إذا لم ينفع العنف

عاد الرجل يقول: هل سمعتَ ما قلتُه لك؟!

قال «أحمد»: إنني لم أسمع عن هذه المنظمة التي تتحدَّث عنها، ولم أُطرد من أي شيء، ولا أعرف عن شيء تتحدَّث … وأرجو أن تُوضِّح لي سبب تشريفكما لمنزلي ولماذا؟! …

وقبل أن يُكمل جملته، أحسَّ بضربة قاسية تُصيب عنقه من الخلف، وبالطعام ينحشر في حلقه.

وعاد الرجل يقول: إننا ننتظرك منذ منتصف الليل، والساعة الآن تجاوزت الثانية صباحًا! … ليس عندنا وقت نُضيِّعه في هذا الموضوع أكثر من هذا!

ازدرد «أحمد» الطعام بصعوبة وعاد يقول …: أؤكد لك أنني لا أعرف عن أي شيء تتحدَّث … في هذه المرة نزلت الضربة على جانب وجهه … ضربة قوية أحسَّ على أثرها بالدم يتدفَّق داخل فمه … وتوقَّف تمامًا عن الأكل، وأحسَّ أن رأسه يدور كالنحلة … لقد جاءوا في موعدٍ سيئ؛ فهو متعبٌ يحلم بالنوم … وهم في عجلة من أمرهم، وعلى استعداد للوصول إلى آخر مدًى للحصول على اعترافاته … ولكن، حسب تقديره، لم يكن الأوان قد آن بعدُ لكي يقول أي شيء؛ فإن اعترافه بسهولة قد يكشف الخطة الرائعة التي وضعها رقم «صفر» لزرعه في قلب «سادة العالم»!

لهذا أخرج منديله ووضعه في فمه … واستمرَّ الرجل الجالس يقول: إنك ستقول لنا الحقيقة، ليس فقط أنك طُردت من المنظمة، ولكن أيضًا الحقيقة وراء هذا الطرد … وهل طُردت فعلًا، أم أنها خطة للإيقاع بنا؟!

أدرك «أحمد» أن المهمة لن تكون سهلة … إنهم يشكُّون في حقيقة طرده، وسيقتلونه تعذيبًا وضربًا، قبل أن يُصدِّقوا حقًّا أنه طُرد من الشياطين اﻟ «١٣».

مسح فمه وترك الساندويتشات جانبًا … كان يُحس بجسده كله يُؤلمه، وبرأسه يدور، وبحاجته الشديدة للراحة؛ ليستطيع مواجهة آلامه المقبلة، وأخذ يُفكِّر بسرعة … إن الرجل الواقف خلفه قريب منه جدًّا، إنه يسمع صوت تنفُّسه الثقيل، وهو يضربه بهراوة من المطاط، ومعنى هذا أنه لا يُمسك مسدسًا، والرجل الجالس لا يُمسك مسدسًا هو الآخر … إنهما بالطبع مسلَّحان، ولكن حتى لحظة إخراج كلٍّ منهما مسدَّسه سيكون في إمكانه أن يفعل شيئًا …

وعاد الرجل الجالس يقول: لا تُضيِّع وقتًا … إن هذا الضرب البسيط ليس شيئًا بالنسبة لما يمكننا أن نفعله بك!

وسمع حركة ذراع الرجل خلفه، وأدرك أنه سيضربه مرةً أخرى، وفي جزء من الثانية كان «أحمد» يسحب الكرسي الذي يجلس عليه ويرفعه عاليًا، ثم ينزل به في ضربة ساحقة على رأس الرجل الواقف … وفي قفزتَين كان قد فتح باب الشقة، وقفز إلى الخارج وأغلق الباب خلفه، ثم أسرع يجري في الظلام بأقصى قوته.

كان شارع «قطة» ينتهي بشارع «شبرا» الرئيسي، واختار «أحمد» الاتجاه الآخر لشارع «قطة»، وعند نهايته كنيسة بها سورٌ منخفض، وبسرعة قفز السور، ثم انطلق يجري في الحديقة الصغيرة، وقفز السور من الناحية الأخرى، وأصبح في شارع «العطَّار».

ومشى بهدوء حتى وصل إلى منتصف الشارع، وانحرف يسارًا، وأدرك أنه ابتعد بما يكفي عن الرجلَين؛ فهما ليسا من مصر، ولا يعرفان الشوارع والحواري مثله، ولن يصلا إليه مطلقًا … بعد ربع ساعة من المشي، أصبح في شارع «مسرَّة»، ووجد «تاكسي» واقفًا قد نام سائقه داخله، ولم يتردَّد في إيقاظه، ورجاه أن يحمله إلى شارع «قصر العيني»، وبعد ربع ساعة أخرى، كان يدخل شقته الأنيقة على النيل، فألقى بنفسه على الفراش، وذهب في نوم عميق …

عندما استيقظ «أحمد» … كانت الشمس تغمر «القاهرة» في يوم شتويٍّ دافئ … وأخذ يتمطَّى في فراشه، وأحسَّ بآلام الضرب الذي تعرَّض له، ولكنه كان سعيدًا؛ لقد استطاع تنفيذ الجزء الأول من الخطة، وهي أن يبدو متمنِّعًا، كأنه طُرد فعلًا من مجموعة الشياطين، ولا يُريد الحديث عنها …

شيءٌ واحد كان يخشاه؛ أن تفقد منظمة «سادة العالم» أثره بعد هربه الليلي، ولكن ما كان يُطمئنه أن رقم «صفر» لا بد قد سرَّب إليهم معلومات عن التاكسي أيضًا، وسيعود للتاكسي ويعمل كسائق حتى يعثروا عليه مرةً أخرى.

قام إلى الحمَّام فاغتسل واستردَّ نشاطه، ثم لبس نفس ثيابه، ثياب السائق، وانطلق عائدًا إلى «شبرا» … ولم يكد يصل إلى شقته حتى فوجئ بما لم يتوقع؛ كان بعض رجال الشرطة في انتظاره، فتذكَّر حادث المهرِّب أمس، وأدرك أنهم يطلبونه للاستجواب.

وتقدَّم من رجال الشرطة، وسلَّم نفسه، واستطاع وهو يستدير ليركب سيارة الشرطة «الجيب»، أن يلحظ أن ثمة رجلًا غريبًا يقف أمام «الجراج»، ويُراقب ما يحدث … وأحسَّ بقلبه يرقص طربًا، إن هذا معناه أن المنظمة تُراقبه، وسوف يطمئنُّون إليه تمامًا بعد أن يروه في قبضة رجال الشرطة … إن خطة رقم «صفر» تتحقَّق بطريق الصدفة البحتة، فيا له من حسن حظ!

انطلقت سيارة الشرطة، ولاحظ أن الرجل الغريب انطلق بسيارته خلفهم، وظل يتبعهم بسيارته حتى وصلوا إلى قسم شرطة مصر الجديدة، وعندما تهيَّأ «أحمد» لدخول القسم، لاحظ أن الرجل قد دار بالسيارة عائدًا.

استغرق الاستجواب أمام وكيل النيابة نحو ساعتَين، وتقرَّر اعتبار «أحمد» شاهدًا، وأُطلق سراحه بضمان بطاقته الشخصية، وعاد إلى «شبرا» مرةً أخرى، لم يجد أحدًا في انتظاره، وانطلق بالسيارة في شوارع «القاهرة»، يحمل الركَّاب من مكان إلى آخر، حتى اندمج في عمله تمامًا.

ولكن الليل كان يحمل إليه جديدًا؛ فعندما قرَّر وضع السيارة في «الجراج» والاكتفاء بساعات العمل التي قام بها، أوقفه شخص وركب بجواره عند مدخل الشارع، وطلب توصيله إلى شارع «شريف» … كاد يعتذر عن هذه التوصيلة، ولكن لهجة الرجل أيقظت في نفسه حاسته السادسة؛ إن خلف هذا الرجل شيئًا غير عادي، شيئًا يوقظ في النفس رغبة المغامرة … ومضت السيارة في الشوارع التي خفَّ زحامها، حتى إذا دخل شارع «شريف» قال الرجل: هل تجد مكانًا هنا تركن فيه السيارة؟

ففكَّر قليلًا، ثم قال: ممنوع الوقوف في شارع «شريف» نهائيًّا، وأقرب مكان ميدان «العتبة».

فتح الرجل الباب واستعد للنزول قائلًا: إنني أُريدك في مهمة ستعجبك!

أحمد: أين؟

الرجل: في الشقة رقم ١٥ بالدور الثالث بعمارة الأنوار.

ونزل الرجل، وانطلق «أحمد» بالسيارة حتى توقَّف في ميدان «العتبة»، ثم عاد مشيًا على الأقدام إلى شارع «شريف»، ودار حول عمارة الأنوار يرى مداخلها ومخارجها، ثم نظر إلى ساعته، كانت قد تجاوزت منتصف الليل بنصف ساعة، ثم دخل العمارة …

وقف أمام الشقة لحظات، ثم دق الجرس، وبعد لحظة واحدة فُتح الباب وظهر نفس الرجل … كانت على شفتَيه ابتسامة، ودون كلمة واحدة أشار إلى «أحمد» فتبعه … مرَّا بصالة صغيرة، ثم دقَّ الرجل على باب مغلق في طرف الشقة، وفُتح الباب ووجد «أحمد» نفسه أمام رجل وحيد قصير القامة، يجلس على مقعد وثير، وأمامه منضدة صغيرة عليها بعض الصور والأوراق …

ابتسم الرجل ﻟ «أحمد» وطلب منه الجلوس بجوار المنضدة، وأشار للرجل الآخر فغادر الغرفة، وأصبحا وحيدَين.

أخذ «أحمد» يتأمَّل الرجل القصير، لم يكن قد رآه من قبلُ فيمن اصطدم بهم من رجال المنظمة، سواء في «بيروت» أو «القاهرة» … لم يكن يبدو عليه مطلقًا أنه من رجال العصابات، بل كان يبدو أقرب ما يكون إلى موظَّفٍ محترم في بنك أو شركة كبرى.

قال الرجل وهو يُشير بقلم رصاص إلى المنضدة: تأمَّل هذه الصور.

ونظر «أحمد» إلى الصور، ثم مدَّ يده وأمسك بواحدة منها … كانت صورةً له في فناء مستشفى المعادي حيث جرت أحداث آخر مغامرة للشياطين مع المنظمة … ورغم أنه أحسَّ بتوتُّر مفاجئ، فقد ظلَّت يده التي تُمسك بالصورة ثابتة؛ فقد أدرك أنه وصل إلى «نقطة التماس»، نقطة الاتصال بينه وبين المنظمة، وأن الخطة التي وضعها رقم «صفر» تمضي في طريقها …

كانت الصورة واضحةً رغم أنها التُقطت ليلًا، ورغم أن «أحمد» يذكر أنه لم يرَ ضوء كشَّاف أو «فلاش» في تلك الليلة، وعرف أنهم صوَّروه بالأشعة تحت الحمراء، ولا شك أنهم يملكون أحدث كاميرات في العالم.

وأمسك «أحمد» مجموعة الصور وأخذ يتأمَّلها … كانت بعضها له في أوضاع مختلفة، وهو يجري، وهو يضرب … وبعضها ﻟ «عثمان» … ورفع عينه عن الصور، ونظر إلى الرجل الذي قال له: أظنك لا تُنكر أن هذه الصور لك!

لم يردَّ «أحمد» … ومضى الرجل يقول: لقد كنا نعرف من البداية أنك من مجموعة الشياطين اﻟ «١٣»، وأنك لسبب ما قد طُردت منها!

ودقَّ قلب «أحمد» سريعًا؛ هذه أول مرة يسمع فيها اسم الشياطين اﻟ «١٣» من شخص ليس منها. إن الاسم نفسه سريٌّ جدًّا … ورفع عينَيه إلى الرجل في ثبات، ولم يقل شيئًا، فاستمرَّ الرجل يقول: ونحن نُريد أن نضمَّك إلينا … إن عندنا مهمةً تحتاج إلى شاب مثلك، وسندفع لك أجرًا لم تحلم به في حياتك …

ولم يردَّ «أحمد» … وقال الرجل: لقد حاولنا في البداية أن نعرف الحقيقة منك بالعنف، ولكن العنف لم يُجدِ معك … وقد كنتَ بارعًا أن استطعت الهرب من الرجلَين، وقد أصبت أحدهما إصابةً فادحة!

ومال الرجل إلى الأمام وقال: ويُهمُّني أن أقول لك ألَّا تُحاول خداعنا … إن لنا رجلًا داخل مجموعة الشياطين، وهذا الرجل سيعرف إن كنتَ ما زالت متصلًا بالشياطين أم طُردت منها فعلًا …

وبذل «أحمد» مجهودًا خرافيًّا ليُسيطر على أعصابه … لقد جاء ليزرع نفسه داخل المنظمة، ولكن المنظمة سبقت وزرعت رجلًا من رجالها داخل مجموعة الشياطين! … فمن هو الخائن؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤