الشيء المجهول

لم يكدْ «تختخ» يصل إلى منزله حتى خلع ثياب التنكُّر، وأخذ دشًّا باردًا ثم استغرق في النوم بعد تعبِ اليوم المرهق. ولكنه لم يستطع الاستمرار في النوم طويلًا؛ ففي السادسة صباحًا دقَّ جرس التليفون وكان المتحدث هو «محب» يطلب مكالمة «تختخ» لأمرٍ ضروريٍّ. أسرع «تختخ» إلى التليفون، ومن الطرف الآخر سمع صوت «محب» وهو يقول في لهفة: «تختخ» لقد عاد الأستاذ «فاخر» إلى منزله … أخبَرَني «هشام» أنه قرب منتصف الليل كان يستمع إلى الكروان كالعادة، فإذا به يجد منزل الأستاذ «فاخر» مضاءً، والأستاذ «فاخر» يجلس في غرفة مكتبه كالمعتاد.

قال «تختخ»: سأحضر فورًا، وعليك بإبلاغ بقية الأصدقاء أننا سوف نلتقي في منزلك بعد ربع ساعة.

انتهى «تختخ» من إفطاره سريعًا، ثم ركب دراجته، واتجه إلى منزل «محب» حيث وجد الأصدقاء في انتظاره.

قال «تختخ»: إننا مُقبلون على تطورات هامة في حل اللغز، وسوف أقابل الأستاذ «فاخر» الآن، فما هي الأسباب التي أستطيع التعلُّل بها لزيارته؟

أجابت «لوزة» على الفور: القطة … إنها ما زالت عندي، وتستطيع أن تذهب لزيارته بدعوى أنك ستردُّ القطة.

تختخ: حلٌّ ممتاز … هاتي القطة.

وفعلًا، حمل «تختخ» القطة ثم اتجه إلى منزل الأستاذ «فاخر» حيث وقف على بابه وهو يفكر، ثم دقَّ الجرس. مضت مدة طويلة، قبل أن يسمع «تختخ» صوت أقدام الأستاذ «فاخر» مقبلة نحو الباب ثم صوت الترباس، وأطلَّ وجهُ شابٍّ طويل القامة بملابس الخروج وسيم الوجه، له عينان ذكيتان. قال «تختخ»: صباح الخير … أعتقد أن هذه قطتك، وأنك لا بد تبحث عنها. مدَّ «فاخر» يده ليأخذ القطة قائلًا: شكرًا لك … لقد كنتُ قلقًا عليها فعلًا، فعندما عدتُ لم أجدها في البيت.

ولكن «تختخ» لم يناوله القطة، فقد كان يُريد أن يتبادل الحديث معه وهكذا اشتبك معه في الحديث قائلًا: آسفٌ لحادث السرقة الذي حدث … لقد جاء رجال الشرطة وفتَّشوا المنزل!

ظهر الإزعاج على وجه «فاخر» وقال: تفضَّل بالدخول … وأَخبِرني ماذا فعل رجال الشرطة ولماذا دخلوا البيت؟

أسرع «تختخ» بالدخول، وقد أحسَّ أن الحديث مع «فاخر» سيكون شائقًا. عاد «فاخر» إلى الحديث قائلًا: أي سرقة هذه التي تتحدَّث عنها؟ إن منزلي لم يُسرَق منه شيء، وكل ما هناك أنني خرجت أمس لقضاء الليل عند أحد أصدقائي.

تختخ: ولكن يا أستاذ «فاخر»، لقد كان البيت مقلوبًا رأسًا على عقب، والأدراج مفتوحة.

فاخر: هذا لا يَعني أن حادث سرقة قد وقع، إنني رجل غير منظمٍ وأنا حرٌّ في حياتي.

وفي تلك اللحظة دقَّ جرس الباب مرة أخرى، فقال «فاخر»: ماذا حدث في هذه الدنيا، لماذا يصرُّ الناس على إزعاجي بهذا الشكل؟!

وفَتح الباب، فإذا بالشاويش «علي» يقف أمامه.

قال «فاخر»: ماذا تُريد يا حضرة الشاويش؛ هل هناك خدمة أستطيع أن أؤدِّيها لك؟

قال الشاويش بعظَمة: لقد جئتُ للتحقيق في حادث السرقة الذي وقع بمنزلك ليلة أمس الأول، فافتح الباب.

لم يفتح «فاخر» الباب وقال للشاويش بصوتٍ هادئٍ ولكنه قاطعٌ: لم تحدث أيُّ سرقة في منزلي يا سيادة الشاويش.

الشاويش: كيف تقول هذا الكلام؟ لقد دخلتُ البيت ووجدتُه مقلوبًا، وكان من الواضح أن لصًّا قد دخل لسرقة شيء.

فاخر: قلتُ لكَ إنَّ شيئًا لم يُسرَق من منزلي، ولو سُرق شيء لأبلغت الشرطة … أما دخولك منزلي في غيابي فهذا خطأ لم يكن من الواجب عليك كرجل شرطة أن تَرتكبَه.

انتهز «تختخ» فرصة الحوار الدائر بين الشاويش والأستاذ «فاخر» فصعد إلى الدور الثاني، كان يُريد أن يتأكَّد من خروج «فاخر» ليلًا بملابس النوم. وفي غرفة النوم عثر «تختخ» على الشبشب وكان متسخًا بالأوحال … كما عثر على البيجاما وقد تلوَّث طرفا السروال بالطين، فتأكد أن «فاخر» قد خرج ليلًا فعلًا لسببٍ مجهول.

أسرع «تختخ» بالعودة إلى الدور الأرضي، وهو يتظاهر بالبحث عن القطة مناديًا: «… مياو … مياو … مياو.»

وعندما وصل إلى الصالة كان النقاش ما زال حادًّا بين الشاويش و«فاخر»، وكان الشاويش يقول: … إن في منزلك حديقة حيوانات … لقد دخلت هنا وسمعت صوت القطط والكلاب والحمير … و… و…

صاح الأستاذ «فاخر»: إنَّك تُخرِّف يا حضرة الشاويش. فليس في منزلي سوى هذه القطة التي يحملها صديقي.

نظر الشاويش إلى الداخل فشاهد «تختخ» واقفًا وهو يحمل القطة فعاوَد صياحه قائلًا: هذا الولد صديقُك؟!

فاخر بغضب: نعم صديقي … هل عندك اعتراض على ذلك … هل صداقاتي تدخل في اختصاصك …؟

انصرف الشاويش وهو يسبُّ ويَلعن، فأغلق «فاخر» الباب، والتفت إلى «تختخ» … قائلًا: شكرًا لك على إعادة قطتي الصغيرة.

وأحسَّ «تختخ» أنَّ «فاخر» يُريده أن ينصرف، فاعتذر عن البقاء وخرج مسرعًا ولكنه لم يَكد يغادر الباب الخارجي للمنزل حتى وجد الشاويش في انتظاره، وقد احمرَّ وجهُه من الغضب، وحاول أن يبادل «تختخ» الحديث، ولكنه تركه دون كلمة واحدة، وأسرع عائدًا إلى الأصدقاء.

روى «تختخ» للأصدقاء ما حدث في منزل «فاخر» ثم قال: إنني متأكدٌ الآن أن «فاخر» خرج ليلًا من منزله بملابس النوم، وأنه كان يَحمل شيئًا هامًّا لا يريد أن يعثر عليه أحد. وأنه أخفى هذا الشيء المجهول في مكانٍ ما قُرب شاطئ النيل، وعلينا أن نبحث عنه حالًا.

اتجه الأصدقاء إلى الكورنيش، ثم ذهبوا إلى كوخِ عم «مفتاح» الذي يؤجِّر قواربَه للنزهة. وكان «مفتاح» صديقًا لهم، فكثيرًا ما استأجروا أحد قواربه للنزهة.

رحَّب الرجل بهم، فقال له «تختخ»: نُريد قاربًا للنزهة يا عم «مفتاح»!

مفتاح: آسفٌ جدًّا يا أصدقائي، لا أدري ما حدث اليوم، فهناك طلبات كثيرة على القوارب … لقد جاء شخص واستأجر قاربًا وطلب سنَّارةً للصيد، ثم جاء الشاويش وطلب قاربًا هو الآخر وسنَّارة، ولست أدري سر هذا الإقبال على الصيد في هذا اليوم.

فكَّر «تختخ» بسرعة، وتصوَّر أن الأستاذ «فاخر» هو الذي استأجر القارب وأخذ السنارة ليَبحث عن شيء ألقاه في النهر قرب الشاطئ … فسأل «مفتاح»: وما هو شكلُ الشخص الذي استأجَرَ القارب يا عم «مفتاح»؟

مفتاح: إنه رجلٌ قصير القامة، قويُّ الجسم، له عين حولاء، أو لعلَّها عين زجاجية … لستُ أدري!

دار رأس «تختخ» بسرعة هل هذا هو اللص الذي دخل منزل «فاخر» وجعله يُغادِر منزله بملابس النوم؟ هل هذا اللص يظنُّ أيضًا أن «فاخر» أخفى الشيء الثمين المجهول في النهر، فجاء للبحث عنه؟! ولكن عن أي شيء يبحث الشاويش؟ هل يبحث عن الشيء المجهول أيضًا؟ أم يبحث عن الحقيبة التي ألقاها «تختخ» في الماء أمامه ليلة أمس؟

أسئلة كثيرة لا بد من الإجابة عنها حتى يَستطيع المُغامِرون الخمسة حل اللغز العجيب. وعندما وصل تفكير «تختخ» إلى هذا الحد قال للأصدقاء: أرجو أن تتفرَّقوا على طول الشاطئ للبحث عن الشاويش أو الرجل الأحول، فإذا عثَر أحدكم على أحدهما فعليه أن يُراقبَه ليرى ماذا يفعل!

انصرف الأصدقاء مسرعين واتجه كل منهم إلى ناحية من الشاطئ.

سار «تختخ» طويلًا، ثمَّ شاهَدَ الشاويش. كان يَربط القارب بجوار الشاطئ قرب المكان الذي ألقى فيه «تختخ» بالحقيبة أمس، وهو يُلقي بالسنارة في الماء ويُديرُها هنا وهناك، وكأنه يبحث عن شيء في قاع النهر … لقد كان فعلًا يبحث عن الحقيبة التي ألقاها «تختخ».

اختفى «تختخ» وراء سور الكورنيش، وأخذ يَرقُب الشاويش الذي أخرج أولًا فردةَ حذاء قديمة، ألقاها وهو يسبُّ ويَلعن، ثمَّ أخرج صفيحة قديمة فرماها جانبًا أيضًا، ثمَّ في النهاية تعلَّقت السنارة بشيءٍ ثقيلٍ أخذ الشاويش يَجذبه في بطء، فقال «تختخ» في نفسه: لا بدَّ أنها الحقيبة التي ملأتُها بالأحجار. وكاد يَنصرِف لولا أن وجد الشاويش قد أخرج حقيبة أخرى من القماش الأزرق، مُمزَّقة، وأدرك «تختخ» أن هذه ليست الحقيبة التي ألقاها في الماء. فما هي هذه الحقيبة؟ وهل هي التي كان يحملها «فاخر» عندما خرج من البيت ثم ألقاها في النهر لإخفائها! ربما … لننتظر ونرى!

فتح الشاويش الحقيبة، ومدَّ يده وأخرج حجرًا كبيرًا ألقاه بعنف في الماء، ثم مدَّ يده مرةً أخرى وأخرجها … وكان فيها حجر كبير آخر. ألقاه في الماء وهو يُزمجِر … ثمَّ حجر ثالث … فصاح بصوت مُرتفِع: إنه ذلك الولد السمين … لقد ضحكَ عليَّ وسخر منِّي. سوف أضع حدًّا لألاعيبِه … ثم قذف بالحقيبة كلها في الماء … ولحسنِ الحظ لم تكن بعيدة عن الشاطئ. فك الشاويش رباط القارب وأخذ يُجدِّف مبتعدًا، وهو ضيق الصدر بما ضيَّعه من وقت في اصطياد الأحجار.

أمَّا «تختخ» فقد كان مُتشوقًا لمعرفة بقية ما في الحقيبة من أشياء، فانتظر حتى ابتعَدَ الشاويش بالقارب، ثم نزَل بهدوءٍ إلى الشاطئ، وانبطح على الأرض، ومدَّ يده فسحَب الحقيبة، كانت غارقةً بالماء، فأفرغها «تختخ» ثم مدَّ يده فيها فأحسَّ بشيءٍ كالملابس فيها أخرجه، فإذا هو بالطو صغير جدًّا من القماش الأحمر … ثمَّ مدَّ يده مرةً أخرى فخرجت ببنطلون أزرق صغير. ثم زوج من الأحذية الدقيقة الصنع … ثم أخذ يفتش الحقيبة جيدًا … وعثرت أصابعه على قطعة صغيرة جدًّا من القماش أخرجها … كانت مفاجأةً كاملة له … لقد كانت فردةَ قفاز حمراء صغيرة مثل التي عثر عليها في منزل الأستاذ «فاخر» عندما دخل لينقذ القطة ويتجول في المنزل لعلَّه يعثر على أدلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤