الفصل التاسع

تصريح ٢٨ فبراير

أرسل المركيز كرزون في الثالث والعشرين من ديسمبر البرقية الآتية إلى الفيكونت اللنبي كما جاء نص ترجمتها في الكتاب الأبيض:

ليس ثمة اعتراض من جانب وزارة المستعمرات على إبعادك زغلولًا وأنصاره إلى سيلان في أول فرصة كما اقترحت في تلغرافك المؤرخ في ٢٢ ديسمبر. والتعليمات مرسلة إلى حاكم سيلان طبقًا لذلك. ولكن إذا ظهر أنه من غير المرغوب فيه حجزهم هناك لاعتبارات محلية، فإن في الوسع إرسالهم إلى سيشل. ومعلوم لدينا أنَّ الاستعداد اللازم لهم يمكن توفيره في سيشل. وينبغي الإبراق إلى حاكم سيلان مباشرة بالتفاصيل الوافية عن تاريخ الإبحار من السويس وعن تأليف القوم المبعدين.

فاستطير الفيكونت اللنبي فرحًا بهذه الموافقة كما بدا من برقيته التي بادر بإرسالها ليشكر المركيز كرزون كثيرًا. وانتظر إبعاد زغلول وأصحابه إلى سيلان ليوقع اليأس في قلوبهم وقلوب المصريين من كل مستقبل مرجوٍّ لهؤلاء القوم المبعدين في عالم السياسة المصرية. ولأمرٍ ما — لا يعنينا بحثه هنا — تغير المنفى واستُبدلت جزائر سيشل بجزيرة سيلان، ولبث سعد وأصحابه في انتظار النقل إلى المكان المقدور، حتى أُعلن تصريح ٢٨ فبراير في مصر فكان يوم إعلانه — إعلان الاستقلال — هو يوم انتقال «القوم المبعدين» من عدن إلى منفاهم السحيق.

ولولا الحرص الشديد على الانتقام من سعد والتشفِّي منه ومن أنصاره، لكان التمهيد بنفيهم لتأسيس النظام الجديد من أعجب ما يخطر على العقول، وكان رجاء النجاح بعد ذلك التمهيد من أغرب الأحلام التي يحلم بها الساسة العمليون، وهي أغرب مخترعات الخيال، فإن النفي لَيصلح عنوانًا لكل شيء إلا أن يكون عنوانًا للحرية والاستقلال، ودليلًا على أنَّ البلاد قد ظفرت بحكم نفسها وتحقيق مشيئتها، وأنَّ بلدًا يضيق بزعمائه في يوم إعلان حريته واستقلاله لأعجوبة من أعاجيب النقائض والأضداد. وما كان بدعًا من المصريين أن يتشاءموا بتصريح يمهَّد له ذلك التمهيد، ولا أن يسمعوا في يوم واحد بنفي سعد إلى سيشل وباستقلالهم هم في وطنهم بما يرومون ومن يرومون؛ فلا يستطيعون التوفيق بين الأمرين، ولا يجدون بدًّا من الشك في إحدى الروايتين. وإنما البدع أن تؤكد لهم النفي والاستقلال في وقت واحد، وألا تتركهم ينسون نبأ النفي في ذلك اليوم خاصة، ثم تطمع منهم في اعتقاد غير ما اعتقدوه ويقين غير ما أيقنوه، وتريدهم على أن يستبشروا بالتصريح وبالعهد الذي يليه.

ولو كان التصريح استقلالًا حقًّا لما عِيبَ على المصريين أن يتشاءموا به ويوجسوا منه ويعرضوا عنه وعن دعاته ومروجيه؛ لأن نسيان الأعزاء المنكوبين والانتصار لخصومهم الظافرين اغتباطًا بغنيمة سياسية أو منفعة وزارية أمر قد يفهمه السَّاسة، ويحمدونه في حساب المساومات والمعاملات، ولكن النخوة في الشعوب أولى بالتقدير والإعجاب من جميع المنافع والغنائم التي تنطوي في النظم والدساتير؛ لأنك إذا بحثت عن النخوة في سواد الأمة فوجدتها عندهم، فليس يضيرك ألا تجد فيهم موازين السَّاسة المحنكين، وإذا بحثت عنها فلم تجدها، فهناك الضير كل الضير والوخامة شر الوخامة والإسفاف الذي لا تغني فيه حنكة ولا نظم ولا وزارات.

إنَّ المصريين لم يشعروا بتصريح ٢٨ فبراير إلا كما ينبغي أن يكون شعورهم به، سواءٌ في ذلك من حمدوه ومن أنكروه ومن دقوا له الطبول ومن حثوا على وجهه التراب … وأظرف ما يُروى في هذا الباب ما رواه البارون «فان دن بوش» البلجيكي في كتابه «عشرين سنة بمصر» نقلًا عن مذكراته التي وصف بها الاحتفال بالاستقلال في محافظة الإسكندرية؛ فقد روى كيف خطبوا يوم ذاك، وكيف هللوا بالعهد الجديد، ثم قال: «إنَّ رجلًا قصيرًا على رأسه طربوشه المنحرف، تقدم في مشية إبليسية ورفع يده في وقار وعيناه تلمعان ثم نادى: ليحيَ الاستقلال التام! فهبطت كلماته في وسط سكوت مكروب …»

أين الاستقلال؟ لا أحد يصدق أنه الاستقلال حتى المبتهجين بيوم الاستقلال!

وكان من الميسور أن يتنبأ الفيكونت اللنبي وأصدقاؤه الوزراء المصريون بما يوشك أن يلقاه التصريح الذي مهَّدوا له ذلك التمهيد، ولكنهم بلغوا بالتمهيد غاية فيها الكفاية: وهي الخلاص من زغلول والغلبة عليه؛ وهي غاية مقصودة لذاتها ولو لم تعقبها نتيجة مرموقة من النتائج السياسية. وقيل: إنَّ بعض أولئك الوزراء قد لجت به الضغينة على سعد حتى اقترح محاكمته وإعدامه بتهمة الثورة والخيانة العظمى. وقيل: إنَّ الفيكونت اللنبي لم يرفض ذلك الاقتراح ولم يحجم عن الرجوع به إلى الحكومة البريطانية، وإنها هي التي ساومته في الصفقة المعروضة إلى أن قنع من الإعدام بالإبعاد!

ومما يعزز أنَّ اللورد اللنبي نفسه طلب لزعماء الوفد جميعًا الإعدام في هذه المناسبة أو غيرها، ما رواه السفير الأمريكي الدكتور مورتون هول عن مقابلة اللورد اللنبي ومستر اسكويث بُعَيْدَ مقتل السردار، حيث قال في كتابه «مصر ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا»:

عندما لقيته قدَّمني إلى مستر اسكويث، وكنا جميعًا واجمين، واللورد اللنبي — بصفة خاصة — مهتاج الشعور، وكان يقول: إنَّ الأطباء الآن يفحصون حالة الحاكم العام، وإنه يخشى أن تكون الإصابة قاتلة. ثم قال: إنَّ زغلولًا باشا رئيس الوزراء حضر قبيل ذلك ليعرب عن أسفه لهذه الفعلة الشنيعة، ولكنه لم يجد متسعًا من الوقت ولا من الكلام لهذه المقابلة.

ثم ختم كلامه عن هذه المسألة بقوله:

إنني قد أردت أن أشنق جميع هؤلاء الناس من وقت قبل هذا فلم توافق الحكومة، وكأنه يعني — كما فهمت ساعتئذٍ — أنه لو أُجيب إلى طلبه وتُرك لرأيه لَمَا وقعت هذه الفاجعة.

فالانتقام من زغلول — ومن هؤلاء الناس — كان إذنْ غرضًا يراد لذاته، أو كان هو الغرض الأول من قضية التصريح والاستقلال المزعوم. لعله بعد نفي زغلول يعين على نسيانه وإهماله.

وبعد الفراغ من هذا الغرض الأول تفرَّغ اللورد اللنبي والوزراء المصريون أصدقاؤه لما بقي لهم من الغرض الآخر الذي لا يهم النجاح فيه، كما يهم النَّيل من زغلول والغض من مكانته وكبريائه، ونعني بالغرض الآخر إرضاء مصر بالتسوية الجديدة من طريق إقناع المعتدلين، وإجبار المتطرفين على الاعتدال؛ فلم تطل الأيام حتى وجدوا أنَّ «التصريح» كان عبثًا باطلًا وجهدًا ضائعًا من حيث تحقيق هذا الغرض الآخر؛ لأنهم قد اضطُروا إلى اتباع الخطة التي كانوا مضطرين إلى اتباعها لو لم يوجد هذا التصريح، وهي خطة القمع والتجسس والمحاكمات العسكرية، تقابلها من الجانب المصري المظاهرات وسلسلة من حوادث القتل السياسي لم تكن معروفة قبل ذلك في تاريخ الثورة المصرية؛ لأن الإنجليز الذين أُصيبوا قبل تصريح ٢٨ فبراير، إنما كانوا يصابون في أثناء المظاهرات أو في أثناء الصدام والمقاومة وكانوا جميعًا من الجنود، ولكن حوادث الاعتداء بعد ذلك التصريح كانت تصيب الجنود والموظفين وغير الموظفين، وكان القائمون بها أناسًا يتآمرون ويدبرون ويُقدِمون عليها للحفيظة والانتقام.

وانقلب العداء إلى عناد والعناد إلى مناجزة يَبذل فيها كل فريق قصارى ما عنده لتحدي الفريق الآخر وإحباط مسعاه، فإذا منعت الحكومة الاجتماعات والمظاهرات التي تهتف بحياة سعد زغلول، نابت عنها الأغاني الشعبية في الشوارع والأزقة والحواضر والقرى، وكل مكان يتسع فيه الفضاء للغناء والترنم والإنشاد. وإذا حظرت الحكومة على الصحف أن تذكر سعدًا أو تشير إلى اسم الجزيرة التي هو منفي فيها، استورد الناس الآنية الخزفية من أوروبا وعليها رسمه، وكتبوا اسمه على الجدران وعلى ورق النقد الذي كانت تتداوله الأيدي بمئات الألوف في تلك الأيام لانتشار الأوراق الصغيرة من جميع الفئات، وإذا اعتقلت الحكومة أعضاءً من الوفد، قام في مكانهم على الأثر أعضاء غيرهم يُعرِّضون أنفسهم للاعتقال والجزاء وهم مستبشرون، فأصبحت العلاقة بين الفريقين علاقة غالب أو مغلوب ومنتصر أو منهزم، وهذا كل ما ظفر به التصريح من «التقريب» و«تسوية» العلاقات بين البلدين.

وقد ظهر من سفر اللورد اللنبي إلى لندن أيام المفاوضة في التصريح — كما ظهر بعد ذلك من الوثائق الرسمية — أنَّ الوزرة البريطانية لم تخلُ من أناس يعارضونه معارضة شديدة، ويستكثرونه على مصر كأنه غنيمة لا ينبغي لها أن تطمح إليها. وراق الوزراء المصريين أن يحسبوه كذلك من الغنائم التي لا تُنال إلا بالدهاء و«المرونة» ولطف المدخل على عقول الإنجليز، بل راقهم أتباعهم أن يحسبوا أنفسهم خادعين، ويحسبوا الفيكونت اللنبي ومستشاريه الإنجليز مخدوعين في هذه المساومة التي ما كانت لتفلح في زعمهم لولا ما وهبوه من قدرة على طرق الأبواب وتذليل الصعاب. ومن الطبيعي أن يكون هذا رأيهم أو زعمهم في تعظيم ما عملوه وتسويغ ما فعلوه، ومن الطبيعي كذلك أن تمانع الحكومة البريطانية في المبادرة بإعلان التصريح ما دامت تستطيع أن تمانع وتساوم وتعطيَ بالثمن الكبير ما هي خليقة أن تعطيَه بالمجان، ولكن الحقيقة أنَّ الدولة البريطانية كانت وشيكة أن تفرض ذلك التصريح أو ما شابهه على مصر بغير جهد الفيكونت اللنبي ولا مخادعة من الوزراء المصريين؛ لأنها اتبعت هذه السُّنة في كل أمة شرقية غير مصر بعد الحرب العظمى، وبعد رواج المبادئ الولسنية التي استغلتها بريطانيا العظمى في سياستها الاستعمارية، كدأبها في جميع المبادئ والدعوات الصالحة للاستغلال، فاعترفت بمملكة الحجاز ومملكة العراق وخولتهما مظاهر الملك وألقابه وحقوق الدول والعروش دون أن يزعم زاعم أنَّ وزيرًا بارعًا أو غير بارع ضحك من عقول الإنجليز هناك فساقهم بدهائه ولباقته إلى التسليم بالاستقلال من حيث لا يدرون ولا يشعرون. وعمم الإنجليز هذه السياسة حتى اعترفوا بالحكومات الوطنية في مستعمرات أفريقيا التي لا نصيب لها من الحضارة، فهناك اليوم أمراء وطنيون ومحاكم وطنية ورؤساء وطنيون ومراسم من هذا الطراز تخدع من يعبرون بالبلاد عبور السائح، ولا يَنفُذُون فيها إلى بواطن الأمور. ولم تخسر بريطانيا العظمى كثيرًا، ولا قليلًا بهذه البدعة الطريفة من بدع الحرب العظمى، بل استفادت كل ما تبغيه وفوق ما تبغيه من السطوة والمصلحة والدعاية؛ لأنها كسبت سمعة الحرية والإنصاف بين أمم العالم على أثر الدعوة الولسنية، وكسبت إيقاع الفتنة بين الوطنيين وتدويخهم بالمنازعات الداخلية بدلًا من الاتفاق بينهم على السيطرة الأجنبية، وكسبت إلقاء التبعة عن كاهلها وإلقاءها على كواهل الوطنيين، لتعود في يوم من الأيام فتتخذ من سوء الإدارة الذي لا بد منه في جو المنازعات والدسائس وتغليب المفسدين وطلاب الفرص والمغانم حجة لها على أولئك الوطنيين، وكسبت إرضاء الأغرار وذوي الأغراض الذين ترضيهم المظاهر والصور الخلابة؛ فيحسبون أنهم مستقلون لأنهم يوصفون بأوصاف المستقلين. ونجحت هذه السياسة نجاحًا أغرى الدول الاستعمارية باقتباسها والحدو على مثلها، فاقتدت بها فرنسا في سوريا والبلاد المغربية واليابان في الأقطار التي اقتطعتها من الصين.

ومعلوم أنَّ بريطانيا العظمى احتفظت لنفسها في تصريح ٢٨ فبراير بشروط أربعة، هي:
  • (١)

    تأمين مواصلات الإمبراطورية في مصر.

  • (٢)

    الدفاع عن مصر من كل اعتداء أو تدخل أجنبي بالذات أو بالواسطة.

  • (٣)

    حماية المصالح الأجنبية وحماية الأقليات.

  • (٤)

    مسألة السودان.

وهي لو لم تحتفظ بهذه الشروط الأربعة لكان في جيشها المقيم بالبلاد الكفاية لتحقيق كل دعوى تدعيها وتضييع كل استقلال تعتصم به البلاد المحتلة. فإذا أضيفت إلى القوة العسكرية هذه الشروط أو هذه الحقوق كما تريدها الحكومة البريطانية، فالذي يبقى من الاستقلال لا يساوي عناءه، والذي يبقى من الحماية أو من الضم الصريح هو الجوهر الصميم الذي ليس يعني القوم شيء سواه.
تحدث سعد بعد عودته من المنفى عن تصريح ٢٨ فبراير فقال على أسلوبه في سرد الأمثال:

هو ناقة البدوي التي تباع بمائة درهم وتباع التميمة التي في رقبتها بألف، ولكن لا تباع الناقة بغير التميمة؛ فما أملحها من صفقة (لولا الملعونة في رقبتها)!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤