عشاء لم يكتمل!

في اليوم التالي بدأ «أحمد» عمله فورًا … ذهب إلى «الجراج» وتسلَّم السيارة، فوجد كل الأوراق التي يحتاج إليها، مثل رخصة السيارة ورخصة سائق. وكان قد غيَّر ثيابه، وعندما انطلق إلى شوارع «القاهرة» المزدحمة لم يكن بينه وبين عشرات الألوف من سائقي التاكسيات في العاصمة أي فارق …

ولم تمضِ لحظات حتى بدأ عمله. ركب رجل وزوجته وأطفاله التاكسي، وطلب الرجل منه الاتجاه إلى سينما مترو، وأخذ «أحمد» يُفكِّر في «نقطة التماس»، فهي النقطة المهمة في أي مغامرة … النقطة التي يبدأ فيها الاتصال بين المغامر وبين العصابة، فمتى تأتي هذه اللحظة الهامة التي يتعجَّلها؟!

ولكن اليوم الأول مضى دون أن يحدث شيء، وقطع نحو ثلاثمائة كيلومتر في الشوارع من الجيزة إلى مصر الجديدة، إلى العجوزة، إلى جاردن سيتي، دون أن تأتي اللحظة الحاسمة، وكانت الساعة قد بلغت منتصف الليل، فقرَّر أن يعود للنوم …

وكان متعبًا مرهقًا، عندما فوجئ بزبون يركب معه من الزمالك، ويطلب الذهاب إلى مدينة نصر … مسافة طويلة، ولولا أن الرجل دخل التاكسي، ووضع حقائبه بجواره في المقعد الخلفي، لحاول «أحمد» الاعتذار له، ولكن انتهى الأمر وبدأ السير …

بعد أن تجاوز كوبري أبو العلا ثم شارع ٢٦ يوليو، بدأ الزحام يخف في شارع رمسيس، حتى إذا وصل إلى طريق مصر الجديدة أطلق للسيارة العنان … ولاحظ «أحمد» أن سيارةً كبيرةً سوداء، كانت تسير في نفس الطريق منذ أن غادروا ميدان رمسيس، فهل كانت تتبعهم من قبل؟ من الصعب التأكُّد؛ فقد كان الطريق مزدحمًا …

وبدأ «أحمد» ينتبه للسيارة السوداء، وكلما أوغل في الشوارع الخالية، ازداد تأكُّده من أن السيارة تتبعه، وبدأ يشعر بنوع من التوتُّر، وتساءل: هل جاءت «لحظة التماس»؟ ووصلت السيارة على مشارف مدينة نصر، وهي مكانٌ جديد على «أحمد» لا يعرف شوارعه وطرقاته، فسأل الراكب: إلى أين؟

قال الرجل بصوت لاحظ «أحمد» أنه مرتعد قليلًا: لا داعي لمدينة نصر … اتجه إلى طريق المطار.

دُهش «أحمد»، وأخذ يُراقب الراكب في المرآة الداخلية، ولاحظ على الفور أنه يتلفَّت خلفه كثيرًا، وعرف أنه يُراقب السيارة السوداء.

ما هي الحكاية؟

هكذا حدَّث «أحمد» نفسه، وقال للرجل: هل أستطيع أن أعرف إلى أين أنت ذاهبٌ بالضبط؟

ردَّ الرجل بحدة: قلت لك طريق المطار.

تنهَّد «أحمد» متضايقًا وأخذ يُفكِّر بسرعة … ماذا يفعل في هذه المطاردة الواضحة؟ هل يقف؟ … هل يستمر؟ …

وأخذت السيارة السوداء الكبيرة تزيد من سرعتها، عندما انحرف «أحمد» عند تقاطع طريق صلاح سالم وشارع العروبة، وبدأ يتجه إلى المطار … كانت ليلةً باردة، والريح عاصفة، وقلَّ عدد السيارات المارَّة تدريجيًّا، وأحسَّ «أحمد» بقلق خفي، ولكنه مضى يقود السيارة، وفجأةً سمع الراكب يقول له: زد من سرعتك.

ردَّ «أحمد»: إنني أقود بسرعة ٨٠ كيلومترًا، وهذا يكفي.

قال الرجل بخشونة: قلت لك زد من السرعة!

وزاد إحساس «أحمد» بالقلق، ولكنه لم يرفع سرعة السيارة، وحدث ما لم يتوقَّعه مطلقًا، أحسَّ بفوَّهة مسدسٍ باردة تلتصق برقبته، وقال الرجل: زد السرعة، إن هناك من يُطاردنا.

ردَّ «أحمد» في ثبات: لماذا؟

قال الرجل: ليس لك أن تعرف!

زاد «أحمد» من سرعة السيارة تدريجيًّا، ولكن السيارة السوداء الكبيرة بدأت تقترب، وصاح الرجل وهو يضغط أكثر بالمسدس على رقبة «أحمد»: أعطِ للسيارة سرعتها القصوى.

وأدرك «أحمد» أن الموضوع لن ينتهي على خير، وقرَّر أن يقف المطاردة عند حدها.

نظر في المرآة الجانبية للسيارة، فلما تأكَّد أن لا سيارات قادمة، أدار عجلة القيادة بسرعةٍ فائقة فدارت السيارة دورةً واسعة، وصفَّرت العجلات على الأرض، وكانت الدورة كافيةً ليدور دورةً كاملة، وتُصبح في الاتجاه العكسي للسير، ثم رفع قدمه من فوق البنزين، وجذب ناقل الحركة إلى حركته الأولى، وضغط على الفرامل بكل قوته، وسمع من خلفه الرجل يفقد توازنه، ويسقط من فوق مقعده، كما سقطت الحقيبتان، وكان هذا ما يتوقَّعه «أحمد» …

فتح الباب، وقفز من السيارة، وفي نفس الوقت سمع طلقات مسدس … ثم شاهد الرجل يقفز من السيارة، وسمع عجلات السيارة السوداء تُصفِّر على الأرض بشدة على أثر فرامل قوية … وانهمرت طلقات الرصاص من الجانبَين، ثم شاهد الراكب يجري بكل قوته في الصحراء المكشوفة … وسمع ثلاث طلقات، ثم سقط الرجل. وشاهد ثلاثة رجال يجرون؛ أحدهم ناحية الرجل الذي سقط، والآخران ناحية السيارة.

كان ذهن «أحمد» يعمل بسرعة لفهم كل ما يدور حوله … كان في إمكانه أن يقفز إلى السيارة ويهرب، ولكن كان من الممكن مطاردته، ثم إن ما خطر له وتحقَّق سريعًا، هو أن هؤلاء الثلاثة من رجال الشرطة.

وانطلق ضوء كاشف من بطارية أحد الرجلَين، وقام «أحمد» واقفًا وأخذ ينفض ثيابه في هدوء، واقترب من الرجل الذي صاح به: قف مكانك!

ووقف «أحمد» مكانه … وتقدَّم منه الرجل، وهو يُطلق ضوء البطارية في وجهه ليُعمي عينَيه، حتى إذا اقترب منه تمامًا قال: نحن من رجال الشرطة.

عندما دخل قسم الشرطة طلب منه الضابط الجلوس، وسأله إن كان يُحب أن يتناول كوبًا من الشاي، فقال «أحمد»: بالطبع فالدنيا برد جدًّا.

بعد لحظات جاءه الشاي، وقال له الضابط: إننا مضطرون لإبقائك حتى الصباح لاستكمال التحقيق، وبعد استجواب المهرب، إذا تمكَّنا من استجوابه.

تضايق «أحمد» وقال: إنني متعبٌ جدًّا، وفي أشد الحاجة إلى النوم.

وفتح الضابط محضرًا، وبدأ سلسلةً طويلةً من الأسئلة عن علاقة «أحمد» بالمهرِّب، فأكَّد له «أحمد» مرةً أخرى أنه لا يعرفه … وتمَّ تفتيش السيارة بدقة، ولم يعثروا على شيء فيها … وبعد نحو ساعة حضر الضابطان الآخران، وأخذ الثلاثة يتحدَّثون ويُناقشونه، وعرف «أحمد» أن الرجل مهرِّب مخدرات خطير، وأنه كان مراقبًا من رجال الشرطة فترةً طويلة، وأنهم كانوا يُريدون الوصول إلى شركائه …

سأل «أحمد»: هل سيعيش الرجل؟

ردَّ أحد الضبَّاط: نعم … لقد قال لي الطبيب إنه برغم إصابته برصاصة نافذة في بطنه، إلَّا أنه رجل قويٌّ وسيعيش، ولكن لن نتمكَّن من استجوابه قبل يومين.

وعرف «أحمد» أن العملية ليس لها علاقة برقم «صفر».

قال «أحمد»: في هذه الحالة، أليس من الممكن السماح لي بالذهاب إلى منزلي، على أن أعود في الصباح إذا لزم الأمر؟

فتشاور الضبَّاط الثلاثة، ثم وافقوا على أن يعود إلى منزله، على أن يُرسلوا في استدعائه إذا استدعى الأمر.

وبعد أن سجَّلوا جميع المعلومات عنه وعن سكنه، سمحوا له بالانصراف.

لم يُصدِّق «أحمد» أنه نجا من النوم في قسم الشرطة في هذه الليلة الباردة، فقفز إلى سيارته وأدار جهاز التكييف الساخن، ثم انطلق عائدًا إلى «شبرا».

ظلَّ يحلم طوال الطريق بطعام سريعٍ وفراش مريح، ومرَّ على محل لبيع الساندويتشات فاشترى ما يكفي للعشاء، ثم انطلق إلى «الجراج» فأودع السيارة به، وأسرع إلى الشقة الصغيرة القريبة من «الجراج» في شارع «قطة»، كانت تقع بالدور الأول في منزلٍ قديم متسع الغرف.

أدار المفتاح في قفل الباب، وعندما خطا أول خطوة داخل الغرفة، أحسَّ في أعماقه بخطر مجهول … لقد أحسَّ على الفور أنه ليس وحيدًا، وأن ثمة خطرًا يتهدَّده، ولكن قبل أن يفعل أي شيء أُضيء النور، ودفع شخص الباب بيده فأغلقه …

وعلى الفور شاهد رجلًا يجلس في الصالة وقد وضع ساقًا على ساق … وقبل أن يفتح «أحمد» فمه، دفعه شخص آخر من الخلف، وقال الرجل الجالس مبتسمًا: لقد تأخَّرتَ كثيرًا!

قال «أحمد»: من أنتم؟! … كيف دخلتم إلى هنا؟!

ظل الرجل راسمًا ابتسامته على شفتَيه وقال: لا داعي لأن تتظاهر بالدهشة؛ إننا نعرف جيدًا من أنت!

وأشار إلى مقعد فتقدَّم «أحمد» وجلس … كانت ساندويتشات الفول والطعمية في يده ساخنة، فلم يتردَّد، فتح الكيس وأخرج ساندويتشًا، وأعمل فيه أسنانَه، وأدار وجهه في المكان، ولم يكن هناك سوى الرجل الجالس، والرجل الآخر الواقف خلفه، وأدرك أن الشقة قد تعرَّضت لتفتيش دقيق.

قال الرجل: نرجو ألَّا نختلف … لقد وصلتنا أنباءٌ سريعة عن طردك من المنظمة التي تعمل بها … فهل هذا صحيح؟

ظلَّ «أحمد» يقضم الساندويتش اللذيذ الساخن، وهو يُفكِّر في اللحظات القادمة …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤