الفصل الخامس

اليأس

وبينما هو على تلك الحال، يتقلب بين النوم والأرق، سمع صوت مستغيث بالقرب من مكمنه، فهبَّ للحال، وتقلد سلاحه، وخرج خارج الكهف، فرأى على بعد خطوات رجلًا منقضًا على خصمه بيده خنجر يلمع في ضوء القمر، فصوَّب نحوه غدارته ورماه برصاصة فأرداه صريعًا على الأرض، ثم دنا من محل الحادثة فرأى الرجل الذي أنقذه، وكان من أبناء قومه قد اقترب وصافحه شاكرًا حسن صنيعه.

وإنهما لكذلك إذ رأيا الخيل تعدو نحوهما، فكمنا حينًا وإذا بأربعة من الفرسان شاهرين السلاح فأصلياهم بنار بنادقهما الحامية، فقتلا اثنين منهم وركن الاثنان الآخران إلى الفرار، فتقدما حينئذٍ إلى القتيلين وجرداهما من السلاح والذخائر، وسارا في ذلك الليل إلى مكان آخر؛ ليأمنا فيه شر المصائب والأهوال، وحذرا من رجوع ذينك الخصمين بنجدة لا يقويان على مصادمتها، فساقهما القدر إلى مكان على شاطئ نهر الصفاء على مسافة أربعة أميال من بلدة عبية، حيث تكثر الصخور والأشجار، فنزلا إلى كهف لا يهتدي العدو إليه لما في الطريق من وعورة المسلك وكثرة الأدغال.

ولما استقر بهما المقام سأل حبيب رفيقه عن اسمه، وعن السبب الذي من أجله كان يطارده أولئك الفرسان. فقال: إني رجل من أسرة مسيحية كنا نقطن دير القمر، فلما ثارت الفتنة وأحاطت بنا الأعداء من كل جانب، تركنا منازلنا وأمتعتنا ولجأنا إلى بيت الأسرة الجاويشية، التي قيض الله لها أحد الأمراء الإرسلانيين، فأنقذها من غارة الجموع التي كانت محيطة بمنزلها تهدد المستغيثين بالسيف والنار، وقد خرجت متغلغلًا بين أفرادها حتى صرت على مبعدة من البلدة، فأيقنت حينئذٍ أني بعيد عن الموت، وجعلت أتوغل في الفلوات أتوسد الأرض وألتَحف بالهواء، وأعيش على ما أتصيده من الطيور والحيوانات.

وبينما كنت اليوم ذاهبًا في ذلك القفر، سمعت صوت امرأة تستغيث، وقد أحاط بها سبعة من الفرسان، فهبت الحمية في رأسي فتقدمت لإغاثتها، فانقض عليَّ خمسة منهم بالسلاح الأبيض، وعرج الآخران عن الطريق، وذهبا بالمرأة حيث لا أدري، فاحتدمت نار القتال بيني وبينهم حتى وجدت نفسي في موقف الخطر، فأركنت إلى الفرار، فأدركني أحدهم وكاد يقضي عليَّ لو لم تأتِ أنت فتخلصني؛ ولذلك أصبحت رقيق معروفك، وسأجعل حياتي وقفًا على خدمتك ما دام لي روح تختلج في الصدر، ولسان لا ينطق إلَّا بالشكر.

ولم يأتِ على كلامه حتى تغيرت ألوان حبيب وأبرقت عيناه ثم قال له: دع عنك حديث الشكر — أيها العزيز — لم أكن سوى آلة دفعتها التقادير لرفعك من وهدة الموت؛ فالشكر إذن لله الذي حفظك بعين عنايته، فزدني إيضاحًا عن مسألة المرأة التي سمعتها تستغيث من أسْر أولئك الفرسان، لعلي أهتدي إلى أمر هو سبب تعاستي ونكد حياتي، وإنْ شئت أنْ ترافقني إلى محل الحادثة، وتساعدني على البحث والتفتيش عن ضالتي المنشودة تجعلني أسير فضلك ما حييت.

فقال له: إنني أرى في وجهك ما يدل على الارتباك والاهتمام بأمر هذه المرأة التي لم أتميز هيئتها جيدًا؛ لأن الوقت كان مساء، فقُص عليَّ أمرك لعلي أتمكن بمعونة الله من خدمتك وتفريج كربك.

فأطلعه حبيب على أمره وكشف إليه شواغل فكره، فتعاهدا على الإخاء، ووطَّنا النفس على السعي معًا واقتسام المخاطر بالسواء.

ولما أذنت شمس ذلك النهار بالأفول، وودعت أشعتها الروابي والسهول، امتطيا جواديهما وسارا على مهل حتى انتصف الليل، وهما على رابية تشرف على دير القمر، فتَرجلا في مكان منفرد طلبًا للراحة والرُّقاد، وعند الصباح استيقظا من نومهما على أصوات البنادق، فربطا جواديهما إلى جذع شجرة ونزلا إلى البلد يستقصيان الخبر، فرأيا الناس خارجين منها زرافات، وأصوات العويل والبكاء ترن في سفح تلك الأكمة بما يفتت الأكباد، فدخلا بين الجميع يبحثان عن فاتنة، فلم يقفا لها على أثر، فرجعا إلى الرابية حيث مكثا نهارهما، وعند المساء ركبا قاصدين بيت الدين، فدخلا متنكرين، فوجدا البلدة قاعًا صفصفًا ينعق فوقها البوم، فرجعا أدراجهما، وسارا في تلك الفلوات سيرًا حثيثًا حتى وصلا إلى المكان الذي أنقذ فيه حبيب رفيقه من أيدي الفرسان، فرأيا جثث القتلى وقد انتشرت هناك، وشاهدا آثار حوافر الخيل متجهة نحو الشمال الشرقي، فتتبعاها بمزيد من العناية والثبات، حتى وصلا إلى مكان مقفر قد كثرت فيه آثار الحوافر والأقدام، وعلى جانبه عظام جثة متراكمة بعضها فوق بعض، وإلى جانبها ثوب امرأة قد تمزق أكثره. ولم يكد يرى حبيب ذلك الثوب حتى هلع فؤاده وارتجفت أعضاؤه، إذ وضح له أنه الثوب نفسه الذي كانت مرتدية به قرينته يوم أُخذت منه، فتحقق لديه موتها، وللحال سقط إلى الأرض خائر القوى، وصاح بصوت يفتت الفؤاد والأكباد: آه يا فاتنتي ويا موضع آمالي،أيها الملاك الطاهر، لقد عرَّضت نفسك للمهالك والأخطار لإنقاذي من القتل فقابلك الدهر على صنيعك بالموت العاجل، فاذهبي بسلام إلى حيث لا شقاء ولا تعب، وها أنذا راحل على أثرك من هذه الدنيا، إذ إننا لم نتمكن من البقاء معًا في الحياة، فلا بدَّ أنْ يكون لنا نصيب باللقاء بعد الممات.

قال ذلك وقبض على خنجره وهمَّ أنْ يغمده في صدره، ولكن رفيقه أسرع إليه فأمسك يده ورأس الجارحة يكاد يخترق صدره، وقال له: عد أيها الحبيب إلى حالك وتفكر فيما أنت صانع، فإنك سترى أنَّ الانتحار لا يصدر إلَّا من الجبان الوكل، فإن اليأس لا يتسلط إلَّا على الخاملين، وذوي الهمم الضعيفة والعقول السخيفة، وعهدي بك رجلًا لا تحني ظهره النوائب، ولا تثني همته المصائب، فاعتصم بالصبر، واعلم بأن لا فضل لك بهذا العمل ولا دليل فيه على حبك لامرأتك، فحافظ على حياتك وقاوم كل ما يحل بك من نكبات الدهر بالصبر والثبات، وبذلك يكون لك فضل عظيم في الدنيا وراحة وسعادة في الآخرة.

فبكى حبيب بكاءً مرًّا على فَقد حبيبته، وجمع بقاياها فدفنها على رابية صغيرة يجري من سفحها ينبوع من الماء الزلال، وفي اليوم التالي ودَّع ذلك الضريح بعد أنْ سقى ثراه بدموعه، ورجع وصديقه من حيث أتيا، وعند وصولهما إلى دير القمر رأيا أنَّ الاضطرابات قد زالت، ورجع الهدوء والسكينة إلى البلد، فمكثا مدة لم يذُق فيها حبيب لذة الكرى، فانحلَّت قواه، وشحب لونه، وتسلطت عليه الهموم والأحزان، وتراكمت عليه الأكدار والأشجان، فلم يرَ له دواء ينقذه من شر هذا الداء سوى الرحيل من تلك الديار والتنقل في البلاد والأمصار، لعل ذلك يخفف بلواه، ويلطف حر جواه، فأطلع صديقه على عزمه فوافق على ذلك، وسافرا معًا حتى وصلا إلى مدينة بيروت، فنزلا في أحد الفنادق، وناما تلك الليلة نومًا ثقيلًا من شدة ما أصابهما من أتعاب السفر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤