بلاد سورية في القرن الثاني عشر وفقًا لرواية ابن جبير

تعريف رحلة ابن جبير

في السنة الهجرية ٥٧٨ الموافقة لسنة الميلاد ١١٨٤ — أعني سنتين قبل فتح السلطان صلاح الدين للقدس الشريف — حضر من الأندلس رحالة مسلم ليزور بلاد الشام. وكان السائح المومأ إليه يُدعى بأبي الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني،١ كان تقلد في بلاد المغرب والأندلس المناصب الشريفة وتقلب في الأعمال المنيفة، فلما عاد إلى وطنه دون أخبار سفره إلى الشرق،٢ وهذه خلاصة رحلته: ركب ابن جبير البحر في سبتة مقلعًا إلى الإسكندرية على مركب للجَنَوِيِّين، فمر على جزيرة سردانية فصقلية فجزيرة أقريطش، وبلغ الإسكندرية بعد ٣٠ يومًا، ثم طاف الصعيد، ومال إلى عيذاب، فقطع بحر القلزم إلى جدة، وسار منها إلى مكة، فأتم فريضة الحج، ثم زار المدينة، ورحل منها إلى العراق برًّا، فوصل إلى الكوفة ومنها إلى بغداد، ثم كرَّ راجعًا إلى المغرب، فمر بالموصل وبلاد الجزيرة إلى أن بلغ منبج، فدخل سورية وزار أولًا حلب، ثم وادي العاصي، ثم دمشق وصور وعكا، ومنها أبحر إلى الأندلس على إحدى المراكب الجَنَوِيَّة.

ولا نتعقب آثار المؤلف في كل رحلته بل نكتفي بما كتبه عن سورية التي عليها مدار كلامنا، ووصفه لها يشغل في الكتاب نحو٧٠ صفحة، ونحن نقصر درسنا على هذا القسم فقط، فنبين خواصه وفرائده، وقد صرفنا إليه نظرنا بعد المقدسي؛ لأن بين الكاتبين بونًا عظيمًا في كلامهما عن سورية، لا يكاد يجمعهما غير وحدة الموضوع، وكان الأول كما سبق القول وطنيًّا، وكان ابن جبير أجنبيًّا غريبًا، كتب المقدسي بصفة جغرافي مدقق، أما ابن جبير فإنه يكتب كتابة الرحالة الذي يدون كل يوم ملحوظاته في محفظته، كما أثَّرت فيه وعملت في قلبه، وقد اختلف أيضًا الكاتبان في أسلوبهما وغايتهما؛ ولذلك تجد تعريفهما لبلاد الشام متباينًا وبينهما نحو القرنين، فإن المقدسي يقصد قَبل كلٍّ من كتابته الإفادةَ والتعليمَ، أما ابن جبير فإنه يتوخى من كتابته بهجة القراء وترويح ألبابهم، وكذلك تجد الأول كثير التدقيق محبًّا للضبط والإيجاز، على خلاف الثاني الذي يطلق العنان إلى قلمه فلا يحصر نفسه في قالب أو يقضي عليها بخطة معلومة، فتراه يمزج تفاصيل رحلته بما يعاينه ويسمعه، وربما أدمج وصفة بالأخبار والماجريات التي جرت إبان رحلته أو نقلها عن الرواة، كما فعل بذكر صلاح الدين (ص٣٠٠-٣٠١)، فإنه يروي عنه أمورًا بلغته عن ذلك الملك العظيم الذي كان يحاصر حينئذ حصن الأكراد.

وكلا الكاتبين يدَّعي مع ذلك أنه لا يروي غير ما شهده بالعيان على أن المقدسي يشمل في وصفه كل أنحاء سورية، بينما يقتصر ابن جبير على ذكر الأمكنة التي احتلها في سفرته، وإن كانت تلك الأمكنة ليست قليلة؛ لأن الرحالة تفقد معظم مدن سورية الشهيرة في زمانه، اللهم إلا جهات فلسطين، وربما زاد في أوصافه لمدن الشام أمورًا وفوائد جغرافية فاتت المقدسي، أو ضرب عنها صفحًا.

ومما نبهنا إليه الخواطر في كتاب المقدسي فانتقدناه عليه استعماله أحيانًا للسجع في أوصافه، لكن المقدسي في ذلك لا يتجاوز حدود كَتَبَة زمانه، ولا يبالغ كثيرًا، أما ابن جبير فإن السجع يغلب على إنشاءه فيواصله في صفحات متتالية، ومن المعلوم أن السجع يؤدي بصاحبه إلى حشو الكلام، وإلى استعمال الغريب وإلى التصنع، فيبتعد الكاتب عن طرائق الكتابة الساذجة المألوفة، ويبدلها بالمعاني المستغلقة والتعابير المستبهمة، وكان السجع قليلًا في عهد الجاهلية وفي قرون الإسلام الأولى، ثم تكاثر بانحطاط فنون الكتابة، وما نقوله بالإجمال يصح في سجع ابن جبير، ألا ترى مثلًا كيف وصف مدينة حلب بما يُشَنِّف إذن السامع دون أن يجديه نفعًا كبيرًا في معرفتها، قال (ص٢٥٠): «بلدة قدرها خطير، وذكرها في كل زمان يطير، خطا بها من ملوك كثير، ومحلها من النفوس أثير، فكم هاجت من كفاح، وسلَّت عليها من بيض الصِّفَاح، لها قلعة شهيرة الامتناع، بائنة الارتفاع، معدومة الشبه والنظير في القلاع، تنزهت حصانة أن تُرام أو تُسطاع، قاعدة كبيرة، ومائدة من الأرض مستديرة.»

إلى آخر ما هناك من الكلام المسجَّع (اطلب نخب المُلَح ٣: ٩٠) الذي ليس تحته كبير أمر. ومثله في وصف بساتين دمشق (ص٢٦٠): «ظل ظليل، وماء سلسبيل، تنساب مذانبه انسياب الأراقم بكل سبيل، ورياض يحيى النفس نسيمها العليل، تتبرج لناظريها بمجتلى صقيل، وتناديهم: هلموا إلى معرَّس للحُسن ومَقيل، قد سئمت أرضها كثرة الماء، حتى اشتاقت إلى الظماء. فتكاد تناديك الصُّمُّ الصِّلاب: اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، قد أحدقت البساتين بها إحداق الهالة بالقمر، واكتنفتها اكتناف الكمامة للزهر.»

ومما يستحبه القارئ في مطالعة رحلة ابن جبير، كما في أخبار الأسفار عمومًا، أن كاتبها يشير إلى خواطر نفسه، ويترجم عن أحواله الشخصية وشواعره لدى معاينته الآثار والبلاد، فمثال ذلك أنه إذا رأى بلدًا في الشام تذكَّر نظيرَه في الأندلس، وقاس ذاك بهذا لما يجد فيهما من الشبه، كما فعل بحمص التي ذكَّرته إشبيلية، قال (٢٥٨): «وتجد في هذه البلدة عند إطلالك عليها من بُعد في بسيطها ومنظرها وهيئة موضوعها بعض شبه بمدينة إشبيلية من بلاد الأندلس يقع للحين في نفسك خياله، وبهذا الاسم سُميت في القديم، وهي العلة التي أوجبت نزول الأعراب أهل حمص فيها حسبما يُذكر، وهذا التشبيه وإن لم يكن بذاته فإنه لمحة من إحدى جهاته.»

وله قول كهذا في قنسرين وهو يعارضها بجيَّان الأندلس (ص٢٥٤): «وتشبهها من البلاد الأندلسية جيَّان؛ ولذلك يُذكر أن أهل قنسرين عند استفتاح الأندلس نزلوا جيَّان تأنُّسًا بشبه الوطن وتعلُّلًا به، مثل ما فُعل في أكثر بلادها حسب ما هو معروف.»٣

هذا وإن في إنشاء ابن جبير تعابير وألفاظًا تفرَّد بها تُشعر بأصله المغربي، وفي النصوص التي نثبتها عنه دليل على ذلك.

ومهما كان الأمر من محاسن ابن جبير ونقائصه، فإنه لمقرر أن هذا الكاتب أحد أرباب القلم، يعتبره المستشرقون اعتبارًا عظيمًا، قال العلامة رورخت في كتابه المعنون مكتبة جغرافيِّي فلسطين:٤ «إن رحلة ابن جبير غاية في الخطر لمعرفة بلاد الشام.»
وقد أدرجت جمعية الكتابات والفنون في باريس قسمًا كبيرًا من هذه الرحلة في مجموع مؤرخي الحروب الصليبية الشرقيين،٥ لما أودع الكتاب من الفوائد التاريخية عن الأمور الجارية في زمانه، وقال الأستاذ سكيابارلي في مقدمة ترجمة ابن جبير إنه «إذا قوبل بينه وبين غيره من رحالي العرب كالمقدسي وابن بطوطة وغيرهما لا يوجد ابن جبير دون أحد منهم في شيء من حيث الضبط والدقة وحسن الأسلوب وخطر الأمور المدونة.» هذا ما قاله سكيابارلي، وحكمه صواب، وإن كنا نرى أن المقدسي أعلى طبقة من ابن جبير، لكننا نقدِّر أيضًا ابن جبير قدْره، كما أقرَّ بفضله ابن بطوطة وغيره ممن استشهدوا به ونقلوا عنه.

ومما أفادنا ابن جبير تعريفه لأحوال أهل الشام ووصفه لعاداتهم كما لحظها في تجوله بينهم، فدون ملحوظاته فيها، وبما أنه كان غريبًا تجده يتسع في بيان أمور لا ينصرف إليه نظر أهلها، ولولاه لجهلناها تمامًا، فمن ذلك عدة أشياء ذكرها في دمشق قد أخنى عليها الزمان منذ زمن طويل كالبنكام الذي رآه هناك (ص٢٦٩-٢٧٠)، وكقبَّة النسر التي وصف خصائصها (ص٢٩٣) واستغرب حجارتها فقال: «وفي الجدار حجارة كل واحد منها يزن قناطير مقنطرة، ولا تنقلها الفيلة فضلًا عن غيرها، فالعجب كل العجب من تطليعها إلى ذلك الموضع المفرط السموِّ، وكيف تمكنت القدرة البشرية، فسبحان من ألهم عباده إلى هذه الصنائع العجيبة، ومعينهم على التأتي لما ليس موجودًا في طبائعهم البشرية، ومظهر آياته على يد من يشاء.»

فليت شعري ما عساه كان قال ابن جبير لو رأى حجارة بعلبك أو عاين هيكلها العجيب، إلا أن مسيره لم يؤدِّ به إلى تلك المدينة.٦

سورية وابن جبير

رأيت في الفصل السابق الطريقة التي توخاها ابن جبير في تسطير رحلته وما ضمنها من الفوائد، فبقي علينا أن نرافقه في سياحته في بلاد الشام، فنلتقط بصحبته بعض المعلومات عن سورية في مختتم القرن الثاني عشر، ولا غرو، فإن دليلنا فَكِهُ النفس متوقِّد الذهن، فيُبهج رفقته ويفيدهم معًا.

بعد أن اجتاز ابن جبير بلاد الجزيرة قطع الفرات، فكان أول ما لقيه في وجهه من بلاد الشام منبج، فأحس السائح بجواد قلمه يركض، فاسترسل في وصفها بالسجع كمألوف عادته (ص٢٤٨)، ولم يذكر من خواصِّها إلا النزر القليل مما لا يُشفى به العليل ولا يُروي الغليل، ثم سار من منبج إلى حلب فوصفها وصفًا طويلًا، روينا شيئًا من ألفاظه المبهرجة، وألحق هذا الوصف باشتقاق اسم حلب فقال (ص٢٥١): «كانت قديمًا في الزمان الأول ربوة يأوي إليها إبراهيم الخليل بغُنَيْمات له فيحلبها هنالك ويتصدق بلبنها، فلذلك سُمِّيت حلب، والله أعلم.»

وهذا الاشتقاق في الغرابة بمكان، ذكره ياقوت في معجم البلدان (٢ : ٣٠٤) مرتابًا في صحته، وقد زاد عليه ابن بطوطة ما هو أغرب، فجعل بدلًا من الغنم بقرة شهباء قال: فكان إذا حلبها إبراهيم قيل: «حلبَ إبراهيمُ الشهباءَ»، وليس في كل هذه الاشتقاقات كما ترى ذرة من الصحة، وإنما هي مشابهات لفظية لا طائل تحتها، ومثلها إشارة ابن جبير إلى اشتقاق اسم حماة من حمى يحمي (ص٢٥٥).

ومن ملحوظات ابن جبير في مسيره من حلب إلى دمشق (ص٢٥٤) أن «خانات هذا الطريق كأنها القلاع امتناعًا وحصانة، وأبوابها حديد وهي من الوثاقة في الغاية»، وكفى بهذا دليلًا ناطقًا على أحوال بلاد الشام في عهده، وقد كرر الرحالة مثل هذا القول غير مرة؛ اطلب مثلًا قوله في خان السلطان (ص٢٥٩).

ثم يذكر ابن جبير في طريقه من حلب إلى حماة «جبل لبنان» على حسب عادة الأقدمين الذين كانوا يطلقون هذا الاسم ليس فقط على لبنان الحالي، بل أيضًا على جبال النصيرية الواقعة في شماله،٧ وجعل في سفح هذا الجبل (ص٢٥٥) «الملاحدة الإسماعيلية»، وذكر شيئًا من بدعتهم، أما لبنان الحالي فقد عرفه ابن جبير بما حرفه (ص٢٨٧): «وهذا الجبل من أخصب بلاد الدنيا، فيه أنواع الفواكه، وفيه المياه المطردة والظلال الوارفة.»

وأضاف إلى قوله ما يؤيد قول المقدسي في العبَّاد المنقطعين إلى الله في لبنان فقال: «وقلَّما يخلو من التبتيل والزهادة.»

ثم مر ابن جبير في رستن (ص٢٥٧)، فأشار إلى آثارها العظيمة، وتخريبها على يد عمر بن الخطاب، ثم قال: «ويذكر القسطنطينيون أن بها أموالًا مكنوزة، والله أعلم.» وقوله هذا صدًى لمزاعم العامة في كل زمان عن المطالب والدفائن المكنوزة في الأخربة القديمة، وهو شائع في أنحاء سورية إلى عهدنا هذا، وربما صدقة الجهال فأخربوا بسببه عدة آثار جليلة حطموها طمعًا فيما تحتها من الكنوز المرصودة على زعمهم.

ومما أثنى عليه في حمص محاسن بساتينها وطيب هوائها. وذكر قبر خالد بن الوليد، ثم قبر ابنه عبد الرحمن الذي أشبه أباه بجليل أعماله، وأضاف إليهما قبر عبيد الله٨ بن عمر الذي قُتل في صفين. ويؤخذ من قول ابن جبير أن جثة عبيد الله نُقلت إلى حمص بعد موته، وكانت حمص على عهد ابن جبير فقدت كثيرًا من محاسنها، كما لحظ الكاتب حيث قال (ص٢٥٨): «وأسوار هذه المدينة في غاية العتاقة والوثاقة، مرصوص بناؤها بالحجارة الصُّمِّ السُّود، وأبوابها أبواب حديد سامية الأشراف، هائلة المنظر، رائعة الأطلال والإنافة تكتنفها الأبراج المشيدة الحصينة، وأما داخلها فما شئت من بادية شعثاء، خلقة الأرجاء، ملفَّقة البناء، لا إشراق لآفاقها، ولا رونق لأسواقها، كاسدة لا عهد لها بنفاقها.»

ثم واصل المسافر سيره من حمص إلى دمشق، وكانت الطريق بينهما قليلة العمران كما في أيامنا، اللهم إلا ثلاثًا أو أربع قرى التي أحتلها كقارة التي لم يجد فيها غير النصارى (ص٢٥٩) والنبك، وبعد اجتيازه في خان السلطان، فثنية العُقاب، فقُصير دخل الفيحاء، فأطلق العنان لقلمه في وصفها، وقد أتسع في ذكر محاسنها وأطنب أيَّ أطناب، ولولا مبالغته في السجع لقلنا إن كلامه من أوفى ما جاء في بيان صفاتها، لا نستثني من ذلك إلا بعض الكتب الخاصة التي وُضعت في فضائل دمشق، ودونك ما روى عن بعض أبنيتها، قال (ص٢٨٣): «وبهذه البلدة نحو عشرين مدرسة وبها مارستانان، قديم وحديث، والحديث أحفلهما وأكبرهما، وجرايته في اليوم نحو الخمسة عشر دينارًا، وله قَوَمَةٌ بأيديهم الأزِمَّة المحتوية على أسماء المرضى، والنفقات التي يحتاجون إليها في الأدوية والأغذية وغير ذلك، والأطباء يبكِّرون إليه في كل يوم ويتفقدون المرضى، ويأمرون بإعداد ما يُصلحهم من الأدوية والأغذية حسبما يليق بكل إنسان منهم، والمارستان الآخر على هذا الاسم، لكن الاحتفال في الجديد أكثر، وهذا القديم هو غربي الجامع المكرَّم، وللمجانين المعتقلين أيضًا ضرب من العلاج، وهم في سلاسل موثقون نعوذ بالله من المحنة وسوء القدر.»

وفي كتاب زبدة كشف الممالك (ص٦٥) ما يشبه هذا الوصف في مارستانات دمشق.

ومما يجدر بنا ذكره الميقاتة، أي الساعة الدقَّاقة، التي كانت على باب جيرون، أثبت المشرق سابقًا (٣ : ٩٨٥) كلامه فيها، وهي من عجائب ذلك الزمان.

ولولا ضيق المكان لأثبتنا شيئًا مما ذكره ابن جبير عن الجامع الكبير، الذي اتسع في وصف أرخامه الملونة وبلاطه المذهب المنقوش بالفصوص البديعة، وكانت الفسيفساء تزين جدرانه الخارجة، المتصلة بصحنه (ص٢٦٨)، فكانت أشعة الشمس تصيبها وتنعكس إلى كل لون منها، فيأخذ منظره بالأبصار.

ومما يزيد به انذهال القارئ وصف ابن جبير لمساجد أخرى عجيبة البنيان، بديعة النقوش والأرخام، وجدها في قرى الغوطة فأفاض في محاسنها.

ثم تابع ابن جبير مسيره من دمشق إلى عكا (ص٢٩٨–٣١٠) مارًّا بداريَّة، ثم بانياس ثم وادي تبنين، بين حصنَي هونين وتبنين، حتى بلغ ساحل الشام، ووصفه لطريقه غاية في الظرافة والاعتبار، يصور أحوال ذلك الزمان تصويرًا بهيًّا، ويمثل للعيان ما كان يجري في أنحاء الشام من الأمور الخطيرة، وكان ابن جبير في صحبة قفل من التجار يسيرون بأمان في بلاد العدو لاتفاق لطيف جرى بين الفريقين ترويجًا لسوق التجارة ولطفًا بالعباد.٩ وهذا لعمري دليل على ترقي التمدن في ذلك العهد، وفيه عبرة لأهل زماننا الذين لم يتمكنوا من صيانة حقوق التجارة في وقت الحرب، رغمًا عما أقاموه من مؤتمرات السلم.

ولابن جبير كلام حسن في وصف صور، نثبته هنا ليتمكن القارئ من المقابلة بينه وبين وصف المقدسي (راجع الصفحة ٦٩٠)، قال (ص٣٠٤): «أما حصانتها ومنعتها فأعجب ما يُحدَّث به، وذلك إنها راجعة إلى بابين: أحدهما في البر والآخر في البحر، وهو يحيط بها إلا من جهة واحدة، فالذي في البر يفضي إليه بعد ولوج ثلاثة أبواب أو أربعة، كلها في ستائر مشيدة محيطة بالباب، وأما الذي في البحر فهو مدخل بين برجين مشيدين إلى ميناء ليس في البلاد البحرية أعجب وضعًا منها، يحيط بها سور المدينة من ثلاثة جوانب، ويحدق بها من الجانب الآخر جدار معقود بالجص، فالسفن تدخل تحت السور وترسي فيها، وتعترض بين البرجين المذكورين سلسلة عظيمة تمنع عند اعتراضها الداخل والخارج، فلا مجال للمراكب إلا عند إزالتها، وعلى ذلك حُرَّاس وأُمَناء، لا يدخل الداخل ولا يخرج الخارج إلا على أعينهم، فشأن هذه الميناء شأن عجيب في حُسن الوقع، ولعكا مثلها في الوضع والصفة، لكنها لا تحمل السفن الكبار حمل تلك وإنما ترسي خارجها، والمراكب الصغار تدخل إليها، فالصورية أكبر وأجمل وأحفل.»

وبقي ابن جبير في عكا حتى أقلعت منها سفينة جَنَوِيَّة عادت به إلى المغرب، وكان الركاب ألفين، وليس هذا العدد مفرطًا، ونحن نعلم أن بعض السفن الحربية كانت تحمل ١٢٠٠ جندي، ما عدا الخيل، ومنها ما كان يركبها الزوار في عدد ١٥٠٠،١٠ وبين القوانين التي وُضعت للبحريين في ذلك العهد أنه لا يسوغ أن يُتجاوز هذا العدد الأخير،١١ ومن المعلوم أن سفن ذلك الزمان كانت شراعية لا يمكنها السفر إلا في فصول محدودة، وقد نبه ابن جبير إلى هذا الأمر بقوله (ص٣١١): «وفي مهبِّ الريح بهذه الجهات سرٌّ عجيب، وذلك أن الريح الشرقية لا تهب فيها إلا في فصلَي الربيع والخريف، والسفر لا يكون إلا فيهما، والتجار لا ينزلون إلى عكا بالبضائع إلا في هذين الفصلين في السفر ونصف الفصل الربيعي من أبريل، وفيه تتحرك الريح الشرقية وتطول مدتها إلى آخر شهر مايه وأكثر وأقل، بحسب ما يقضي الله تعالى به، والسفر في الفصل الخريفي من نصف أكتوبر، وفيه تتحرك الريح الشرقية، ومدتها أقصر من المدة الربيعية، وإنما هي خلسة من الزمان قد تكون خمسة عشر يومًا وما سوى ذلك من الزمان، فالرياح فيه تختلف، والريح الغربية أكثرها دوامًا، فالمسافرون إلى المغرب وإلى صقلية وإلى بلاد الروم ينتظرون هذه الريح الشرقية في هذين الفصلين انتظار وعد سابق، فسبحان المبدع في حكمته المعجز في قدرته لا إله سواه.»

وكانت حياة الركاب على تلك السفن الكبيرة ذات حركة وتقلبات كأنها المدن الصغرى، تمثل كل أطوار المعيشة اليومية، ومما أثبته ابن جبير في رحلته وصف عيد أقامه النصارى على ظهر السفينة بأبهة عظيمة ورونق عجيب، قال (ص٣١٣): «وفي ليلة الخميس الرابع والعشرين لرجب — وهو أول يوم من نونير (كذا) العجمي — كان للنصارى عيد مذكور عندهم احتفلوا له في إسراج الشمع، وكاد لا يخلو أحد منهم — صغيرًا أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى — من شمعة في يده، وتقدم قسيسوهم للصلاة في المركب بهم، ثم قاموا واحدًا واحدًا لوعظهم وتذكيرهم بشرائع دينهم، والمركب يزهر كله أعلاه وأسفله سرجًا متقدة، وتمادينا على تلك الحالة أكثر تلك الليلة.»

وكان المركب في تلك الأثناء ابتعد عن سواحل الشام، واقترب من جزيرة صقلية، فلا حاجة أن نتعقب آثار سائحنا بعد ذلك، وإنما ندون هنا بعض الملحوظات العمومية التي تستفاد من رحلة ابن جبير بخصوص الشام، ومن أقواله ما يفيد ويروِّح الألباب معًا.

فمن ذلك أنه يستعمل أسماء الشهور القمرية والرومية معًا، كما رأيت في النص الأخير، ومنها ما لحظه في أهل الشام من المبالغة في اتخاذ الألقاب، والتعظيم في السلام بما لا أثر له اليوم، قال (ص٢٨٨): «ومخاطبة أهل هذه الجهات قاطبة بعضهم لبعض بالتمويل والتسويد، وبامتثال الخدمة وتعظيم الحضرة، وإذا لقي أحد منهم آخر مسلِّمًا يقول جاء المملوك أو الخادم برسم الخدمة، كناية عن السلام، فيتعاطون المحال تعاطيًا، والجد عندهم عنقاء مغرب، وصفة سلامهم إيماء للركوع أو السجود، فترى الأعناق تتلاعب بين رفع وخفض وبسط وقبض، وربما طالت بهم الحالة في ذلك فواحد ينحطُّ وآخر يقوم، وعمائمهم تهوي بينهم هويًّا، وهذه الحالة في الانعطاف الركوعي في السلام كنا عهدناه لِقَيْنَات النساء، فيا للعجب منهم إذا تعاملوا بهذه المعاملة، وانتهوا إلى هذه الغاية في الألفاظ بينهم! فبماذا يخاطبون سلاطينهم ويعاملونهم؟ لقد تساوت الأذناب عندهم والرءوس، ولم يُميز لديهم الرئيس والمرءوس …»

وقد أثنى في محل آخر على احتفاء أهل الشام بالضيوف، وحسن معاملتهم للغريب، فقال (ص٢٧٨): «فالغريب المحتاج هنا إذا كان على طريقة مصون محفوظ غير مُرِيق ماء الوجه، وسائر الغرباء ممن ليس على هذه الحال ممن عهد الخدمة والمهنة، يُسبَّب له أيضًا أسباب غريبة من الخدمة، إما بستان يكون ناطورًا فيه، أو حمام يكون عينًا على خدمته وحافظًا لأثواب داخلية، أو طاحونة يكون أمينًا عليها، أو كفالة صبيان يؤديهم إلى محاضرهم ويصرفهم إلى منازلهم، إلى غير ذلك من الوجوه الواسعة.»

ومن ثم يدعو أهل وطنه ليأتوا بلاد الشام؛ لينتجعوا خيراتها العميمة، قال (٢٨٥): «فمن شاء الفلاح من نَشَأَة مغربنا فليرحل إلى هذه البلاد، ويتغرب في طلب العلم فيجد الأمور المعِينات كثيرة، فأولها: فراغ البال من أمر المعيشة، وهو أكبر الأعوان وأهمها، فإذا كانت الهمة فقد وُجد السبيل إلى الاجتهاد، ولا عذر للمقصر إلا مَن يدين بالعجز والتسويف؛ فهذا المشرق بابه مفتوح لذلك، فادخل أيها المجتهد بسلام، وتغنَّم الفراغ والانفراد قبل علق الأهل والأولاد، ويقرع سن الندم على زمن التضييع، والله يوفق ويرشد، لا إله سواه … ولو لم يكن بهذه الجهات المشرقية كلها إلا مبادرة أهلها لإكرام الغرباء وإيثار الفقراء، ولا سيما أهل باديتها، فإنك تجد من بِدارٍ إلى بِرِّ الضيف عجبًا، كفى بذلك شرفًا لها، وربما يعرض أحدهم كِسرته على فقير فيتوقف عن قبولها، فيبكي الرجل ويقول: لو علم الله فيَّ خيرًا لأكل الفقير طعامي، لهم في ذلك سر شريف.»

وفي كل هذه الأقوال ما يدل على اعتبار ابن جبير لأهل الشام وارتياحه لسجاياهم الطيبة.

•••

كفى بهذه الأمثلة شاهدًا على اقتدار المؤلف وخواصِّ كتابه وحسن نظره بالأمور، وهذا ما حمل كثيرين على نقله إلى اللغات الأوروبية بتمامه، أو بأقسام منه ومن ذلك ترجمة كاملة إيطالية نشرها في العام المنصرم العلامة سكيابارلي.١٢ وقد تصفحنا هذه الترجمة فوجدناها بالإجمال مضبوطة، جامعة بين الأمانة وحسن الذوق، وقد توصل المترجم إلى أن يزيل اللبس والشبهات عن عدة مواضع كان مسخها النساخ، فتحقق روايتها الأصلية وأخرج معناها الصحيح، بَيْدَ أننا كنا وددنا لو ذيَّل جناب الناقل ترجمته بحواشٍ أوفر وملحوظات أوسع، وقد وقع مع ذلك في هذه الترجمة بعض أغلاط منها (ص٢٥٠)، أنه لم يفرق بين الواقعة التي جرت في جوار حمص وقُصَير المجاورة لدمشق، ومن ثم ليس «النهر الجاري أمامها» نهر العاصي كما ظن، وقد كرر هذا الغلط في محل آخر (ص٤٠٠)، وكذلك وَهِمَ (ص٣٨٧) بزعمه أن باب الجابية في دمشق معناه باب الحوض، وإنما دُعي بهذا الاسم؛ لأنه كان بابًا يؤدي إلى الجابية، وهي حاضرة بني غسان، إلا أن هذه الأغلاط لا تمسُّ في شيء قدْر هذه الترجمة التي تولى عملها، كما أنه جمع في مقدمته من الإفادات في تعريف المؤلف ما لم يبلغه أحد قبله، هذا فضلًا عن الفهارس التي ألحقها بالكتاب، فنثني إذن الثناء الطيب على الترجمة الإيطالية الحديثة، التي قرَّبت منافع ذلك التأليف الذي يستحق درسًا خصوصيًّا لكثرة مضامينه، ولتأثيره في الكَتَبَة التابعين.
هذا وكنا في وشك الانتهاء من كلامنا على ابن جبير؛ إذ بلغتنا الطبعة الثانية من كتاب رحلته التي تولاها ذلك المستشرق الهمام السيد دي غوي de Goeje صاحب المطبوعات الشرقية المتعددة،١٣ وحسبك باسمه دليلًا على مزايا هذه الطبعة، التي تفوق الطبعة الأولى مع ضبطها، ومن محاسن هذه الطبعة الجديدة أن جناب ولي العمل أثبت الإصلاحات التي تركها الطابِع الأول المسيو «ريت»، وأضاف إليها تنقيحات جديدة.

وقد أبدى المسيو «دي غوي» أسفه على عدم حصوله على نسخة ثانية من الرحلة، أشار إليها المسيو سكيابارلي، وذكر وجودها في مراكش، والحق يُقال: إن هذه الرحلة لا يُعرف لها حتى الآن نسخة فريدة، فلو أمكنت مقابلتها على نسخة ثانية لاستُطِيع تحسينُها وزيادة ضبطها، وعلى كل حال نهنئ الدكتور دي غوي ونشكره على هذه الخدمة الجديدة التي ألحقها بخِدَمِه السابقة للآداب العربية، لا سيما للآثار الجغرافية، جازاه الله ألف خير، ونفع به أهل وطننا الذين يجدون في مطبوعاته معلومات لا تحصى عن بلاد الشام في غابر الأعصار.

١  من أحب مطالعة ترجمة ابن جبير بالتفصيل، عليه بمقدمة العلامة ريت W. Wright الذي تولى طبع أسفاره، ومقدمة المستشرق الفاضل دي غوي، الذي جدد آخرًا طبع هذه الرحلة، وإلى أعداد صفحاتها نشير، وليراجع خصوصًا ما كتبه عنه العلامة سكيابارلي C. Schiaparelli الذي نقل رحلته إلى الإيطالية، وسنعود إلى ذكر ترجمته، واطلب أيضًا ما كتبه المقري عنه في نفح الطيب.
٢  ثم عاد ابن جبير إلى أنحاء الشرق فزارها ثلاثًا، لكنه لم يروِ في كتابه غير أخبار رحلته الأولى.
٣  اطلب معجم البلدان لياقوت (٢: ١٠٥-١٠٦)، وله ملاحظة كهذه.
٤  اطلب Rœhricht: Bibliotheca Geogr. Palœstinœ, P. 42
٥  اطلب Historiens des Croisades, III, 442–456
٦  ذكر ابن جبير بعلبك (ص ٢٥٨) مرة واحدة دون وصفها وألحق بذكرها قوله: «أعادها الله» كأنه ظن أنها في أيدي العدو، وهو وهم ظاهر؛ لأن بعلبك لم تحصل قط في حوزة الفرنج.
٧  اطلب كتابنا تسريح الأبصار (ج٢: ٣–١٠).
٨  هي الرواية الصحيحة وليس كما روى الأستاذ سكيابارلي في ترجمته الإيطالية غير مرة «عبد الله»، فإن عبد الله بن عمر مات وقُبر في مكة، كما اتفق عليه كافة المؤرخين.
٩  ولابن جبير في هذا المكان عدة تفاصيل وبيان عادات مألوفة نحيل القراء إلى مطالعتها لما تتضمن من الفوائد لتعريف أحوال ذلك الزمان.
١٠  اطلب ما جاء في هذا الصدد في كتابي مرشان وبرتس: J. Marchand: De Massiliensium cum Eois populis commercio, p. 46; H. Prutz: Kulturgesch. d. kreuzzüge, p. 105.
١١  اطلب كتاب شوب فيه تاريخ تجارة الشعوب الرومانية مع سواحل البحر المتوسط A. Schaube: Handelsgesch, d. roman. Voelker d. Mittelmergebicht, p. 202. راجع أيضًا مقالتنا في تعريف هذا الكتاب (المشرق ٦: ٩٣٣).
١٢  اسمها: Ibn Gubayr: Viaggio in lspagna, Sicilia, Siria e Palestina, Mesopotamia, Arabia, Egitto. Roma, 1906, XXVII-412.
١٣  هذا عنوانه: E. J. W. GIBB MEMORIAL vol. V. TRAVELS OF IBN JUBAIR. (Wright’s Text). Revised by M. J. de Goeje, Leyden, E., J. Brill, 1907. LIII-363.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤