الخائن … المهمة القادمة

خرج «أحمد» من العوَّامة في هدوء، ورغم أنه حصل على عضوية أكبر منظمة إجرامية في العالم، وأنهم أظهروا ثقتهم به، فقد فضَّل أن يتصرَّف بحذرٍ شديد، فليس من المستبعد أن يكون مراقبًا … فلمَّا وقف أمام العوَّامة انتظر لحظات، وفكَّر أن يستخدم سيارةً من سيارات المنظمة، ولكن استقر رأيه في النهاية على ركوب تاكسي إلى «شبرا» لإحضار سيارته، فإذا ركب سيارته فسيكون من الصعب مراقبته، فهناك عشرات من ألوف سيارات التاكسي في «القاهرة».

وبعد أن وصل إلى «الجراج» وركب سيارته، اختار أن يدخل «شبرا» بدلًا من أن يخرج منها، وكان يتمنَّى شيئًا واحدًا؛ أن يجد زبونًا ذاهبًا إلى جاردن سيتي؛ فقد كان في حاجة للذهاب إلى شقته هناك ليُرسل بتقرير إلى رقم «صفر» يُعرِّفه فيه بما حدث، وبخطة سرقة تماثيل الإله «حورس».

ولكن أمنيته لم تتحقَّق إلَّا بعد ساعات طويلة من اللف والدوران في شوارع «القاهرة» وقد هبط المساء … فقد ركب رجل عجوز طلب منه التوجُّه إلى جاردن سيتي. ورقص قلب «أحمد» فرحًا؛ فلو كان مراقبًا فإن الذي يُراقبه لن يستطيع اكتشاف سبب ذهابه إلى جاردن سيتي.

وصل «أحمد» إلى جاردن سيتي، ووجد بائع ساندويتشات فول يقف وحوله عدد من الآكلين، وأحسَّ برغبة حقيقية لتناول ساندويتش طعمية ساخن، فركن سيارته ووقف يتناول الساندويتش، وعيناه تدوران في حذر حوله، ليرى إن كان مراقبًا أم لا …

انتهى من تناول الساندويتش، ثم تلفَّت حوله للمرة الأخيرة، وترك السيارة مكانها؛ فقد كان قريبًا من العمارة التي يسكن بها، وسرعان ما كان يركب المصعد، فلمَّا وصل إلى الممر، وقف قليلًا حتى تحرَّك المصعد، ونظر أسفل السلم فلم يجد أحدًا. تقدَّم مسرعًا وفتح باب الشقة ودخل وأضاء النور.

كانت المفاجأة في انتظاره … ويا لها من مفاجأة!

إنه لم يكن في حاجة إلى كل هذا اللف والدوران والحذر؛ فقد كان الزعيم ومعه ثلاثة من أعوانه في صالة الشقة. كان الزعيم يجلس مادًّا ساقَيه يتأمَّل النيل، بينما «كرادوك» يقف مواجهًا للباب وبيده مسدس ضخم، وكان الاثنان الآخران يربضان في جانبَين من الصالة خلف الباب …

ولم يكن أمام «أحمد» إلَّا الدخول وهناك ثلاثة مسدسات موجَّهة إليه … لقد أذهلته المفاجأة … كيف وصلوا إلى هذا المكان؟! … ولم تكن هناك سوى إجابة واحدة … الخائن الذي يعمل معهم!

قال الزعيم دون أن ينظر إليه: إنني معجبٌ بك جدًّا … لقد أدَّيت دورك بمهارة، وكنت أتمنَّى أن تنضمَّ إلينا حقًّا، ولكن …

وصمت الزعيم لحظات، ثم قال: لقد وضعتني في موضع حرج أمام المنظمة؛ فقد أخطأتُ ووثقتُ بك، وسوف أُحاسبك على هذا حسابًا عسيرًا، وليس أمامك الآن إلَّا أن تُصلح خطأك، وأن تقول لي أين مقر الشياطين اﻟ «١٣»!

لم يردَّ «أحمد»؛ فقد كانت المفاجأة رهيبة، وقعت عليه وقع الصاعقة … وبعد أن ظنَّ أن كل شيء يمضي على ما يرام، إذا بكل شيء يمضي إلى الأسوأ.

عاد الزعيم يقول: تكلَّم!

وتقدَّم «كرادوك» ورفع يده الضخمة وهوى بصفعة قاسية على وجه «أحمد»، فالتفت الزعيم وقال: لا داعي لهذا الآن يا «كرادوك» … أعتقد أن صديقنا سيقول لنا الآن كل شيء، خاصةً بعد أن حطَّمنا جهاز اللاسلكي، ولن يتمكَّن الآن من الاتصال وطلب نجدة!

ولكن «أحمد» لم يرد، فقال الزعيم: سنأخذه معنا إلى العوَّامة، إننا هناك نستطيع أن نتعامل معه أفضل!

ثم التفت إلى «أحمد» قائلًا: لا تُحاول إثارة أي ضجة، إنك تعرف أن هذه المسدسات كلها كاتمةٌ للصوت، ومن الممكن قتلك دون أن يحس أحد.

وتحرَّك الجميع، وكان «كرادوك» يقف خلف «أحمد» طول الوقت، وسرعان ما كانوا يركبون المصعد إلى الشارع، ثم ركبوا سيارةً قادها أحد الرجال، ومضَوا يقطعون شوارع «القاهرة» المضاءة، وذهن «أحمد» يعمل بسرعة. إنه الآن يعمل وحده، ويتعرَّض لعملية تعذيب رهيبة، فمتى يقول لهم عن المكان؟

ومضت السيارة فتجاوزت مصر القديمة، ثم أخذت طريق المعادي، وبعد نحو نصف ساعة كانت تقف عند مكان جديد رست عنده العوَّامة، ونزل الجميع يتقدَّمهم الزعيم، ثم أحد الرجال و«كرادوك»، والرجل الثالث.

اتجهوا فورًا إلى الصالة الكبيرة، وجلس الزعيم، ورأى «أحمد» وجهه وقد عاودته صُفرة غريبة، كأنه رجل يُعاني من أثر سمٍّ قاتل يقضي عليه … كان من الواضح أنه غاضب وتعس، وأنه يخشى محاسبة المنظمة له بعد أن منح «أحمد» ثقته، وتركه يعرف كثيرًا من أسرارهم.

رفع الرئيس يده في وجه «أحمد» قائلًا: والآن كلمة واحدة … ستتحدث أم لا؟

لم يُجِبه «أحمد»، فقال الزعيم: خذوه …

وتقدَّم «كرادوك» وقد كشَّر عن أنيابه، واقتاد «أحمد» إلى الممر، ثم نزلا سلَّمًا ضيقًا إلى جوف العوَّامة، وكان في إمكان «أحمد» أن ينتفع بهذه اللحظات ويهرب من «كرادوك»، ولكنه كان يعرف أنه لن يستطيع الخروج من العوَّامة مطلقًا …

وصلا إلى باب ضخم من الصلب، وقال «كرادوك»: اخلع ثيابك وحذاءك أيضًا!

نظر إليه «أحمد» في ضيق وقال: لماذا؟!

كرادوك: قلت لك اخلع ثيابك، لا تُبقِ سوى ثيابك الداخلية.

وأخذ «أحمد» يخلع ثيابه، حتى إذا أصبح في ثيابه الداخلية فقط، فتح «كرادوك» الباب الصلب، ثم دفعه بعنف داخل غرفة صغيرة وأغلق الباب.

لم يكد «أحمد» يدخل الغرفة حتى أدرك أين دخل؛ إنه في ثلاجة! … وعندما وضع يده يتحسَّس جدران الغرفة، وجدها مكسوَّةً بالثلج، وأحسَّ بقدمَيه تلسعانه لشدة البرد، ووقف شعر جسمه كله كالشوك أمام البرد القارس، وحاول أن يتقدَّم إلى الأمام فوجد أنه لا يستطيع أن يسير أكثر من خطوتَين، وحاول أن يقفز مكانه حتى يدفع الدفء إلى أوصاله، ولكن السقف كان منخفضًا، فارتطم رأسه به.

أدرك «أحمد» نوع العذاب الذي يتعرَّض له … إنه إذا استمر بضع ساعات فقط لمات بردًا أو لفقد بعض أجزاء جسمه، التي ستفسد من شدة البرودة. وأخذ يدق على الجدران والباب عبثًا؛ كان كل شيءٍ صلبًا وباردًا … ولا صوت هناك سوى صوت الماكينات!

أخذت البرودة تتسلَّل إلى جسده بسرعة، خاصةً أنه فقد القدرة على تحريك أصابع قدمَيه، ثم ساقَيه، كما أحسَّ بذراعَيه تثقلان، وقد سرى فيهما الخدر …

وبعد نصف ساعة كان جسمه كله يكاد يتجمَّد، وحاول أن يرفع يده ليدقَّ الباب، ويطلب إخراجه من هذا السجن الثلجي، ولكن ذراعه لم تُطاوعه، وأخذ يرتجف بشدة، وضربات قلبه تتباطأ … وأدرك «أحمد» أنها النهاية، ولكن في هذه اللحظة سمع الباب يُفتح، و«كرادوك» يمد ذراعَيه الطويلتَين ويجذبه إلى الخارج، وذهب في إغمائة طويلة.

عندما استيقظ «أحمد» سمع حوله حوارًا عرف فيه صوت الزعيم وصوت «كرادوك»، وتظاهر أنه ما زال مغمًى عليه؛ فقد سمع كلمات: «عميلنا داخل الشياطين»، وفهم أنه موجود الآن في العوَّامة، وساد الصمت لحظات، ثم سمع صوت أقدام مقبلة، وسمع بعض كلمات الترحيب، ثم سمع الزعيم يقول: هل عرفوا أننا اكتشفنا حقيقة هذا الولد؟

وسمع من يرد: حتى الآن لا …

وعرف «أحمد» أنه الخائن … وأخذ يفتح جفنَيه ليُحاول رؤية الرجل، ولكنه لم يكن في مجال رؤيته، وخشي إن استدار ليراه أن يبطشوا به، حتى لا يكشف شخصية العميل الخائن، وقرَّر أن يكتفي بسماع صوته، ويحتفظ بنبرات ملامح هذا الصوت في ذهنه.

عاد الزعيم يقول: هل تكفي قوتنا الراهنة للهجوم على المقر السري للشياطين؟

ردَّ العميل: لا أعرف … فأنا لم أدخل المقر السري مطلقًا، ولكن معلوماتي أنه محصن جيدًا وعليكم معرفة المكان وباقي التفاصيل من هذا الولد.

كان «أحمد» يتتبَّع كل كلمة؛ فقد كان اكتشاف الخائن أهم ما يمكن أن يُقدِّمه من خدمة لرقم «صفر»، وللشياطين اﻟ «١٣» … فوجود هذا العميل الخائن يمكن أن يُؤدِّي إلى تدمير مجموعة الشياطين.

قال الزعيم: «كرادوك» … حاول أن توقظ هذا الولد.

وتقدَّم «كرادوك» من «أحمد»، وأخذ يجس نبضه، ثم مدَّ أصابعه وفتح إحدى عينَيه، وسمع «أحمد» خطوات تُغادر المكان، وعرف أنه الخائن يُغادر المكان قبل أن يراه.

قال «كرادوك»: أظن أنه بدأ يعود إلى وعيه.

وأحسَّ «أحمد» بصفعات «كرادوك» القاسية على وجهه، ففتح عينَيه … وقال «كرادوك»: «هل تتكلَّم الآن؟»

بدا «أحمد» مستسلمًا ولم يرد، ولكنه حنى رأسه موافقًا، فقال الزعيم: هاتوا له شرابًا ساخنًا.

وبعد لحظات، كان «أحمد» يجلس في كرسيه محاطًا بأغطية ثقيلة، وفي يده التي بدأت تسترد حركتها كوب من الشاي.

وطلب «أحمد» ورقةً وقلمًا، وأخذ يشرح مكان المقر السري، والطرق الموصلة إليه، وبين لحظة وأخرى كان يُجيب عن بعض الأسئلة الخاصة بالتحصينات، والسراديب السرية المؤدية إلى المقر، وبعد ساعة تقريبًا كان قد أتم مهمته …

قال «كرادوك»: أظن أنه يجب التخلُّص منه الآن أيها الزعيم.

ردَّ الزعيم: ليس الآن؛ فقد يكون في الأمر خدعة. سيبقى هنا حتى ننتهي من هذه المهمة. سنذهب الآن …

وحملوا «أحمد» إلى غرفة مكتب الزعيم، وهناك تعرَّض لمواجهة ضوء شديد، لا يدري ما هو، ورجَّح أنهم يلتقطون له صورًا لسبب لا يعرفه، أو ربما دائرة تليفزيونية مغلقة تنقل صورته إلى شخص ما، لعله الزعيم الأكبر أو الخائن … وشاهد «أحمد» مرةً أخرى الباب الذي رآه من قبلُ في غرفة الزعيم، وخطرت بباله فكرة … ومرةً أخرى حملوه إلى الكابينة؛ فقد تظاهر أن ساقَيه لا تحملانه، وتمدَّد في فراشه يُفكِّر … إن عليه أن يهرب فورًا.

نظر إلى ساعة الحائط في الكابينة، كانت قد تجاوزت الثالثة صباحًا، وقرَّر أن ينتظر ساعةً أخرى حتى يستردَّ قواه.

ومضت الساعة، ثم قام «أحمد» وقام ببعض التمرينات الرياضية، ومدَّ يده يفتح الباب، ولكنه وجده مغلقًا، فوضع يده على جيبه الداخلي، لحسن الحظ أنهم لم يفتشوا ملابسه، وأخرج أداةً صغيرةً تُشبه القلم، وضغط على زر فيها، فانطلق منها عدد من الأسلحة الصغيرة لفتح الأبواب، وسرعان ما فتح الباب، ونظر في الدهليز، لم يكن هناك أحد.

كانت خطته أن يذهب لغرفة مكتب الزعيم؛ لاستخدام الباب المؤدي إلى النهر … وأخذ يسير في حذر، حتى أصبح أمام باب الغرفة دون أن يُقابل أحدًا، وفجأةً وهو يمد يده لفتح الباب، انفتح الباب وظهر أمامه «كرادوك»، وكانت هذه هي اللحظة التي تمنَّى «أحمد» طويلًا أن تأتي … وبكل ما يملك من قوة، ضرب الغوريلا لكمةً هائلةً استقرَّت على أنفه الأفطس، وترنَّح «كرادوك» ولكنه لم يسقط، بل أخرج من جيبه مسدسه، ولكن «أحمد» لم يمهله، فطارت قدمه في ضربةٍ محكمة أصابت المسدس وأطارته بعيدًا، ثم ضربة أخرى بسيف يده على رقبة «كرادوك»، وسمع «أحمد» شهقةً قويةً تصدر من «كرادوك»، ثم سقط على الأرض.

ودخل «أحمد» وأغلق الباب، ثم أسرع حيث يوجد الباب المؤدي إلى النهر، كان يُفتح بدائرة من الحديد كما يُفتح باب الطائرة، أدارها فانفتح الباب، ووجد نفسه أمام المياه مباشرة، ولم يتردَّد، ألقى نفسه في الماء، وأخذ يسبح بسرعة … ودار دورةً واسعة، ثم صعد إلى الشاطئ …

كان الجو باردًا وثيابه مبتلَّة، ولكنه لم يعبأ … أخذ يسير بجوار الكورنيش دون أن يُقابل أحدًا، حتى وصل إلى قرب المعادي، ثم صعد إلى الشارع، وانتظر وهو يرتعد من البرد، حتى وجد سيارة نقل مارة محمَّلة بالطوب تسير بسرعةٍ بسيطة، فجرى خلفها، ثم قفز فوق الطوب وتمدَّد … ومضت السيارة حتى اقتربت من أول شارع النيل، وانحرفت إلى كوبري الجلاء، فقفز منها، وأخذ طريقه إلى المقر الصغير للشياطين اﻟ «١٣»، في ميدان السد العالي … وعندما وصل أمام باب الشقة كانت دهشته أن وجد النور مضاءً فيها … فأدرك أن الخائن يعرف المكان، وأنه دلَّ المنظمة عليه، وحار … ماذا يفعل؟

كانت درجة حرارته قد ارتفعت، وأخذ يسعل بشدة، وأحسَّ بالحمَّى تسري في بدنه، وأنه سيسقط من فرط الإعياء والبرد … وفي هذه اللحظة حدث أروع شيء في العالم؛ فُتح الباب وظهرت على عتبته «إلهام»، ونظرت إليه، ونظر إليها، ثم سقط على الأرض مغمًى عليه …

كانت الشقة الصغيرة مزدحمةً بسبعة من الشياطين أرسلهم رقم «صفر» في عجَل، عندما تأخَّرت أخبار «أحمد». والتفوا حول زميلهم الذي صرعته الحمَّى، وهم يتساءلون عمَّا حدث … وفتح «أحمد» عينَيه وقال: كل شيء على ما يرام. إنهم الآن في الطريق إلى المقر السري، وسيلقون هناك نهايتهم …

قال «عثمان» بارتياع: هل دللتهم على مكان المقر السري؟

ابتسم «أحمد» في وهَنٍ قائلًا: لقد كانت مهمتي الرئيسية أن أدلهم على مكان المقر السري، وقد أدَّيت المهمة، وسيقوم بالباقي رقم «صفر» … ولكن المهم الآن أن هناك خائنًا في التنظيم، وأول ما يجب أن نفعله هو أن نكشف حقيقة هذا الرجل، وإلَّا فإن كل شيء سيتحطم في التنظيم، ورقم «صفر»، وكل ما فعلناه.

إلهام: وكيف السبيل إلى معرفة هذا الخائن؟

أحمد: هذه هي مهمتنا.

وأغمض عينَيه ونام …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤