الفصل الحادي عشر

التذكار

ومرت الأيام وتوالت الشهور، وعزيز لا يألو جهدًا عن السعي وراء عمل يدرك منه بغيته، وساعدته روزه على ذلك بأن سهلت له سبيل الاستخدام عند والدها، وكان يتردد في أثناء ذلك إلى منزلها، ويتمتع بمشاهدة طلعتها الباهرة واستماع ألفاظها العذبة.

وكثيرًا ما كان يبحث مع يوسف في وجوب توسيع دائرة أشغاله لما في ذلك من الأرباح الطائلة، فاستصوب رأيه وعزم على اتباعه، ولم تكن سوى بعض أيام حتى أنشأ مصرفًا عظيمًا وعين الأمير مديرًا له، لما كان يعهد فيه من الأمانة والاستقامة، ومن ذلك الوقت اشتدت العلاقة بينهما، فكان عزيز يدأب النهار بطوله في العمل ويقضي سهراته في منزل يوسف، حتى توثقت الألفة بينهم جميعًا ولا سيما بين عزيز وروزه، فقد صفت لهما الأيام بتوفير فرص الاجتماع، فكانا يقضيان الوقت بين نقر الأوتار والتنقل في الحديقة تحت ظل الأشجار، وهما فرِحان بما قَسم لهما الدهر من الغبطة والسرور، قانعان لما نالا من الهناء والحبور.

وكان في الحديقة شجرة صفصاف كبيرة تتدلى أغصانها الكثيفة إلى الأرض، فتمثل غرفة طبيعية أرضها مكسوة ببساط من نسيج الربيع، وأثاثها مقعدان مصنوعان من الصخور الاصطناعية.

فجلس المحبان يومًا في ظل تلك الصفصافة، وباح كل منهما للآخر بما يكنه فؤاده الولهان، وأقسما على الثبات في الحب حتى الممات، ثم تناول عزيز سلسلة ذهبية من عنقه، قد علق فيها ذخيرة صغيرة كانت التذكار الوحيد عنده من والدته، وأعطاها إلى روزه راجيًا أنْ تقبلها منه عربونًا لحبهما.

فأخذتها روزه شاكرة، وجعلتها حول عنقها، فتدلت الذخيرة حتى قلبها، فأدخلتها ضمن ثوبها بعد أنْ قالت لعزيز والسرور يتلألأ في مقلتيها: سأحرص عليها حتى الموت.

فأجابها: أنت يا روزه شمس حياتي، وبدونك لا مطمع لي في الوجود.

وإنهما لكذلك، إذ أقبلت خادمة روزه وقالت: سيدتي، لقد حضرت صديقتك ماري وشقيقها لزيارتك.

فنهضت روزه فرِحة بهذا الملتقى، ودعت عزيزًا لمرافقتها فحاول الانصراف معتذرًا، ولكنها ألحت عليه بالبقاء، وأسرعت أمامه للقاء ضيفيها.

أمَّا هو فلبث واقفًا هنيهة، وأفكاره متجهة نحو ماري تتجلى له بهيئتها اللطيفة، ونظراتها الرقيقة التي لم تفارق مخيلته منذ رؤيته إياها، واجتماعه بهما مسافة الطريق بين مرسيليا والإسكندرية، فارتاعت نفسه لتلك الذكرى، وشعر بشوقٍ يدفعه إلى مشاهدتها، ولكنه رأى من الصواب عدم الانقياد إلى هواه؛ خوف أنْ يُقهر أمام تلك القوة الخارقة، أو يبدو من ماري ما يفضح سرهما أمام من عاهدها منذ هنيهة ألَّا يكون لها في فؤاده شريكة، غير أنه ما لبث أنْ عادت إليه شجاعته ظنًّا بأن ذلك الانعطاف الذي شعر به نحو ماري سابقًا، لم يكن حينئذٍ إلَّا لخلو قلبه من هوى من سواها، أما الآن وقد ملأ حب روزه جوارحه، فلم يعُد في فؤاده مكان لغيرها.

وعليه سار إلى حيث كان الثلاثة مجتمعين، وهو واثق من قوة جنانه وصدق وداده، غير أنه لم تقع عينيه على عين ماري حتى بدا من الاثنين ارتباك وشى به خفقان القلوب، وشهد عليه ورد الجنان، فحيا عزيز الجميع وجلس يبادلهم الحديث، وماري مصغية لكلماته التي كانت تنزل بردًا وسلامًا على فؤادها الطاهر غبطةً وحبورًا، ولم تجتهد في إخفاء ما يخامرها من السرور بوجوده أو تجتنب ما ينم على ميلها إليه، إذ لم تكن تعلم بما بينه وبين صديقتها من روابط الحب، ولو علمت ذلك لما سمحت لأفكارها أنْ تتجه إليه، أو لقلبها أنْ يشتغل به؛ لأنها كانت أشرف طبعًا من أنْ تدخل بين حبيبين متعاهدين، وتفصل بين قلبين متحابين.

ولم تَخفَ تلك الظواهر على روزه، ولكن ثقتها التامة بعزيزها وائتمانها جانب صديقتها حال دون وصول سهام الغيرة إلى قلبها، فحملت ذلك منهما على محمل السذاجة والطهر، وسُرت لمَّا رأت من إعجاب صديقتها به، علمًا بأنها ستُبهج لدى إطلاعها على حبهما.

وكان فريد لا ينفك عن التحبب إلى روزه منتهزًا فرصة اشتغال الآخرين بالحديث، أما روزه فكانت تُحدث الجميع ووجهها يطفح بِشرًا، وقد صممت على أنْ تُطلع ماري على حبها لعزيز، وتأتمنها على سِرها في أول فرصة؛ لأنها لم تكن حتى تلك الساعة تخفي عنها شيئًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤