أن تظهر كلمة «علم البيئة» للوجود، يكون داروين قد تصور مسبقًا مفهوم المأوى البيئي.

الفصول الوسطى من الكتاب مخصصة لموضوعات معقدة مثل السلوك الغريزي، وعقم الكائنات الهجينة (الذي يساعد على الحفاظ على الاختلافات بين العشائر بمجرد ظهور هذه الاختلافات)، وحل داروين لمشكلة البنى الانتقالية. آخر هذه الفصول يتناول اعتراضًا غريبًا ضد نظريته، لا يزال يثار إلى الآن أحيانًا من جانب أتباع التكوينية. فما يعنيه داروين بالبنية الانتقالية هو بنية لم تنمُ نموًّا كاملًا لتحقيق وظيفتها؛ كالزائدة التي تشبه الجناح شبهًا طفيفًا وتكون بلا فائدة للطيران، أو العضو الأوَّلي السابق على العين. تكمن المشكلة في فهم الطريقة التي يمكن بها للانتخاب الطبيعي أن ينتج هذه الفطائر نصف المخبوزة. إذا كانت المتغايرات تحدث على صورة تراكمات طفيفة، ويحافظ الانتخاب الطبيعي على المتغايرات المفيدة وحدها، ماذا تكون إذن الفائدة المتصورة لكل تغير تراكمي أثناء الطور الانتقالي، حين كان الجناح البدائي غير فعال من حيث الطيران، وحين كانت العين البدائية عاجزة عن تركيز الصورة؟

يجيب داروين عن ذلك بأمثلة من الأشكال الانتقالية القابلة للتكيف (على سبيل المثال أجنحة السنجاب الطائر أو السمكة الطائرة) ويجيب بمنطق حريص عن قيمة الأعضاء الحساسة للضوء مثل العيينات في بعض اللافقاريات؛ التي ليست بأعين كاملة النمو. ويقترح داروين أيضًا أن «نمط» الفائدة قد يتغير مصادفة، من أحد الاستخدامات الملائمة لآخر، مع تطور البنية. توضيحًا لذلك، يصف داروين زوجًا من البُنى المبهمة يُعرف باسم أوفيجرس فرينا (الطيّات البويضية) والموجودة عند بعض أنواع البرنقيل (السويقي) على صورة ثنيتين ضئيلتين في الجلد. هذه الطيات الجلدية، أو الثنيات، تفرز مادة لزجة لاصقة تساعد في الإبقاء على البويضات الحاملة داخل كيس الجسد. تظهر هذه الأعضاء الأساسية نفسها في شكل متحول عند أنواع البرنقيلات الأخرى (اللاسويقية)، حيث تخدم هدفًا تكيفيًّا مختلفًا، يتعلق بالتنفس. عجبًا، لقد صارت الثنيتان اللزجتان كخياشيم السمك. يقدم داروين هذه الحالة في ثقة ومعرفة موسوعية؛ إذ إنه هو نفسه الذي اكتشف هذه الطيات البويضية وسماها. من «يجرؤ» على القول إن سنوات البرنقيل ضاعت هدرًا؟

٣٤

هنا نكون قد دخلنا في أعماق الكتاب. هنا فحسب؛ ابتداءً من الفصل التاسع، يحول داروين تركيزه من الآلية؛ الانتخاب الطبيعي، إلى الظاهرة نفسها؛ التطور. يتغير أيضًا نهجه في التعامل مع الموضوع. فبدلًا من أن يحاج بأن الانتخاب الطبيعي «لا بد» وأن يحدث، فإنه يقدم الأدلة على أن التطور «حدث فعلًا». تقع أدلته بالأساس في أربعة نطاقات: الجغرافيا البيولوجية، وعلم الحفريات، وعلم الأجنة، والمورفولوجيا.

كانت الجغرافيا البيولوجية، كما سبق أن رأينا، هي نقطة بداية تحوله إلى التفكير التطوري، وهي الإلهام الذي أرشد والاس أيضًا. إنها مجال دراسة مفعم بالحيوية، كبير ومبهرج؛ إذ إنه يتم كله في الخلاء، لكن وسط كل هذه العظمة الخالصة يكمن الكثير من المعاني الدفينة. كتب داروين أن أي شخص ينظر في أمر التوزيع الجغرافي للحيوانات والنباتات لا بد أن يُذهل من أنماط الأشكال المتماثلة التي تحتشد متجمعة. أنواع عديدة من الحمار الوحشي في أفريقيا، وليس في أي مكان آخر. أنواع عديدة من الكنغر في أستراليا وغينيا الجديدة، وليس في أي مكان آخر. قردة العالم القديم (سفلية المنخرين) موجودة فقط شرق المحيط الأطلسي، وقردة العالم الجديد (متباعدة المنخرين) موجودة فقط في غرب الأطلسي. هناك أنواع كثيرة من الليمور في مدغشقر والجزر القريبة منها، ولا يوجد الليمور في أي مكان آخر. هناك أنواع كثيرة من الطوقان في أمريكا الوسطى والجنوبية، ولا يوجد الطوقان في أي مكان آخر. وحيثما يغيب الليمور والطوقان، حتى إن كان الموطن البيئي والمناخ يلائمهما، فإن أدوارهما تملؤها أنواع أخرى؛ القردة بدلًا من الليمور في أفريقيا، وطيور أبو قرن ضخمة المنقار بدلًا من طيور الطوقان. لماذا؟ هل هذه الأنماط عارضة وحسب، أم أنها تخبرنا بشيء ما؟

يستشهد داروين بورقة بحث والاس لعام ١٨٥٥؛ الورقة التي فاته مغزاها عند أول قراءة لها، والتي تقول ضمنًا: «إن كل نوع أتى إلى الوجود متوافقًا في المكان والزمان مع نوع آخر موجود من قبل وثيق الارتباط به.» يقول داروين إنه يتفق مع السيد والاس على أن هذا التوافق يفسره انحدار السلالة مع دخول تعديلات، بحيث يبتعد كل نوع عن الآخر في المكان والزمان. المناطق المتجاورة في أمريكا الجنوبية يقطنها نوعان متماثلان من طيور كبيرة لا تطير (طيور الريّة)، وليس طيور النعام كما في أفريقيا أو طيور الأمو في أستراليا. أمريكا الجنوبية لديها أيضًا الأجوط والفسكاش (وهي قوارض كبيرة نوعًا) وذلك في البيئات الأرضية، يضاف إليها الكيب وخنزير الماء في الأراضي الرطبة المنخفضة، وذلك بدلًا مما يوجد في أمريكا الشمالية من أرانب وأرانب برية مشقوقة الشفة العليا في البيئات الأرضية، يضاف إليها القندس وفأر المسك في الأراضي الرطبة المنخفضة. لماذا لا توجد الكائنات الحية نفسها في كل مكان؟ لماذا تقطن الأنواع المرتبطة ارتباطًا وثيقًا في مناطق متجاورة بكل قارة؟ ولماذا يشغل المواطن البيئية المتماثلة فوق القارات المختلفة أنواع ليس بينها ارتباط وثيق كهذا؟ يقول داروين: «نرى في هذه الحقائق رابطة عضوية عميقة، تسود على امتداد المكان والزمان. هذه الرابطة حسب نظريتي هي ببساطة الوراثة.» الأنواع المتماثلة توجد في أماكن متقاربة لأنها انحدرت من أسلاف مشتركة.

يكشف علم الحفريات عن أنماط أخرى تتجمع محتشدة، بمقياس الزمان. اقترح داروين أن ننظر إلى العظام المتحجرة للثدييات وإلى الثدييات الحية في أستراليا. وأن ننظر في نيوزيلندا إلى الطيور العملاقة القديمة والأحدث منها، وأن ننظر إلى القواقع المتحجرة من ماديرا والأنواع الحية التي تعيش هناك الآن. هل هذه التشابهات بين الأنواع الجديدة والأنواع الأقدم شيء لا يمكن فهمه؟ هل هي صدف عشوائية؟ لا. يقول داروين: «بنظرية انحدار السلالة مع التعديلات يتم تفسير الأمر على الفور.» وهذا التفسير هو وجود أنواع متشابهة، لكن ليست متطابقة، داخل العصور الجيولوجية المختلفة في المناطق نفسها.

يضم علم الأجنة أيضًا أنماطًا تلتمس التفسير. لماذا يحدث لجنين أحد الثدييات وهو يمر خلال أطوار تناميه أن يقضي أحد الأطوار وهو يشبه جنين أحد الزواحف؟ لماذا يحدث له عند نقطة أخرى أن يُظهر شقوق خياشيم مثل جنين سمكة؟ بما أن علم الأجنة بمعناه الواسع ينظر أمر مراحل نمو غير ناضجة، وليس فقط الأشكال التي لم تولد أو لم تفقس، فإن هذه الأسئلة تقودنا إلى أسئلة غيرها. لماذا لدى أشبال الأسد سيقان مقلمة، كسيقان البالغين من أقربائها الأقربين، النمور؟ لماذا يماثل البرنقيل في طور اليرقة، الذي يسبح حرًّا قبل تحوله بالانسلاخ، يرقات الروبيان البحري إلى حدٍّ بالغ؟ لماذا تشبه يرقات العث والذباب والخنافس بعضها بعضًا (كلها دودية) أكثر مما تتشابه وهي في أطوارها البالغة؟ كتب داروين: لأن الجنين هو «الحيوان في أقل حالة معدلة له»، وأن هذه الحالة «تكشف بنية سلفه».

المورفولوجيا؛ أي دراسة الشكل والتصميم التشريحي، هي بكلمات داروين «صميم روح» التاريخ الطبيعي. ما الذي بوسعنا أن نستنتجه حين نرى يد الإنسان (المشكَّلة للقبض على الأشياء)، ومخلب الخلد (المشكَّل للحفر)، وساق الحصان (المشكَّلة للجري)، وزعنفة خنزير البحر (للعوم)، وجناح الخفاش (للطيران)، وهي تعكس جميعًا نمطًا أساسيًّا من خمسة أصابع، مع نسخ معدلة من العظام نفسها في المواقع النسبية نفسها؟ لا يزعم داروين أنه أول عالم تاريخ طبيعي يلاحظ هذا التشاكل (التشابه في الشكل)، ويذكرنا بأن هذا التشابه كان من أسس نظرة جيفري الشكلانية التي ترى «وحدة في التصميم» أسفل تعدد أشكال الحيوانات. هذا «القانون الكبير نفسه» عن الأجزاء المتشاكلة يمكن أيضًا تمييزه في أفواه الحشرات. هناك الخرطوم الطويل اللولبي للعثة، والخطم المطوي للنحلة، والفك المفترس للخنفساء؛ كلها تكونت لأهداف مختلفة، لكنها تتكون من عناصر مشتركة: فك سفلي، وفك علوي، وشفة عليا. الزهرة فيها أجزاء مختلفة، مثل السداة (عضو التذكير)، والمدقة (عضو التأنيث)، والسبلة (ورقة الكأس)، والبتلة، وكلها تتشابه شكلًا أيضًا من نوع للآخر. ما السبب وراء هذا التكرار لتصميمات رئيسية قليلة؟ وفق النظرة القديمة للخلق الخاص لكل مخلوق على حدة، يرى داروين أن الإجابة الوحيدة هي أن «السماء تسعد ببناء كل حيوان ونبات» بأكبر قدر من الاقتصاد. هذه إجابة لا معنى لها. لماذا تقتصد الذات الربانية المفعمة بالقوة؟ إجابة داروين هي انحدار السلالة مع تعديلات. فالتشاكلات تعكس حقيقة أن الانتخاب الطبيعي — الذي هو ليس قوة كلية، لكنه مقتصد ومحدود بالتاريخ والظروف — يعمل على أنماط تنحدر عن أشكال سالفة.

إحدى فوائد المورفولوجيا — الفائدة التي من أجلها وضع جيفري وكوفييه المورفولوجيا من الأساس — هي التصنيف المنهجي؛ مهمة فرز كل الأنواع في مجموعات داخل مجموعات أخرى. يرى داروين، المتخصص السابق في توصيف البرنقيل، أن هذا الموضوع يستحق ثلاثًا وعشرين صفحة. وهو يقول إن تجميع الأنواع في صنوف أكبر ليس بالأمر الاعتباطي، كوضع تجميع النجوم في كوكبات بغرض التسلية أو تسهيلًا للتذكر؛ فالتجميعات البيولوجية يُفترض أن لها أساسًا أعمق. لكن ما هذا الأساس؟ يحاول المصنفون أن ينظموا الأنواع والأجناس والعائلات وغيرها من المجموعات في منظومة لا يسهل فقط الرجوع إليها، وإنما تكون أيضًا بطريقة ما «طبيعية» وموضوعية. تستطيع أن ترى هذه التنظيمات مطبقة في تصميم أي حديقة حيوان. القرود هنا، ثم القطط الكبيرة هناك، أما ذلك المبنى ففيه القاطور والتمساح. الطيور في الأقفاص، والسمك في الحوض المائي. لكن ماذا عن خنزير البحر وخروف البحر؟ من الواضح أنها من الثدييات، وليست بالأسماك، لكنها تشبه السمك في احتياجاتها للموطن البيئي، فهل توضع في الحوض المائي أيضًا؟ قد يغير مصممو حدائق الحيوان الخطوط الفاصلة بغرض الملاءمة، لكن علماء التاكسونوميا، على الجانب الآخر، يبذلون أقصى جهدهم للتعرف على التشابهات الجوهرية بدلًا من التشابهات السطحية. مثلًا، كل الحيوانات الفقارية (حسب تعريف الفئة) لها عمود فقري. داخل الفقاريات تملك الثدييات فراء وغددًا ثديية، وليس ريشًا أو حراشيف. داخل الثدييات تملك الجرابيات جرابًا تحمل فيه صغارها المعتمدين عليها وترضعهم. داخل الجرابيات يملك الكنغر أقدامًا كبيرة وذيلًا قويًّا. ما المصدر النهائي لهذا النظام المرتب؟ يقول داروين إن كثيرين من علماء التاريخ الطبيعي في أيامه يؤمنون بأن نظام التصنيف الجيد «يكشف عن خطة للخالق». لا يُرضي داروين هذا التفسير. قد يكون التفسير حقيقيًّا أو غير حقيقي، لكنه لا يقدم شيئًا للمعرفة العلمية. بديل ذلك عند داروين هو أن «كل تصنيف حقيقي يقوم على علم الأنساب». يقول داروين إن التشارك في السلالة هو «الرابطة الخفية التي طالما التمسها عن غير وعي علماء التاريخ الطبيعي». فالقاطور يشبه التمساح لأنهما انحدرا عن أسلاف مشتركة، وليس لأن السماء اختارت خلق أنواع عديدة من الزواحف المائية الكبيرة ذات الأسنان المخروطية.

الأعضاء ناقصة التطور هي شكل آخر من الأدلة المورفولوجية الداعية للتأمل؛ لأنها تظهر أن العالم الحي مليء بالعيوب الصغيرة: الأعين العمياء لسمكة الكهف، آثار الجناح في الكيوي، الزائدة الدودية في الإنسان. هذه البنى انتقالية بمعنى ما. لكن داروين يتفكر في هذه البنى على نحو مختلف عن أجنحة السمكة الطائرة، وعيينات الحشرة، والطيات البويضية في البرنقيلات؛ لأن الأعضاء ناقصة التطور (التي يسميها أيضًا «ضامرة» أو «موقوفة النمو») هي فيما يبدو علامة على مراحل في مسار التدهور التطوري (تدهور موضعي، بمعنى اختزال العضو لكن دون الإضرار بالكائن عمومًا) بدلًا من كونها علامة على مراحل في مسار التحسن التطوري. إذا لم يكن هذا هو تفسير وجودها، وعدم جدواها الغريبة، فماذا يكون التفسير؟ يثير داروين السؤال نفسه أمام القراء، في آخر كتاب «أصل الأنواع»، وكان هذا السؤال قد حيره هو نفسه في وقت سابق في دفتر الملاحظات «ب»: لماذا يملك الرجال حلمات أثداء (ثندوة)؟ ولماذا تحمل بعض الثعابين آثارًا باقية لعظام الحوض والسيقان الخلفية مدفونة داخل جوانبها الملساء؟ لماذا توجد أجنحة لدى أنواع معينة من الخنافس التي لا تطير، وقد دُفنت داخل أغطية أجنحة لا تفتح أبدًا؟ تبرز هذه الآثار كبقايا لتاريخ خط سلالة.

ما الذي يؤدي تحديدًا إلى ضمور الأعضاء ناقصة التطور؟ هذه قضية معقدة؛ أكثر تعقيدًا حتى مما كان يعرفه داروين. ظن داروين أن «عدم استعمال» هذه الأعضاء فيه سبب كافٍ لذلك، إلا أن النظرية التطورية الحديثة تقول إنه كان مخطئًا في تفسيره هذا (سأعود لهذه النقطة لاحقًا). لا بأس، لا أحد كامل. ومن المؤكد أن تشارلز داروين لم يكن كاملًا. إن لديه زائدة دودية وحلمتي أثداء، ولا يخدم أي من هذا غرضًا مفيدًا، إلى جانب أن داروين يرتكب الأخطاء من آن لآخر، حتى في كتابه «أصل الأنواع». على كلٍّ، أيًّا كان ما يعنيه تدهور الأعضاء المكتملة إلى آثار باقية للأعضاء، فإن النتيجة هي سجل للتغير التطوري.

يعلن داروين في فصله الأخير أن الكتاب كله بالأساس «حجة واحدة طويلة» تربط فكرة انحدار السلالة من أصل مشترك مع فكرة الانتخاب الطبيعي. وبعد أن يعيد داروين باختصار ذكر حقائقه واستنتاجاته الأساسية، يرتفع بخطابه البلاغي ويتنبأ محقًّا بأن نظريته ستشعل «ثورة لها قدرها في التاريخ الطبيعي». ستكون مهمة المصنفين المنهجيين، في ظل هذا المنظور الجديد، أسهل وأقل التباسًا. ستثار تساؤلات جديدة عن أسباب التغاير وقوانينه. سيغدو التاريخ الطبيعي إجمالًا أكثر إثارة للاهتمام. ستكتسب دراسة الأنواع الداجنة قيمة. سيزداد علم الحفريات وضوحًا، وستتقدم الجغرافيا البيولوجية، وسيكشف علم الأجنة والتدقيق في الآثار الباقية للأعضاء عن ارتباطات بين الأنواع الحية والنماذج الأولية القديمة. كتب داروين: «أرى في المستقبل البعيد مجالات مفتوحة لأبحاث أكثر أهمية.» في علم النفس مثلًا سيُفهم أصل القدرات العقلية بطريقة جديدة تمامًا. ثم يطلق أشهر تعليق متحفظ له قائلًا: «سيُلقى الضوء على أصل الإنسان وتاريخه.» لكن حتى في بيانه الثوري هذا ظل داروين حذرًا؛ فلم يقل شيئًا، بعد، عن تطور الإنسان.

بدلًا من ذلك، تحول داروين إلى موضوع آخر شديد الحساسية: طرق الرب. يقر داروين بأن الكثيرين من المؤلفين البارزين راضون بالاعتقاد بأن كل نوع خُلق خلقًا خاصًّا. داروين ليس من هؤلاء. أعلن رأيه قائلًا: «في رأيي الخاص، فإن أفضل ما يتفق مع ما نعرف عن القوانين المطبوعة في المادة بواسطة الخالق، هو أن يكون إنتاج قاطني العالم في الماضي والحاضر وانقراضهم قد حدث بفعل أسباب ثانوية؛ كتلك التي تحدد ميلاد الفرد وموته.» هناك فكرة رئيسية كبيرة، واقتناع عميق مدفونان في تلك العبارة عن «القوانين المطبوعة في المادة»، أكبر وأعمق حتى من موضوع التطور. يؤمن داروين بأن الكون محكوم بقوانين ثابتة، وليس برغبات سماوية. على أنه كان يملك من الإيمان بالرب، على الأقل في ١٨٥٩، ما يكفي لأن يكتب عن «الخالق» كمصدر نهائي لهذه القوانين، إلا أن حياته الفكرية كلها تأسست على الثقة بأن هذه القوانين يمكن الكشف عنها وأنها لا تتغير. وقد ألمح إلى هذا كله في بداية «أصل الأنواع»، باستخدام استشهاد صغير من ويليام هيويل وُضع كحكمة مأثورة في الصفحة المقابلة لصفحة العنوان:

لكن فيما يخص العالم المادي، نستطيع على الأقل أن نذهب إلى المدى الآتي؛ فنحن قادرون على إدراك أن الأحداث لا تقع بواسطة تدخلات منعزلة من القدرة الإلهية، تمارس في كل حالة معينة، بل من خلال إرساء قوانين عامة.

الآن، في الفقرة النهائية من الكتاب، يعود داروين إلى ذلك الموضوع الكبير. يحثنا داروين على التفكير في التطور كنتيجة لقوانين ثابتة: مثله مثل الجاذبية، أو حركة الحرارة. والقوانين التي تتحكم في التطور تشمل النمو البيولوجي، والتكاثر، والوراثة، والتغاير، وضغط السكان، والصراع من أجل البقاء، وكلها تتحد معًا لتنتج الانتخاب الطبيعي، والتباعد، وانقراض الأشكال الأقل تكيفًا. تؤدي حرب الطبيعة إلى تلك النتيجة الجليلة؛ الحيوانات العليا. أليست هذه فكرة أكثر إقناعًا ومهابة من فكرة انخراط الذات الإلهية في تصميم كل قرادة وكل بطلينوس وكل دودة مسطحة؟

هذا هو رأي داروين. وفي النهاية، يقول مكررًا عبارات كتبها أولًا في مسودة أطروحته في عام ١٨٤٤: «هناك عظمة في هذه النظرة للحياة …» الفقرة الختامية الكاملة لكتاب «أصل الأنواع» مشهورة، لكنها تستحق الاستشهاد بها مرة أخرى:

هناك عظمة في هذه النظرة للحياة، وقواها المتعددة، التي نُفثت أصلًا في أشكال محدودة أو في شكل واحد، وأنه بينما كان هذا الكوكب يواصل دورانه حسب قانون الجاذبية الثابت، تطورت، ولا تزال تتطور، من بداية بالغة البساطة، أشكال بلا نهاية غاية في الجمال والروعة.

هناك «بالفعل» عظمة في هذه النظرة. إنه لختام بليغ لكتاب رائع أُلِّف على عجل؛ كتاب يفرض نفسه بقوة، كما يحوي أخطاءً خطيرة.

٣٥

مما يساعد على وضع إنجاز مؤلف كتاب «أصل الأنواع» في منظوره الصحيح إعادة قراءة الكتاب مع اهتمام أقل بجوهر حججه واهتمام أكبر بأسلوب المؤلف، ومنطقه، وما أغفله وما أخطأ فيه، ومجال دعاواه. وسيكشف بعض التدقيق الناقد المعتدل، دون التقليل مما أنجزه داروين، عن أن كتابه العظيم ليس عظيمًا في كل صفحة وبكل طريقة.

أحد عيوب الكتاب هو اعتذار داروين المتواصل عن حقيقة أن كتاب «أصل الأنواع» ليس أطول مما هو عليه بثلاث مرات. كتب داروين في المقدمة: «هذه الخلاصة، التي أنشرها الآن، لا بد بالضرورة أن تكون منقوصة. لا أستطيع هنا أن أغطي كل المراجع والمصادر لإفاداتي العديدة.» سمعنا منه هذا من قبل، في خطاباته القلقة لأصدقائه: وا أسفاه، وا حسرتاه، لكتابي الكريه هذا، إنه مجرد خلاصة بائسة، مضغوط وغير وافٍ. لكنه الآن يقدم اعتذارًا للجماهير، لا يبدي قلقه على نحو خاص وحسب، ويصوغ داروين هذا الاعتذار في إطار ماكر. فيقول في صفحة ٢: «يؤسفني كثيرًا أن هذا «النقص في المساحة» يمنعني من الوفاء بالشكر للمساعدات الكريمة …» إلخ. الأقواس الداخلية من عندي. ثم زعم بعدها أنه «لو كان لدي «مساحة»»، (مرة أخرى الأقواس الداخلية من عندي) «لاستطعت الاستشهاد بمقاطع عديدة في هذا الشأن (بصرف النظر عما هو) من مرجعيات لها كفاءتها العالية». ثم يقول لاحقًا وهو يتناول نقطة مختلفة: «… لكن ليس لدي هنا المساحة الكافية للدخول في هذا الموضوع.» هل المشكلة إذن هي «نقص المساحة»؟

في الواقع، الأمر ليس هكذا. كان لدى داروين حرية شغل المساحة التي يحتاج إليها. لا ريب أن تحديد عدد الصفحات كان شاغلًا حقيقيًّا في أول شهور من تأليف الكتاب، عندما كان داروين يتخيل أن خلاصته قد تُنشر كمقال في مجلة. لكنه بعدها تجاوز هذه الحدود، واتخذ خيارًا تكتيكيًّا، وقرر أن الخلاصة لا بد أن تكون كتابًا. في منتصف الطريق، في أواخر عام ١٨٥٨، توقع أن الكتاب سيشغل ٤٠٠ صفحة، وذلك كتخمين تقريبي راجعه لاحقًا ليصبح ٥٠٠ صفحة. أما جون موراي، ناشره، فلم يضع قط أي قيد محدد. إلا أن داروين في النص المنشور عام ١٨٥٩، لم يتوقف عن الشكوى بشأن القيود التي فرضها هو بنفسه. «أستطيع أن أوضح بواسطة قائمة طويلة من الحقائق …» لكنه لا يفعل. «سأتناول في مؤلَّفي المستقبلي هذه المصاعب …» إلا أن هذا المؤلَّف، الكتاب الكبير، لم يأتِ قط. ويكتب داروين عن سلوك إنشاء أقراص العسل عند نحل العسل فيقول: «لو كان لدي المساحة لأمكنني أن أوضح أن هذه السلوكيات متفقة مع نظريتي.» ويكرر داروين خلال الكتاب كله أسفه على أنه «لا أستطيع ذكر التفاصيل. ربما فيما بعد». وعندما كان يقدم مبرره، كان المبرر هو «نقص المساحة». ما الذي كان داروين يشكو منه حقًّا؟

ليست المشكلة نقص المساحة، وإنما نقص الوقت. لقد أفزعه ألفريد والاس لأقصى حد، وكان داروين يعرف أنه تأخر سنين كثيرة، وشعر وقتها بالحاجة الماسة لطباعة كتابه. لكن كرامته كانت تمنعه من الاعتراف بذلك.

إحدى السمات الغريبة الأخرى لكتاب «أصل الأنواع» هو مقدار اعتماد «حجته الواحدة الطويلة» على الاحتمالات وعلى الدليل الشخصي. إذا أُخذ ذلك على النحو الصحيح داخل سياقه الفلسفي — سياق العلم الاستقرائي، كما وضع خطوطه العامة مؤخرًا هيويل وآخرون — ينبغي أن يُرى هذا كعامل قوة للكتاب، وليس كعامل ضعف. لا يدعي داروين أنه «يبرهن» على حقيقة التطور بالانتخاب الطبيعي. في الحقيقة، قلما استخدم داروين كلمة «برهان»، وحتى عندما يفعل هذا يكون المعنى سلبيًّا على الراجح، للإقرار بوجود غموض يستعصي حله. كتب داروين عن فكرة أن علم الأجنة يعطي لمحات عن انحدار السلالة التطوري قائلًا: «قد يكون هذا الرأي حقيقيًّا، لكن ربما يستحيل البرهنة عليه على نحو كامل.» وكتب عن الفكرة، التي يُؤكَّد عليها أحيانًا، القائلة إن التغاير في البرية له حدود صارمة قائلًا: «هذا التأكيد لا يمكن إثباته تمامًا ببرهان.» الأهم من ذلك أن داروين يفهم أن العلم الاستقرائي الجيد (الذي أصبح المثل الذي يُحتذى وقت تأليف الكتاب) مختلف عن الرياضيات؛ فلا يمكن أبدًا أن يبرهن على نتيجة بما يتجاوز أي إمكانية منطقية للشك. وبدلًا من أن يزعم داروين أنه «يبرهن» على نظريته الكبيرة، فإنه يحرك القارئ تجاهها على نحو مقنع من خلال الأدلة المتراكمة. الهدف هو أن يوضح أن فرضيته تفسر مجموعة بيانات أكبر من أي فرضية بديلة، وبترابط أكبر فيما بينها، وباحتمالية أكبر. يتحدث داروين طيلة الكتاب بعبارات على غرار: «أعتقد أنه من المحتمل إلى حدٍّ بعيد أن» و«إنني مقتنع بأن»، داعمًا الأدلة بما لديه من شخصية محببة كسيد إنجليزي ذي عقل غير متحيز، ليقترح أن هذه الاستنتاجات يمكن على الأغلب أن تعتبر صحيحة.

لهذه النقطة علاقة، في وقتنا الحاضر، بالصراع بين المذهب التطوري والتكوينية. إنها حقيقة جافة، لكنها حقيقة يحسن أن يذكرها جيدًا المدافعون عن نظرية التطور (وتدريسها في المدارس العامة) ضد التحديات السياسية المؤسسة على الدين. فتعقيدات نظرية المعرفة، وتعقيدات البيولوجيا أيضًا، ينبغي ألا تضيع في خضم النقاش. كلا، لا يمكننا أن «نبرهن» على أن كل الأنواع قد تطورت من أسلاف مشتركة، وأن الانتخاب الطبيعي هو الآلية الرئيسية المحركة لذلك، وتشارلز داروين نفسه لم يزعم أننا نستطيع ذلك. كل ما في الأمر أنه من المرجح جدًّا جدًّا أن يكون هذا التفسير للعالم الحي هو التفسير الصحيح، وذلك بناءً على الأدلة التي حشدها داروين، وكل ما أضيف إليها من وقتها. أما التفسيرات البديلة فهي إما أقل ترجيحًا داخل الإطار الطبيعي للسبب والنتيجة، أو أنها تعبيرات عن إيمان عقائدي لا معنى لها من الناحية العلمية (لأنها غير قابلة للاختبار إزاء بيانات سلبية).

إضافة إلى افتقاد كتاب «أصل الأنواع» لأي دعوى باليقين المطلق، فإنه يتميز بإغفالات ملحوظة أخرى. كما سبق أن ذكرت، تنقص الكتاب كلمة «التطور». (كان هذا المصطلح يحمل معاني غير مرغوب فيها في عام ١٨٥٩ تتعلق بالتكشف أو الظهور الغامض للأشكال.) كما يخلو الكتاب من تفسير جيد لمصدر تلك التغايرات الحاسمة التي يعمل عليها الانتخاب. يخلو الكتاب من عبارة واضحة حول ما إذا كانت هذه التغايرات تحدث على نحو اعتباطي أم أنها موجهة على نحو ما. (لا يظهر نعت «عشوائي» في أي مكان بالكتاب، والقول إن التغايرات ناتجة عن «الصدفة» هو أمر مضلل كما يقر داروين. على أن داروين يلمِّح ضمنًا إلى أنها غير موجهة.) على الرغم من اهتمام الكتاب بمبدأ التباعد، فإنه ينقصه الوضوح بشأن موضوع انفصال الأنواع المحوري؛ كشيء متمايز عن التكيف. (حين تتباعد عشيرتان داخل أحد الأنواع إحداهما عن الأخرى، ما العامل الذي يفسر انفصالهما غير القابل للانعكاس عند نقطة معينة؟) كما يفتقد الكتاب للأفكار الخاصة بتقنيات التوارث؛ الموضوع الحيوي المتعلق بكيفية تمرير التغايرات المختارة عبر الأجيال. وأخيرًا، فإن الكتاب ينقصه أي تأكيد واضح على أننا نحن البشر نتشارك مع القردة في أحد الأسلاف.

أحد الأشياء التي لا يفتقدها الكتاب هي فكرة أن الخصائص المكتسبة يمكن توارثها. على الرغم من أن هذه الفكرة تعد أحيانًا مرادفة للاماركية، فإنها في الواقع تسبق في تاريخها أبحاث لامارك، وظلت محتفظة بجاذبيتها أكثر من افتراضات العالم الفرنسي الأخرى. تبدو الفكرة بلغة داروين الواضحة متينة ومعقولة: «تأثيرات الاستخدام وعدم الاستخدام».

كتب داروين في كتاب «أصل الأنواع»: «أعتقد أنه لا يمكن أن يوجد أدنى شك في أن استخدامنا لحيواناتنا الداجنة يقوي ويكبر حجم أعضاء معينة فيها، في حين أن عدم الاستخدام يقللها، وأن هذه التعديلات يتم توارثها.» بالإضافة لذلك، لا تظهر هذه السمة في الحيوانات الداجنة وحدها، كما يقول داروين؛ فهي تظهر في الحيوانات البرية أيضًا: «أعتقد أن حالة الانعدام شبه التام للأجنحة في طيور عديدة، تقطن الآن أو قطنت مؤخرًا العديد من جزر المحيط التي لا يقيم فيها أي مفترس، قد نتجت عن عدم الاستخدام.» هناك الدودو في موريشيوس، والشبنم في غينيا الجديدة، والأمو في أستراليا، والكيوي بالطبع، وكلها خضعت لهذه القاعدة، كما يعتقد داروين. فإما أن تستخدم العضو أو ستفقده. الزرافة في رأيه، على عكس رأي لامارك (كما أوّله داروين)، لا يمكن ببساطة أن تحصل على رقبة أطول من خلال «الرغبة» في ذلك، لكنها بواسطة الاعتياد على مط رقبتها لتنال الطعام الأعلى ارتفاعًا، استطاعت أن تضيف تراكمات من الطول، وهذه التراكمات (وهنا مكمن الخطأ عنده) يمكن توارثها. وبالمثل، يمكن أن تورث عضلات الحداد. تكتسب الكائنات المفردة، بواسطة جهودها وعاداتها، تحسينات جسدية … وتستطيع أن تورث هذه التحسينات إلى ذريتها، كما اعتقد داروين.

تشي مواطن التشوش والإغفالات هذه ببعض الأبحاث العلمية التي كان على داروين ومعاونيه ومن خلفوه أن يتموها بعد أول ظهور لكتاب «أصل الأنواع». داروين نفسه كان يفهم أن هذا الكتاب الذي اندفع في كتابته لم يكن بالكتاب الكامل على أمثل وجه. وعلى الرغم من أنه تنبأ بثورة في التاريخ الطبيعي، فإنه أدرك أن هذه «الخلاصة» كانت مجرد بداية، وليس إعلانًا عن شروط التسوية النهائية. كان يعرف أن عمل ما نسميه الآن بالبيولوجيا التطورية كان في بدايته وحسب، وكان ينوي أن يظل مشاركًا فيه أثناء تقدمه. كان يجد صعوبة في فهم التغاير. كان يريد تفسيرًا للوراثة. وكان ينوي أن يتناول موضوع أصل الإنسان المثير للجدل.

في الوقت نفسه جعل الكتاب داروين مشهورًا — أشهر كثيرًا مما كان كأحد علماء التاريخ الطبيعي والكتّاب التقليديين — وجعله أيضًا مثار جدل عميق. تُرجم الكتاب (كانت الترجمة في بعض الحالات سيئة وغير مسئولة، بواسطة مفكرين أجانب لهم أغراضهم الخاصة)، ونُشر في الخارج، سواء بترخيص أو بغير ترخيص، وعُرض وحاز على الإعجاب وشُجب على نطاق واسع، وأطلقه موراي في طبعة رخيصة لسوق أكبر، وتحدث عنه أفراد أكثر كثيرًا ممن قرءوه بالفعل. بيع من الكتاب ما يقرب من ٢٥٠٠٠ نسخة من الطبعات الإنجليزية وحدها، أثناء حياة داروين. وفقًا لمورس بيكام محرر النص المحقق فإن «النصر الحقيقي لكتاب داروين أتى بعد وفاته. ولا بد أن أرباح قراصنة الكتب الأمريكان كانت هائلة». هذه الأرقام ليست متاحة، وكذلك الأرقام الإجمالية التي تعكس انتشار الكتاب عالميًّا. نُشرت قائمة حصر في عام ١٩٧٧ سجلت وجود ٤٢٥ طبعة مختلفة لكتاب «أصل الأنواع» (دون حساب للطبعات المعادة لكل طبعة) وهذا حتى ذلك الوقت فقط، من بينها أربع طبعات باللغة المجرية، واثنتان بالعبرية، واثنتان بالرومانية، واثنتان باللاتفية، وأربع بالكورية، وواحدة باللغة الهندية، وخمس عشرة باليابانية. خصص داروين نفسه جزءًا له قدره من جهوده، خلال الاثنتي عشرة سنة التي أعقبت نشر الكتاب لمراجعته والترويج له (أرسل بالبريد عددًا من النسخ كمجاملة)، ومتابعًا استقباله (نعم، كان يقرأ ما كتب من مراجعات للكتاب)، وقائمًا بدوره (من خلال الخطابات أساسًا) في المناقشات العلمية التي أثارها. نجح الكتاب نجاحًا هائلًا في بعض النواحي، وفشل في غيرها. جعل الكتاب التطور يبدو أمرًا مقبولًا. لكنه خلّف الكثيرين من زملاء داروين العلميين — ناهيك عن القراء غير المتخصصين والنقاد الدينيين — وهم غير مستعدين للقبول بالانتخاب الطبيعي كآلية للتطور. كانت تلك الفكرة أكبر وأكثر إفزاعًا وقسوة مما يمكن قبوله.

على أي حال، يبرز كتاب «أصل الأنواع»، بما فيه من أخطاء ومواطن عظمة، كبيان داروين النهائي عن نظريته، وتعبر طبعة عام ١٨٥٩ بوضوح عن هذا البيان بكل حيوية وجسارة. لم يحدث قط أن حل مكانها ذلك الصرح الموسوعي عن «الانتخاب الطبيعي» الذي كان داروين يعلن من آن لآخر عن نيته في كتابته. واصل داروين خلال الطبعات الخمس الأخيرة من «أصل الأنواع» العبث بنصه، فكان يحسنه أحيانًا لكنه كثيرًا ما كان يضفي الغموض والحذر والكلمات غير الضرورية لا أكثر. بحلول عام ١٨٦٩ بدا وكأن الإرهاق قد أصابه من ذلك. أسرَّ إلى صديقه القديم العزيز هوكر قائلًا: «لو أني عشت عشرين سنة أخرى وأنا قادر على العمل، كيف ينبغي أن أغير كتاب «أصل الأنواع».» ثم مع تغير مزاجه وصل لقرار حاسم وقال: «كم سأحتاج إلى تعديل الآراء عن كل النقاط!» لكنه لم يعِش عشرين سنة أخرى، ولم يكن يتوقع أن يعيش هذا القدر. لذا أنهى بقوله: «حسن، إنها بداية، وهي بداية لها قدرها …»

كان لها قدرها حقًّا؛ فمع أن الكتاب كان أقل مما كان يأمل أن يكتبه، إلا أنه كان أكثر من كافٍ لكي يسبب حِراكًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤