الفصل التاسع

الرِّهَانُ

فِي ذَلِكَ الشِّتَاءِ فِي داوسون قَامَ باك بِأَمْرٍ آخَرَ مُذْهِلٍ أَكْسَبَهُ مَزِيدًا مِنَ الشُّهْرَةِ. بَدَأَ الْأَمْرُ خِلَالَ مُحَادَثَةٍ فِي فُنْدُقِ إلدورادو، حَيْثُ كَانَ بَعْضُ الرِّجَالِ يَتَحَدَّثُونَ إِلَى بَعْضِهِمُ الْبَعْضِ عَنْ كِلَابِهِمُ الْمُفَضَّلَةِ. كَانَ باك الْأَكْثَرَ شُهْرَةً وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الرِّجَالَ قَالُوا إِنَّهُ لَيْسَ رَائِعًا لِهَذِهِ الدَّرَجَةِ، فَتَجَادَلَ ثورنتون مَعَهُمْ. فَقَالَ أَحَدُهُمْ إِنَّ كَلْبَهُ يُمْكِنُهُ جَرُّ مِزْلَجَةٍ بِحُمُولَةِ خَمْسِمِائَةِ رَطْلٍ، وَقَالَ آخَرُ إِنَّ كَلْبَهُ يُمْكِنُهُ جَرُّ حُمُولَةِ سِتِّمِائَةِ رَطْلٍ، وَقَالَ رَجُلٌ ثَالِثٌ إِنَّ كَلْبَهُ يُمْكِنُهُ جَرُّ سَبْعِمِائَةِ رَطْلٍ.

قَالَ جون ثورنتون: «هَذَا لَا شَيْءَ. باك يُمْكِنُهُ جَرُّ مِزْلَجَةٍ بِحُمُولَةِ أَلْفِ رَطْلٍ.»

فَسَأَلَهُ ماثيوسن، وَالَّذِي كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ كَلْبَهُ يُمْكِنُهُ جَرُّ حُمُولَةِ سَبْعِمِائَةِ رَطْلٍ: «وَيُخْرِجُهَا مِنَ الْجَلِيدِ وَيَسِيرُ بِهَا مَسَافَةَ مِائَةِ يَارْدَةٍ؟»

فَأَجَابَهُ جون ثورنتون بِهُدُوءٍ: «وَيُخْرِجُهَا مِنَ الْجَلِيدِ وَيَسِيرُ بِهَا مَسَافَةَ مِائَةِ يَارْدَةٍ.»

قَالَ ماثيوسن بِبُطْءٍ وَتَأَنٍّ حَتَّى يَسْمَعَهُ الْجَمِيعُ: «حَسَنًا، أُرَاهِنُ بِأَلْفِ دُولَارٍ أَنَّهُ لَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ. وَهَا هُوَ الْمَبْلَغُ.» وَقَامَ بِإِلْقَاءِ كِيسٍ مِنْ غُبَارِ الذَّهَبِ بِحَجْمِ النَّقَانِقِ عَلَى الْبَارِ.

لَمْ يَتَحَدَّثْ أَحَدٌ، وَشَعَرَ ثورنتون بِنَفْسِهِ وَهُوَ يَحْمَرُّ خَجَلًا، لَقَدْ تَهَوَّرَ فِي الْحَدِيثِ، فَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا إِذَا كَانَ بِإِمْكَانِ باك جَرُّ كُلِّ هَذِهِ الْحُمُولَةِ أَمْ لَا. أَلْفُ رَطْلٍ! جَعَلَهُ هَذَا الْحَجْمُ يَشْعُرُ بِالْغَثَيَانِ. لَقَدْ كَانَ وَاثِقًا فِي قُوَّةِ باك، وَفَكَّرَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ أَنَّ باك رُبَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ جَرِّ حُمُولَةٍ كَهَذِهِ. وَلَكِنِ الْآنَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. فَالْبَلْدَةُ بِأَكْمَلِهَا تَنْتَظِرُ وَتُرَاقِبُ. وَالْأَسْوَأُ مِنْ ذَلِكَ، أَنَّ ثورنتون لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ أَلْفَ دُولَارٍ وَلَا حَتَّى هانز أَوْ بيت.

أَكْمَلَ ماثيوسن بِخُبْثٍ: «لَدَيَّ فِي الْخَارِجِ مِزْلَجَةٌ تَحْمِلُ عِشْرِينَ كِيسًا مِنَ الدَّقِيقِ، يَزِنُ كُلُّ كِيسٍ خَمْسِينَ رَطْلًا. هَا هِيَ حُمُولَةُ الْأَلْفِ رَطْلٍ. وَهَكَذَا يُمْكِنُنَا الذَّهَابُ الْآنَ.»

لَمْ يُجِبْ ثورنتون، فَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَاذَا يَقُولُ، وَأَدَارَ عَيْنَيْهِ فِي الْوُجُوهِ مِنْ وَجْهٍ لِوَجْهٍ وَرَأَى صَدِيقًا قَدِيمًا يُدْعَى جيم أوبراين.

سَأَلَهُ ثورنتون هَامِسًا: «هَلْ يُمْكِنُكَ إِقْرَاضِي أَلْفَ دُولَارٍ؟»

أَجَابَهُ أوبراين: «بِالطَّبْعِ. أَنَا أَضَعُ ثِقَتِي بِكَ يَا جون، وَأَثِقُ أَنَّ هَذَا الْوَحْشَ يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِالْأَمْرِ.» وَأَلْقَى بِكِيسٍ مِنَ النُّقُودِ إِلَى جَانِبِ كِيسِ ماثيوسن.

قَالَ ثورنتون: «لَا تَقْلَقْ، هَذَا الْكَلْبُ يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِالْمُعْجِزَاتِ. فَقَدْ أَنْقَذَ حَيَاتِي ذَاتَ مَرَّةٍ.»

«وَسَيَفْعَلُهَا مُجَدَّدًا.» هَكَذَا قَالَ بيت وَهُوَ يَتَذَكَّرُ الْمَرَّةَ الَّتِي كَادَ باك أَنْ يَقْفِزَ مِنْ عَلَى الْجُرُفِ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ مِنْ ثورنتون. وَأَضَافَ: «لَمْ أَرَ قَطُّ كَلْبًا مُخْلِصًا وَمُتَفَانِيًا لِسَيِّدِهِ بِهَذَا الشَّكْلِ. فَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ باك مِنَ الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ، فَلَا أَحَدَ يَسْتَطِيعُ.»

أَوْمَأَ أوبراين بِرَأْسِهِ مُوَافِقًا وَقَالَ وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى باك: «لَقَدْ سَمِعْتُ عَنْهُ وَعَمَّا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِهِ. أَعْلَمُ أَنَّهَا مُخَاطَرَةٌ وَلَكِنِّي مُسْتَعِدٌّ لِتَقَبُّلِهَا. إِنَّ ماثيوسن كَثِيرُ الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّ باك هُوَ كَلْبُ الْمَهَامِّ الصَّعْبَةِ.»

خَرَجَ الْجَمِيعُ مِنْ فُنْدُقِ إلدورادو وَوَقَفُوا فِي الشَّارِعِ فِي الْخَارِجِ، وَقَفَ عِدَّةُ مِئَاتٍ مِنَ الرِّجَالِ مُرْتَدِينَ الْفَرْوَ وَالْقُفَّازَاتِ حَوْلَ مِزْلَجَةِ ماثيوسن. كَانَتْ مُحَمَّلَةً بِأَلْفِ رَطْلٍ مِنَ الدَّقِيقِ، وَوَاقِفَةً فِي مَكَانِهَا لِعِدَّةِ سَاعَاتٍ. وَفِي ذَلِكَ الطَّقْسِ الْبَارِدِ، تَجَمَّدَتِ الْمِزْلَجَةُ فِي الْجَلِيدِ الصُّلْبِ، وَكَانَ مُعْظَمُ الرِّجَالِ يُرَاهِنُونَ أَنَّ باك لَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ زَحْزَحَةِ الْمِزْلَجَةِ مِنْ مَكَانِهَا.

حَتَّى جون ثورنتون شَعَرَ بِالسُّوءِ لِتَسَرُّعِهِ بِقَبُولِ الرِّهَانِ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَةِ الْمِزْلَجَةِ مَعَ فَرِيقِهَا الْأَصْلِيِّ الْمُكَوَّنِ مِنْ عَشَرَةِ كِلَابٍ يَسْتَلْقُونَ عَلَى الْجَلِيدِ أَمَامَهَا. بَدَتْ مَهَمَّةُ باك مُسْتَحِيلَةً، وَلَكِنَّ ماثيوسن كَانَ سَعِيدًا.

فَصَاحَ قَائِلًا: «ثَلَاثَةٌ إِلَى وَاحِدٍ! سَأُرَاهِنُكَ بِأَلْفِ دُولَارٍ أُخْرَى عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ، مَا رَأْيُكَ؟»

بَدَا ثورنتون قَلِقًا، وَلَكِنَّ الرِّهَانَ أَثَارَ رُوحَ الْقِتَالِ بِدَاخِلِهِ. فَنَادَى هانز وَبيت، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَدَى الرِّجَالِ الثَّلَاثَةِ مُجْتَمِعِينَ سِوَى مِائَتَيْ دُولَارٍ فَقَطْ. كَانَ ذَلِكَ كُلَّ مَا يَمْلِكُونَهُ، وَقَدْ رَاهَنُوا بِالْمَبْلَغِ كُلِّهِ.

تَمَّ تَحْرِيرُ الْكِلَابِ الْعَشَرَةِ مِنَ الْمِزْلَجَةِ، وَتَمَّ رَبْطُ باك بِسَرْجِهِ الْخَاصِّ بِالْمِزْلَجَةِ. كَانَ قَدْ شَعَرَ بِالْحَمَاسَةِ الْمُتَدَفِّقَةِ حَوْلَهُ، وَعَلِمَ بِطَرِيقَةٍ مَا أَنَّ عَلَيْهِ الْقِيَامَ بِشَيْءٍ رَائِعٍ مِنْ أَجْلِ جون ثورنتون. تَحَدَّثَ الْجَمْعُ عَنْ مَنْظَرِ باك الرَّائِعِ. فَقَدْ كَانَ فِي هَيْئَةٍ مُمْتَازَةٍ، يَزِنُ مِائَةً وَخَمْسِينَ رَطْلًا مِنَ الْقُوَّةِ الْخَالِصَةِ وَفَرْوَتُهُ تَلْمَعُ كَالْحَرِيرِ، تَحَسَّسَ الرِّجَالُ عَضَلَاتِهِ وَقَالُوا إِنَّهَا صُلْبَةٌ كَالْحَدِيدِ، وَانْخَفَضَتْ الِاحْتِمَالَاتُ إِلَى اثْنَيْنِ إِلَى وَاحِدٍ.

هَتَفَ شَخْصٌ مِنَ الْجَمْعِ: «بِحَقِّ السَّمَاءِ يَا سَيِّدِي! سَأَدْفَعُ لَكَ ثَمانَمِائَةِ دُولَارٍ فِي مُقَابِلِهِ، قَبْلَ اخْتِبَارِ الْقُوَّةِ. ثَمَانَمِائَةِ دُولَارٍ مُقَابِلَهُ الْآنَ.»

هَزَّ ثورنتون رَأْسَهُ وَوَقَفَ بِجَانِبِ باك.

قَالَ ماثيوسن: «يَجِبُ أَنْ تَبْقَى بَعِيدًا عَنْهُ وَهُوَ يَشُدُّ. أَعْطِهِ مَسَاحَةً جَيِّدَةً.»

خَيَّمَ الصَّمْتُ عَلَى الْجُمُوعِ، وَقَدْ وَافَقُوا جَمِيعًا عَلَى أَنَّ باك حَيَوَانٌ رَائِعٌ، وَلَكِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ حُمُولَةَ أَلْفِ رَطْلٍ أَضْخَمُ مِنْ أَنْ يَجُرَّهَا كَلْبٌ وَاحِدٌ، وَلَمْ يُرَاهِنْ أَحَدٌ آخَرُ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ بِالْمَهَمَّةِ.

جَثَا ثورنتون عَلَى رُكْبَتَيْهِ بِجَانِبِ باك، وَأَخَذَ رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَرَاحَ خَدَّهُ عَلَى خَدِّ باك. وَلَكِنَّهُ لَمْ يَهُزَّ رَأْسَهُ بِمَرَحٍ أَوْ يَدْعُهُ بِأَلْقَابٍ سَيِّئَةٍ كَمَا كَانَ يَتَمَنَّى باك، بَلْ هَمَسَ فِي أُذُنِهِ.

هَمَسَ قَائِلًا: «بِقَدْرِ مَا تُحِبُّنِي يَا باك. بِقَدْرِ مَا تُحِبُّنِي.» أَطْلَقَ باك عُوَاءً بِحَمَاسَةٍ لَمْ يَسْتَطِعْ كَبْتَهَا.

كَانَ الْجَمْعُ يُرَاقِبُ مَا يَحْدُثُ بِفُضُولٍ، بَدَا الْأَمْرُ وَكَأَنَّ شَيْئًا سِحْرِيًّا يَحْدُثُ. فَعِنْدَمَا وَقَفَ ثورنتون، أَخَذَ باك يَدَهُ بَيْنَ فَكَّيْهِ وَهُوَ يَضْغَطُ بِأَسْنَانِهِ عَلَيْهَا وَيَتْرُكُهَا بِبُطْءٍ؛ كَانَتْ هَذِهِ هِيَ إِجَابَتُهُ، وَهُوَ يُظْهِرُ مَدَى حُبِّهِ لِهَذَا الرَّجُلِ. تَرَاجَعَ ثورنتون لِلْخَلْفِ وَقَالَ: «الْآنَ يَا باك.»

شَدَّ باك السَّرْجَ وَتَرَكَهُ يَرْتَخِي عِدَّةَ بُوصَاتٍ، كَانَتْ هَذِهِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي تَعَلَّمَهَا.

صَرَخ ثورنتون: «إِلَى الْيَمِينِ.»

مَالَ باك إِلَى الْيَمِينِ وَهُوَ يَشُدُّ السَّرْجَ بِحَرَكَةٍ مُفَاجِئَةٍ، اهْتَزَّتْ الْمِزْلَجَةُ وَكَانَ هُنَاكَ صَوْتُ طَقْطَقَةِ الْجَلِيدِ.

صَرَخَ ثورنتون بِلَهْجَةٍ آمِرَةٍ: «إِلَى الْيَسَارِ.»

قَفَزَ باك مُجَدَّدًا وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمَرَّةَ نَاحِيَةَ الْيَسَارِ، تَحَوَّلَ صَوْتُ الطَّقْطَقَةِ إِلَى صَوْتِ تَهَشُّمٍ، وَتَحَرَّكَتِ الْمِزْلَجَةُ لِبِضْعَةِ بُوصَاتٍ إِلَى الْجَانِبِ. كَانَتِ الْمِزْلَجَةُ قَدْ تَحَرَّرَتْ مِنَ الْجَلِيدِ. كَانَ الرِّجَالُ يَحْبِسُونَ أَنْفَاسَهُمْ دُونَ أَنْ يُدْرِكُوا ذَلِكَ.

– «وَالْآنَ، انْطَلِقْ!»

انْطَلَقَ أَمْرُ ثورنتون كَطَلْقَةِ الرَّصَاصِ، فَدَفَعَ باك بِنَفْسِهِ إِلَى الْأَمَامِ وَهُوَ يَشُدُّ أَحْزِمَةَ السَّرْجِ، اهْتَزَّ جَسَدُهُ كُلُّهُ مِنَ الْمَجْهُودِ وَكَانَتْ عَضَلَاتُهُ تَشْتَدُّ تَحْتَ فَرْوِهِ الْحَرِيرِيِّ، وَكَانَ صَدْرُهُ الْقَوِيُّ بِالْقُرْبِ مِنَ الْأَرْضِ، وَرَأْسُهُ لِلْأَسْفَلِ وَمَمْدُودًا إِلَى الْأَمَامِ، بَيْنَمَا كَانَتْ أَقْدَامُهُ تَتَحَرَّكُ بِسُرْعَةٍ وَتَخْدِشُ مَخَالِبُهُ الْجَلِيدَ الصُّلْبَ. اهْتَزَّتِ الْمِزْلَجَةُ وَتَحَرَّكَتْ لِلْأَمَامِ خُطْوَةً صَغِيرَةً، وَتَعَثَّرَتْ أَحَدُ أَقْدَامِ باك فَأَطْلَقَ أَحَدُ الرِّجَالِ الْوَاقِفِينَ صَرْخَةَ تَأَوُّهٍ. ثُمَّ مَالَتِ الْمِزْلَجَةُ إِلَى الْأَمَامِ فِي سِلْسِلَةٍ مِنَ الِاهْتِزَازَاتِ وَلَمْ تَتَوَقَّفْ مُجَدَّدًا. نِصْفُ بُوصَةٍ، بُوصَةٌ، بُوصَتَانِ. تَوَقَّفَتْ الِاهْتِزَازَاتُ وَسُرْعَةُ الْمِزْلَجَةِ تَزْدَادُ حَتَّى أَصْبَحَتْ تَتَحَرَّكُ بِثَبَاتٍ.

لَهَثَ الرِّجَالُ مِنْ فَرْطِ دَهْشَتِهِمْ، وَبَدَءُوا يَلْتَقِطُونَ أَنْفَاسَهُمْ مُجَدَّدًا. كَانَ ثورنتون يَرْكُضُ خَلْفَ الْمِزْلَجَةِ وَهُوَ يُشَجِّعُ باك. كَانَتْ مَسَافَةُ الرِّهَانِ مُحَدَّدَةً بِكَوْمَةٍ مِنَ الْأَخْشَابِ، وَبَدَأَتْ صَيْحَاتُ التَّشْجِيعِ تَتَعَالَى وَتَحَوَّلَتْ إِلَى صِيَاحٍ عِنْدَمَا اجْتَازَ باك كَوْمَةَ الْخَشَبِ وَتَوَقَّفَ عِنْدَ أَمْرِ ثورنتون. أَلْقَى الرِّجَالُ بِقُبَّعَاتِهِمْ وَقُفَّازَاتِهِمْ فِي الْهَوَاءِ، حَتَّى ماثيوسن، وَتَصَافَحُوا وَهُمْ يَضْحَكُونَ.

وَلَكِنَّ ثورنتون كَانَ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ بِجَانِبِ باك، وَكَانَتْ رأْسَاهُمَا تَتَلَامَسَانِ، وَكَانَ ثورنتون يَهُزُّهُ إِلَى الْأَمَامِ وَالْخَلْفِ، وَسَمِعَهُ الرِّجَالُ الَّذِينَ أَسْرَعُوا إِلَيْهِمَا وَهُوَ يَنْعَتُ باك بِبَعْضِ الْأَلْقَابِ السَّيِّئَةِ فِي صَوْتٍ حَنُونٍ مُحِبٍّ.

غَمْغَمَ الرَّجُلُ الَّذِي عَرَضَ شِرَاءَ باك: «بِحَقِّ السَّمَاءِ يَا سَيِّدِي! يَا سَيِّدِي! سَأُعْطِيكَ أَلْفَ دُولَارٍ فِي مُقَابِلِهِ يَا سَيِّدِي. أَلْفَ دُولَارٍ. بَلْ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ.»

وَقَفَ ثورنتون فِي صَمْتٍ، وَكَانَتْ عَيْنَاهُ مُغْرَوْرِقَتَانِ بِالدُّمُوعِ الَّتِي تَنْهَمِرُ عَلَى وَجْهِهِ.

فَصَاحَ الرَّجُلُ: «أَلْفٌ وَأْرَبَعُمِائَةٍ إِذَنْ.»

قَالَ ثورنتون عِنْدَمَا شَعَرَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْحَدِيثِ: «كَلَّا يَا سَيِّدِي. وَلَا حَتَّى فِي مُقَابِلِ كُلِّ الذَّهَبِ فِي ألاسكا.»

جَذَبَ باك يَدَ ثورنتون مَرَّةً أُخْرَى بَيْنَ أَسْنَانِهِ، بَيْنَمَا كَانَ ثورنتون يَهُزُّ رَأْسَهُ لِلْأَمَامِ وَالْخَلْفِ. ابْتَعَدَ الْجَمْعُ عَنْهُمَا وَلَمْ يُقَاطِعْهُمَا أَحَدٌ مَرَّةً أُخْرَى.

بِفَوْزِ باك بِالرِّهَانِ، جُمِعَ أَلْفٌ وَسِتُّمِائَةِ دُولَارٍ مِنْ أَجْلِ جون ثورنتون فِي خَمْسِ دَقَائِقَ. هَذَا الْمَالُ سَاعَدَ ثورنتون عَلَى سَدَادِ دُيُونِهِ وَالسَّفَرِ مَعَ شُرَكَائِهِ إِلَى الشَّرْقِ سَعْيًا وَرَاءَ مَنْجَمٍ مَشْهُورٍ مَفْقُودٍ. وَقَدْ بَحَثَ عَنْهُ الْكَثِيرُ مِنَ الرِّجَالِ، وَكَانَتْ هُنَاكَ الْعَدِيدُ مِنَ الْقِصَصِ حَوْلَهُ، وَلَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ مَنِ اكْتَشَفَهُ أَوَّلًا.

كَانَ هُنَاكَ حَدِيثٌ عَنْ كُوخٍ قَدِيمٍ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَنْجَمِ. كَانَت هُنَاكَ قِطَعٌ مِنَ الذَّهَبِ يَقُولُ أُنَاسٌ إِنَّهَا استُخْرِجَتْ مِنْ هُنَاكَ، وَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ عَنِ الذَّهَبِ الْمَوْجُودِ فِي أَيِّ مَكَانٍ آخَرَ فِي الشَّمَالِ.

اصْطَحَبَ جون ثورنتون وَبيت وَهانز باك مَعَهُمْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ كَلْبًا آخَرَ وَاتَّجَهُوا شَرْقًا عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ لِلْبَحْثِ عَنِ الْمَنْجَمِ الْمَفْقُودِ. سَافَرُوا مَسَافَةَ سَبْعِينَ مِيلًا بِاتِّجَاهِ مَنْبَعِ نَهْرِ يوكون، وَاتَّجَهُوا لِلْيَسَارِ إِلَى نَهْرِ ستيوارت، وَمَرُّوا بِنَهْرَيْ مايو وَماكويستن، وَاسْتَمَرُّوا فِي مَسِيرَتِهِمْ حَتَّى أَصْبَحَ نَهْرُ ستيوارت مُجَرَّدَ جَدْوَلٍ صَغِيرٍ فِي الْجِبَالِ الشَّاهِقَةِ.

لَمْ يَكُنْ جون ثورنتون يَحْتَاجُ لِلْكَثِيرِ مِنْ أَجْلِ الْعَيْشِ، وَلَم يَكُنْ يَخَافُ مِنَ الْبَرِّيَّةِ. فَبِحَفْنَةٍ مِنَ الْمِلْحِ وَبُنْدُقِيَّةٍ، يُمْكِنُهُ الْغَوْصُ فِي أَعْمَاقِ الْبَرِّيَّةِ وَالْعَيْشُ لِأَيِّ مُدَّةٍ يُرِيدُهَا. لَمْ يَكُنْ عَلَى عَجَلَةٍ مِنْ أَمْرِهِ، وَكَانَ يَصْطَادُ كَالسُّكَّانِ الْأَصْلِيِّينَ وَهُوَ مُسَافِرٌ. وَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنِ اصْطِيَادِ عَشَائِهِ، عِنْدَئِذٍ كَانَ يَسْتَمِرُّ فِي السَّفَرِ مِثْلَ السُّكَّانِ الْأَصْلِيِّينَ، مُتَأَكِّدًا أَنَّهُ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا سَيَصْطَادُ شَيْئًا.

وَمِنْ ثَمَّ، خِلَالَ تِلْكَ الرِّحْلَةِ نَحْوَ الشَّرْقِ، تَنَاوَلَ الرِّجَالُ وَالْكِلَابُ اللَّحْمَ بِانْتِظَامٍ. وَكَانَتِ الْمِزْلَجَةُ مُحَمَّلَةً بِالذَّخِيرَةِ وَالْأَدَوَاتِ، وَكَانُوا يُسَافِرُونَ فِي تَمَهُّلٍ.

أَحَبَّ باك تِلْكَ الرِّحْلَةَ مِنَ الصَّيْدِ وَصَيْدِ الْأَسْمَاكِ وَالتَّجَوُّلِ فِي الْأَمَاكِنِ الْغَرِيبَةِ. وَعَلَى مَدَارِ أَسَابِيعَ، كَانُوا يُخَيِّمُونَ هُنَا وَهُنَاكَ، تَتَكَاسَلُ الْكِلَابُ وَيُحْرِقُ الرِّجَالُ الثُّقُوبَ فِي الْجَلِيدِ وَالْحَصَى، وَيَفْصِلُونَ الذَّهَبَ مِنَ الْحَصَى بِحَرَارَةِ النَّارِ، يَجُوعُونَ أَحْيَانًا، وَيَأْكُلُونَ حَتَّى الشَّبَعِ فِي أَحْيَانٍ أُخْرَى. وَجَاءَ فَصْلُ الصَّيْفِ، وَكَانَ الْكِلَابُ وَالرِّجَالُ يَحْمِلُونَ الْحَقَائِبَ عَلَى ظُهُورِهِمْ، وَيَرْكَبُونَ الْأَطْوَافَ عَبْرَ بُحَيْرَاتِ الْجِبَالِ، وَيُسَافِرُونَ عَبْرَ الْأَنْهَارِ فِي مَرَاكِبَ صَغِيرَةٍ يَصْنَعُونَهَا مِنَ الْأَشْجَارِ فِي الْغَابَةِ.

مَرَّتْ شُهُورٌ عَدِيدَةٌ، وَهُمْ يَسْلُكُونَ طُرُقًا كَثِيرَةً عَبْرَ أَرَاضٍ مَهْجُورَةٍ، وَكَانُوا يَتَجَوَّلُونَ فِي الطُّرُقِ الْقَدِيمَةِ فِي الشِّتَاءِ، وَأَخِيرًا فِي الرَّبِيعِ وَجَدُوا شَيْئًا. لَمْ يَكُنِ الْمَنْجَمُ الْمَفْقُودُ وَلَا الكُوخُ الْمَفْقُودُ وَإِنَّمَا نَهْرٌ ضَحْلٌ فِي وَادٍ عَمِيقٍ، وَكَانَتْ صُخُورُ النَّهْرِ مَلِيئَةً بِالذَّهَبِ. تَوَقَّفَ الْفَرِيقُ عَنِ الْبَحْثِ وَاسْتَقَرَّ هُنَاكَ. كُلَّ يَوْمٍ كَانُوا يَجِدُونَ مَا يُسَاوِي آلَافَ الدُّولَارَاتِ مِنْ قِطَعِ الذَّهَبِ وَغُبَارِهِ. وَضَعُوا الذَّهَبَ فِي أَكْيَاسٍ، خَمْسُونَ رَطْلًا فِي كُلِّ كِيسٍ، وَوَضَعُوهَا فِي كَوْمَةٍ مِثْلِ الْخَشَبِ خَارِجَ الكُوخِ الصَّغِيرِ الذي بَنَوْه.

لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ تَفْعَلُهُ الْكِلَابُ سِوَى سَحْبِ الْغَنَائِمِ الَّتِي يَصْطَادُهَا ثورنتون. لِذَا قَضَى باك سَاعَاتٍ كَثِيرَةً حَالِمًا بِجَانِبِ النَّارِ؛ كَانَ يَحْلُمُ أَنَّهُ يَسْمَعُ شَيْئًا يُنَادِيهِ مِنَ الْغَابَةِ، وَكَانَ يَشْعُرُ بِالسَّعَادَةِ، وَكَانَ يُرِيدُ فِعْلَ شَيْءٍ ذِي أَهَمِّيَّةٍ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَاهِيَّتَهُ. فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ كَانَ يُطَارِدُ هَذَا الصَّوْتَ عَبْرَ الْغَابَةِ بَحْثًا عَمَّا إِذَا كَانَ صَوْتَ حَيَوَانٍ. كَانَ يَدْفَعُ بِأَنْفِهِ وَيُشَمْشِمُ فِي الْعُشْبِ الْبَارِدِ أَوِ التُّرْبَةِ السَّوْدَاءِ حَيْثُ يَنْبُتُ الْعُشْبُ الطَّوِيلُ، أَوْ يَرْبِضُ لِسَاعَاتٍ مُخْتَبِئًا خَلْفَ جُذُوعِ الْأَشْجَارِ الْمُتَسَاقِطَةِ، يُرَاقِبُ وَيَسْمَعُ كُلَّ شَيْءٍ يَتَحَرَّكُ أَوْ يُصْدِرُ صَوْتًا بِالْقُرْبِ مِنْهُ. لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ لِمَاذَا يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ عَلَيْهِ الْقِيَامَ بِهَا وَلَمْ يَسْأَلْ نَفْسَهُ لِمَاذَا.

أَحْيَانًا يَكُونُ مُسْتَلْقِيًا فِي الْمُخَيَّمِ، نَائِمًا فِي الْجَوِّ الْحَارِّ، وَفَجْأَةً يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَكَأَنَّهُ سَمِعَ شَيْئًا، ثُمَّ يَهُبُّ وَاقِفًا عَلَى أَقْدَامِهِ وَيَنْدَفِعُ مُبْتَعِدًا. وَكَانَ يَرْكُضُ لِسَاعَاتٍ عَبْرَ الْغَابَةِ وَالْمِسَاحَاتِ الْمَفْتُوحَةِ، وَيَسْتَلْقِي فَوْقَ الشُّجَيْرَاتِ لِأَيَّامٍ حَيْثُ يُرَاقِبُ الطُّيُورَ، كَمَا كَانَ يُحِبُّ الرَّكْضَ فِي مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ فِي الصَّيْفِ. لَقَدْ كَانَ باك يَبْحَثُ دَائِمًا عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْغَامِضِ الَّذِي يُنَادِيهِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤