تمهيد

تجوَّلْنا في أنحاء لبنان١ مع قرائنا الكرام، فسرَّحوا معنا الأبصار فيما يحتويه هذا الجبل من الآثار، فوجدوا في هذا النظر فائدةً ولذةً، ومُذ ذاك الحين ألحوا علينا بأن نوسِّع نطاق أبحاثنا، فنشمل بدروسنا كل أنحاء الشام، فها نحن نلبي ملتمَسهم، ونباشر كتابة فصول متتابعة في هذا الشأن، نُطلق عليها اسمًا جامعًا، فندعوها: «المذاكرات الجغرافية في الأقطار السورية».

وقبل أن نُقدِم على العمل ندوِّن هنا خلاصة مشروعنا؛ ليكون القراء على بينة مما قصدناه. نفتح اليوم سياق مذاكرات شتى، نتابعها على صفحات «المشرق» بسرعة كافية، مع مراعاة الظروف والأحوال، ويكون ابتداء كلامنا في أبحاث عمومية عن موقع سورية الجغرافي، وما نالته هذه البلاد في سالف الزمان لفضل مركزها من المنافع والمرافق، وما ينتظرها أيضًا بسببه في المستقبل من النجاح، ثم ننتقل إلى وصف صورتها وتخطيطها، ثم نذكر جبالها ومياهها مع البحر الذي يماسُّ سواحلها، ثم نصِف مواردها من معادن ونبات وحيوان، وإذا انتهينا من هذا النظر العمومي ننتقل إن شاء الله إلى أوصاف كل جهة بحِدَتها، ونعرِّف خواصَّ حواضرها وتاريخ أبنيتها القديمة، وآثارها الجليلة، وكل ذلك على التقريب يوافق الفصول التي خصَصْناها بلبنان وأحواله.

فمن هذا الرسم الوجيز ترى سعة الموادِّ التي تشملها أبحاثنا؛ إذ لا تتناول فقط الأحوال الحاضرة، بل تمتد أيضًا إلى ما سلف عهده. وأملُنا أن القارئ يصحبنا في هذه الرحلة الطويلة دون أن يأخذه الملل، ولا ريب أنه يستدرك هذا الخطر إن صرف نظره إلى ما يقال، ليس إلى مَن يقول؛ لأن الموضوع ذو بالٍ، كثيرُ الشُّعَب، متعدد المناظر، يعاين فيه المطالع — مع طوله — مَشاهِدَ فتَّانة تتناوب وتتوالى، فيقر إليها بصره ولا يحسُّ بسأم، وزِد على ذلك أن الذي نصِفُه ليس بأمر غريب عن القراء، لكنه أمر قريب تحنُّ إليه أضلاعهم، وتمسُّه مشاعرهم، أعني سورية مسقط رأسهم ووطنهم العزيز، فكل ما ينوط به يهمهم شأنُه ويجدر بهم الالتفات إليه. وهذا الذي حدانا إلى مباشَرة العمل، كي نزيد قرَّاءَنا اعتبارًا لبلادهم، إذا ما عرفوا كل ما أودعه الخالق من المحاسن والكنوز، فمن الله نطلب أن يمدَّ إلينا يد المساعدة؛ لنقوم بهذا المشروع قيامًا أهلًا بسموِّ شأنه، فنحقِّق أماني القراء فينا.

وها نحن نُصدِّر مقالاتنا بفصل إعدادي، نبحث فيه عن موقع سورية جغرافيًّا؛ لنستدل به على تاريخها القديم؛ ولهذا الفصل مقدمةٌ غاية في الاعتبار، تعود إلى أصل العِتْرة البشرية كلها؛ أعني كون سورية مهد الجنس البشري.

سورية ومهد الجنس البشري

قال إتيان لامي٢ ما تعريبُه: «إن في العالم بلادًا تتصافح فيها أقطارُ أوروبة وآسية وأفريقية، وتعيش بالأُلفة على السواحل نفسها، هي بلاد برية وبحرية معًا، هي سوق جامعة لمرافق مائة مدينة ومرفأ، تتبادل فيه القارات الثلاث محصولاتها المتنوعة، هناك تتصلَّب وتتوارد الطرق التجارية التي فتحها العالم القديم، هي أقدم موطن يعاين فيه الإنسان آثار أقدامه، فيها نشأت أخصُّ الديانات الشائعة. وخلاصة القول: لستَ تجد حيثما نظرت بلدًا أصغر من هذا في مساحته قد اختلطت فيه وتزاحمت أممٌ أكثر، ودياناتٌ أعظم، وآثارٌ أخطر.»

نِعم القول، يسرُّنا أن ننقلهُ عن كاتب بليغ، فنحلِّي به مَطلع هذه الدروس التي أفردناها لسورية وآثارها.

ولا مراءَ أن سورية — قبل كل بلاد القِدَم — بلادُ الزمن السابق للتاريخ، فليت شعري، أليس لها علاقة مع أول منازل البشر؟ إن الإنسان منذ ألوف من السنين قد طُبِع في ذهنه ذِكر فردوس أرضي ظهر فيه جنسهُ، فأين هي يا تُرى هذه؛ جنة عدن؟ أفي العراق؟ أفي سهول ما بين النهرين؟ أفي غوطة دمشق وبقعتها الفيحاء كما ارتأى القديس أغناطيوس — منشئ الرهبانية اليسوعية — في كتاب رياضاته الروحية؟ هذه الآراء وغيرها قد كُتبت فيها التآليف الواسعة، بل تجفُّ المحابر قبل أن يُستقصى فيها البحث أو يُكشف سرها بالتمام. أما كون الفردوس في تخوم سورية، فهذا أحد الآراء الثمانين التي قال بها الكَتَبَة،٣ يؤيده كون الفرات يجري في بعض جهات هذه البلاد.
في النصف الأول من القرن السابق نزل عند لِحْفِ لبنان شاعرٌ كان أصاب الشهرة في قومه يُدعى «لامرتين»، فأعجبه طِيب هواء البلاد، فاتخذ بيروت له موطنًا، وكان يخرج منها إلى أنحاء الشام ليزورها ويدرس آثارها، ففي بعض مسيره رقي أكمَةَ الأشرفية فوق كنيسة مار متري، فأجال نظره مليًّا في المشاهد التي كانت تحدق به، فأخذت بمجامع قلبه، وكادت تسحر لبَّه، فكان يرى البحر حول بيروت من جهاتها الثلاث، كأنه المنطقة المزركشة بالأرجوان والذهب، وكان ينظر على شماله لبنانَ الناطحَ بقرونه السحاب، وبين هذا الجبل وموقف الشاعر كانت تنبسط السهول السندسية الغنية بمزارعها، منها غابات الزيتون عند شويفات، وغابة الصنوبر، وكان يجد في أرمال بيروت صورةً ملطَّفة لمفاوز بلاد الصحراء. نعم، إن في العالم محاسن أجمل وأبدع، ولكن أيوجد في العالم أمكنةٌ عديدة، جمع فيها الله كلَّ هذه المناظر المتباينة والرؤى الفاتنة في دائرة ضيقة كهذه؟ ذلك ما شغل فكر الشاعر زمنًا طويلًا، فبقي غائصًا في تأملاته، إلى أن عاد إلى نفسه فهتف: «حقيقةً إن الله قد وضع في هذا المكان أكثر مما يمكنه الإنسان أن يتصوَّره، فإني كنت أتُوق إلى مَرْأى فردوس عدن، فها هو ذا بعينه.»٤

لا أريد أن أحكم في هذا القول، أهو عين صواب، أو هو بالحري وصف تخيلي لشاعر متفنن؟ وليست غايتي أن أنسب له حلَّ هذا المشكل العويص، ولكن يمكننا أن نعتبر هذا البحث من وجه آخر، فنحصره في حدودٍ معلومة، ولا يخفى عليَّ بأنه يلذ القراء أن يستقْرُوا أخبارَ الشعوب جيلًا بعد جيل ليعرفوا مهد الجنس البشري، ويتبيَّنوا موقع الفردوس الأرضي، لكن هذا البحث يخرج عن حيز الممكنات، وإنما نستطيع أن نقتصر في البحث عما ورد في تاريخ السلالتين العظيمتين من السلالات البشرية، اللتين لعبتا في العالم أشرفَ الأدوار، نريد الأممَ السامية والهندوأوروبية، فنقول:

إن المذهب الشائع بين العلماء في موطن بني سام الأصلي أنهم ظهروا في شبه الجزيرة التي موقعها بين خليج العجم والبحر الهندي والبحر المتوسط، أعني في مربع عظيم تشغل سورية جهتَه الغربية، لا نجهل أن غيرهم من المستشرقين يجعلون أصل الساميين في أفريقية، ويزعمون أنهم تخطَّوْا منها إلى آسية. فرأيهم هذا يستدعي بحثًا، لا يسعنا الآن الخوض في غمره. وما لا شبهة فيه أن مهد الساميين التاريخي — حيث يظهرون في نور التاريخ، فنتبع أعمالهم وأخبارهم دون ريب، ونميِّز خواصَّهم التي تفرزهم عن غيرهم من الأمم في القرون التالية — قد كان موقعه في المربع الكبير الذي ذكرناه آنفًا، سواء كان هذا المقام محلَّهم الأصلي أم لا، ومنه انتشروا في بقية أنحاء آسية المتقدمة، ثم إلى كل أنحاء المعمور. ومَن أراد أن يتجاوز هذه الحدود التاريخية، سار في مجاهل على غير هدًى، وتعرَّض للضلال والعثرة، ولعل تقدُّمَ العلوم يأتينا يومًا بوسائل جديدة لتلطيف هذه الظلمات الكثيفة.٥

أما السلالة الهندوأوروبية التي تهمنا من وجوه متعددة، فإن رأي العلماء في أصلها كرأيهم في الساميين، فإنهم لا يتفقون في تعيين مهدهم الأول، وإن كانوا يجعلونه في آسية، ليس بعيدًا من البلاد التي سبق القول فيها بأن الساميين إخوة الآريين سكنوها في طَوْرهم التاريخي.

ولبيان ذلك نكتفي بما يأتي، وهو أن العلماء مهما تقدَّموا في الدروس التاريخية المتعلقة بنشأة الجنس البشري، زاد أيضًا توجُّه أبصارهم إلى ذلك القسم من آسية المتقدمة الذي سورية تُعَد كمركز له، فيجعلون فيه مهد الإنسانية. والحق يُقال: إنك إنْ تصفَّحتَ تاريخ الشعوب أربعةَ آلاف سنة قبل المسيح، وجدتَ البلاد الغربية متسكِّعة في ظلمة الهمجية، بينما نرى الجهات الواقعة في شرقي البحر المتوسط مزدهرةً بنور التمدُّن — أعني وادي النيل والأصقاع الآسيوية المجاورة له من سواحل الشام، وضفاف الفرات ودجلة — فيكون منشأ التمدن جنوبي غربي آسية، ومنه انتشر جيلًا بعد جيل إلى بقية البلاد حتى عمَّ الأممَ المتنورة.٦ وبعبارة أخرى يصح القول بأن سورية كانت في مركز دائرة كبيرة من البلاد التي ألَّفت العالمَ القديم؛ حيث كانت نشأة التمدن الأول في المسكونة، وإن عجزنا عن بيان وقوع الفردوس فيها فكفاها فخرًا أنها كانت مهدَ تاريخ البشر.

ومن ثَم نقول أيضًا عن سورية إنها من الأقطار التي استوطنتها المستعمراتُ البشرية الأولى، إن لم تكن أولَ أرض وطِئَها الإنسان بقدَمه، وما لا ريب فيه أن سورية قد تفرَّدت مع بلاد بابل والقُطر المصري بكونها حفظتْ أقدمَ ما وُجِد من الآثار المُنبِئة بوجود الإنسان، الناطقة بأعماله الأولى، وهو لعمري مجدٌّ أثيل أحرزته لها في ميدان لم يُجَارِها فيه إلا القليل.

موقع سورية الجغرافي

لسورية — فضلًا عن كونها من مواطن البشرية الأولى — فضلٌ آخَر، وهو موقعها العجيب في وسط المعمور، فإنها قائمة في حدود الشرق كالحارس يصونها، وهي مع ذلك قسم صالح من حوض البحر المتوسط الذي يوصلها بأقطار الغرب، تراها منفصلة عن آسية المتقدمة بجبال طورس الشامخة، وبصحاري جزيرة العرب، يصلها بأفريقية برزخ دقيق «برزخ سويس»، واقعة على سواحل البحر المتوسط، الذي كان يُعَد إلى أواسط القرن السادس عشر كبحر المسكونة كلها، فأسرع سكان الشام وسلكوا هذه الطريق اللاحِبَة، ودخلوا ذلك الباب الواسع المفتوح في وجه نشاطهم، وتقاطروا إلى الجزائر النازحة والبلاد السحيقة الواقعة في الغرب، فطبعوا فيها صورةَ تمدُّنهم وآثارَ حياتهم، فكأنه تبارك وتعالى لم يجعل سورية على جوار البحر المتوسط — الذي أضحى منذ ٣٠٠٠ سنة من أخص سبل التمدُّن — إلا ليجعل أهلَها في مقدمة روَّاد المدنيَّة ونَقَلة الأُلفة، فقاموا بهذه المهمة أحسن قيام مدةَ نيِّف وألف سنة.

قد قلَّد الله كل شعبٍ دعوةً يفيد بها الهيئة الاجتماعية، أما خاصة الفينيقيين وأهل سورية فإن دعوتهم إنما كانت نشر التمدُّن. نعم، إن التمدن بلغ في بابل وآشور مبلغًا أعظم منه في أنحاء الشام، كما أن عقول الآشوريين لم تكن أقل توقُّدًا من جيرانهم. لكن فعلهم في نشر الترقِّي المدني كان دون فعل الفينيقيين، فماذا أنقصهم لذلك؟ إنهم لم يُعطَوْا هبةً نالها السوريون فامتازوا بها في كل أجيالهم؛ نريد الإقدامَ على نشر المشروعات؛ لأن الآشوريين لم يجدوا بقُرْبهم بابًا بحريًّا يخرجون منه إلى بقية أنحاء العالم، وينشِّطهم على العمل، ويشدِّد أزرَهم للتوسُّط في المعاملات بين الشعوب المتباينة، وكل ذلك قد أصابه السوريون لوجود موطنهم بين بلاد متوغلة في التمدن، وبلاد جديدة كانت منتظرة نعمة هذه المدنيَّة. وكان السوريون دون جيرانهم البابليين والمصريين قدرةً وثروة، فسدُّوا ما ينقصهم من هذا الوجه بما أتاحهم الله من حُسن الموقع والمنافع الجغرافية.

ولما نالت سورية هذا المقام في الوضع الطبيعي، صارت في كل الأزمنة هي الوصلة بين الشرق والغرب، تنوط بهما جميعًا، دون أن تختص بأحدهما، فإن اعتبرت سكَّانها ولغتها ورسومها فهي شرقية، وإنْ لحظت جيرتها من بحر غربي ومُعامَلاتها المتوالية مع الأمم الساكنة في حوض البحر المتوسط، وأخلاق أهلها المتنوعة العامة، وميلهم الطبيعي إلى التهاجر ومخالطة الشعوب ومعاطاة الأشغال، فهي أشبه بالغرب.

ولذلك تراها إذا تصفَّحتَ تاريخها القديم كمَعبرٍ ومجتمع كانت تتصافح فيهما كلُّ الأمم القديمة، فتتلاقى فيهما كأنها في بلادها جميعًا، وكأن الله سبحانه وتعالى قد قضى أن يكون هذا الالتقاء سلميًّا جامعًا للقلوب، وربما تبلبل نظام الخالق بسُوء نيَّات الشعوب، فصارت سورية ساحةً للقتال، جرت فيها الدماء سيولًا بدلًا من أن تصير سوقًا لتجارة الأرض، ومَرْسحًا للأُلفةِ والتحابِّ، فكم من أمة طمعت في اقتناء سورية وبذلت دونها كل غالٍ ونفيس، خصوصًا في أيام الآشوريين وفي عهد الفراعنة، فكانت منافعها الجغرافية تتحوَّل لها إلى ويلات وشرور، وقد قامت بعد هذه الدولِ دولٌ أخرى، تختلف اسمًا وجسمًا، لكنها لم تختلف فعلًا. وكما قدِمَ إلى سورية رعمسيس الثاني ونبو كدنصَّر، كذلك جاءها الإسكندر وكثيرون غيره، تُرى كتاباتهم وأسماؤهم مرقومة في متحف طبيعي عجيب تحت القبة الزرقاء؛ أعني به مضيقَ نهر الكلب.٧
فلما رأى ملوك بابل وآشور ما خص الله به بلاد سورية من خصب التربة، ومن حسن الموقع للمعاملات التجارية، أحبُّوا أن يجعلوا البحر المتوسط تحت سيطرتهم؛ لتسهيل المواصلات بين بلاد الشام ووادي دجلة والفرات، وتلك لعمري كانت مسألة حيوية؛ إذ بها تنفتح الطرق التجارية فتُنقل إلى جهات الغرب مَرافِقُ الهند وثروتها.٨
فما كان من أمرهم لتحقيق غايتهم إلا أن يتعقَّبوا آثارَ القوافل الكنعانية التي سبقتهم إلى الاستيلاء على الشام، وكان يحدوهم أيضًا إلى سيرهم إلى الأمام رغبتُهم في مبارَزة فراعنة مصر، وهم لم يعرفوا دولةً أخرى تقوى على أن تحولهم دون إنجاز مقاصدهم، فتنزع من أيديهم السلطة على آسية.٩ وكان لهم سبب آخر يُنهِض هممَهم ويدفعهم إلى جهة البحر المتوسط؛ أعني حاجتهم الماسَّة إلى الخشب، وكانوا في ذلك والمصريين سواء، فلم يرضوا أن ينتفع الفراعنة وحدهم من غابات سورية الفاخرة، لا سيما أَرْزها الذي كانوا يتخذونه لزخرفة مبانيهم وقصورهم حيث وُجِدت آثارها في أيامنا.١٠

وهنا لا يجوز لنا أن نضرب الصَّفْح عن أمرٍ لم يكن في الحسبان، وهو تأثير غابات لبنان في أحوال أهلها وتدبير شئونهم، فإن هذه الأحراج هي التي أكسبت الفينيقيين نقابةَ البحر؛ لأن منها كانوا يستمدُّون الأخشابَ اللازمة لتجهيز السفن، فصاروا بذلك في مقدمة الملَّاحين، يتولَّون التجارة البحرية مع البلاد البعيدة، لكن هذه المنافع أيضًا قد حرَّكت مطامع الشعوب المحيطة بهم للاستيلاء على بلادهم، فترى كيف الأهواء البشرية تتعرَّض لأحكامه تعالى، فتبلبل النظام الذي سنَّه لكل بلاد، وقد سبق أن سورية في رسم الخالق وُضِعت لتكون بلدًا وسطًا، يجمع في التحابِّ والأُلفة الشعوبَ المتنائية.

واعلم أن أقطار الشام لم تشعر فقط بثقل وطأة الأمم الشرقية، لكنها نالت أيضًا من موقعها نعمًا عزَّتها عن هذه المساوئ، وخوَّلتها منافعَ مشكورةً ومِننًا سابغة، فإن وقوعها بجوار بلاد اليونان كان سببًا لترقيها في الصنائع والفنون، ولتقدُّمها في ضروب العلوم، وكذلك استفادتْ من الرومان حُسنَ سياستِهم وتدبيرهم وصيانتهم للسلام، كما تعلَّمتْ من أمم القرون الوسطى أن تدافع عن المبادئ الدينية؛ إذ رأت ما للدِّين من القوة في طلب آثاره القديمة وصيانة معابده، التي لأجلها اهتزَّت شواعر ألوفٍ من البشر فبرحوا المواطن حبًّا بها.١١

ليس التاريخ إلا صدًى لاصطدام الأهواء البشرية، ولما ينجم عن التحامها من النكبات ومن الحروب ومن الخرائب، وعلى خلاف ذلك السلام والخير والفضيلة، فإنها لا يُسمَع لها جلبة، وبناءً على هذا قد قال القائل: «طُوبى للأمم التي ليس لها تاريخ.» وهذا لا يصح في سورية كما رأينا، وكان الأولى بها وبأهلها أن تبقى في عزلتها، دون أن تستلفِتَ إليها نظرَ العالم، لكن الشعوب كما الأفراد لا يمكنها أن تؤثر لها خطة تجري عليها باختيارها، وتنسج على منوالها حياتَها العمومية؛ لأن الشعوب في التفكير والله في التدبير.

•••

اعلم أن الثروة والجمال موهبتان خَطِرتان، وأول غوائلهما أنهما يثيران الحسد على أصحابهما، قلنا إن الله سبحانه وتعالى إذ منح لسورية موقعًا أثيرًا جعلها كطريق عامٍّ يجمع بين ثلاث قارات العالم القديم، وذلك أن سورية محصورة بين البحر والبادية، ففيها وحدها طريق سهل يمكن سلوكه بين آسية وأفريقية، وقد أدرك الفينيقيون ذلك فجعلوها سوقًا واسعة لتجارة الخافقين، ومَعْبرًا متواصلًا لقوافل الأمم، وأضحى مع ذلك أهل السواحل السورية رؤساءَ البحر، وفاقوا كل القدماء في خوض غمراته مدةَ قرون متعددة، فمخَروا عُبابَه قبل اليونان بزمن طويل. ولما أراد البابليون وبنو إسرائيل أن يُنشِئوا لهم مِلاحةً ويعمروا السفن، لم يستطيعوا إتمام مرغوبهم إلا بأن يلتجئوا إلى الفينيقيين،١٢ وسليمان الملك راسَلَ في ذلك حيرام صاحب صور كما ذكر الكتاب الكريم؛ لأن الفينيقيين كانوا أوقفوا نفوسَهم ليكونوا سُعاة وعمالًا بين الشعوب الساكنة على سواحل البحر المتوسط، ففتحوا في كل مرفأ مكتبًا تجاريًّا لمعاملاتهم، وسبقت صور وصيداء غيرَهما من المدن في الاستعمار؛ فإن أول مستعمرة يذكر التاريخ إنشاءها ينسبها لِتَيْنِكَ المدينتين، وإليهما يعود الفضل في توسيع المعاملات التجارية وتعميمها بين الدول. فإن المتاجَرات كانت قبل ذلك محصورةً بين الشعوب المتجاورة، فتستبدل الواحدة ما يزيد على احتياجها مما ينقصها من محصولاتِ جارتها؛ والتجارةُ على هذه الصورة ترتقي إلى أول العالم. أما الفينيقيون فإنهم أَنشَئُوا التجارةَ الكبرى — أعني التجارة البحرية — فنالوا من الفخر ما لم يحصل عليه شعبٌ آخر إلى القرن السادس عشر؛ إذ دخل فن المِلاحة في طَوْرٍ جديد باكتشاف قارة أميركة.١٣ وما يزيد فضلَهم أنهم أول مَن نهَجَ تلك المسالك، وكان المصريون من قبلهم كما البابليون والصينيون مُنزوِين في أصقاعهم يتنعَّمون بهبات الطبيعة دون أن يفكِّروا في نشرها بين غيرهم.

وفي هذا لعمري عِبرةٌ للمعتبرين، لا سيما إذا قابلوا بين صِغَر بلاد فينيقية وسِعَةِ مستعمرات أهلها وبُعدِها السحيق. وليس في ذلك ما تُنكَر صحته أو يُرَد برهانه؛ لأن التاريخ قد بيَّنَ مُذ ذاك العهد أن الدول التي ضاقت مساحةُ أملاكها إذا ما كانت مجاورةً للبحر في إحدى جهاتها، كانت أسرع إلى الاستعمار وأحكم فيه من الدول الكبيرة ذات التخوم الفسيحة؛ لأن هذه الدول لا يمكنها أن تستعمر في الخارج قبل أن تقوم باستعمارها الداخلي، فتحسن أملاكها وتستثمر أراضيها، وكل ذلك يقتضي زمنًا مديدًا، بل أجيالًا طويلة، ويستفرغ قوى الأمة، ولو سهَتْ عن ذلك وقدَّمت الاستعمارات الخارجية عرَّضتْ نفسَها إلى التهلكة كما حدث آخِرًا لروسية، التي تملك في أوروبة على أنحاء متسعة وأقطار فسيحة بينها السهول القَفرة، التي لم تُحسن زراعتها، فأرادت أن تزيد في أملاكها الآسيوية إلى حدود الشرق الأقصى، فكان من أمرها ما كان، وأصابها من الويلات ما هو فوق نكبات حربها مع اليابان، ولنا بينة على صدق هذا القول في تاريخ البرتغال والبندقية وجنوة وهولندة، وفي أيامنا هذه في تاريخ بلجكة، فرأينا ما نالته هذه الدول الصغيرة من الفوز والتقدم في استعماراتها.

ومثَل البندقية حريٌّ بالاعتبار؛ لأنها جدَّدت بعد ألفَيْ سنة أعمالَ الفينيقيين، فنالت في طرف البحر المتوسط الغربي ما ناله الفينيقيون في الطرف الشرقي، وكلا البلدين في موقع متشابه، وأهلهما مُولَعون على سواءٍ بالعيشة البحرية، وإنما بينهما فرق واحد؛ وهو أن الحركة الاستعمارية للبنادقة ابتدأت من الغرب، فبلغت الأقطار الواقعة في شرقي البحر المتوسط.١٤

وقد سبق السوريون وأدركوا ما لموقع بلادهم من المحاسن، وعرفوا أنهم يصيبون الهدف إذا ما عانوا الأسفار البحرية، وتكلَّفوا أعمال التجارة، فإنَّ توسُّطَهم بين الدول القديمة — أعني بابل ومصر — كان كافيًا لأن يُكسِبهم الثروةَ الواسعة، فينقلون إلى أهلهم السلع المتعددة ويبتاعون منهم محصولات بلادهم المتوفرة، فيربحون على الوجهَين الأرباح الطائلة؛ إذ يبيعون بالأسعار الغالية ويشترون بالأثمان المتهاودة، وفي ذلك سرُّ غِناهم العظيم، وكما أنه كان أقوى مهماز لتنشيط أعمالهم.

واليومَ إن تروَّيتَ في أحوال الأمم التجارية، وجدتَ أن أسباب ترقِّيها تنوط بأحد هذه الأمور الثلاثة؛ أعني وضْعَها الجغرافي كاتساع سواحلها، ثم تركيب طبقاتها بتوفر مناجم فحمها الحجري، ثم أحوالها الاقتصادية الدائرة على حرية التبادل والمعاهدات التجارية المبنية على أصول قريبة وقوانين سهلة.١٥ فمن هذه الأمور الثلاثة لا يسعنا الجواب على آخِرها ونحن نجهل شروط التجارة بين الفينيقيين وبين غيرهم من الأمم. أما الأمر الثاني — أعني الفحم — فإنهم لم يكونوا إليه في حاجةٍ لما أصابوا في جبالهم من ثروة الغابات التي تسدُّ حاجاتهم في تعمير السفن، وهم لا يعرفون إذ ذاك تسيير السفن بقوة البخار، فيبقى علينا أن نبحث عن الأمر الأول، فنبيِّن الأسباب الجغرافية التي أكسبتهم احتكارَ التجارة البحرية.

إن نظرت إلى لبنان رأيت سلسلته تمتد موازية للبحر، لكنها من مسافة إلى أخرى تلقي في البحر رءوسًا تنتصب فوقه وتُشرف عليه، أخَصُّها الرأسُ الأبيض بين عكَّا وصُور، ثم رأس نهر الكلب، ولا سيما رأس الشقعة الناطح بطرفه الهائل بين بترون وطرابلس، وليس بين هذه الرءوس الضخمة مكانٌ إلا لأودية حرجة عميقة، أو لسهول متوسطة في سعتها، أو لشقق مستطيلة من الرمل والصلصال تخترقها الصخور على صورٍ شتى، منها داخل في البحر، ومنها راكب بعضها على بعض، ومنها المسنَّن، ومنها المُرَوَّس والمدرَّج؛ فاقتضى على الأهلين الذين قطنوا في هذه الأرض الحرجة بين البحر والجبل أن يوجِّهوا بنظرهم إلى مياه العرمرم، لينالوا منها ما يسد رمقهم، إما بالصيد، وإما بالمتاجَرة بين مدينة وأخرى، فهكذا كانت صيداء مقامًا للصيد، كما يدل عليه اسمها قبل أن تُضحِي مركزًا بحريًّا عظيمًا.

وهذه الملحوظات عن غرائب الساحل السوري كادت اليوم تبرح عن الخواطر، بعد أن امتدت على سيف البحر طرقُ العربات، بل مُدَّت الأسلاك الحديدية لقواطر البخار، فيسير المسافر على الطريق السوِيَّة الممهَّدة دائرًا حول رءوس الساحل، وقاطعًا لركام الصخور دون أن يحجزه حاجز، اللهم إلا رأس الشقعة الذي لم يتمكَّن المهندسون من قطعه حتى الآن، ولكن هيهات أن تجد مثل هذه الطريق السهلة في المسالك القديمة، فإنك لو نهجتها لَعلمتَ ما يتكلَّفه السائر في سيره من المشقة لينتقل من وادٍ إلى آخر، وما يَحُول دون مَرامِه من توريبات السكة، ومن المراقي الصعبة قبل أن يبلغ مكانًا قريبًا لو أمكنه قطعه على طريق مستقيم، فلا بِدْعَ أن الأهلين منذ نشأت التجارة فكَّروا في تقصير هذه الطرق بالسلوك بحرًا، وربما كانت الطريق البحرية هي وحدها الممكنة.

وإنْ قيل إنَّ السواحل السورية مكشوفة ليس فيها ملاجئ للسفن في وقت الأنواء، فضلًا عن أن عدة مرافئ كحيفا وطرابلس ولا سيما يافا، لا يمكن الرسوُّ قُربها أيامًا طويلة في فصل الشتاء، فكيف كان الفينيقيون يبحرون؟ نجيب على ذلك أن الملاحة القديمة كانت تخالف ملاحتنا اليوم، فإن البحريين ما كانوا يقلعون مراكبهم إلا في فصل الهدوِّ وصفاء الجو، فكانوا إذ ذاك يفضِّلون الوقوف عند الرءوس أو عند الجزر البحرية، فلا يشعرون بهبوب النسيم حتى يسرعوا إلى السير على الساحل من مدينةٍ إلى مدينة، ومن رأس إلى رأس، وكانت السفن الفينيقية كبيرة مسطحة لا تغوص كثيرًا في المياه، حتى إنها كانت تستطيع أن تصعد النيل إلى الأقصر،١٦ فكان الملَّاحون يواصلون سيرهم من أرواد إلى طرابلس فبيروت فصيداء فصور، راسين عند رءوسها كما في طرابلس وبيروت، أو عند الجزر المجاورة لها كما في أرواد وصيداء وصور، ومستقين من العيون التي تُرى في كل هذه الأمكنة جاريةً فيها ومخصبةً لها. أما في فصل الشتاء، فترى مراكبنا اليوم إذا أحسَّت بقرب النوء أقلعت إلى الغمر؛ لئلًا تغوص بالرمل أو تلقي بها العاصفة على الصخور، وكان الفينيقيون في فصل الشتاء في مأمن من ذلك، يجرون إلى البر سفنهم إلى أن تهدأ الريح وتزول العاصفة.

أما إذا اعتبرت سواحل سورية من حيث وضعها الجغرافي، فإنك تجد فيها مُسهِّلات متعددة للملاحة القديمة، فإن مراحل السفن من مكان إلى آخر كانت قصيرة، وإذا أرست في محلٍّ صادفت فيه عيونًا دارَّة لا تنقطع، وكذلك كان سيرها عاجلًا تجاري الساحل في خطِّه المستقيم دون أن تتريَّث بالخلجان المتَّسِعة والمرافئ الباطنة، وذلك فضلًا عما يهب في السواحل السورية من الرياح الثابتة الهبوب المعتدلته، فكل هذه الصفات لم تسمح للقدماء بأن يتركوا شواطئهم سُدًى كالدقعاء المقفرة، تأوي إليها الضواري والكواسر، وتسبح في مياهها النينان دون أن يستخدموها لمنافعهم إما للصيد وإما للمتاجَرة.

هذا ولا ننكر أن الساحل السوري مع صلاحيته للملاحة لم يخلُ من بعض المخاطر كما رأينا، وذلك لانكشافه وتعرُّضه للرياح الشمالية العاصفة؛ ولكثرة ما يتخلله من الرءوس والصخور البارزة لا ملجأ فيه للملَّاح مع ما يلقاه في سيره إلى الجنوب من المقاومة من قِبَل المجاري المضادة،١٧ فإن كل ذلك يستدعي نظرًا صائبًا وحذاقة بالغة في خوض البحر، فكان ينال في هذا الجهاد اليومي خبرةً ليوسِّع نطاقَ أسفاره البحرية التي كانت تساعده عليها الغاباتُ اللبنانية؛ إذ يجد في أخشابها — ولا سيما أَرْزها — ما يقوى به على مثل هذه الرحل البعيدة.

ومما تجدي السواحل السورية من النفع لأصحابها، فضلًا عن الملاحة التجارية، مجاورتُها للجبال القائمة في وجه سكانها، كأنها تدعو أهلها إلى قطع مشارفها ليلقوا ما وراءها ما يقوم بمعاشهم في السهول الواسعة الخصبة، التي تسدُّها تلك الجبال عنهم. أَلَا ترى أن الساحل الفينيقي قليلُ الاتساع لا يستطيع أصحابه أن يستغلوا ريع الأرض مما لا غنى عنه من القمح والزيت؟ وقد ذكر الكتاب المقدس (سفر الملوك الثالث: ف٥) أن غاية ما طلبه حيرام الصوري من سليمان الملك — بدلًا من خدماته — مقدارٌ من الزيت والحنطة، فهذه الحاجة في ساكن الساحل يُضاف إليها عدمُ وجوده لجزائر ينتفع من غلَّاتها، وبُعْدُه عن قبرس الحافلة بسكانها، كل ذلك صرف بنظر السوري إلى جبله؛ ليفتح له معبرًا يجتاز به إلى البقاع التي من ورائه، فنقر في الصخور تلك المراقي الصعبة التي يقطعها المكاري مع بغاله بسرعةٍ عجيبة وقدَمٍ ثابتة، وبسيره هذا لا يلبث أن يعتاد ما هو أوسع عملًا وأجدى نفعًا، فيتحول إلى قائد قوافل، ولا يزال يجدُّ ويكدُّ نافذًا في وسط أوديته، متولِّجًا بين سيولها الجارفة، ثم راقيًا إلى أعالي جبله حتى يبلغ عطفه الآخر، فيدخل في تلك السهول الداخلية الفسيحة التي تُعَد كأَهْرَاء حنطة لا تنفد مستغلَّاتها، وكان من هناك يضرب في الأرض راحلًا إلى أنحاء العراق، فيستجلب منها محصولاتها التي كان مواطنوه ينقلونها بحرًا إلى الجزائر المجهولة الواقعة في بحر الظلمات.

إنه لَناموس من نواميس الهيئة الاجتماعية أنَّ الدول التي تنحصر أملاكها في حدود حرجة، إذا كانت ثروتها واسعة ونقودها متوفرة، أن تطلب لضغطها منفذًا بتوسيع تجارتها، والسعي وراء الاستعمارات، فقد أدرك أجدادنا السوريون والفينيقيون هذه الحقيقة؛ إذ ليس أمرٌ جديد تحت الشمس، فاستشفُّوا ما وراء البلاد التي اعتبروها كحدودهم الشرقية بلادًا غيرها لاحت لهم في أعماق الأفق؛ نريد شبه الجزيرتين الهنديتين وما يُطيف بهما من الجزائر، فاستوقفت تلك الأقطارُ أنظارَهم بما تتضمَّنه من المرافق العديدة، والثروة النباتية الواسعة، وأصناف الزهور الناصعة الألوان التي تفوق ما يُرى من ذلك في غيرها من الأنحاء، فلم تثبِّط همتَهم المسافاتُ الطويلة والعوائق المتعددة، فكانوا ينقلون من حدودها ما يستحبه تمدُّن ذلك الزمان لحاجاته أو لذاته من أفاويه وعطور وزيوت طيَّارة، وأقمشة زاهية، وضروب القطنيات الهندية الرقيقة، والأنسجة المشرقة الألوان، وأصناف الحرائر البهية التي يبذل الباعة الدينار في حقها بيد سخية، وكذلك كانوا يستجلبون من الهند المعادنَ الثمينة كسبائك الذهب، وصفائح الفضة، واللؤلؤ والعقيق والياقوت وقطع الماس، التي تزدان بها تيجان الملوك وأَكِلَّة الأميرات، وكان الناس لاعتبارهم لتلك البلاد يروون عنها العجائب والغرائب، فيعدُّون أرضها تِبرًا، وهواءها مِسكًا، وثمارها شِفاء وقوة، وطَيْرها شِبيهًا بالإنسان في نباهته وحُسنه.

فتجارة الهند في تلك القرون البعيدة كانت تُحسَب كثروة البلاد وغنى الشعوب، كما حسبها بعد ذلك أهل القرون الوسطى، وكانت تلك التجارة تروج أو تكسد على مقتضى أمور الزمان، وصروف الحدثان ينقلها من مظانها الكلدان والعرب، تأتي بها قوافلهم على طريق آسية الوسطى إلى أطراف بحر العجم أو البحر الأحمر، وكان الفينيقيون يرحلون إلى جهات بابل وإلى أنحاء اليمن، فينقلون تلك المحصولات إلى المرافئ السورية فيصرفونها إلى الغرب.

•••

وكان من نواميس العالم القديم أنهم إذا أرادوا المتاجَرة مع الأقطار النازحة يفضِّلون في ذلك الطرق البرية رغمًا عن طولها على خوض البحار، وإن كانت طريقها أقرب وأقصر، وذلك على خلاف ما ترى في تجارتنا اليوم، وهي تُؤثِر الطريقَ البحرية على سواها فتسير المراكب إلى أقصى ما تستطيع؛ لأنهم يجدون في تفضيل البحر سرعة، فضلًا عن كونها أقل كُلَفًا، لكن هذا النظام حديث ابتدأ منذ انتشرت الملاحة الشراعية الكبرى، ولا سيما منذ اكتشاف القوة البخارية، وكانوا قديمًا لا يركبون البحر إلا لمواصلة الطريق البرية؛ لأن الملاحين القدماء كانوا إذا أقلعوا قاصدين بلدًا معلومًا لا يعرفون ما سينالهم في طريقهم من الإعاقات، وخصوصًا ما سيلقون من الرياح الموافِقة أو المعاكِسة، فيعرفون ساعةَ خروجهم ولا يعلمون يومَ وصولهم؛ ولذلك كان القدماء لا يتجشَّمون أهوال البحر إلا عند الضرورة الماسة،١٨ وكان الفينيقيون يرون في ذلك رأي غيرهم من الشعوب مع كونهم أدخلوا البحر في تاريخ العالم. وبينما نشاهد اليوم التجارة مترتبةً على الملاحة، منوطةً بها في المعاملات، كانت على عكس ذلك في الزمن القديم، برية محضًا، فلا نرى أنه خطر على بال أحد أن يصرف القناطير المقنطرة لفتح قناة كقناة سويس أو قناة بناما، فإن نظرت مثلًا إلى الحِمْيَريِّين، وكان لا يفصلهم عن مصر إلا بحر صغير، ترى أنهم كانوا يفضِّلون على هذا السَّفر القصير في بحر القلزم طريقًا بعيدة، كانت القوافل تتبعها فتسير على سيف البحر إلى وادي موسى، ثم إلى غزة، وهي الطريق التي كان يسلكها العرب إلى زمن أبي سفيان، وإلى أوائل تاريخ الهجرة، ولعلهم لم يختاروا البحر للأخطار التي كانت تتهدَّدهم في البحر الأحمر، والسفر فيه صعبٌ لكثرة صخوره، وتعدُّد مَجاريه وشواطئه الرملية، فضلًا عما كان في سواحله من القرصان أو اللصوص، الذين يهجمون على الغرقى فينهبونهم أو يستعبدونهم.١٩

من أراد أن يدرك ما أكسب سورية سابقًا حُسْنَ موقعها من المنافع الاقتصادية — حيث كانت الطريقَ الواصلة بين الشعوب — يجب عليه أن يجرِّد فكره عما استفدناه اليومَ من الأحوال الحاضرة، وترقي المواصلات البحرية التي أضحت في عهدنا الطريق اللاحبة التي تضم الأمم العاملة إلى بعضها، كما صرَّح بذلك آخِرًا جلالةُ الملك ليوبلد الثاني ملك بلجكة.

إن أقربَ الطريق وآمَنَها لتجارة الهند قبل اكتشاف رأس الرجاء الصالح، إنما كانت الطريق البرية على مسير وادي الفرات، أما في وقت الحروب، فكثيرًا ما كانت تنسدُّ هذه الطريق المثلى بين البحر المتوسط وخليج العجم في وجه القفول التجارية، فتستبدلها بطرق أخرى كثيرة العقبات ذات أخطار جمَّة، وهي طريق بحر القلزم أو جزيرة العرب، لكن هذا البحر لم يتجاسر أحدٌ أن يتجشَّم أخطاره قبل أن يتوفَّق هيبالوس إلى اكتشاف الرياح المنظَّمة، التي تُعرَف ﺑ «المواسم»،٢٠ وذلك في القرن الأول للمسيح، ومذ ذاك الحين فقط جرت بحرًا معاملاتٌ بين الهند وسواحل اليمن ومرافئ بحر القلزم مباشَرة، أما الطريق البرية التي كانت تقطع صحاري العرب، فهي التي أكسبت أهل الجزيرة غنًى وازدهارًا، لا سيما السابئين والنبط والحِمْيَريين والقريشيين.

والفضلُ كل الفضل للفينيقيين؛ إذ سبقوا فأدركوا ما للطريق البرية من عِظَم الشأن، فإن ثروة الهند ومَرافِق الشرق الأقصى ما كانت لتجد سبيلًا أوفق تجري فيه لتبلغ إلى مركز العالم المتمدن، وأدركوا فوق ذلك أنه أجدى إليهم ربحًا لو استلموا تلك المحصولات الجليلة في محطاتها البعيدة؛ ليخفِّفوا بذلك عناء القوافل، ويقتصروا بعض المراحل من طرقها الطويلة؛ رغبةً في ضبط البضائع والتصرف فيها قبل غيرهم. ومما فُطِر عليه آل فينيقية ارتياحُهم إلى الدِّلالة، فإنهم كانوا نِعم السماسرة، يتوسَّطون بين الباعة والمشترين ولا يريدون بينهم وبين الباعة وسيطًا، فتتضاعف بذلك أرباحهم؛ إذ يشترون رخيصًا ويبيعون غاليًا، فعليهم المعوَّل في كل المعاملات التجارية لا يزاحمهم فيها أحد، ولا يقف المراقب على حقيقة متاجراتهم، وبذلك أضحَوْا أربابَ التجارة يدركون كُنْهَ أسرارها، ولا يفوتهم شيء من وجوهها.

وهذه المتاجرات عينها حدت بالفينيقيين إلى تجهيز القوافل البرية وقيادتها، فنالوا بذلك قصبةَ السَّبْق على مَن سواهم؛ لأن الطرائق التجارية في سالف الأزمان كانت مُبايِنة لطرائقها اليوم،٢١ فكانوا إذا أرادوا تصريف بضائعهم انتقلوا مع القوافل إلى حيث يرومون بيعها، فيدرسون كل بلد ويتعلَّمون لغته ويختلطون بأهله ويفقهون عُجَرَهُ وبُجَرَه؛ وكل ذلك لتتيسَّرَ لهم المتاجَرة وتزيد أرباحهم، وذلك على خلاف ما نرى اليومَ بعد اكتشاف السكك الحديدية والبواخر، فإن البضائع تصل إلى طالبيها دون أن يحتاج البائع إلى أن يرافقها.
وكان تدبير القوافل الفينيقية يقتضي درايةً عظيمة وحِذْقًا بليغًا في المعاملات، ومما كان يترتَّب على رئيسها أن يُحسِن نظامها، ويؤلف قلوبَ أصحابها ويجمع قُواهم لنجاح المشروع، كما أنه كان يسعى في طريقه بأن يكسب ثقة الأهلين، ويتقرَّب من أمرائهم وينتهز الفُرصَ اللائقة لمبايعتهم، ويتعرَّف ما يروج عندهم من الأسواق. وخلاصة القول، كان يتَّخِذ كلَّ المعلومات اللازمة التي تزيد ثروته وتوفر أرباحه، وهكذا قد وصف لنا كَتَبَة العرب تجارَ القريشيين في القرن السابع للميلاد،٢٢ وفي مقدمتهم أبو سفيان الشهير، قال ابن الأثير في أُسْد الغابة في تعريف الصحابة (٥: ٢١٦): «كان «أبو سفيان» تاجرًا يجهِّز التجار بماله وأموال قريش إلى الشام وغيرها من أرض العجم، وكان يخرج أحيانًا بنفسه، وكانت إليه راية الرؤساء التي تُسمَّى العقاب، وإذا حميت الحرب اجتمعت قريش فوضعتها بيد الرئيس.»

والإفادات السابق وصفها التي نالها الفينيقيون في رِحَلهم وأسفارهم البرية والبحرية، توسَّلوا بها لترقية تجارتهم وصناعتهم وتوسيع نطاقهما، فإنهم بصائب نظرهم وتهافتهم على الأعمال واحتكارهم للتجارة البرية والبحرية، بلغوا في آخر الطور اليوناني الروماني مبلغًا راقيًا، فكأني بهم جعلوا في زمانهم الطرقَ الجائزة في سورية الشمالية، وفي سورية الوسطى، وفي بادية الشام نفسها بمثابة ترعة سويس في عهدنا، وكانت بورسعيدهم تَدْمر، إلا أن تَدْمر كانت وقتئذٍ ملكةَ الصحراء تميس في مبانيها الفاخرة ومحاسنها الساحرة، ليست كبورسعيدنا التي هي عبارة عن مدينة مستحدَثة، لا يُرى فيها غير حوانيت الباعة، ومكاتب الحسَبة، ومقامات المتاجرين، بل كانت تَدْمر مُزْدانةً بالهياكل، تأخذ بالأبصار أروقتُها البديعة، وتماثيلها المحكمة الصنع، مما يخلب القلب ولا تجد له أثرًا في بورسعيد.

فدعنا بعد هذا نمتِّع النظر بحُسْن وضع سورية وبموقعها الجغرافي الفريد، ونحن نجدها في مفرق الطرق التجارية التي كان يسلكها العالم القديم، فإنها كانت قريبة من البرزخ الذي يصل آسية بأفريقية بين وادي النيل ووادي الفرات، وهناك كانت أعظم أمم تلك الأعصار وأرقاها في التمدُّن، وسورية في وسطها تبعد مسافةَ يومٍ عن تخوم مصر، وتكاد تتصل بمملكة آشور عند مجرى الفرات الغربي؛ حيث يلتوي فيقترب من البحر، فإن هذا النهر متاخم لسورية عند موقع قرقميش القديمة في المقام المُعَد لقطع سكة بغداد؛ حيث لا يبعد عن البحر المتوسط في خطٍّ مستقيم أكثرَ من ١٥٠ إلى ١٦٠ كيلومترًا. فما أسهل ما كان على الفينيقيين أن يتبطَّنوا وادي الفرات، فيتبعوا بطائحَه إلى أن يبلغوا خليج العجم المتصل بها. وكانت ضفافُ الفرات في تلك القرون حافلةً بالسكان متوفرة المدن، التي لا تزال آثارُها ظاهرة إلى يومنا، وقد شهد على عمران تلك الجهات أحد جغرافيِّي اللاتين، يُدْعى بمبونيوس ميلا Pomponius Mela, III, 12؛ حيث وصف غنى الأمم التي تقطن شمالي سورية، وقد نسب ثروتها «إلى خصب مراكزها وكثرة أنهارها، التي تجري فيها السفن فتسهل بها المبادَلات التجارية.»

فترى من ثَم أن سورية كانت بموقعها العجيب أهلًا بأن تصبح مركزًا لعلائق العالم القديم، أو قُل بالحري إن الله جعلها رائدًا للتمدن ووصلة بين الأمم العادية؛ أي المصريين، والكلدان، والأمم الوسطى من يونان ورومان، أجداد عالمنا المستجَد. ولو رقينا في سُلم الأعصار إلى أوائل القرون المتوسطة، وجدنا أهل سورية يتأثَّرون أعقابَ آبائهم، فيتوسَّطون بين الغرب وأواسط آسية، فهم الذين أدخلوا التمدن اليوناني في مدرستَي نصيبين وجنديسابور، كما أنهم جلبوا إلى الغرب مرافق تلك البلاد.

السوريون حمَلة التمدن القديم

فمن كل ما سبق لا يبقى للقارئ ريب في أن أهل سورية بتفرغهم للمبايعات وبتنقلهم في أنحاء البر والبحر كانوا الرباط الوثيق بين سواحل البحر المتوسط والبلاد النازحة عنه، ومزجوا مزج الماء بالراح الشرق العتيق بالغرب المترعرع، نعم، إنهم كانوا قبل كل شيء يعملون لأغراضهم ومصالحهم الخصوصية، إلا أن عملهم هذا كان يفيد الشعوب أيضًا، فيعمم ما لكل منها من المحاصيل ويخرجها من عزلتها، فينتفع كل شعب كما أصابه الآخر، سواء كان في الماديات أو في الأمور العقلية والأدبية والدينية، وفي هذا لعمري جل الفائدة، لا سيما في تلك الأزمنة التي كانت الشعوب لا تعرف بعضها إلا في ساحات القتال، فالفينيقيون نقلوا إلى الغرب تمدن واديي النيل والفرات، وعرفوا أهل تلك البلاد بمحصولات مصر وما بين النهريين وأعمالهما الصناعية بعد أن أخرجوها على هيئة جديدة توافق أحوال الغربيين وتناسب حاجاتهم، ولعلهم أثاروا في قلوب تلك الشعوب الجديدة رغبة في الترقي والنجاح، ومهدوا الطريق للفنون والآداب بين اليونان الذين ما كانوا ليبلغوا ذروة الكمال في الفنون الجميلة لولا توسط الفينيقيين، فإنه من المقرر أن التمدن اليوناني لم ينشأ بغتة على غير استعداد وبدون تمهيد، وإنما بُني على أساس سابق تقدمه، نريد تمدن أمم الشرق، وفضل الفينيقيين أنهم كانوا حمَلة لذلك الترقي القديم إلى اليونان، فأغنوا الغرب بمحصولات الشرق وبمصنوعات الشام. فانتبهت قرائح الغربيين إلى مجاراتهم ومزاحمتهم في العمل بعد أن أعملوا النظر في نحت التماثيل والدمى، وفي حفر الحجارة الكريمة وفي صياغة الجواهر، كما استلمها الفينيقيون من أهل مصر وبابل فزادوها تحسينًا، فهذه المصنوعات الفينيقية كانت للغربيين كلقاح لأذهانهم وشحذ لأفكارهم، أدى بهم بعد قليل إلى تلك العجائب الصناعية التي تفرد بها اليونان بعد زمن، وإن قيل إن الفينيقيين لم يطلبوا في ذلك غير الربح والمكسب فنجيب أن فائدتهم الخاصة لا تنفي الخِدَم التي أدوها لغيرهم، والخدمة خدمة ولو طُلب منها منفعة٢٣ ولعل الكَتَبَة لم ينسبوها قبلًا للفينيقيين؛ لزعمهم أن الفينيقيين كانوا تجارًا لا يهتمون بالفنون كمألوف عادة التجار؛ ولجهلهم تأثير الصناعة الشرقية بالصناعة اليونانية.

وقد أراد الله أن يعظم هذه الدعوة الشريفة التي خولها للفينيقيين ليكونوا وسطاء ونقلة للمواد التجارية وللأمثلة الصناعية، بأن جعلهم سماسرة الأفكار كما جعلهم سماسرة الأموال؛ ليعدوا الشعوب الجديدة لقبول الآداب والعلوم، ومهما قلنا في إطرائهم فإننا لن نبالغ؛ وذلك ليس فقط لأنهم بلغوا بقوافلهم إلى البلاد النازحة فوصلوا بين أطراف الأقطار وأقاصي الأصقاع، لكن أيضًا لأنهم زودوا الشعوب بآلة عجيبة كانت أعظم عامل للتمدن، نريد صناعة الكتابة وحروف الهجاء.

والحق يُقال: إن اختراع الأبجدية قد أجدى للبشر نفعًا، قد خلف وراءه الاختراعات التي تتباهى بها أعصارنا؛ كفن الطباعة، واكتشاف فوائد البخار والكهرباء؛ لأن بهذه الصناعة الكتابية انفتحت للمعارف البشرية أبواب واسعة؛ إذ بها نستطيع تدوين كل لغات العالم حتى قبل فهمها، بها جرى تقلب عظيم في أحوال الشعوب، لكنه تقلب هادئ سلمي غايته التحابُّ وتقريب الأمم من بعضها.

يقول الفلاسفة إن العادة طبيعة ثانية. يريدون أن الإنسان لا يتأثر مما اعتاد نظره وائتلفه بالتكرار، فإن العجائب الطبيعية التي نراها كل يوم تسقط من أعيننا، فكذا قل عن اختراع الأبجدية، قال الأب ديلاتر اليسوعي: «ليت شعري، أيوجد شيء أعجب من اختراع الإنسان لعشرين إلى ثلاثين علامة، يتمكن بها على أن يترجم عن كل معاني قلبه وعواطف نفسه؟!» وهذه الطريقة العجيبة في سذاجتها يعود الفضل في اختراعها — وإن شئت قل: في نشرها — إلى الفينيقيين؛ فإنهم أبطلوا تلك الطرائق السابقة التي شاعت قبلهم بتوفير الصور الكتابية، وتمثيل مقاطع الألفاظ، ورسم أصوات الكلام التي كان يتيه فيها علماء مصر وبابل، فنابت بحروف الهجاء عن تلك المئات والألوف من العلامات حروف قليلة تؤدي كل تهجيات اللسان في لغات معظم الشعوب القديمة والحديثة.

وهنا أيضًا قد لعبت الجغرافية دورًا مهمًا، قال لونرمان في تاريخ الشرق القديم (ج١ ص٤٤٨): «كان ينبغي للشعب المدعو لتنظيم الكتابة البشرية وتكميلها ونشرها، أن يكون شعبًا تجاريًّا عاملًا، لا يستغنى عن مسك الدفاتر وضبط الحسابات التجارية، ويكون مع هذا متاخمًا لمصر موسومًا بسمة التمدن المنتشر على ضفاف النيل.»

ولا نعرف في العالم القديم أمة غير الأمة الفينيقية كانت تقوم بهذه الشروط؛ إذ كانوا بموقع بلادهم أحق من سواهم بأن يكونوا قومًا وسطًا، متأهبين لنقل محصولات التجارة إلى الأقطار البعيدة والسواحل النائية، وهم مع ذلك مواصلون للأعمال مع مصر جارتهم.

وقد نقل الفينيقيون إلى البلاد السحيقة ليس فقط حروف الهجاء لتسهيل المعاملات، بل كل مصنوعات بابل ومصر مع أعمال صناعتهم الوطنية، وأضافوا إلى ذلك ما نقلوه من الأدوات المفيدة ومن الحيوانات الداجنة ومن أحرار البقول، وقد وجد الأثريون في أقطار غربية شتى ما كان أتى به إليها الفينيقيون من المعادن وضروب الخشب والصمغ والأنسجة والخزفيات، وغير ذلك من المصنوعات التي أعدت للتمدن القبائل الغربية المستوطنة للغابات، وقد جرى السوريون على هذه الطريقة في نقل اختراعات الشرق ومحصولات التمدن نحو ألف سنة، حتى أثر مثلهم في قلوب أولئك السكان فأخذوا ينهجون منهجهم ويتعقبون مدارجهم، قال بمبونيوس ميلا — السابق ذكره: (ك١، ف٢): «إن الفينيقيين قوم جهابذة حذاق، يحسنون آداب الحرب ويستفيدون من منافع السلم، هم الذين وضعوا حروف الهجاء فاستخدموها لأعمال شتى، واخترعوا فنونًا عديدة، وهم أيضا الذين سبقوا إلى خوض البحار، وتقدموا الشعوب في الحروب البحرية.»

جاء في كتاب حديث للعلامة فكتور بيرار دعاه «الفينيقيون والأوديساة» V. Bérard: Les phéniciens et l’Odyssée: «إن جغرافية منظومة أوميروس الأوديساة مبنية غالبًا على المعلومات التي استفادها ذلك الشاعر المُفْلِق من الفينيقيين.»
ثم استشهد لتأييد قوله بالجغرافي سترابون؛ حيث قال: «إن الفينيقيين أرشدوه إلى معرفة وصف البلدان» οί γάρ Φοίνιχες έδήλουν τοũτο، وكتاب المسيو بيرار مشحون بالتفاصيل والأدلة المثبِتة لسيطرة الفينيقيين على البحار (اطلب المشرق ٩: ٢٣٤).

ولما أراد سناحريب ملك آشور أن يجهز لدولته أسطولًا بحريًّا في الخليج العجمي، لم يجد من يقوم بعمله غير الفينيقيين، قال في إحدى كتاباته: «قد أقمت في نينوى رجالًا من الحثيين (وكان الحثيون من سكان سورية)، أسَرَهم قوْسي، فعمروا لي مراكب كبيرة على مثال بلادهم، فجهزتها بالملاحين الصوريين والصيدويين الذين قبضتهم يدي.»

وقد حفظ أهل فينيقية السيادة على البحار حتى في عهد اليونان بعد فتوحات الإسكندر الذي جرى على مثال سناحريب في تجهيز المراكب، وقلما تجد في تواريخ اليونان كاتبًا يذكر سفينة لا يكون ربانها سوريًّا أو فينيقيًّا.

السوريون دعاة الدين

هذا ولأهل الشام فخر آخر غير المفاخر السابقة؛ فإنهم ليس فقط توسطوا بين الدول القديمة المتمدنة والأمم التي منها اشتُقت الشعوب المستحدثة، لكنهم أيضًا نالوا امتيازًا آخر، فدعاهم الله لتربية العالم الأدبية والدينية، فصاروا متوسطين بين الله والإنسان، ومن هذا القبيل كانوا هم السابقين، لم يأخذوا الأمر من سواهم، نعم، إن التمدن البابلي والمصري كان بلغ في الصنائع والفنون مبلغًا عظيمًا، والفينيقيون استفادوا من ذلك وأفادوا غيرهم، لكن الفراعنة وملوك آشور كانوا من حيث الآداب والأخلاق بعيدين عن الكمال، لا يعرفون من العدل والرحمة غير اسمها، فيستسلمون للجور، ويعتبرون أنفسهم بمثابة آلهة، يتصرفون برعاياهم كيف شاءوا، لا يبالون بما ينتظرهم لدى الديان من المسئولية عن أعمالهم، وإن كان من بعدهم قد غلب على الشعوب التالية روح الدماثة، وأضحى التمدن الجديد مبنيًّا على العدل والمحبة، فالفضل في ذلك إلى المستشرعين الصالحين، وإلى الرسل القديسين، وإلى الأنبياء الأبرار الذي نشئوا في سورية فلسطين، وبالأخص إلى ذاك الذي كان أكبر من المشترعين، وأشرف من الأنبياء، المسيح ابن الله، فإن لاهوت الخالق وصفاته العجيبة لم تظهر في مكان من الأرض ظهورها في سورية فلسطين، فلاح نور التوحيد فيها، ومنها امتد إلى بقية الشعوب، فأدخلها في طور جديد من الترقي والفلاح؛ ولذلك ترى عيون الإنسانية متجهة منذ ألفي سنة إلى تلك البلاد مهد الأديان الموحدة؛ حيث جرت أحداث التوراة الخطيرة، وتجلى الحق سبحانه لعباده فغيرت أنواره هيئة المجتمع الإنساني.

فقد أصاب من دعا سورية فلسطين أرضًا مقدسة، كيف لا وفيها حدثت أعجب العجائب، وبها تنوط ذكرى أشرف الأعمال وأعظم الرجال؟ بحيث يصح القول عنها إنه ليس فيها شبر إلا وقد صلى فيها نبي، ولو اعتبرت أخبار الإنجيل الطاهر وحدها وجدت أربعة أخماسها قد جرت في الجليل، وليست بلاد الجليل إلا قسمًا من سورية متصلًا بفينيقية الجنوبية، وطالما دخل الجليل في حيزها وتبعها في حكمها ونظامها، ولو بحثت عن مواطن الرسل الحواريين لوقفت عليها في سواد عكا وصور، وكان لهاتين المدينتين مراكز تجارية في كل ساحل فلسطين، وكما أن العهد القديم في سفر الملوك الرابع (١٧: ١٩) قد اتسع في أعمال إيليا النبي في تخوم صور، كذلك يروي العهد الجديد آثار ابن الله في سواحل فينيقية بين أهلها الكنعانيين، وزد على ذلك أن الكنائس المسيحية الأولى قد نشأت في أواسط سورية وشمالها، وأن اسم النصارى شاع أولًا في أنطاكية، وقد صارت تلك الكنائس كمثال حذا حذوه من أتى بعدها، وعليه يستحق السوريون هنا أيضا — وبنوع أحرى — أن يُدعوا سماسرة الآداب ودعاة الدين، فتقدموا على اليونان والرومان الذين مشوا على آثارهم في دعوة العالم إلى المسيح.٢٤ قال منتلمبرت الخطيب الشهير في كتابه عن نسَّاك الغرب Moines d’Occident, I, 142: «إن الدين كما عزة السلاح كما فخر الآداب، كل ذلك قد جرى على سنة مقررة راهنة وناموس ثابت، فانتقل من الشرق إلى الغرب، بدأ التمدن وبدت القوة من الشرق على مثال النور، وكما أن النور لا يزال يزداد بهاء وحسنًا على قدر ما يتقرب من الغرب، كذلك التمدن والعز زادا في الغرب بعد أن ظهرا في الشرق.»

فترى ما لسورية من النصيب العظيم في ترقي الشعوب، فإنها هي السابقة، والفضل كما قيل للمتقدم، فيجوز لكل رجل أن يعتبر سورية كوطنه الثاني؛ لأن منها نال حياته الأدبية إن لم ينل حياته الزمنية؛ ولهذا السبب لم تزل أوروبا توجه بألحاظها إلى البلاد التي منها أخذت مصدر حياتها العقلية والأدبية، وكان قدماء النصارى إذا صلوا جعلوا الشرق قبلتهم فيوجهون بأبصارهم إلى الأراضي المقدسة، وإلى الجلجلة وقبر المسيح.

وكان ضوء السحر يذكرهم بأسرار دينهم، وكانوا يطلبون أن تدار رءوسهم إلى الشرق في قبورهم؛ لترتاح عظامهم الهامدة بتوجيهها إلى منبع إيمانهم، هذا فضلًا عن ألوف الألوف الذين لم يرغبوا في حياتهم إلا شيئًا واحدًا: زيارة تلك الأماكن المقدسة التي شرفها ابن الله بحياته وموته، فيتجشمون لذلك أعظم الأخطار، ويقاسون أصناف الأتعاب بجُلِّ أمانيهم وقصوى بُغْيتهم، قال أحد هؤلاء الزوار في القرن الخامس عشر إبرهارد اللحياني Eberhard Le Barbu كُنْتُ بلادِ فرتمبرغ: «إن ثلاثة أشياء لا يجوز الترغيب فيها ولا الرد عنها؛ وهي الزواج، والحرب، وزيارة الأراضي المقدسة؛ فإنها كلها ربما ابتدأت ابتداءً حسنًا، فتنتهي على غير المرغوب.» وفي قوله هذا إشارة إلى الصعوبات التي كان يلقاها زوَّار ذلك الزمان، على أن هذه الأنصاب والمخاطر لم تقوَ على ضبط جماهير الزوَّار الذين لم يزالوا منذ عهد قسطنطين الكبير يتواردون بلا انقطاع إلى الأراضي المقدسة، كما تشهد على ذلك أخبار رِحَلهم المتعددة، التي دوَّنوها في أسفار شاعت في كل جهات المعمور وبين كل طبقات الناس.

•••

وقبل ختامنا لهذا الفصل الذي كتبناه في موقع سورية وجعلناه كتوطئة لأبحاثنا في جغرافية الشام، ينبغي لنا أن نضيف إليه بعض ملحوظات عمومية.

من خواص الشام، كما سبق القول، أن لها حدودًا ظاهرة وتخومًا مقررة، وفي ذلك فائدة كبيرة؛ لأن تخوم البلاد بمثابة حدود الأملاك وحواجزها التي تصونها من كل تعدٍّ ومخاصمة. وفي الواقع ترى جهات الشام مفروزة عما سواها، فلا تستطيع أن تخلط بينها وبين البلاد المجاورة لها، كآسية الصغرى مثلًا؛ لأن بين الشام والأناضول طودًا شاهقًا يفوق بارتفاعه جبال البيراناي الذي يفصل فرنسا عن إسبانيا، وهو أعظم مهابة منه، كذلك من جهة الشمال الشرقي نهر وهو الفرات، معدل عرضه ٥٠٠ متر، يفصل الشام عن بلاد ما بين النهرين، أما الفاصل بين الشام ومصر وأنحاء العرب فبحر بلا ماء؛ أي البوادي القفرة الواسعة التي يسهل دونها قطع البحار، وقد بيَّنَّا قبلًا أن البحار صارت اليوم من أسباب الوصال، وهيهات أن يصدُق ذلك في الصحاري والقفار.

وخلاصة الكلام أن بلاد الشام مجموع منفرد قائم بذاته، لا يمتزج بتخومه غيره، ليست كإنكلترة معتزلة عما سواها مفتوحة الثغور لمن يطلبها، لكن هذه العزلة لم تُعرِّض بلاد الشام للفتور والخبل كما جرى لبلاد الصين وراء حائطها الكبير، بل قاسمت البلاد المتمدنة في حركتها، وناهيك بالحركة بركة وخصبًا وترقِّيًا، وقد أثبتنا فيما سبق أن الشام رأت من تقلبات الدول وفتوحاتها ما قلِّ لبلد آخر أن يختبر مثله، فإن الأمم القديمة تجاوزت تلك التخوم، وخرقت تلك الحواجز، وعدَّت الشام كطعمة تتنازعها مطامع «ذباب مصر ونحل آشور» كما قال أشعيا النبي (٧: ١٨). وكانت هذه الأمم تعتبر فتح الشام وفلسطين كأعظم فوز تفوز به؛ لأنها كانت تجد في هذه البلاد معبَرًا أكيدًا لتصريف تجارة الهند في موانئ بحر الشام، وبابًا واسعًا لفتح أفريقية وآسية المتقدمة. وهذا الحكم قد خطر منذ نحو ٥٠٠٠ سنة على بال سرغون — أحد ملوك بابل — فأثبته في بعض مآثره.

وقد سبق لنا القول في سبب انتقال الحركة التجارية العمومية في عهدنا، فعلَّة ذلك أن القطب الذي عليه كان مدار الحركة التجارية لم يَعُد في مكانه مارًّا في وسط بلاد الشام، بل تحول عن ممره فصار يمتد في طريقين أخريين، إما في شرقي الشام وإما في غربيها، وليس هذا الخلل الوحيد الذي تدلنا عليه القوانين الجغرافية، فإننا نرى خللًا آخر يضعِف هذه البلاد تشير إليه الجغرافية أيضًا.

•••

تشبه سورية في هيئتها الطبيعية مربعًا كبيرًا يقيس طوله ثماني مرات عرضه؛ لأن طوله من جبل طورس إلى جبل سينا لا يقل عن ١١٠٠ كيلومتر، بخلاف عرضه الذي لا يتجاوز معدله ١٥٠ كيلومترًا، وكلٌّ يعلم أن مثل هذا التباين في الأقيسة يضر بالموازنة، ويمنع الارتباط والوحدة بين جهات البلاد؛ لأن الجسم السياسي إذا امتدت أطرافه فبعدت عن مركز الحكم خفَّ فعله فيها، ومن ثم ترى الأنحاء تطلب التفرد، فتضعف القوة العمومية، وهذا مما يظهر اليوم في بعض البلاد رغمًا عن الروابط العظيمة التي تستعين بها الدول في عهدنا لضم أطرافها وتوحيد عناصرها، كاحتكار القوة وتعميم التعليم والجندية الإلزامية، وغير ذلك مما تفردت به الدول الحالية، مثال ذلك ما تجده في إيطالية، فإن الحكومة الواحدة تحكم على بلاد مختلفة طبائع وأغراضًا، كبلاد بيامنتي في الشمال وبلاد صقلية في الجنوب، وحتى الآن لم تقوَ الحكومة على مزج هذه العناصر المتباينة وتوحيدها.

ويضاف إلى هذا الخلل في تركيب سورية الجغرافية خلل آخر ليس بأقل ضررًا منه بوحدة إدارتها؛ نريد سلاسل جبالها التي تخترق البلاد فتمنع اختلاط طوائفها وتوحيد عناصرها، كما ترى في سويسرة وجهات الأناضول؛ حيث ارتفعت أيضا الجبال الشاهقة، فأضرت بامتزاج أقسامها، والتاريخ يعلمنا أن الدول الكبرى كانت تجعل مراكزها في السهول، أما سهول سورية فتراها بعيدة عن مركز حركتها، معتزلة في طرفها الشمالي الشرقي، وتلك الجهة أشبه ببادية مقفرة، وهي منزوية معتزلة، فلا تستطيع أن تنشأ فيها مدينة عامرة تحيي الأطراف بنفوذها.

وما هو أخطر من ذلك أن هذه الجبال السورية — التي يبلغ معدل علوها ٢٠٠٠ متر — تقوم في وسط البلاد كحاجز متواصل يُفرد كل طائفة في مكانها ويؤثِّر في حياتها، فاصلًا كل قسم عن أخيه، بحيث لا يمكنه أن ينال منه فائدة لترقِّيه وتمدُّنه، لا سيما أن هذه السلسلة تمتد من الشمال إلى الجنوب، وهي وجهة أقل نسبة لامتزاج الشعوب من وجهة الغرب إلى الشرق؛ لأن السكان إذا انتقلوا تابعين لدرجات العرض أمكنهم أن يعتادوا تغيير الأحوال الجوية بخلاف الذين يتبعون درجات الطول، فإنهم يُبلَون بمقاساة المظاهر الجوية التي لم يعتادوها.

وزد عليه أن جبال الشام تنفصل في سورية الوسطى إلى سلسلتين متوازيتين، لا تكاد الثانية تختلف في علوها عن الأولى، وهذه السلسلة الجديدة تُدعى بالجبل الشرقي، تمتد شُعبها على نواحي دمشق وبادية تدمر وحوران وما وراء الأردن، والجبلان أشبه بحائطين هائلين بينهما البقاع والغور كوادٍ غريب، يبلغ منهبطه عند طرفه الجنوبي — أي بحر لوط — عمقًا لا يقل عن ٤٠٠ متر تحت سطح البحر المتوسط.

والحق يقال: إن الطبيعة أحسنت إلى سورية في شيء؛ إذ حصَّنتها بسور من الجبال، لكنها أفرطت في توفير هذه الجبال في قلب البلاد، فإن السائر الذي يتوغل من سواحل الشام إلى الجهات الداخلية، يلقى في مسيره خمسة أنحاء جغرافية تختلف أحوالها كل الاختلاف في حرارتها وهوائها ونباتها مع قلة أسباب المواصلات بينها؛ لأن السلسلة الكبيرة التي تمتد طولًا في وسط سورية لا تنقطع انقطاعًا محسوسًا إلا عند علو طرابلس؛ حيث توصل جبل النصيرية بأول منعطف لبنان آكامٌ قليلة الارتفاع.

ولو قطعتَ سورية تبعًا لخط الهاجرة؛ أي من الشمال إلى الجنوب لوجدت فرقًا كهذا، فإن الطبيعة قد قسَّمت سورية إلى خمس أو ست كُوَر مختلفة السعة، تعزلها عن بعضها الأنهار أو الجبال بحيث تستطيع كل كُورَة أن تكون منفردة عن أختها،٢٥ وكذلك في الشمال البلاد المرتفعة الواقعة بين الفرات ومصبِّ العاصي، وفي الوسط بلاد البقاع بين سلسلتي لبنان غير المتساويتين، ثم دمشق وغوطتها من جهة وفينيقية من جهة أخرى. وأخيرًا في الجنوب مجموع بلاد متباينة، كأنها طبقات درجية ترتفع فوق بعضها على جانبي وادي الأردن شمالًا ويمينًا.
وممن لحظوا هذه الاختلافات الغريبة التي خُصت بها أنحاء الشام، جغرافيٌّ عربي من مشاهير كَتَبَة القرن العاشر، نريد شمس الدين أبا عبد الله محمد بن أحمد المعروف بالمقدسي، وكان أصله من الشام، فإنه دوَّن في كتابه الموسوم «بأحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» ملحوظًا جغرافيًّا يدل على توقُّد ذهنه ودقَّة فكره، قال في وصف إقليم الشام (في الصفحة١٨٦): «ووضع هذا الإقليم ظريف؛ هو أربعة صفوف: الأول يلي بحر الروم وهو السهل، رمال متعقدة ممتزجة، يقع فيه من البلدان الرملة وجميع مدن السواحل، والصف الثاني الجبل مشجَّر ذو قرى وعيون ومزارع يقع فيه من البلدان بيت جبريل وإيليا،٢٦ ونابلس واللجون وكابل وقدس والبقاع وأنطاكية، والصف الثالث الأغوار ذات قرى وأنهار ونخيل ومزارع ونَيْل، يقع فيه من البلدان ويلة وتبوك وصفن وأريحا وبيسان وطبريَّة وبانياس، والصف الرابع سيف البادية، وهي جبال عالية باردة معتدلة مع البادية ذات قرى وعيون وأشجار، يقع فيها من البلدان مآب وعمَّان وأذرعات ودمشق وحمص وتدمر وحلب، وتقع الجبال الفاصلة مثل جبل زيتا وصدِّيقا٢٧ ولبنان واللكام وسرَّة الأرض المقدسة في الجبال المطلة على الساحل.»
وكل هذه الفروق في الوضع الطبيعي قد علَّلت بتتابع الأيام أطوارًا تاريخية مختلفة، وكثيرًا ما عاش أهل تلك الأنحاء يجهل بعضهم بعضًا، فالجبليون يتحصنون في مشارفهم الطبيعية كما في قلاع حريزة، وكذلك أهل المنعطف الشرقي كانوا مبتعدين عن سكان السواحل، وهؤلاء لا يفكرون إلا في سفنهم وبحريتهم، لا يكترثون لمن توطن السهول الداخلية، وقد أدت بالفينيقيين عزلتهم وحبهم للتفرد أن كل فئة كانت تقصر نظرها إلى قطعة من الأرض ورثتها من أجدادها، فتكتفي إما برأسٍ ساحلي وإما بخليج أو جزيرة، كما ترى في أرواد وجبيل وصيداء وصور، لكل منها استقلالها النوعي؛ ولهذا السبب نرى السوريين منذ أقدم الأجيال «منقسمين إلى عدة طوائف متخاصمة، تسعى كل واحدة منها حتى أصغرها في حفظ منافعها الخاصة، ولا تزال تدافع بالحرب العوان عن قطعة من الأرض، أو بعض فدادين من المزارع أو بعض الأحراج الجبلية، فترى القتال قائمًا على ساق بين هذه المقاطعات، فيستولى عليها الخراب والدمار، كأن عدوًّا مغوارًا دخل فيها وأعمل فيها السيف والنار.»٢٨

وإن اعتبرتَ تاريخ سورية وجدت هذا الإقليم متقسمًا إلى إيالات منفردة تسكنها العشائر المنفصلة، ففي سورية تعددت رؤساء القبائل وشيوخ الطوائف ورؤساء الربع، فيجد محب المسكوكات والمكاتبات مادة واسعة لدرس آثارهم، لكن المؤرخ يتيه في بيداء أقسامهم السياسية.

وكانت نتيجة هذه الانقسامات الشعبية والتفرقات في الأغراض والأملاك أن البعض وجدوا فيها ما يوافق مطامعهم ويعظم أشخاصهم، لكنها أضعفت القوى وقسمت الكلمة، وهذا ما نراه في تاريخ سورية في أقدم الآثار، تشهد عليه مراسلات تل العمارنة التي ترتقي إلى المائة الخامسة عشرة قبل المسيح (اطلب تسريح الأبصار، ج١، ص٧١–٧٩)، فيؤخذ من هذه المكاتبات أن دولًا عديدة كانت تتزاحم مذ ذاك في سورية، منها في السهول، ومنها في الجبال، بل كانت كل مدينة عبارة عن دولة يتحصن فيها أهلها، ويردون غارات الدولة المجاورة، ولو شاء المسافر لقطع في اليوم الواحد تخوم عدة أملاك مستقلة, هذا ما ورثه تاريخ الشام بكثرة التقاسيم الجغرافية والحواجز الطبيعية.

١  راجع كتابنا: تسريح الأبصار فيما يحتوي لبنان من الآثار.
٢  في مقدمة كتابه المعنون: La France du Levant.
٣  راجِع الصفحة ١٠ من كتاب للعلَّامة دلتش؛ حيث اتسع في أقوال العلماء عن مكان الفردوس، والصفحة ٤٣ F. Delitzsch; Wo lag das Paradies? 43.
٤  راجِع رحلة لامرتين Lamartine: Voyage en Orienl, ed. Hachette, I, 434.
٥  راجِع ما ورد في هذا الموضوع في تآليف العلماء الآتي ذكرهم: مسبرو في تاريخ الشعوب الشرقية Maspéro: Hist. anc. des peuples de l’Orient, I. 550، ثم مقالة فنكلر في شعوب آسية المتقدمة H. Winckler: Die Völker Vorderasiens في مجموعة Der alte Orient، ثم كتاب غريم Grimme: Mohammed, 6.
٦  راجع جغرافية روكلو Elisée Reclus: Asie Antérieure, 1, 2.
٧  اطلب كتابنا تسريح الأبصار (ج١، ص٨-٩).
٨  اطلب كتاب شرادر وونكلر في الكتابات المسمارية، والعهد القديم Schrader-Winck-ler: Die Keilinschriften und das alte Testament, 37; 41; 46; 78.
٩  اطلب Comptes-rendus de l’Acad. de Berlin, 1906, p.356، ثم التاريخ القديم للمسيو مسبيرو Maspéro: Hist. ancienne, I, 392-3.
١٠  اطلب كتابنا تسريح الأبصار (ج١، ص١٣٠).
١١  اطلب الجغرافية التاريخية: Georges A. Smith: Historical geogr., p. 13.
١٢  راجِع كتاب دليتش في موقع الفردوس: Delitzsch: Wo lag das Paradies?, P. 99.
١٣  اطلب تاريخ التجارة في القدم: E. Speck: Handelsgeschichte des Alterlums, I, 506-507.
١٤  اطلب: Edmond Demolins: Comment la route crée le type social, p. 347, 349.
١٥  اطلب مقالتنا عن التجارة في القرن التاسع عشر (المشرق ١٠: ٣٠).
١٦  راجِع التاريخ القديم لمسبيرو: Maspéro: Hist. anc., II. 407.
١٧  وما قد تحقَّق بالاختبار أن للنيل فعلًا في استقامة السواحل السورية؛ لأن مجرى مياهه مع الرياح التي تهب على امتداد الساحل من جهة الجنوب الغربي قد جرَّ الرمال التي يجرفها في سيره إلى شواطئ فلسطين، وجعلها متساوية، خصوصًا جنوبي الكرمل (راجِع ما قلناه سابقًا في تسريح الأبصار ج٢).
١٨  اطلب مقالة بيرارد في المجلة الأثرية V. Bérard, Revue arch., 1899, I, 80.
١٩  اطلب تاريخ التجارة Speck: Handelsgeschichte, I, 17-18.
٢٠  هي رياح تتناوب من الغرب إلى الشرق ستة أشهر ثم تنعكس ستة أشهر أخرى، والمرجَّح أن الإفرنج استعاروا لفظة mousson مَوسِم من العربية بواسطة اللغات الأيبرية. اطلب شروحنا في كتابنا: Remarques sur les mots français dérivés de l’arabe.
٢١  H. Winckler: Keilinschriften, p.169.
٢٢  اطلب كتاب العلَّامة مرغوليوث Margoliouth: Mohammed p. I.
٢٣  اطلب تاريخ التجارة: Speck: Handelsgeschichte, I, 414, 426.
٢٤  اطلب كتاب هرنك: A. Harnack: Mission und Ausbreitung des Christen tums (409-410)، وقد أثبت فيه أسماء البلدان التي نشأت فيها كنيسة مسيحية منذ القرن الأول للنصرانية.
٢٥  اطلب تاريخ الأمم الشرقية للعلامة مسبرو (ج٢، ص١٤).
٢٦  القدس الشريف.
٢٧  جبل زيتا هو جبل الزيتون، وصدِّيقا جبال بلاد بشارة.
٢٨  راجع مسبرو في تاريخه المذكور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤