شبح في النافذة

طلب المفتِّش من الأصدقاء الخمسة أن يقضوا بقية النهار بعيدين عن منزل «تختخ» لعلَّ اللصَّ يعود مرةً أخرى، ثم وضَع المفتش رقابة على منزل «تختخ» من بعيد.

قضى الأصدقاء بقية اليوم في نزهةٍ على الدراجات، وزاروا بعض أصدقائهم، فلما أقبل المساء، عاد كلٌّ منهم إلى منزله في انتظار ما سيَحدث في الليل.

ومرةً أخرى حضر المُفتِّش و«أدهم» إلى منزل «تختخ»، وقال «أدهم»: إنني أتوقَّع أن يَحضُر اللص هذه الليلة وعليك أن تظلَّ مُستيقظًا حتى يحضر … وسوف نتركه يدخُل المنزل. ثم يدخل غرفتك دون أن نتعرَّض له حتى لا يَتمكَّن من الفرار في الظلام، ولكنَّنا سنكون قريبين منك جدًّا، فلا تَخَف من شيء.

تعشَّى «تختخ» ثم صعد إلى«غرفة العمليات» حيث ينام، فجلس ليقرأ قليلًا وهو يَستمِع إلى بعض الموسيقى … كانت أعصابه مُتوتِّرة، وهو يتصور دخول الجاسوس ليلًا إليه في غرفته. إن الجاسوس أخطر كثيرًا من اللص العادي ولكن في سبيل الوطن يهون كل شيء.

أخيرًا أطفأ «تختخ» النور، واستلقى على فراشه. كانت ليلة لطيفة من ليالي الصيف وكان القمر ما يزال في البداية … رفيعًا … رقيقًا يُرسل خيوط ضوئه الفضِّية من بعيد، فتدخل الغرفة، وتَفرشها بضوءٍ هادئٍ … وقال «تختخ»: إنها ليلةٌ جميلةٌ … تَستحِق السهر، وسماع الموسيقى … ولكن … لنَنتظِر الجاسوس.

مضت ساعة دون أن يحدث شيء … وكان «تختخ» يَتسمَّع إلى كل حركة، وكلَّما داعبت الريح أشجار الحديقة، ظنَّ أن الجاسوس مُقبلٌ، ولكن ساعة أخرى مضت دون أن يحدث شيء.

قال «تختخ» لنفسِه: لعلَّ الجاسوس أجَّل حضوره الليلة فمِن غير المعقول أن يأتيَ للسرقة في مكان واحد وفي يوم واحد مرتَين.

ولم يعرف «تختخ» كم مضى من الوقت، وهو بين النوم واليقظة عندما أحسَّ بأن قلبه يَخفق، والعرق يُغطِّي وجهه … لقد أحسَّ بشيء غامض يحدث قريبًا منه … كانت التعليمات أن يظلَّ مُغلقًا عينَيه مُتظاهِرًا بالنوم، ولكنه لم يَستطع مغالبة نفسه، ففتح عينَيه نصف فتحة، واستطاع أن يرى شبح الجاسوس وهو يملأ فضاء النافذة المفتوحة، ويُغطي على ضوء القمر. أغلق «تختخ» عينَيه بسرعة. وأحسَّ بقدمَي الجاسوس وهما تهبطان على أرض الغرفة. ثم وهما تَسيران بهدوءٍ وحذرٍ شديد بجوار السرير … ثم سمع تكَّة بسيطة فعرف أن الجاسوس قد أضاء بطاريته، وأحسَّ بقدمَيه تتحرَّكان بسرعة داخل الغرفة، وهو يُفتش في كل مكان عن الحذاء والمنديل ولكن الجاسوس لم يَعثُر على شيء فاقترب من فراش «تختخ»، ومدَّ يده وأخذ يهزُّه ليوقظَه، تظاهر «تختخ» بأنه في نومٍ عميق، وتنفَّس بشدة، ولكن الجاسوس مضى يهزُّه، ففتح عينَيه في بطء، فبهرهما الضوء الصادر من المصباح، فجلس في فراشه مُسرعًا وهو يقول: مَن أنت؟ ماذا تُريد؟

قال الجاسوس بلغة عربية تشوبها لكنة أجنبية: لا تتحدَّث إلا عندما أقول لك … أجب عن أسئلتي فقط … أين الحذاء الصغير؟

قال «تختخ»: أي حذاء صغير؟

ردَّ الجاسوس في خشونة: لا تدَّعي العبط … الحذاء الصغير الذي كان مع ملابس العروسة!

قال «تختخ» في براءةٍ: أي عروسة صغيرة، إنَّني لا أعرف عن أي شيء تتحدَّث؟

الجاسوس: اسمع … إنني سأَحصُل على هذا الحذاء بأيِّ ثمن … إما أن أقتلك … وإما أن تُحضرَه لي فورًا، لقد دخلت هذه الغرفة في الصباح، وأخذت كل ما وجدت، ولكنِّي لم أجد الحذاء، فلا بد أنك أخفيتَه في مكانٍ ما.

كانت التعليمات التي تلقَّاها «تختخ» من المفتش أن يستمع أطول فترة ممكنة، فلعلَّ الجاسوس يُدلي بمعلومات في أثناء حديثه فقال «تختخ»: إنني لا أخافك، ومن الأفضل أن تَستعمِل لهجة أخرى.

قال الجاسوس: فهمت، لعلك تُريد بعض المال.

تختخ: كم تدفع؟

الجاسوس: أي مبلغ، فلنَقُل مائة جنيه مثلًا.

تختخ: لعلَّك تظنُّ أنني طفل صغير فتَعرض عليَّ هذا المبلغ التافه، إنني أطلب خمسة آلاف جنيه.

الجاسوس: ماذا تقول؟

تختخ: خمسة آلاف جنيه، لا تنقص مليمًا واحدًا، إنني لستُ طفلًا كما تتصوَّر، وفردة الحذاء في مكانٍ لا يعرفه أحد، وإذا أبلغتُ رجال الشرطة أو المخابَرات فسوف يقبضون عليك.

الجاسوس: لن أترك لك فرصة لإبلاغ أحد، وسأدفع لك مبلغ ألف جنيه لا تزيد.

تختخ: قلت لك خمسة آلاف لا تنقص.

تقدم الجاسوس خطوةً أخرى، ووضع المسدس في رأس «تختخ» قائلًا: اسمع أيها الطفل، ستُحضِر الحذاء الآن.

تظاهر «تختخ» بالخوف وقال: أرجوك، أبعِد هذا المسدس عنِّي، فقد ينطلق دون أن تدري …

ضغط الجاسوس على رأس «تختخ» وقال: لن أرفع هذا المسدَّس حتى تقول لي.

تختخ: إن الحذاء ليس هنا الآن، إنه عند أحد أصدقائي ولا بد من الذهاب إليه لإحضارِه.

الجاسوس: سأذهب أنا إليه، وعليك أن تُعطيَني رسالة له.

تختخ: والنقود.

الجاسوس: لا بأس، سأدفع لك مبلغ الألف جنيه كما قلت، ولكن ليس هناك مليم واحد زيادة.

تختخ: وكيف ستدفعُها؟

الجاسوس: لقد وعدت.

تختخ: آسف جدًّا، فلن ترى الحذاء حتى أرى الألف جنيه.

الجاسوس: سأكتُبُ لك شيكًا بالمبلغ، وتستطيع أن تصرفه من البنك.

كان «تختخ» يعرف أن غرفته محاصَرة تمامًا برجال المخابرات ولكنه كان يخشى أن ينطلق مسدس الجاسوس فجأة عند الهجوم عليه، واستنتج أن رجال المخابرات يَنتظرون إبعاد المسدس حتى يدخلون.

قال «تختخ»: اتفقنا، والآن، أبعِد هذا المسدس عن رأسي وسأتَّصل بصديقي تلفونيًّا.

الجاسوس: أين التليفون؟

تختخ: إنه في الصالة في الدور الأول، وسنَنزل معًا.

الجاسوس: قد يستيقظ أحد من أهل المنزل.

تختخ: لا تخف، فغرفة والدى بعيدة عن هنا، وغرفتي على السلم مباشرةً، ويمكن أن ننزل دون أن يرانا أحد.

تردد الجاسوس لحظات، وأحسَّ «تختخ» بفوَّهة المسدس وهي تضغط على رأسه، ولم يستطع أن يمنع نفسه من الإحساس بالخوف.

بدأت يد الجاسوس تَبتعد تدريجيًّا عن رأس «تختخ»، وهو يقول في لهجةٍ خطيرةٍ: اسمع، إنني لن أسمح لك بأيِّ حركة فإذا فكَّرت في طلب النجدة، أو الهرب، أو أي شيء آخر فلن أتردَّد في إطلاق المسدس فورًا، إنني متمرن وأستطيع أن أصيب ذبابة في الظلام، فكن عاقلًا، وتصرف بهدوء وحكمة حتى أحصل على الحذاء، وتحصل أنت على الألف جنيه.

بدأ «تختخ» يتحرَّك من فراشه، وهو يتوقع تدخل رجال المخابرات في أي لحظة وفجأة قال الجاسوس: لقد فكَّرت في خطة أخرى، فلن أذهب إلى صديقك، لأنك تستطيع بعد خروجي أن تتصل برجال الشرطة فيتمكَّنون من اقتفاء أثري ومنعي من مغادَرة البلاد والقبض عليَّ.

كانت هذه أول معلومات يقولها الجاسوس؛ فهو إذن يستعد للخروج من مصر، وقرَّر «تختخ» أن يناقشه فقد يدلي بمعلومات أخرى، فقال: هل ستخرج بالطائرة.

الجاسوس: لا طبعًا، إن هناك من ينتظرني على الحدود الغربية، وسوف يُسهِّل لي الفرار عن طريق الصحراء.

تختخ: وكيف تَضمن أنني لن أتَّصل برجال المخابرات أو الشرطة بعد أن تغادر هذا المكان؟

الجاسوس: لقد فكَّرتُ في هذا، ومعي حقنة منوِّمة سوف أحقنك بها، فلا تستيقظ إلا بعد يوم أو أكثر، وأكون أنا قد غادرت البلاد.

تختخ: وهل لك رصيد في البنك؟

الجاسوس: نعم لي رصيد باسمٍ مُستعار … ولكن لماذا تسأل هذه الأسئلة؟ قم الآن لتتَّصل بصديقك ولا تُضيِّع الوقت.

لم يكن أمام «تختخ» ما يفعله، فقام من فراشه، واتجه بهدوء إلى الباب، وفتحه. وفي تلك اللحظة قفز رجل من النافذة، ولم يكد الجاسوس يَلتفِت ليرى الداخل، حتى كان المفتش «سامي» و«أدهم» قد دخلا من الباب. وأضيء النور. ولمعت المسدسات في أيدي الرجال دون أن يَستطيع الجاسوس حركة واحدة، وقال «أدهم» في صوتٍ صارمٍ: لا تتحرَّك يا «أروكليس» لقد انتهى كل شيء الآن. لقد وقعت في الوقت المناسب … وجئتَ إلى المصيدة بقدمَيك.

وقف «تختخ» بملابس النوم، وهو يُشاهد عملية القبض على الجاسوس وقد امتلأت نفسه حماسة، وكم كانت دهشتُه عندما وجد بين الرجال الأستاذ «فاخر» الذي حيَّاه قائلًا: ها قد التقينا مرةً أخرى يا أستاذ «تختخ» بأسرع مما توقَّعنا.

قال المفتش «سامي» وهو يُربِّت على كتف «تختخ»: والآن أيها الصديق العزيز … نتركك لتنام نومًا هادئًا، فلن يأتيَ زُوَّار آخرون.

وقال «أدهم»: لقد اتفقت مع والدك على كل شيء، وقد فهم الآن لماذا دخل اللص منزلَكم أول أمس … فنم الآن … وتمنياتي لك بأحلام سعيدة … وأرجو أن تُبلِّغ أصدقاءك وخاصة «زنجر» شُكرَنا، لقد فعلتم الكثير في سبيل أمن الوطن وسلامته.

خرج الجميع، فنزل معهم «تختخ» إلى الصالة، حيث كان والده في انتظارهم، وفجأةً فُتح الباب الخارجي، ودخل الشاويش «فرقع» حيث ضم قدميه في دقة مدوية وقال: يا حضرة المفتش، يَبدُو أن اللص سيقع في أيدينا …

ولكن قبل أن يُكمل حديثه، وقعت عيناه على الجاسوس وقد أمسك به الرجال فتوقف عن الحديث. ونظر حوله في دهشةٍ شديدةٍ … وفجأةً سمع صوت كلب ينبح … ثم حصان … ثم حمار فقال في ذهول: هل تَسمعون … هل تسمعون معي … إنها نفس الأصوات … حمار … حصان … كلب … حمار … حصان …

قال المفتش «سامي»: يا حضرة الشاويش «علي» … أرجوك أن تعود إلى القسم فورًا … وسوف أشرح لك غدًا حكاية الكلب والحصان … والحمار …

نظر الشاويش إلى «تختخ» الذي كان يُصدِر الأصوات من بطنه دون أن يبدو على وجهه أي أثرٍ، فابتسم للشاويش في براءة، وكأن لم يفعل شيئًا على الإطلاق.

خرج الجميع … وعاد «تختخ» إلى غرفته وأخذ يتذكَّر تفاصيل المغامرة المثيرة كلها، ونام وعلى شفتَيه ابتسامة سعيدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤