الفصل الثامن

جُون ثُورنتُون

رُغْمَ أَنَّ الطَّقْسَ كَانَ رَبِيعِيًّا بَدِيعًا، لَمْ يَشْعُرْ بِهِ لَا الْكِلَابُ وَلَا الْأَشْخَاصُ الْمُسَافِرُونَ مَعَهُمْ، كُلَّ يَوْمٍ كَانَتِ الشَّمْسُ تُشْرِقُ مُبَكِّرًا لِلْغَايَةِ وَتَغْرُبُ فِي وَقْتٍ مُتَأَخِّرٍ. فَكَانَ الْفَجْرُ يَبْزُغُ فِي الثَّالِثَةِ صَبَاحًا وَيَظَلُّ نُورُ النَّهَارِ مُضِيئًا حَتَّى التَّاسِعَةِ لَيْلًا.

كَانَتْ قَطَرَاتُ الْمَاءِ تَسِيلُ مِنْ فَوْقِ كُلِّ التِّلَالِ، فَقَدْ بَدَأَ الثَّلْجُ فِي الذَّوَبَانِ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَتَشَكَّلَتْ فَتَحَاتُ الْهَوَاءِ فِي الْجَلِيدِ وَانْفَتَحَتِ الشُّرُوخُ وَاتَّسَعَتْ، بَيْنَمَا سَقَطَتِ الطَّبَقَاتُ الرَّقِيقَةُ مِنَ الْجَلِيدِ فِي النَّهْرِ أَسْفَلَهَا.

وَمَعَ تَسَاقُطِ الْكِلَابِ وَاحِدًا تِلْوَ الْآخَرِ، وَبُكَاءِ مرسيدس، وَصُرَاخِ هال الْغَاضِبِ وَعَيْنَيْ تشارلز الدَّامِعَتَيْنِ، وَصَلَ الْفَرِيقُ مُتَرَنِّحًا إِلَى مُخَيَّمِ جون ثورنتون عِنْدَ مَصَبِّ نَهْرِ وايت. وَبِمُجَرَّدِ مَا تَوَقَّفُوا، انْهَارَتِ الْكِلَابُ عَلَى الْأَرْضِ، وَجَفَّفَتْ مرسيدس دُمُوعَهَا وَنَظَرَتْ إِلَى جون ثورنتون. جَلَسَ تشارلز عَلَى قِطْعَةِ حَطَبٍ لِيَرْتَاحَ، جَلَسَ بِبُطْءٍ وَحِرْصٍ شَدِيدَيْنِ لِأَنَّ جَسَدَهُ كَانَ مُتَخَشِّبًا، وَتَوَلَّى هال مَسْئُولِيَّةَ الْحَدِيثِ مَعَ صَاحِبِ الْمُخَيَّمِ. كَانَ جون ثورنتون يَبْرِي مِقْبَضَ فَأْسٍ، وَاسْتَمَرَّ فِي عَمَلِهِ وَهُوَ يَسْمَعُ، وَكَانَ يُعْطِي رُدُودًا مُقْتَضَبَةً وَحَتَّى عِنْدَمَا يُسْأَلُ كَانَ يُعْطِي نَصَائِحَ أَكْثَرَ اقْتِضَابًا. وَقَدْ أَدْرَكَ ثورنتون مَاهِيَّةَ هَؤُلَاءِ النَّاسِ عَلَى الْفَوْرِ، وَعِنْدَمَا كَانَ يُعْطِيهِمُ النَّصَائِحَ كَانَ مُتَأَكِّدًا أَنَّهُمْ لَنْ يَسْتَمِعُوا لَهَا.

قَالَ هال بَعْدَ أَنْ نَصَحَهُ ثورنتون بِعَدَمِ السَّيْرِ عَلَى الْجَلِيدِ: «قَالُوا لَنَا إِنَّ الْجَلِيدَ يَنْكَسِرُ عَلَى الطَّرِيقِ وَالْقَاعَ يَسْقُطُ، وإِنَّ أَفْضَلَ شَيْءٍ يُمْكِنُنَا فِعْلُهُ هُوَ الِانْتِظَارُ. وَلَكِنَّهُم قَالُوا لَنَا كَذَلِكَ إِنَّنَا لَنْ نَصِلَ إِلَى نَهْرِ وايت، وَهَا نَحْنُ ذَا.»

أَجَابَ جون ثورنتون: «وَلَقَدْ أَخْبَرُوكُمُ الْحَقِيقَةَ. الْقَاعُ سَيَسْقُطُ فِي أَيَّةِ لَحْظَةٍ. وَحْدَهُمُ الْمُغَفَّلُونَ أَصْحَابُ حَظِّ الْمُغَفَّلِينَ الْأَعْمَى يُمْكِنُهُمْ قَطْعُ كُلِّ هَذِهِ الْمَسَافَةِ. لَمْ أَكُنْ لِأُجَازِفَ بِحَيَاتِي عَلَى هَذَا الْجَلِيدِ مُقَابِلَ كُلِّ الذَّهَبِ فِي ألاسكا.»

قَالَ هال: «هَذَا لِأَنَّكَ لَسْتَ مُغَفَّلًا عَلَى مَا أَعْتَقِدُ. عَلَى أَيَّةِ حَالٍ، سَنَسْتَمِرُّ فِي الطَّرِيقِ إِلَى داوسون. انْهَضْ يَا باك! انْهَضْ! هَيَّا انْطَلِقْ!»

تَابَعَ ثورنتون عَمَلَهُ، فَقَدْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ مُحَاوَلَةَ إِيقَافِ مُغَفَّلٍ مَا هِيَ إِلَّا مَضْيَعَةٌ لِلْوَقْتِ، كَمَا أَنَّ تَخَلُّصَ الْعَالَمِ مِنْ مُغَفَّلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ لَيْسَ شَيْئًا سَيِّئًا عَلَى الْإِطْلَاقِ.

وَلَكِنَّ الْفَرِيقَ لَمْ يَنْهَضْ بَعْدَ أَوَامِرِ هال، فَأَخَذَ هال يَدْفَعُ الْكِلَابَ وَيَرْكُلُهَا وَاسْتَخْدَمَ سَوْطَهُ. عَضَّ جون ثورنتون عَلَى شَفَتَيْهِ فِي مُحَاوَلَةٍ لِلتَّحَكُّمِ فِي أَعْصَابِهِ. كَانَ سوليكس هُوَ أَوَّلُ مَنْ زَحَفَ نَاهِضًا، تَبِعَهُ تيك، ثُمَّ جو وَهُوَ يَصْرُخُ أَلَمًا، وَسَقَطَ بايك مَرَّتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْوُقُوفِ. وَلَكِنَّ باك لَمْ يُحَرِّكْ سَاكِنًا، كُانَ مُسْتَلْقِيًا فِي هُدُوءٍ فِي مَكَانِ سُقُوطِهِ، وَمَهْمَا فَعَلَ هال، لَمْ يَتَحَرَّكْ باك قِيدَ أُنْمُلَةٍ؛ وَلَمْ يَئِنَّ أَوْ يُقَاوِمَ. وَعِدَّةَ مَرَّاتٍ، كَانَ ثورنتون عَلَى وَشْكِ التَّحَدُّثِ، وَلَكِنَّهُ غَيَّرَ رَأْيَهُ، وَمَع اسْتِمْرَارِ مُعَامَلَةِ هال السَّيِّئَةِ لِباك، هَبَّ ثورنتون وَاقِفًا مِنْ مَكَانِهِ وَأَخَذَ يَقْطَعُ الْمَكَانَ جِيئَةً وَذَهَابًا.

كَانَتْ هَذِهِ هِيَ الْمَرَّةُ الْأُولَى الَّتِي يَفْشَلُ فِيهَا باك، وَقَدْ أَثَارَ هَذَا غَضَبَ هال. كَانَ باك لَا يَزَالُ مُصِرًّا عَلَى عَدَمِ التَّحَرُّكِ، فَعَلَى غِرَارِ زُمَلَائِهِ فِي الْفَرِيقِ بِالْكَادِ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنَ الْوُقُوفِ. لَقَدْ عَقَدَ باك الْعَزْمَ عَلَى عَدَمِ النُّهُوضِ مِنْ مَكَانِهِ، فَقَدْ كَانَ لَدَيْهِ إِحْسَاسٌ أَنَّ شَيْئًا سَيِّئًا سَيَحْدُثُ، وَقَدْ رَاوَدَهُ ذَلِكَ الشُّعُورُ عِنْدَ تَوَقُّفِهِمْ عِنْدَ مُخَيَّمِ جون ثورنتون. وَطَوَالَ الْيَوْمِ، بَدَا وَكَأَنَّ الْجَلِيدَ الرَّقِيقَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ عَلَى وَشْكِ الِانْهِيَارِ؛ فَقَدْ كَانَ باك ذَكِيًّا وَخَبِيرًا بِمَا يَكْفِي لِكَيْ يَعْلَمَ ذَلِكَ. فَرَفَضَ التَّحَرُّكَ؛ فَلَقَدْ عَانَى الْكَثِيرَ وَخَارَتْ قُوَاهُ لِدَرَجَةِ أَنَّ شَيْئًا لَمْ يَعُدْ يُؤْذِيهِ الْآنَ، حَتَّى ضَرَبَاتُ هال.

وَفَجْأَةً وَبِدُونِ إِنْذَارٍ، قَفَزَ جون ثورنتون عَلَى هال وَطَرَحَهُ أَرْضًا. صَرَخَتْ مرسيدس وَنَظَرَ تشارلز بِأَسًى، وَمَسَحَ عَيْنَيْهِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقِفْ بِسَبَبِ تَيَبُّسِ جَسَدِهِ. وَقَفَ جون ثورنتون أَمَامَ باك وَجَاهَدَ لِلتَّحَكُّمِ فِي أَعْصَابِهِ، إِذْ قَدْ بَلَغَ مِنْهُ الْغَضَبُ مَبْلَغَهُ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعِ الْحَدِيثَ.

ثُمَّ قَالَ أَخِيرًا: «إِذَا آذَيْتَ هَذَا الْكَلْبَ مُجَدَّدًا، فَسَأَضْرِبُكَ مَرَّةً أُخْرَى.»

أَجَابَ هال وَهُوَ يَمْسَحُ فَمَهُ: «إِنَّهُ كَلْبِي أَنَا. ابْتَعِدْ عَنْ طَرِيقِي وَإِلَّا سَأَضْرِبُكَ. أَنَا ذَاهِبٌ إِلَى داوسون.»

قَالَ ثورنتون: «لَيْسَ بِهَذَا الْكَلْبِ.»

صَاحَتْ مرسيدس: «احْتَرِسْ يَا هال، نَحْنُ لَا نُرِيدُ الْمَتَاعِبَ.»

أَجَابَهَا هال: «لَا تَتَدَخَّلِي فِي الْأَمْرِ.»

طَوَالَ ذَلِكَ الْوَقْتِ، كَانَ ثورنتون لَا يَزَالُ يَقِفُ بَيْنَ هال وَباك وَلَمْ يَقُمْ بِأَيِّ حَرَكَةٍ لِلِابْتِعَادِ عَنِ الطَّرِيقِ. رَفَعَ هال سَوْطَهُ، وَلَكِنَّ ثورنتون ضَرَبَ يَدَ هال بِيَدِ الْفَأْسِ، فَسَقَطَ السَّوْطُ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ ضَرَبَ يَدَ هال بِقُوَّةٍ مَرَّةً أُخْرَى عِنْدَمَا حَاوَلَ اسْتِعَادَتَهُ، ثُمَّ انْحَنَى ثورنتون وَالْتَقَطَ السَّوْطَ مِنْ عَلَى الْأَرْضِ وَأَلْقَى بِهِ بَعِيدًا، ثُمَّ أَخْرَجَ سِكِّينَهُ وَحَرَّرَ باك مِنَ السَّرْجِ.

كَانَ هال مُرْهَقًا جِدًّا وَلَا يَسْتَطِيعُ الْقِتَالَ، كَمَا أَنَّ باك كَانَ مُرْهَقًا بِشِدَّةٍ وَلَا يَسْتَطِيعُ الِاسْتِمْرَارَ فِي الْفَرِيقِ عَلَى أَيَّةِ حَالٍ، فَقَالَ هال لِثورنتون: «حَسَنًا، لَقَدْ رَبِحْتَ. احْتَفِظْ بِالْكَلْبِ عَدِيمِ الْجَدْوَى، لَسْنَا بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ عَلَى أَيَّةِ حَالٍ.»

بَعْدَ بِضْعِ دَقَائِقَ، انْطَلَقُوا مِنَ الْمُخَيَّمِ وَعَبْرَ الْجَلِيدِ الَّذِي يُغَطِّي النَّهْرَ، سَمِعَهُمْ باك وَهُمْ يَرْحَلُونَ وَرَفَعَ رَأْسَهُ لِيُشَاهِدَهُمْ، كَانَتِ الْكِلَابُ تَعْرُجُ وَتَتَرَنَّحُ، وَكَانَتْ مرسيدس تَرْكَبُ الْمِزْلَجَةَ وَهال يَقُودُ، بَيْنَمَا كَانَ تشارلز يَسِيرُ مُتَعَثِّرًا خَلْفَهُمْ.

جَثَا ثورنتون بِجَانِبِ باك وَأَخَذَ يَتَفَحَّصُهُ بِيَدَيْهِ الْخَشِنَتَيْنِ اللَّطِيفَتَيْنِ بَحْثًا عَنْ أَيِّ إِصَابَاتٍ. وَرَاقَبَ هُوَ وَباك الْمِزْلَجَةَ وَهِيَ تَتَزَحْلَقُ عَلَى الْجَلِيدِ، وَفَجْأَةً، شَاهَدَا مُؤَخِّرَتَهَا تَسْقُطُ لِأَسْفَلَ، ثُمَّ سَمِعَا مرسيدس تَصْرُخُ، وَرَأَيَا تشارلز يَرْجِعُ وَيَجْرِي لِلْخَلْفِ، ثُمَّ سَقَطَ جُزْءٌ كَامِلٌ مِنَ الْجَلِيدِ بَيْنَمَا اخْتَفَى الْبَشَرُ وَالْكِلَابُ. لَقَدِ انْكَسَرَ الْجَلِيدُ وَسَقَطَ الْقَاعُ.

شَاهَدَا الْفَرِيقَ وَهُوَ يُكَافِحُ بِدُونِ الْمِزْلَجَةِ أَوْ أَيٍّ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِهِمْ، وَسَحَبُوا أَنْفُسَهُمْ وَالْكِلَابَ إِلَى الضَّفَّةِ الْمُقَابِلَةِ. وَبِدُونِ طَلَبِ أَيِّ مُسَاعَدَةٍ مِنْ ثورنتون، مَشَى الْفَرِيقُ نَحْوَ الْجِهَةِ الَّتِي أَتَوْا مِنْهَا تِجَاهَ الْمُخَيَّمِ التَّالِي، حَيْثُ سَيُجَفِّفُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَحْصُلُونَ عَلَى بَعْضِ التَّدْفِئَةِ قَبْلَ الْعَوْدَةِ إِلَى وَطَنِهِمْ.

نَظَرَ جون ثورنتون وَباك إِلَى بَعْضِهِمَا الْبَعْضِ.

قَالَ جون ثورنتون: «أَيُّهَا الشَّيْطَانُ الْمِسْكِينُ.» وَلَعَقَ باك يَدَهُ.

فِي دِيسَمْبِرَ الْمَاضِي، تَبَلَّلَتْ قَدَمَا جون ثورنتون وَتَجَمَّدَتَا فِي الْبَرْدِ. فَأَرَاحَهُ زُمَلَاؤُهُ ثُمَّ تَرَكُوهُ لِيَتَحَسَّنَ بَيْنَمَا سَافَرُوا بِاتِّجَاهِ مَنْبَعِ النَّهْرِ لِلِّحَاقِ بِطَوْفٍ يَتَّجِهُ إِلَى داوسون. كَانَ لَا يَزَالُ يَعْرُجُ قَلِيلًا عِنْدَمَا أَنْقَذَ باك، وَلَكِنْ مَعَ تَحَوُّلِ الْجَوِّ لِلدِّفْءِ تَوَقَّفَ عَنِ الْعَرَجِ.

وَعَلَى غِرَارِ جون ثورنتون، اسْتَغَلَّ باك هَذِهِ الْأَيَّامَ لِيَسْتَرِدَّ عَافِيَتَهُ؛ فَكَانَ يَسْتَلْقِي بِجَانِبِ ضَفَّةِ النَّهْرِ طَوَالَ فَتْرَةِ الْعَصْرِ الطَّوِيلَةِ فِي الرَّبِيعِ، يُشَاهِدُ الْمِيَاهَ الْجَارِيَةَ وَيَسْتَمِعُ إِلَى غِنَاءِ الطُّيُورِ وَأَصْوَاتِ الطَّبِيعَةِ، وَقَدِ اسْتَعَادَ قُوَّتَهُ بِبُطْءٍ.

كَانَ الشُّعُورُ بِالرَّاحَةِ جَمِيلًا بَعْدَ السَّفَرِ لِمَسَافَةِ ثَلَاثَةِ آلَافِ مِيلٍ، وَشَعَرَ باك بِالْخُمُولِ بَيْنَمَا تُشْفَى جُرُوحُهُ وَتَتَعَافَى عَضَلَاتُهُ وَيَعُودُ اللَّحْمُ لِيُغَطّيَ عَظْمَهُ. كَانُوا جَمِيعًا — باك وَجون ثورنتون وَسكيت وَفيج — يَشْعُرُونَ بِالْخُمُولِ وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ الطَّوْفَ لِيَعُودَ وَيَأْخُذَهُمْ إِلَى داوسون. كَانَتْ سكيت كَلْبَةً صَغِيرَةً، وَقَدْ كَوَّنَتْ صَدَاقَةً سَرِيعًا مَعَ باك الَّذِي كَانَ مُرْهَقًا لِدَرَجَةِ أَنَّهُ لَا يَقْوَى حَتَّى عَلَى إِبْعَادِهَا. كَانَتْ مِثْلَ الطَّبِيبِ الْخَاصِّ بِهِ؛ وَبِالطَّرِيقَةِ نَفْسِهَا الَّتِي تَغْسِلُ بِهَا الْقِطَّةُ الْأُمُّ صِغَارَهَا، كَانَتْ سكيت تَغْسِلُ وَتُنَظِّفُ جِرَاحَ باك. كُلُّ صَبَاحٍ بَعْدَ أَنْ يُنْهِيَ إِفْطَارَهُ، كَانَتْ تَعْتَنِي بِهِ حَتَّى بَدَأَ يَتَطَلَّعُ لِهَذِهِ الْجِلْسَاتِ. أَمَّا فيج، فَقَدْ كَانَ كَلْبًا أَسْوَدَ اللَّوْنِ ضَخْمَ الْجُثَّةِ، وَكَانَ لَطِيفًا تَمَامًا مِثْلَ سكيت، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ ذَلِكَ كَثِيرًا مِثْلَهَا.

وَلِدَهْشَةِ باك، لَمْ يُعَامِلْهُ هَذَان الْكَلْبَانِ بِطَرِيقَةٍ سَيِّئَةٍ، وَلَمْ يَتَنَافَسَا مَعَهُ، بَلْ كَانَا لَطِيفَيْنِ وَكُرَمَاءَ مِثْلَ جون ثورنتون نَفْسِهِ.

بَدَأَ باك يَشْعُرُ بِالْحُبِّ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ. فَلَمْ يَخْتَبِرْ ذَلِكَ الشُّعُورَ مِنْ قَبْلُ فِي مَنْزِلِ الْقَاضِي ميلر فِي وَادِي سانتا كلارا الْمُشْمِسِ؛ فَمَعَ أَبْنَاءِ الْقَاضِي عِنْدَمَا كَانُوا يَصْطَادُونَ، كَانَ يَشْعُرُ وَكَأَنَّهُ شَرِيكُهُمْ، وَمَعَ أَحْفَادِ الْقَاضِي، كَانَ يَشْعُرُ وَكَأَنَّهُ الْحَارِسُ، وَمَعَ الْقَاضِي، كَانَ يَشْعُرُ أَنَّهُ صَدِيقُهُ، وَلَكِنْ مَعَ جون ثورنتون، تَذَوَّقَ باك الْحُبَّ.

فهَذَا الرَّجُلُ أَنْقَذَ حَيَاتَهُ، إِذْ كَانَ باك يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ مِنْ تِلْكَ الرِّحْلَةِ مَعَ هال وَتشارلز وَمرسيدس. كَمَا كَانَ جون ثورنتون أَفْضَلَ سَيِّدٍ حَصَلَ عَلَيْهِ أَيْضًا. فَكَانَ الرِّجَالُ الْآخَرُونَ يَعْتَنُونَ بِكِلَابِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَنْطِقِيًّا، أَمَّا ثورنتون فَكَانَ يَعْتَنِي بِكِلَابِهِ وَكَأَنَّهَا أَوْلَادُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَلَّا يَفْعَلَ ذَلِكَ.

وَكَانَ يَفْعَلُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ كَانَ يَتَحَدَّثُ مَعَهُمْ بِلُطْفٍ دَائِمًا، وَكَانَ يُمْسِكُ بِرَأْسِ باك بِقُوَّةٍ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيُرِيحُ رَأْسَهُ عَلَى رَأْسِ باك، وَيَهُزُّهُ بِقُوَّةٍ، وَأَثْنَاءَ ذَلِكَ، كَانَ يَنْعَتُ باك بِأَلْقَابٍ سَيِّئَةٍ لِلْمَرَحِ فَقَطْ. لَمْ يَعْرِفْ باك أَفْضَلَ مِنْ هَذَا الْعِنَاقِ الْخَشِنِ وَصَوْتِ جون ثورنتون. وَمَعَ كُلِّ هِزَّةٍ كَانَ باك يَشْعُرُ أَنَّ قَلْبَهُ سَيَقْفِزُ مِنْ جَسَدِهِ فَرَحًا. وَعِنْدَمَا كَانَ ثورنتون يَتْرُكُهُ، كَانَ باك يَقْفِزُ عَلَى قَدَمَيْهِ، وَفَمُهُ يَضْحَكُ وَعَيْنَاهُ تَلْمَعَانِ وَيَقِفُ سَاكِنًا. كَانَ جون ثورنتون يُحْدِّقُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: «وَكَأَنَّكَ تَسْتَطِيعُ التَّحَدُّثَ إِلَيَّ أَيُّهَا الْفَتَى!»

كَانَ باك يُظْهِرُ حُبَّهُ بِطَرِيقَةٍ تَكَادُ تُشْبِهُ الْغَضَبَ، كَانَ كَثِيرًا مَا يَأْخُذُ يَدَ ثورنتون فِي فَمِهِ وَيَتَظَاهَرُ بِالْعَضِّ؛ فَكَانَ يَفْهَمُ أَنَّ ثورنتون يَنْعَتُهُ بِأَلْقَابٍ سَيِّئَةٍ لِلْمَرَحِ فَقَطْ، وَكَانَ ثورنتون يَفْهَمُ أَنَّ هَذِهِ الْعَضَّاتِ الْمُزَيَّفَةَ كَانَتْ مِثْلَ الْعِنَاقِ.

كَانَ باك يَشْعُرُ بِسَعَادَةٍ عَارِمَةٍ عِنْدَمَا يَلْمِسُهُ ثورنتون أَوْ يَتَحَدَّثُ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْعَ أَبَدًا لِذَلِكَ. أَمَّا سكيت، فَكَانَتْ مُخْتَلِفَةً؛ إِذْ كَانَتْ تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا تَحْتَ يَدِ ثورنتون وَتَظَلُّ تَكِزُّهُ بِرِفْقٍ حَتَّى يُدَاعِبَهَا. وَكَانَ فيج يَتَقَدَّمُ إِلَى ثورنتون وَيُرِيحُ رَأْسَهُ الْكَبِيرَ عَلَى رُكْبَتِهِ. أَمَّا باك، فَكَانَ سَعِيدًا بِحُبِّهِ لِثورنتون عَنْ بُعْدٍ، فَكَانَ يَسْتَلْقِي تَحْتَ قَدَمَيْ ثورنتون، مُنْتَبِهًا وَمُتَحَمِّسًا، يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ وَيَتَأَمَّلُهُ. وَكَانَ مُهْتَمًّا بِكُلِّ تَعْبِيرٍ وَكُلِّ حَرَكَةٍ أَوْ تَغْيِيرٍ، أَوْ كَانَ يَسْتَلْقِي بَعِيدًا، وَيُرَاقِبُ حَرَكَةَ جَسَدِ جون ثورنتون. وَقَدْ أَصْبَحَ الرَّجُلُ وَالْكَلْبُ مُقَرَّبَيْنِ مِنْ بَعْضِهِمَا جِدًّا، حَتَّى إِنَّهُ عِنْدَمَا كَانَ باك يُحْدِّقُ فِيهِ، كَانَ ثورنتون يَشْعُرُ بِذَلِكَ وَيَلُفُّ رَأْسَهُ وَيُحْدِّقُ فِي الْكَلْبِ بِدُونِ حَدِيثٍ.

وَعَلَى مَدَارِ فَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ بَعْدَ إِنْقَاذِهِ، لَمْ يُحِبَّ باك أَنْ يَبْتَعِدَ ثورنتون عَنْ نَاظِرَيْهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ يَتْبَعُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ. فَكُلُّ أَسْيَادِهِ السَّابِقِينَ قَدْ تَرَكُوهُ، وَكَانَ خَائِفًا أَنْ يَتْرُكَهُ ثورنتون مِثْلَمَا تَرَكَهُ بيرو وَفرانسوا وَالسَّائِقُ الِاسْكُتْلَنْدِيُّ، حَتَّى لَيلًا فِي أَحْلَامِهِ كَانَ خَائِفًا، وَعِنْدَمَا كَانَ يَحْدُثُ ذَلِكَ، كَانَ يَهُبُّ مِنْ نَوْمِهِ وَيَتَسَلَّلُ فِي اللَّيْلِ الْبَارِدِ إِلَى الْخَيْمَةِ، وَهُنَاكَ كَانَ يَقِفُ وَيَسْتَمِعُ إِلَى صَوْتِ أَنْفَاسِ سَيِّدِهِ.

رُغْمَ حُبِّهِ الْعَظِيمِ لِجون ثورنتون، كَانَتِ الْحَيَاةُ عَلَى الطَّرِيقِ قَدْ أَكْسَبَتْ باك الشَّرَاسَةَ وَالدَّهَاءَ. فَبِسَبَبِ حُبِّهِ الْكَبِيرِ، لَمْ يَسْتَطِعْ السَّرِقَةَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتَرَدَّدْ لَحْظَةً فِي السَّرِقَةِ مِنْ أَيِّ رَجُلٍ آخَرَ فِي أَيِّ مُخَيَّمٍ آخَرَ، وَكَانَ مَكْرُهُ يُمَكِّنُهُ مِنَ الْقِيَامِ بِذَلِكَ دُونَ أَنْ يَكْشِفَ أَحَدٌ أَمْرَهُ.

كَانَ فِي وَجْهِهِ وَجَسِدِهِ نُدُوبٌ مِنْ كُلِّ الْمَعَارِكِ الَّتِي خَاضَهَا مَعَ الْكِلَابِ الْأُخْرَى، وَكَانَ لَا يَزَالُ بِإِمْكَانِهِ الْقِتَالُ بِضَرَاوَتِهِ الْمُعْتَادَةِ. وَكَانَ سكيت وَفيج أَلْطَفَ مِنْ أَنْ يَتَعَارَكَا مَعَهُ، وَالْأَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمَا كَلْبَا جون ثورنتون، وَلَكِنْ كَانَ باك يُحَاوِلُ الْعِرَاكَ مَعَ أَيِّ كَلْبٍ آخَرَ يَلْقَاهُ.

كَانَ يَبْدُو وَيَشْعُرُ وَكَأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ عُمْرِهِ الْحَقِيقِيِّ، فَكَانَ يَتَحَوَّلُ شَيْئًا فَشَيْئًا إِلَى كَلْبٍ بَرِّيٍّ. وَأَحْيَانًا، بَيْنَمَا يَسْتَلْقِي بِجَانِبِ جون ثورنتون أَمَامَ النَّارِ، كَانَ باك يَشْعُرُ بِالرَّغْبَةِ فِي الرَّكْضِ إِلَى الْغَابَةِ الْمُظْلِمَةِ. لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ، وَلَا لِمَاذَا عَلَيْهِ الرَّكْضُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَتَذَكَّرُ حُبَّهُ لِجون ثورنتون فَيَعُودُ إِلَى جِوَارِ النَّارِ مُجَدَّدًا.

كَانَ ثورنتون هُوَ الشَّيْءُ الْوَحِيدُ الَّذِي يَمْنَعُ باك مِنَ الْهُرُوبِ، كُلُّ الْأَشْخَاصِ الْآخَرِينَ لَمْ يَعْنُوا لَهُ شَيْئًا. رُبَّمَا يُرَبِّتُ عَلَيْهِ الْمُسَافِرُونَ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَهْتَمُّ، وَكَانَ يُمْكِنُهُ النُّهُوضُ مِنْ جِوَارِ رَجُلٍ شَدِيدِ اللُّطْفِ وَالِابْتِعَادِ عَنْهُ. وَعِنْدَمَا عَادَ شَرِيكَا ثورنتون، هانز وبيت، رَفَضَ باك الِاهْتِمَامَ بِوُجُودِهِمَا حَتَّى عَرَفَ أَنَّهُمَا مُقَرَّبَانِ مِنْ ثورنتون. بَعْدَ ذَلِكَ، كَانَ يَتَصَرَّفُ وَكَأَنَّهُ يُقَدِّمُ لَهُمَا مَعْرُوفًا بِالسَّمَاحِ لَهُمَا بِالتَّعَامُلِ مَعَهُ بِلُطْفٍ. وَعِنْدَمَا وَصَلَ الطَّوْفُ إِلَى داوسون، كَانَا قَدْ فَهِمَا باك وَطُرُقَهُ وَلَمْ يُحَاوِلَا أَنْ يَكُونَا لُطَفَاءَ مَعَهُ كَمَا كَانَا مَعَ سكيت وفيج.

وَلَكِنَّ حُبَّهُ لِثورنتون كَانَ يَكْبُرُ شَيْئًا فَشَيْئًا. كَانَ ثورنتون الرَّجُلَ الْوَحِيدَ الَّذِي يُمْكِنُهُ وَضْعُ حَقِيبَةٍ عَلَى ظَهْرِ باك عِنْدَمَا كَانُوا مُسَافِرِينَ فِي الصَّيْفِ، لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ صَعْبٌ عَلَى باك إِذَا طَلَبَهُ مِنْهُ ثورنتون. وَذَاتَ يَوْمٍ، كَانَ الرِّجَالُ وَالْكِلَابُ يَجْلِسُونَ بِالْقُرْبِ مِنْ حَافَةِ جُرُفٍ يَنْحَدِرُ إِلَى وَادٍ صَخْرِيٍّ عَلَى بُعْدِ ثَلَاثِمِائَةِ قَدَمٍ. كَانَ جون ثورنتون يَجْلِسُ بِالْقُرْبِ مِنَ الْحَافَةِ وَكَانَ باك عِنْدَ كَتِفِهِ. ثُمَّ طَرَأَتْ عَلَى ذِهْنِ ثورنتون فِكْرَةٌ، فَسَأَلَ هانز وَبيت عَنْ رَأْيِهِمَا فِي مَدَى إِخْلَاصِ باك لَهُ.

قَالَ هانز: «لَمْ أَرَ كَلْبًا فِي إِخْلَاصِهِ.» وَأَوْمَأَ بيت مُوَافِقًا.

قَالَ ثورنتون: «دَعُونِي أُرِيكُمْ كَمْ هُوَ مُخْلِصٌ فِي الْحَقِيقَةِ، شَاهِدُوا ذَلِكَ.»

اسْتَدَارَ ثورنتون نَحْوَ باك الَّذِي كَانَ يُبْقِي عَيْنَيْهِ عَلَى سَيِّدِهِ طَوَالَ الْوَقْتِ.

فَأَمَرَهُ وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى الْجُرُفِ: «اقْفِزْ يَا باك!»

فِي اللَّحْظَةِ التَّالِيَةِ، كَانَ ثورنتون يَجْذِبُ باك مِنْ عَلَى الْحَافَةِ بِمُسَاعَدَةِ هانز وبيت.

قَالَ بيت بَعْدَ انْتِهَاءِ الْأَمْرِ بِسَلَامٍ: «هَذَا رَائِعٌ.»

هَزَّ ثورنتون رَأْسَهُ: «كَلَّا، إِنَّهُ أَمْرٌ جَيِّدٌ أَنَّهُ يَسْتَمِعُ إِلَيَّ، وَلَكِنَّهُ رَهِيبٌ أَيْضًا. أَحْيَانًا يُشْعِرُنِي بِالْخَوْفِ.»

قَالَ بيت وَهُوَ يُومِئُ بِرَأْسِهِ نَحْوَ باك: «لَا أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ مَكَانَ الرَّجُلِ الَّذِي يُؤْذِيكَ وَباك فِي الْأَرْجَاءِ. إِنَّهُ أَوْفَى وَأَشْرَسُ صَدِيقٍ يُمْكِنُ لِأَيِّ شَخْصٍ الْحُصُولُ عَلَيْهِ.»

تَدَخَّلَ هانز: «بِحَقِّ السَّمَاءِ! أَتَّفِقُ مَعَ بيت تَمَامًا. هَذَا الْكَلْبُ يُسَاوِي جَيْشًا، وَكَمْ أَشْعُرُ بِالشَّفَقَةِ تِجَاهَ مَنْ سَيَكْتَشِفُ ذَلِكَ بِالطَّرِيقَةِ الصَّعْبَةِ.»

وَوَقَعَتِ الْحَادِثَةُ فِي مَدِينَةِ سيركل، قَبْلَ نِهَايَةِ السَّنَةِ، عِنْدَمَا تَحَوَّلَتْ مَخَاوِفُ بيت إِلَى وَاقِعٍ. كَانَ بلاك بورتون رَجُلًا وَضِيعًا وَسَيِّئَ الطِّبَاعِ، وَكَانَ يَبْدَأُ الشِّجَارَ مَعَ وَافِدٍ جَدِيدٍ فِي الْفُنْدُقِ عِنْدَمَا تَدَخَّلَ ثورنتون لِفَصْلِهِمَا. كَانَ باك يَسْتَلْقِي فِي الرُّكْنِ كَعَادَتِهِ وَيَسْنِدُ رَأْسَهُ عَلَى قَدَمَيْهِ الْأَمَامِيَّتَيْنِ وَهُوَ يُرَاقِبُ كُلَّ حَرَكَةٍ يَقُومُ بِهَا سَيِّدُهُ. وَبِدُونِ أَيِّ إِنْذَارٍ، ضَرَبَ بورتون ثورنتون بِقُوَّةٍ وَطَرَحَهُ أَرْضًا.

سَمِعَ النَّاسُ الَّذِينَ كَانُوا يُرَاقِبُونَ مَا حَدَثَ صَوْتًا لَمْ يَكُنْ نُبَاحًا وَلَا عُوَاءً، بَلْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الزَّئِيرِ، وَشَاهَدُوا باك وَهُوَ يَنْطَلِقُ فِي الْهَوَاءِ وَيَنْقَضُّ عَلَى بورتون. انْدَفَعَ بورتون إِلَى الْخَلْفِ وَباك فَوْقَهُ، وَاضْطُرَّ الْحَاضِرُونَ إِلَى جَذْبِ باك بَعِيدًا، وَبَيْنَمَا كَانُوا يَفْحَصُونَ إِصَابَاتِ بورتون، كَانَ باك يَقْفِزُ وَيُزَمْجِرُ بِغَضَبٍ مُحَاوِلًا الِانْقِضَاضَ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَكِنْ يَمْنَعُهُ نَحْوُ عَشَرَةِ رِجَالِ.

وَأَخِيرًا تَمَكَّنَ بورتون مِنَ النُّهُوضِ عَلَى قَدَمَيْهِ وَهُوَ يَتَرَنَّحُ وَيَلْهَثُ وَقَالَ: «لَمْ أَرَ كَلْبًا مِثْلَ هَذَا مِنْ قَبْلُ، وَأَتَمَنَّى أَلَّا أَرَى مِثْلَهُ مُجَدَّدًا.» وَمُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ شَاعَ اسْمُ باك فِي كُلِّ مُخَيَّمٍ فِي ألاسكا.

وَفِي وَقْتٍ لَاحِقٍ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ وَفِي فَصْلِ الْخَرِيفِ، أَنْقَذَ باك حَيَاةَ جون ثورنتون بِطَرِيقَةٍ مُخْتَلِفَةٍ تَمَامًا. كَانَ الشُّرَكَاءُ الثَّلَاثَةُ يُحَاوِلُونَ تَحْرِيكَ قَارِبٍ صَغِيرٍ عَبْرَ الْمُنْحَدَرَاتِ فِي النَّهْرِ الَّذِي يَمْتَدُّ لِأَرْبَعِينَ مِيلًا. كَانَ هانز وَبيت عَلَى الْيَابِسَةِ يُمْسِكَانِ بِحَبْلٍ مَرْبُوطٍ بِالْقَارِبِ. وَكَانَ ثورنتون عَلَى الْقَارِبِ، يُحَرِّكُهُ بِحَذَرٍ عَبْرَ النَّهْرِ وَيَصْرُخُ بِتَعْلِيمَاتِهِ لِلرِّجَالِ عَلَى الْيَابِسَةِ. وَكَانَ باك عَلَى الْيَابِسَةِ يُرَاقِبُ الْقَارِبَ بِقَلَقٍ.

وَفِي مِنْطَقَةٍ سَيِّئَةٍ، تَعَقَّدَ الْقَارِبُ وَالْحَبْلُ وَانْقَلَبَ الْقَارِبُ. وَانْجَرَفَ ثورنتون مَعَ التَّيَّارِ نَحْوَ أَسْوَأِ جُزْءٍ مِنَ الْمُنْحَدَرَاتِ.

وَفِي تِلْكَ اللَّحْظةِ نَفْسِهَا، قَفَزَ باك إِلَى الْمَاءِ، وَفِي خِضَمِّ دَوَّامَةِ الْمِيَاهِ السَّرِيعَةِ تَمَكَّنَ مِنَ الْإِمْسَاكِ بِثورنتون. وَعِنْدَمَا شَعَرَ بِهِ وَهُوَ يُمْسِكُ بِذَيْلِهِ، اتَّجَهَ باك نَحْوَ الشَّاطِئِ، وَكَانَ يَسْبَحُ بِكُلِّ قُوَّتِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّكُ بِبُطْءٍ وَكَانَتِ الْمُنْحَدَرَاتُ قَوِيَّةً. وَكَانَ ثورنتون يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ الْوُصُولُ إِلَى الشَّاطِئِ، فَحَاوَلَ التَّشَبُّثَ بِالصُّخُورِ وَأَخْفَقَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ تَمَكَّنَ مِنَ التَّعَلُّقِ بِوَاحِدَةٍ، فَتَرَكَ باك وَصَاحَ بِصَوْتٍ أَعْلَى مِنْ هَدِيرِ الْمِيَاهِ: «اذْهَبْ يَا باك! اذْهَبْ!»

انْجَرَفَ باك أَكْثَرَ مَعَ التَّيَّارِ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْعَوْدَةِ إِلَى سَيِّدِهِ. وَعِنْدَمَا سَمِعَ سَيِّدَهُ يَأْمُرُهُ، اسْتَدَارَ وَاتَّجَهَ نَحْوَ الْيَابِسَةِ، فَسَبَحَ بِقُوَّةٍ وَسَحَبَهُ هانز وَبيت لِلشَّاطِئِ.

كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ ثورنتون لَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ التَّعَلُّقِ بِالصَّخْرَةِ طَوِيلًا، فَرَكَضُوا تِجَاهَ أَعْلَى النَّهْرِ بِسُرْعَةٍ، وَرَبَطُوا حَبْلًا إِلَى باك، ثُمَّ قَفَزَ فِي الْمَاءِ. سَبَحَ نَحْوَ ثورنتون وَلَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي التَّصْوِيبِ وَسَحَبَهُ هانز مَرَّةً أُخْرَى لِلشَّاطِئِ. اسْتَلْقَى باك هُنَاكَ مُنْهَكًا مِنَ السِّبَاحَةِ فِي الْمُنْحَدَرَاتِ، وَلَكِنْ بِمُجَرَّدِ سَمَاعِ صَوْتِ ثورنتون، قَفَزَ وَاقِفًا عَلَى قَدَمَيْهِ وَرَكَضَ بِجَانِبِ الشَّاطِئِ مَرَّةً أُخْرَى.

قَفَزَ فِي الْمِيَاهِ مُجَدَّدًا مَرْبُوطًا بِالْحَبْلِ، وَهَذِهِ الْمَرَّةَ كَانَ يَعْلَمُ كَيْفَ يَتَفَادَى ارْتِكَابَ الْخَطَأِ نَفْسِهِ. سَبَحَ حَتَّى سَحَبَهُ التَّيَّارُ نَحْوَ ثورنتون، الَّذِي وَضَعَ ذِرَاعَيْهِ حَوْلَ عُنُقِ باك الْأَشْعَثِ، ثُمَّ سَحَبَ هانز وَبيت الْحَبْلَ. انْدَفَعَ باك وَثورنتون تَحْتَ الْمِيَاهِ وَاصْطَدَمُوا بِالصُّخُورِ حَتَّى وَصَلُوا لِلشَّاطِئِ.

اسْتَعَادَ ثورنتون وَعْيَهُ أَوَّلًا عَلَى إِثْرِ هَزِّ جَسَدِهِ مِنْ قِبَلِ هانز وَبيت، وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ فَعَلَهُ هُوَ الْبَحْثُ عَنْ باك. كَانَ فيج وَسكيت يَقِفُونَ بِجَانِبِ باك الَّذِي كَانَ يَسْتَلْقِي عَلَى الْأَرْضِ وَيَتَنَفَّسُ بِصُعُوبَةٍ. وَبِالرُّغْمِ مِنْ إِصَابَتِهِ الشَّدِيدَةِ أَيْضًا، فَحَصَ ثورنتون جَسَدَ باك بِحِرْصٍ بَحْثًا عَنِ الْإِصَابَاتِ وَوَجَدَ أَنَّ باك لَدَيْهِ ثَلَاثَةُ ضُلُوعٍ مَكْسُورَةٍ.

قَالَ: «هَذَا يَحْسِمُ الْأَمْرَ، سَنُخَيِّمُ هُنَا.» وَبِالْفِعْلِ أَقَامُوا الْمُخَيَّمَ حَتَّى شُفِيَتْ ضُلُوعُ باك وَأَصْبَحَ بِإِمْكَانِهِ اسْتِئْنَافُ السَّفَرِ مُجَدَّدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤