الجريمة

تلاشى الهدوء في رحاب التاريخ، تغيَّرت أشياء كثيرة، برزت معالم جديدة، ولكن بقي الحي الشرقي يزخر بالأزقة والحواري، والبيوت البالية، يُقابله الحي الغربي بفيلاته الكلاسيكية، وعمائره الأنيقة الحديثة، هكذا وَجَدتُ الضاحية التي وُلدتُ فيها بعد غيبةٍ دامت ربع قرن، بهرني ميدان المحطة باتساعه، ومبانيه الحديثة وتمثال الفلاحة الناهضة، والشارع العريض الطويل الغائص في أعماق الضاحية، حتى المسلة القائمة في الحديقة الكبرى، كما بهرتني المصانع الجديدة بضخامتها ومَداخنها النَّفاثة وضجيج آلاتها.

ورغبة مني في الاختلاط بالناس، وتوثيق علاقتي بهم قررت الإقامة في الضاحية فذهبت إلى مكتب سمسار للشقق، وجلست في الانتظار بين جمعٍ من الرجال والنساء. جلستُ بوجهٍ بسَّام مشحوذ الهمة للاستجابة لأيِّ بادرة ودودة، ولكنهم كانوا مُنهمكين في الحديث: ألم يُستدلَّ على شخصية صاحبة الجثة؟

– كلا، وُجدت مدفونةً من سنين ومحترقة تمامًا.

– كم سنة؟

– أربع أو خمس سنوات، هذا ما كُتب في الخبر.

– والقاتل؟

– لم يُعرف بعد، والأرجح أنهم عصابة؛ فالقتل والإحراق والدفن تحتاج إلى أكثر من مجرمٍ واحد …

وتداخلت في الحديث سائلًا: ألم يُعلن في الضاحية وقت ارتكاب الجريمة عن اختفاء امرأة؟

فساد صمتٌ انقطع به الحديث مليًّا ثم قال شخص: لا يُمكن تذكُّر ذلك.

فقلت: ولكنه لا يمكن أن يغيب عن تفكير المحقق.

لم تحزْ ملحوظتي قبولًا فيما بدا لي، فأكَّدَت غربتي بدلًا من أن تفتح لي مدخلًا إلى علاقة حميمة. وخفت أن أكثر من الأسئلة؛ فيساء بي الظن، وخاصة لشدة حساسيتي من ناحية المهمة التي أحمل أمانتها، وليقيني المستند إلى خبرة مهنتي بأن الأعين يجبُ أن تكون منتبهة تمامًا نحو أي دخيل قد يهدد أمن الضاحية وسرها العجيب، وجاء دوري للمثول أمام السمسار فوجدت في حجرته نفرًا من المُتعاملين، ووجدت أن حديث الجريمة يطوف بهم رغم انهماكهم في إنجاز أعمالهم، وحتى السمسار نفسه يُشارك فيه: لا حديث للضاحية إلا الجريمة، يتردَّد في السوق والمكاتب والمصانع والأكواخ والفيلات.

– ذلك طبيعي جدًّا.

– وما الفائدة؟

فقال السمسار: ثرثرة، معالجة عقيمة للخوف والعجز، ثرثرة لا جدوى منها.

– ثرثرة وأمانٍ فارغة.

– ولِمَ الخوف، بالله، كأنما كل فرد من الضاحية يخشى نفس المصير؟

غادرتُ المكتب بعد أن أجَّرتُ حجرة مفروشة في مبنًى بالحي الشرقي، وسط الجمهور الذي أعتمد عليه في استخلاص الحقيقة المنشودة، وتذكَّرت مُقابلتي لرئيسي التي كُلفت في ختامها بالمهمة. قال: ستذهب إلى الضاحية لجمع التحريات والمعلومات.

وقال أيضًا: من حُسن الحظ أنَّ أحدًا من رجال الأمن هناك لا يعرفك.

فسألت باهتمام وأدب: ولكن لِمَ سوء الظن يا سيدي؟

– حسن، طُمست معالم جرائم قبل ذلك، وقُيِّدت ضد مجهول، لم تكن بفظاعة جريمة اليوم، ولكن ليس ما يمنع من أن يكون مصيرها كمصير سابقاتها.

– ورجال الأمن هناك ماذا يفعلون؟

– أتريد رأيي؟ … إنهم متواطئون، لعلهم يقومون بالدور الرئيسي في طمس معالم الجريمة …

– ولكن لماذا؟

– ذلك ما أود أن توافيني بأسبابه.

– وأهل الضاحية ما موقفهم؟

– هذه هي المسألة.

– أليست القتيلة منهم وكذلك القاتل؟

– إني أومِنُ بذلك كل الإيمان.

– إذن لِمَ لا تُكتشف الحقائق، ويُقبض على المجرمين كما يحدث في كل مكان؟

– هذه هي المسألة.

كذلك دار الحديث قُبيل تكليفي بالمهمَّة، لم تكن مهمَّتي إجراء أي تحقيق بصفة سرية لمعرفة شخصية القتيلة أو القبض على القاتل، وما كان ذلك بوسعي؛ لأنَّه لا يقع في اختصاصي من ناحية؛ ولأنه أمسى مُتعذرًا ما دام قد مضى على تاريخ الجريمة حوالي الخمس السنوات. مهمَّتي كشف السر عن الأسباب الخفية لطمس معالم الجرائم في الضاحية، عن المصلحة المشتركة التي تشد الناس إلى ذلك؛ الفقراء والأغنياء ورجال الأمن.

غادرت حُجرتي لأمارس العمل الذي اخترته عندما قابلني رسولٌ جاء يستدعيني إلى مكتب الأمن. ذهبت من فوري قلقًا متشائمًا، ما معنى الاستدعاء؟ … هل رابهم شيء في سلوكي؟ هل أواجه التحدي وأنا لم أكد أشرع في العمل؟

ومثلت أمام الضابط الذي سألني عن اسمي وعملي، ذكرت الاسم وقلت: سواق تاكسي.

وقدَّمتُ بطاقة الشخصية والرُّخصة فراح يتفحصهما بعناية، وأنا مُطمئن إلى أنه لن يجد ما يريبه فيهما، ثم تفحصني بنظرةٍ ثاقبة وسألني: لِمَ اخترت هذه الضاحية للعمل؟

فقلتُ بعد تفكُّر: إنه حق مشروع لكل مواطن ولا يستدعي في اعتقادي استجوابًا.

فأعاد سؤاله ببرود: لِمَ اخترت هذه الضاحية للعمل؟

فآثرت السلام حرصًا على نجاح مهمتي وقلت: عملها المحدود مُناسب لرزقي وصحتي، واتجه اختياري إلى هنا لأني أصلًا من مواليد الضاحية.

– ألك بها أهل أو أقارب؟

– كلا … هجروها منذ حوالي ربع قرن …

– الجريمة خلقت نفورًا عامًّا من الغرباء.

كدت أسأله هل عرفوا هُوية المُجرمين، ولكني أمسكت عن حكمة وتساءلت: هل تقرر إبعادي من أجل ذلك؟

فرد إليَّ البطاقة والرخصة وقال ببرود: اذهب …

ذهبت وأنا أُفكر بمدى ارتياب الرجل بي، ولكنني لم أجد في سلوكي ما يسوغ ذلك على الإطلاق، فنحَّيته عن شعوري لأمضي في طريقي بلا ظنون وهميَّة قد تربكني وتكشف سري. وكنت أوصل رجلَين في التاكسي إلى المحطة عندما سمعتهما يتحاوران عن الجريمة: فظيعة فظيعة، أي قسوة!

– كانت بارعة الجمال!

– ولكن النار لم تُبقِ منها على شيء؟

– أعني لو لم تكن جميلةً لما تعرضت للقتل، أنت تفهمني طبعًا.

– طبعًا، انقضاء خمس سنوات على دفنها يجعل العثور على دليلٍ أمرًا مستحيلًا.

فتدخَّلت في الحديث قائلًا: قرأتُ في الجَرَائد أنه يمكن بفحص الموميات علميًّا معرفة أسباب الوفاة، فإذا كان السبب جريمةً أمكن بمناقشة الملابسات التاريخية تحديد القاتل في شخصٍ أو طائفة. فضحك الرجلان وقال أحدهما: على عهد الفراعنة كان الناس يموتون أو يُقتلون لأسباب مقنعة.

وضحك الرجلان مرة أخرى.

قلت لنفسي إنَّ أحاديث الناس لا تدل على أنهم متواطئون، وتقطع بأنهم غير راضين حتى ولو كانوا متواطئين، فلماذا يشتركون في إخفاء معالم الجريمة، والتستُّر على القاتل أو القتلة رغم إرادتهم أو رغم نفورهم؟!

ومرة كنت أوصل أسرة إلى عيون المياه، فدار الحديث أيضًا حول الجريمة.

– ما يُقال بخلاف ذلك فهو مجرد إشاعة.

– أنت تعلم — كما نعلم — أنها الحقيقة …

وتوثبت لإرهاف السمع، ولكني لمحت في المرآة امرأة تحذِّر المُتكلمين مشيرة بذقنها نحوي! وجعلتُ أتقلب في شتى الأماكن كما أتابع الأحاديث في التاكسي، أسجِّل الكلمات في ذاكرتي، أناقشها، أفكِّر بأبعادها، أستنتج متعاملًا مع الاستقراء والقياس، مستفيدًا من كل ملاحظة.

وقد سألت رئيسي وكنت أزوره كلما أوصلت راكبًا إلى العاصمة: ألَا يوجد احتمال أن يكون مرتكب تلك الجريمة من خارج الضاحية؟

– ليس ذلك بالمستحيل، وفي تلك الحال تكون الجريمة عادية، وتأخذ العدالة مجراها.

– ما الذي يحمل فقراء الحي الشرقي على الاشتراك مع سادة الحي الغربي في إخفاء جريمة رغم حدة التناقضات بين الجانبين؟

– تساؤل يقطع بأنَّك بدأت تضع قدمك في الطريق الصحيحة.

– أرجِّح أن يكون القاتل من السادة!

– تفكير سليم جدًّا!

– هل يعني ذلك أن القتيلة من الجانب الآخر؟

– قد وقد …

– السر إذن يكمن في المصلحة المشتركة بين الجميع حتى رجال الأمن أنفسهم؟

– هذه هي المسألة.

وعلمتُ ممَّا يُقال في الضاحية أنَّ الجثة اكتُشفت وهم يحفرون الأساس لبناء مصحة الأمراض العقلية، وعرفتُ أوَّل من عثر عليها من البنَّائين، وهو صعيدي من هواة الجلوس في مقهى الشمس بالحي الشرقي. وعملت على التعرف به ومجالسته فشربنا الشاي معًا، وسألته: كيف كان شعورك عندما عثرت على الجثة المطمورة؟

فقال بفخار: ناديت أصحابي ثم جاءت الشرطة …

تبادلنا حديثًا سطحيًّا مؤجلًا الأسئلة الهامَّة للقاء آخر، ولكني لم أعثر عليه بعد ذلك، وقيل إنَّ ظروفًا اضطرته للسفر فورًا إلى الصعيد … تُرى هل وقع ذلك بمحض الصدفة؟ ساورني القلق فخفت أن أكون مُراقبًا على غير ما أتصور، وشحذت انتباهي ما وسعني ذلك، ولكني لم أكفَّ دقيقة عن نشاطي المرسوم. فتحتُ صدري لكل علاقة، استكثرت من الأصدقاء، قدمت الخدمات بلا حساب، وظلَّ حديث الجريمة يجري على كل لسان، في البيت والمقهى والسوق والتاكسي، يتردد بغيظ وحنق، وأحيانًا بسخرية، ولكنه لا يشق حجاب الغموض أبدًا، ثمة شيء في الأعماق يعوزه التعبير، يكبته أنَّه في اللاوعي، أو الخوف أو الخجل أو الرَّغبة المحمومة في الهرب، ولاحظت ذات يوم — وأنا في السوق — أنَّ امرأة فقيرة دمعت عيناها وهي تصغي إلى حديث الجريمة الذي لا ينقطع، جذب وجهها عيني بفقره وجماله الذابل المتواري وراء غلافٍ من الإهمال والتعاسة، ترى هل تبكي بدافع عاطفةٍ إنسانية عامَّة أو لأسباب أشد خصوصية؟ وقرَّرت في الحال تعقبها من بعيدٍ لعل وعسى، ولما وصلتُ إلى آخر منطقةٍ في السوق اعترضني صوتٌ قائلًا: ها أنت تهيم على وجهك مهملًا عملك!

التفت فرأيت الضابط واقفًا يَرمقني بنظرته الباردة، فقلت: جئت أتسوق.

– وأين التاكسي؟

– في الميدان الجديد.

ومضى إلى سبيله تاركًا إياي في حيرة، فتشت بعيني عن المرأة، ولكنها كانت قد ذابت في الزحام، ورجح لديَّ أنني أُواجه تدبيرًا مُحكمًا لا صدفة عمياء، وأن عليَّ أن أُضاعف من الحذر.

وتفرَّغت لعملي کسواق تاكسي أيامًا مُتتابعة، وكلفت خاطبة أن تبحث لي عن عروس مُناسبة، ثم تسللت ذات ليلة، عند منتصف الليل، إلى الحانة الموجودة عند مشارف السوق، وجدتها مكتظَّة بالشاربين، تضج بالنكات والأغاني، حارَّة بالأنفاس والدخان والهواء الفاسد. شربتُ قليلًا ولكني تظاهرت بالنشوة والمرح، وأرهفت حواسي لتصيد الفلتات والشوارد. وكالعادة تطعَّم كل حديث، كل مزاح، بحديث الجريمة. قلت لنفسي متعجبًا: كأنهم جميعًا مجرمون أو ضحايا أو الاثنان معًا.

وسمعتُ ضمن الأحاديث حوارًا ذا دلالةٍ فيما أعتقد. قال الرجل مُحتجًّا: نحن ضعفاء.

فأجابه بحدة: بل جبناء.

– ماذا تفعل إذا اعترض سبيلَك سياجٌ من النِّيران؟

– أرمي بنفسي فيها؟

– ارمِ بنفسك وأرنا شجاعتك.

وعربدوا ضاحكين، وانثال عليَّ نثار من الكلمات صالح لدى ربطه، وإعادة تكوينه لإعطاء اعترافات خطيرة أو ما يُشبه ذلك. تابعت ذلك وأنا ألهث من شدة الانفعال، وشيء جذب رأسي نحو مدخل الحانة كما يقع لدى توارد الخواطر، فرأيتُ الضابط يتسلَّل خارجًا! أفقت من نشوتي وانفعالي، وتنبهت في غريزة المهنة فأدركتُ فداحة الخطر الذي يحدق بي، امتلاك سر خطير من هذا النوع يعني الهلاك، وأنا خبيرٌ بأساليب مهنتي؛ ولذلك فعليَّ أن أُفكر بصفاء ذهن. يجب مغادرة الحانة قبل أن تُفتعل معركة من أجل القضاء عليَّ قضاءً وقدرًا، يجبُ تجنُّب السير في الشوارع الخالية، لا تستقل التاكسي حذرًا من انفجاره لأسباب مجهولة، لا ترجع إلى حجرتك حتى لا يغتالك كائنٌ جاثمٌ في ركنٍ منها، إلى المحطة رأسًا عن طريق شارع المسلة، وهناك تتعدَّد الوسائل للوصول إلى العاصمة.

وفي صحن المحطة شعرت بيدٍ توضع على كتفي فالتفتُّ متوثبًا فرأيت الضابط، وقفنا نترامق مليًّا حتى ابتسم قائلًا: جئت لأودِّعك بما تقضي به أصول الزَّمالة.

عدلت عن المُكابرة وتمتمت ساخرًا: شكرًا.

وهو يضحك: ولِمَ تترك التاكسي وراءك بلا سائق؟

فقلت ساخرًا أيضًا: أتركه في أيدٍ أمينة!

وهو يعاود الضحك: ترى ما الملاحظات التي تمضي بها؟

ففكرت غير قليل ثم قلت: إنكم لا تؤدُّون واجبكم!

– الناس لا يتكلمون.

– أعلم أن أرزاق البعض بيد البعض الآخر، ولكن الغضب يتجمع في الأعماق وللصبر حدود.

فهز رأسه باستهانة وتساءل: ما واجبنا في رأيك؟

– أن تحققوا العدالة.

– كلا.

– كلا؟!

– واجبنا هو المحافظة على الأمن.

– وهل يُحفظ الأمن بإهدار العدالة؟

– ورُبَّما بإهدار جميع القيم!

– تفكيرك هو اللعنة.

– هل تخيَّلت ما يُمكن أن يقع لو حقَّقنا العدالة؟

– سيقع عاجلًا أو آجلًا.

– فكر طويلًا بلا مثاليةٍ كاذبة، قبل أن تكتب تقريرك، ماذا ستكتب؟

فقلت بامتعاض: سأكتب أن جميع القيم مُهدرةٌ ولكن الأمن مستتب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤